في سنته الأولى (صلّى الله عليه وآله) من البعثة حصل ذلك الحدث العظيم حيث لا آلات ولا معدات... زمان يخلو من الحضارة، بل لا يعرف شيئاً سوى الناقة، زمان يصعب فيه السفر من مكان إلى مكان آخر، وإن حصل السفر فالكلفة فيه بيِّنة جليَّة، في ظروف كهذه يقطع نبينا المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ما يحتاج إلى شهورٍ طِوالٍ يقطعه في سفر سريع جداً لا يتجاوز الليلة ذهاباً واياباً مع أحداث كثيرة فيه ابتداءً من مكة المكرمة إلى بيـت المقـدس والأعجـب منـه أن هذا هو المقطع الأول من
السفر إذ المقطع الآخر منه كان صعوده (صلّى الله عليه وآله) إلى السماء العليا في مهمة ربانية لا يُدرَك منها إلا ما وَصَل.
هذه الكلمات هي في الواقع إجابة عن بعض التساؤلات التي يمكن أن ترد على الذهن حول:
- معنى المعراج
- إمكان المعراج
- ذكر المعراج في القرآن
- ذكر المعراج في الروايات.
والعنوان الثاني الحديث فيه عن إمكان المعراج والعنوان الثالث والرابع الحديث فيهما عن وقوع المعراج.
ما هو المعراج؟
هذه الكلمة مشتقة من مادة عَرَجَ بمعنى الارتقاء(1) والمعراج هو الارتقاء من هذه الأرض إلى السماء بجسد الآدمي ولم يتفق هذا لأحد(2) إلا لنبي آخر الزمان محمد بن عبدالله (صلّى الله عليه وآله) حيث أسري به بعد العام الثالث للبعثة(3) من بيت أم هاني -أخت الإمام علي (عليه السلام)- إلى بيت المقدس في فلسطين المسمى بالمسجد الأقصى وكان هذا هو المقطع الأول لهذا الحدث العظيم ثم من بعده شرع (صلّى الله عليه وآله) في الارتقاء والعروج إلى السماوات العلى حتى بلغ سدرة المنتهى وكان هذا هو المقطع الثاني ثم عاد إلى مكة مرورا ببيت المقدس.
إمكان المعراج
قد يدّعى بأنه لا شكّ أنّه بعد تطور العلم وإدراك الإنسان بعض أسرار الكون الواسع فإنَّ عجزه يبرز عن إدراك هذه المعجزة، فكيف له أن يؤمن بأن إنسانا قبل ألف عام من الآن قد عرج إلى السماوات العليا واخترق القوانين الطبيعية فطار عن الأرض بلا تأثّر بالجاذبية واخترق الفضاء الواسع المليء بالأجرام السماوية الخطرة والخالي مما يعين على التنفس.. فلا عجب للمادي إن وقف حائراً بل منكراً تحققَ هذه الرحلة الفضائية التي استطاع الإنسان نفسه بعد جهد جهيد لمنظمات كبرى وبعد فشل الكثير من المحاولات أن يصل إلى مستوى متدنٍّ جداً إذا ما قارنا تجربة الإنسان المعاصر مع تجربة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في اختراق الفضاء.
لذا فأولا وآخراً لا بدَّ أن يقال إن الإيمان بهذه المعجزة الخالدة لا يمكن إلا لمن آمن بالله وبالرسول (صلّى الله عليه وآله) وصدّق نبوته وقرآنه حتى يمكنه أن يقبل إخباره (صلّى الله عليه وآله) لإيجابه اليقين.
وفي مقام نقاش هذا الادّعاء يمكن أن يقال:
1- إنه لا يوجد محذور عقلي من أن يطير إنسان بواسطة دابة ويحلق إلى هذا الفضاء الواسع ومن يدّعي ذلك فعليه أن يبرزه لنا.
2- مسألة المعراج تُعد من المسائل المجردة التي لا يمكن إثباتها بالدليل الحسّي فلا يصح أن تحاكم بعجز القوانين الطبيعية عن تفسيرها.
3- من السذاجة بمكان أن تقاس حادثة المعراج بقوانين الأرض فالمسلم كما أنه يؤمن بأن إبراهيم قد ألقي في النار ولم يحترق، وعيسى ولد من غير أبٍ، وموسى له عصا تتحول إلى حية تسعى، وأنّ جبلاً قد خرجت منه ناقة صالح، وغيرها من المعجزات، فإنها غير خاضعة إلى قوانين الأرض، وحادثة المعراج لا تقل شأناً عنها غاية ما في الأمر أنَّ تلك المعجزات كانت بمرئ من الناس والمعراج لم يكن كذلك.
4- إنا لا نسلم بأن العلم يمنع عن التصديق بهذه المعجزة العظيمة، بل لنا أن ندعي عكس هذا الادّعاء المتقدم بالقول بأنه بعد تطور العلم خصوصاً في زماننا فإنّ التصديق بالمعراج يكون أكثر سهولة من ذي قبل فضلاً عن الإسراء؛ ذلك أنّ الانسان بضعفه وقلة علمه وهمّته أمكنه أن يصنع ما يقطع مسافة خمس مائة كيلومترات في الثانية وهذه المسافة قابلة للمضاعفة، فإن كان الانسان له هذه القدرة فما بالك برب الإنسان وواهبه كل شيء أتراه عاجزاً عن هذا الإعجاز (المعراج)؟
5- نعم نحتاج إلى إخبار النبي (صلّى الله عليه وآله) حتى نؤمن بالمعراج يقيناً لأنَّ حادثة المعراج أمرٌ لم يشهده غيره (صلّى الله عليه وآله) فلما سُبقت بالاسراء إلى بيت المقدس -وقريش يعلمون علم اليقين عدمَ سفره (صلّى الله عليه وآله) سابقاً إلى بيت المقدس ألبته- جاء وذكر التوصيف الدقيق إلى ما رأى هناك وما جرى من تفاصيل في الطريق فإن هذا لا يترك مجالاً للتشكيك في تحقق الإسراء وبتبعها يثبت المعراج؛ لأن المخبر لهما واحد وهو نفس الرسول (صلّى الله عليه وآله) الصادق الأمين.
6- تساؤل:
إذا كان تصور المعراج من الصعوبة بمكان فلمَ يُطرح في السنين الأولى للبعثة بين أناسٍ قد التصقوا بالحسّ ولا يتعدى ادراكهم السيف والحجر والقمر والنجوم وأمثالها من المحسوسات، وإن تعدى ذلك فهو يتعدى إلى ما هو قريب من الحسّ كالحب والبغض وأمثالها، فمثل هذه الذهنية لا تملك القدرة -والحال هذه- على تصور المغيبات؟
الجواب:
لما كان الإنسان هو الخليفة لله تعالى في أرضه فلا بد أن يدرك رحابة الوجود حتى يخرج من أفقه الضيِّق ويوسع من مدركه ليكون أرضيّة صالحة تقبل الإسلام بما يحمل من مفاهيم.
ولنا أن نقول بأن في رحلته (صلّى الله عليه وآله) إبراز إلى عظمة الله تعالى وقدرته وبديع صنعه وإحاطته بكلِّ شيء فتسكن إليه قلوب المؤمنين ويسلموا إلى الله العظيم القادر على كلِّ شيء.
ولا يخفى مقدار ما تحمله هذه الحادثة من التحدي إلى كل الأجيال وأنها مهما بلغت من خرق إلى الفضاء وتقدم علمي فإنها ستبقى عاجزة متصاغرة أمام عظمة الله الجبار.
المعراج في القرآن
قد يقال:
إنه عادة ما يمزج بين الإسراء والمعراج باعتبار كونها رحلة واحدة قد حصلت في الخارج إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وهذا ظاهر جلي في الروايات الشريفة المفسِّرة لهذا الحدث العظيم وفي نفس الوقت ما نجده في القرآن قد لا يتوافق بدوا مع هذه الروايات ففي أول سورة الإسراء يقول الحق تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(4) وإذا لاحظنا أنه لم يُشر لا من قريب ولا من بعيد إلى المعراج في هذه الآية الشريفة فيظهر منها حصول الإسراء فقط دون المعراج.
نقول:
أولا: إن هذه الحادثة قد حصلت أول البعثة وهذا يعني أن الإيمان بالله لم يشتد بعد في قلوب المسلمين، أضف إلى ذلك أنه في وسط ظروف تكذيب الرسول (صلّى الله عليه وآله) من قبل مشركي قريش برسالته وكل ما يتعلق بها فإنّ طرح مثل موضوع المعراج قد لا يكون محط قبول فضلاً عن أنَّ نقل هذا الحدث قد يسبب ارتداد قوم -وقد حصل الارتداد من البعض بمجرد ذكر النبي (صلّى الله عليه وآله) لموضوع الإسراء مع أنه لم يذكر المعراج بعدُ- فلعل الإشارة إلى هذه الحادثة بذكر ما يقرُب من الحسّ حتى يُتقبل ثم تتصدى الروايات لإتمام بيان هذا الحدث وذكر تفاصيله، ولا مانع من تصور إخباره (صلّى الله عليه وآله) بحادثة المعراج إلى من يتحملها من أصحابه.
ثانياً: إنّ ما تذكره الآية الشريفة من سورة الإسراء هو المقطع الأول للحادثة، أما المقطع الثاني فيحتمل أنه لا يوجد غرض عند الحق تعالى من ذكره في هذا المورد، وهذا لا يعني انعدام المعراج من رأس وعدم حصوله إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، أضف إلى ذلك بأنّ في القرآن تتميم لهذه الحادثة قد ذكر في موردين:
أولهما: قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}(5) اختلف المفسرون في تفسير {ذُو مِرَّةٍ} فمنهم(6) من قال بأنه جبرئيل (عليه السلام) لأنّ المراد بالمرّة هو الشدة والحصافة في العقل فجبرئيل (عليه السلام) ذو شدة في جنب الله أو ذو حصافة(7) في عقله، ومنهم(8) من قال بأنه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) فهو ذو شدة في جنب الله أو ذو حصافة في عقله. وفائدة هذا هو أن الآيات اللاحقة معطوفات على هذه الآية فيكون المراد في بقية الآيات هو النبي (صلّى الله عليه وآله) أو جبرئيل (عليه السلام)، وكيف ما كان فإن صاحب تفسير الميزان على كلا المعنيين يفيد ما يمكن من خلاله إثبات المعراج فيقول مثلاً في تفسير آية {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}: "المعنى على تقدير رجوع الضمير -في آية {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى}- إلى جبرئيل: ثم قرب جبرئيل فتعلق بالنبي (صلّى الله عليه وآله) ليعرج به إلى السماوات... والمعنى على تقدير رجوع الضمير إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) ثم قرب النبي (صلّى الله عليه وآله) من الله سبحانه وزاد في القرب"(9) والآيات تحتمل معان كثيرة قد ذهب لها المفسرون إلا أنها لا تخرج عن دائرة المعراج.
ثانيهما: قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}(10) أما هذه الآية فقد أطبقت كلمة المفسرين على أن النبي (صلّى الله عليه وآله) قد رأى جبرئيل (عليه السلام) بصورتة الحقيقية -وهذه لم تكن لغيره (صلّى الله عليه وآله)- ولكن أين رآه؟ تجيب الآية أنه بالأفق المبين وهو قاعد بين يدي العرش فيه أنهار تطرد فيه من القدحان عدد النجوم كما جاء في الحديث(11). هذان موردان لم يصرّح بذكر المعراج فيهما إلا أنه تم ذكر بعض ما جرى من أحداث في هذه الحادثة.
المعراج في الروايات
لا يخفى على المطلع كثرة الروايات الواردة في هذه المعجزة العظيمة ولك أيها القارئ مراجعة كتاب بحار الأنوار مثلا(12) لتجد الكم الهائل من الروايات في إثبات المعراج وما جرى فيه.
خاتمة
فبعد هذا لا يقبل من أحد إنكاره لمعجزة المعراج فهي ممكنة بل هي واقعة، فصارت ضرورة من ضروريات الدين يلزم على كل مسلم أن يؤمن بها ويصدق، ومن يكذب بها فإنه سائر في طريق الخسران، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): «من كذَّب بالمعراج فقد كذَّب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)»(13)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ليس من شيعتنا من أنكر أربعة أشياء: المعراج، والمسألة في القبر، وخلق الجنة، والشفاعة»(14).
* الهوامش:
(1) الصحاح للجوهري 328:1.
(2) ينقل صاحب الأمثل عن بعض كتب الأناجيل أن نبي الله عيسى (عليه السلام) "بعد أن صلب وقتل ودفن نهض من مدفنه وعاش بين الناس أربعين يوما قبل أن يعرج إلى السماء ليبقى هناك في عروج دائم، ونستفيد من مؤدى بعض الروايات أن بعض الأنبياء السابقين عرج بهم إلى السماء أيضا". الأمثل 395:8، فعلى هذا قد لا يكون العروج إلى السماء من مختصات الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلا أن يقال بأن عروج الرسول (صلّى الله عليه وآله) مغاير تماما لعروج بقية الأنبياء على فرض حصول ذلك لهم.
(3) حسب رواية أمير المؤمنين (عليه السلام): "إن الإسراء قد كان بعد ثلاث سنين من البعثة".
(4) الإسراء282:17.
(5) سورة النجم 53: 6-12.
(6) منهم صاحب تفسير غريب القرآن38.
(7) الحصيف هو محكم العقل.
(8) منهم صاحب تفسير نو الثقلين148:5.
(9) الميزان في تفسير القرآن 28:19.
(10) التكوير23:81.
(11) الصحيح من سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) 31:3 (بتصرف).
(12) في الجزء الثامن عشر منه.
(13) بحار الأنوار 312:18.
(14) المصدر السابق.
0 التعليق
ارسال التعليق