الملخّص:
تتناول هذه المقالة عدّة عناوين حول الرؤية الإسلاميّة للمسجد وموقعيّته المتفرّدة من بين الأماكن والمؤسّسات الدينية، وكيف يرجى له أن يكون حاضراً في دين الناس وواقعهم، وقد سلّط سماحتهB الضوء على ذلك من خلال أهمّ ما جاء في النّصوص القدسيّة من الكتاب والسنّة، وتعرّض إلى أنّ المسجد لا يُمسّ من قبل التشريعات الأرضية والسياسات الوضعية؛ فهو بيت الله، وأحكامه وتشريعاته واضحة جليّة في دين الإسلام عند كلّ أُولي القبلة. وركّز على أنّ مسؤولية المسجد والقيام بوظائفه المتنوّعة مسؤولية الجميع، وكلّ الأجيال، ولا يُتهاون فيها؛ لأنّ في ذلك إضعاف لروح الإسلام، وتمكين لمحاولات المناوئين له، من النّيل من أهدافه وحرفه عن خطّ الأصالة التي هو فيها.
إنّ للمسجد في الإسلام شأناً عالياً لا بدّ لنا أن نعرفه وأن نأخذ به في مقام تعاملنا مع المساجد، وعنوان المسجد نفسه يوحي بموقعه المتميّز ودوره الطاهر الكبير، والقيم المعنوية الرفيعة التي يرتبط بها هذا الدور. إنّه مسجد خُصّص للسجود، للعبادة للهd.
وإنّك عندما تخرج من بيتك للمسجد تخرج لبيت من بيوت الله سبحانه، وانظر كيف تقصد بيتاً من بيوت الله بأيّ عقلية؟ بأيّ نفسية؟ بأيّ قلب؟ وأيّ خلق؟ وأيّ رزانة؟ وأيّ وقار؟ بيوت ذكره وعبادته وتقديسه، وفي الدعاء عندما تريد الدخول إلى المسجد تقول: >[إلهي] ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك [يا كريم]<[2]... جئت طالباً، جئت مستجدياً، جئت مسترفداً، جئت لمحلٍ من محالّ ضيافة اللهd، فانظر كيف تدخل المسجد وبأيّ قلب وبأيّ عقل وبأيّ نفس؟! وإنّ أصدق القول وأحسن الحديث كتاب الله العزيز الحكيم وهو يقول: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}(الأعراف: 29).
الوجه هو ما تواجه به الغير وأنت تواجه به الله، ووجه كالذي تواجه به الله ليس هذا الظاهري، ما يوجه العبد اللئيم ربّه الكريم، العبد الفقير ربّه الغني، هو ذاته الإنسانية، بكلّ ما في هذه الذات من شوق إلى الله، من افتقاد إلى الله، من تعلّق بالله، من حاجة إلى الله، من توقير وتعظيم وتقديس وإجلال لله.
كلّ ذاتك، كلّ مشاعرك، كلّ عقلك كلّ طموحاتك، لا بد أولاً أن تكون نظيفة، لا بد أولاً أن تكون مستقيمة، ثم لا بد أن تحتشد كلّها في طلب واحد في نداء صارخ متلهّف إلى الله ... هذا هو المسجد أيّها الأخوان {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} تعبدون فيه.. تصلّون فيه.. تدخلون فيه.. والمسجد ليس للأغراض الأخرى.
المسجد في النّصوص
.. أولاً أريد أن أرسم صورة من خلال النصوص للمسجد أولا وأرتب من بعد ذلك أثراً.
1ـ المسجد والزينة
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ...}(الأعراف: 31).
الآية الكريمة الأولى تتحدّث عن مستوى الداخل، داخل الإنسان، الضمير، القلب، العقل، لا بد أن تتّجه بكلّ ذلك في حالٍ من النّظافة وفي حالٍ من الصدق إلى الله.. ثم حتى على المستوى المظهر الخارجي{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ...} أنت تزور الله... أنت تقدم على مضيف من مضايف الله {...وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا...}(البقرة: 187). دنيا الجنس لا تقرب المسجد، حتى الحلال، دنيا الجنس.. علاقات الجنس الحلال لا تقرب المسجد.
2ـ إعمار المسجد
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ...}(التوبة: 18) .. السياق يفهم منه أن ّهذا الإعمار إعمار البناء، إقامة المسجد وإصلاح بناء المسجد، وصحيح أنّ إعمار المسجد بالصلاة والدعاء مطلوب وهو الأهم ولكن حتى على مستوى إقامة المسجد، بناء المسجد، إصلاح المسجد لا يتناسب وحالة الشرك.. يريد طهارة، وضع حجر على حجر لبناء المسجد يحتاج إلى طهارة ضمير، إلى توحيد مبنيّ من أساسه قائم على التوحيد، ويجب أن يستمرّ على خط التوحيد، وأن يخلص لوظيفته، ولدعوة التوحيد.
3ـ المسجد يقوم على التقوى
{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}(التوبة: 108). هذا المسجد يقوم على التقوى، الرجال الذين يرتادونه، الذين يدخلونه، والنساء اللاتي يدخلنه هم من النوع الذي يحبّ التطهّر، تطهّر الذات الإنسانية من كلّ أرجاسها ونواقصها وسلبياتها مما يضرّ بإنسانية الإنسان.
4ـ المسجد مركز إشعاع لحضارة الإنسان
{...وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا...}(الحج: 40). هي مراكز إشعاع مهمة لحضارة الإنسان، لسلامة الإنسان، لدنيا الإنسان، لآخرة الإنسان، فقد أوجد الله© من أجل حمايتها ومن أجل بقائها: قانون التدافع، والذي تكون على أساسه حروب ومدافعات حضارية ومدافعات ثقافية، وكلّ ذلك من أجل أن يبقى المسجد، أن يبقى مكان العبادة بإشعاعاته رحمة بالأرض وأهلها، وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادقg: >عليكم بإتيان المساجد، فإنّها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهرا ًطهّره الله من ذنوبه، وكتب من زوّاره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء...<[3].
عن أبي ذرO: قلت يا رسول الله كيف تعمر مساجد الله؟ قال: >لا تُرفع فيها الأصوات -بالمباح، بالعلم- أرأيت كيف يتحدّث المسلم مع رسول الله ولا يرتفع صوته عليه؟
كيف يجب أن يكون وقار ورزانة وتأدّب بين يدي رسولe، هذا المسجد مطلوب أن يكون فيه أدب وأن يكون فيه وقار ورزانة - ... قال: >لا ترفع فيها الأصوات، ولا يخاض فيها بالباطل- أيّ كلمة تخدِم الكفر لا يجوز إلقاؤها في المسجد، أيّ شخصية يكون حضورها مضراً بدين الله يكون حضورها فيه حرمتان، لو دخل كافر ثم تحدّث بكلمة الكفر فقد ارتكب المسلمون جريمتين، وإذا دخل مسلم ممن ظاهره الإسلام فقال قولاً مضرٌ بخطّ المسجد، بخط الله فهذا حرام، حرامٌ فيما ارتكبه في هذا القول، وكلّ كلام يدعو إلى باطل ويبعد عن الحق فهو حرام، وحرامٌ من جهة أنّه قيل في المسجد –ولا يشتر[ى] فيها ولا يباع، واترك اللّغو ما دمت فيها فإن لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك<[4]
>جنّبوا مساجدكم: مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم إلا بذكر الله تعالى، وبيعكم وشراءكم وسلاحكم، وجمِّروها[5] في كل سبعة أيام -الذي هو تطييب الرائحة- وضعوا المطاهر على أبوابها<[6] المطاهر أي الميضاة: مكان الوضوء.
عن رسول اللهe: >أوحى الله إليّ أن يا أخ المرسلين، يا أخ المنذرين، أنذر قومك لا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد من عبادي عند أحدهم مظلمة –الذات التي تدخل المسجد ذات تطهّرت على مستوى الوضوء الداخلي وعلى مستوى الغسل الخارجي[7] وتطهّرت على مستوى الوضوء والغسل الخارجي لذات الإنسان- فإنّي ألعنه ما دام قائماً يصلّي بين يديّ حتى يردّ تلك المظلمة -أظنّ أنّ الدرس كافٍ من رسول الله.. والتفت إلى الحالة الثانية بعد ردّ المظلمة- فأكون سمعه الذي يسمع به، وأكون بصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة<[8]، >من أكل هذه البقلة المنتنة[9] -الثوم- فلا يقرب مسجدنا فأمّا من أكله ولم يأتِ المسجد فلا بأس<[10].
إنّها تعليمات ووصايا وأحكام تفرض على مؤمني المسجد بأن يكونوا من المستوى الإنساني الذي يعتني بإنسانيته، والذي يعمل على التطهّر دائماً، وأن يعرف هؤلاء الناس حرمة المسجد ومكانته عند الله.
المسجد والموسيقى والتمثيل والاحتفالات
الموسيقى، قال الفقهاء بحلّية بعض أنواعها، قسمٌ من الفقهاء قال بحلّية بعض أقسامها، لكن حلّية هذا القسم ليست فوق الشبهة، وليست من مسلَّمات الدين والمذهب، وليس الشيء الذي يصحّ لبعضنا أن يفرضه على البعض الآخر، هذا في خارج المسجد.. ونحن في احتفالاتنا أيها الأخوة نقصد أن ينفتح الاحتفال لكلّ فئات المؤمنين، وأن يحتشد من المؤمنين في الاحتفال الواحد أكبر عدد ممكن، وقصدنا بأن يكون الاحتفال للتجميع لا للتفريق، خارج المسجد لا ينبغي لنا أن ندخل عنصر الموسيقى في الأناشيد وفي غيرها:
لأن ذلك:... ليس فيها استحباب، أعطيتكم أنّ الموسيقى في النشيد بنسبة 10 % تأثيراً إيجابياً بنسبة 10%، هذا التأثير بنسبة 10% تقابله شبهة البعض، يقابله التهيئة للانجرار إلى ما هو منكر، نبدأ خطوة قد تكون مباحة، لكن ننتهي إلى خطوات على طريق المحرم. ثمّ إنّ هذه الـ10% من التأثير ستطرد جمهوراً وستحدث إرباكاً، هذا بالنسبة لخارج المسجد، أما بالنسبة للمسجد فالحساب شيء آخر. أنت تستبيح أن تدخل أداة موسيقية وموسيقاراً في بيت رسول اللهe حياً؟ وهذا بيت من بيوت الله، بيت رسول الله بيت من بيوت الله، ليس من صالح دين الله أبداً، وليس من البعيد عن الشبهة أن تدخل الموسيقى المسجد.
التمثيل، إذا أردنا أن ندخل التمثيل في المسجد يجب أن لا يؤدّي ذلك إلى قهقهات، ولا يخرج عن الأدب، وأن لا تدخل فيه أدوار مشينة، كلّما يسيء إلى كرامة المسجد، إلى حرمة المسجد بالنظر العرفي، يقولون عنه بأنّه هتكاً لحرمة المسجد. الآن تنجيس المسجد حرام، إدخال نجاسة رطبة إلى فراش المسجد حرام؛ لأنّ هذا ينجّس المسجد، لكن ماذا تقولون لو جمعنا نجاسات بشرية في صناديق وفي ظروف وهي يابسة، المظهر فيه هتك عرفيٌ لحرمة المسجد، كلّما ينافي كرامة [المسجد] وحرمته ويمثلّ درجة منا لهتك فهو حرام.
الاحتفالات، وهي دعوة، فيها دعوة إلى اللهa، ويبقى أن تكون دعوة إلى الله، وأن تكون بعيدة عن الدعوة إلى الباطل، وعلينا أن نحرز بالطرق المعتادة أنّ المتحدّث إنّما يتحدّث لصالح دين الله. إذا كان عرس في المسجد فيجب أن ينضبط العرس ويخلو من كلّ مظهر يمكن أن يخدش كرامة المسجد وينافي حرمته[11].
وظيفة المسجد:
.. إنّ المساجد لله، وإنّما يقرّر وظائفها دينه وشريعته، لا السياسات الوقتية، ولا القرارات الوزارية. وهذا ما عليه جميع أهل القبلة ممن يفهمون الدين، ويؤمنون به، ويحترمونه. أمَّا من اتخذ دينه هزواً فقد يذهب في المسألة مذهباً آخر.
وعليه إنّما يكون الاحتكام عند المسلم في وظيفة المساجد للشريعة وأحكامها ومقرّراتها لا إلى شيء آخر.
والكلام في وظيفة المسجد كلامُ فقه، واستدلالٌ فقهي، وأحكامٌ إلهية جليَّة يقينيّة، وليس كلام قرارات وزارية وإداريّة، تشرّق إذا غرّب الحكم الشرعي، وتغرّب إذا شرّق، وتفرض نفسها عليه، وتتجاوز حرمته، وتختطّ لها هدفاً غير هدفه.
والكلام مع أئمة المساجد هو كلام مع أهل وظيفة دينية ضبطت الأحكامُ الشرعيَّةُ حدودَها وكلَّ آدابها وأخلاقها، وما هو واجبها وحرامها ومستحبّها ومكروهها وجائزها ... وعليه إذا شكّ إمام الجماعة في وظيفته في المسجد وما حدودها فإنّما عليه أن يراجع شريعة الله لا مصدراً آخر من حكومة أو مصلّين أو غيرهم.
وإذا كانت المسألة مسألة شرعية فقهية فأئمة الجماعة لا يجدون في [غير شريعة الله]... القرار بشأن ضوابط الخطاب الديني مصدراً للفتيا، ولا في الأخذ بفتوى [غير الشرع]... معذّراً لهم بين يدي الله يوم القيامة والحساب.
إذا أخذت بقرار [غير الشرع]... فاستوقفني حساب الله يوم القيامة، ماذا أقول؟ أقول: عدلت عن شريعتك إلى قرار [غير شريعتك]...؟! أينجيني هذا من عذاب الله؟![12].
أمانة المسجد:
المسجد مؤسّسة إسلاميّة أصيلة أحاطها الدّين بالرّعاية والاحترام والتقدير، وأعطاها الموقع الكبير في عقول المسلمين وقلوبهم ونفوسهم، وجعله فيهم أمانة من أماناته الكُبرى على مرِّ الأجيال، واختلاف العصور، وحمَّلهم مسؤولية حفظ هذه الأمانة، وأداء حقّها[13].
فمن مسؤولية كلّ أجيال الأمّة أن لا يغيب المسجد من حياتها، ولا يختفي دوره، ولا يُعطَّل، ولا يَضْمر، ولا يحرّف، ولا يزوّر، ولا أن يكون أداةً بيد أيّ فكر آخر، أو سياسة لها مصالح تتنافى وصفاء الإسلام، وبقاء رسالة المسجد على أصالتها.
وكم تعرَّض ويتعرّض الإسلام ومفاهيمه ورؤاه، وأحكامه وأخلاقه وعباداته، وأنظمته التشريعيَّة ودور المسجد فيه إلى التحريف والتزوير والتجيير لغير صالح الرسالة.
ولو تُرك الإسلام لتحريف المحرِّفين، وتزوير المزوِّرين، وجهل الجاهلين، وكيدِ الكائدين، وطمع الطّامعين، ولم يكن تصدٍّ كافٍ وقائم دائماً من أئمة الهدى، والصّحابة المخلصين، والفقهاء والعلماء الصّادقين، والرّساليين المتفانين، وجماهير الأمّة الواعية لكلّ تلك المحاولات المضادّة لم يبقَ من الإسلام شيء على صفائه أمسِ قبل اليوم.
ولأئمّة المساجد بما هم أئمة مساجد وظيفةٌ وهي وظيفة المسجد لا غير؛ وهي الدّعوة لتوحيد الله، والتّمكين للإسلام في سَعتِه وشُموله في العقول، والأرواح، والأفئدة والنّفوس، وعلى الأرض، وفي أوضاع الأُسرة والمجتمع والأمّة، والدّولة، والإنسانيّة جمعاء.
وأمانة عمارة المساجد عمارةً مادية بعيدةً عن مظاهر البذخ للدّنيا، وإكبار زينتها، وعمارةً معنويّة دينيّة رساليّة وهي الأهم أمانة لازمة لأعناق المسلمين في كلّ أجيال الحياة. والذود عن دور المسجد، وحماية رسالته، والتمكين من أداء وظيفته، ودرأ التعدّي المعنوي عليه، وتعطيله، وتشويه غاياته واجبُ كلِّ المسلمين الغيورين على إسلامهم، وهم مسؤولون أمام اللهa عن هذا الذّود والحماية.
والمسلمون وأوَّلُهم أئمة الجماعة والجمعة مسؤولون عن إحياء المساجد بالصّلاة، والذكر والتلاوة، وتعليم الإسلام، وتبليغه، وتربية المجتمع عليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدّعوة إلى العدل، ومحاربة الظلم، والدفاع عن الدين وقيمه وأخلاقه وأحكامه، وفضح الباطل والظُّلم، وما يُكاد به الدين والمؤمنون، وتحذير المجتمع من المضائق والمزالق، والوقوع في حبائل المكر من أعداء الله، وأعداء المسلمين[14]،[15].
المسجد بين الاستقلالية والتبعية:
استقلالية المسجد وإمام الجماعة والجمعة وتبعيتهما لجهة رسمية هل يستويان؟
لا أظنُّ أن يذهب ذاهبٌ إلى أن استقلاليتهما وتبعيتهما سواء، ولا أنّ التبعية أولى. وإنّ بين المسجد والمؤسسة الرسمية من حيث الوظيفة صوراً:
الصورة الأولى:
استقلال وظيفي: فالمسجد يتحدّث في أمر، والسياسة تتحدّث في أمر آخر. هذا مشغول بمساحة، وتلك مشغولة بمساحة.
المسجد يتكلّم عن الكفن والقبر والوضوء والغسل والحيض والنّفاس، والسياسة تتحدّث عن الحكم، عن المال، عن الإسكان، عن الاستيراد الحضاري، عن كلّ شيء يهمّ الحياة.
في هذه الحالة لا يكون شغل للسياسة بالمسجد، ولا تعيره اهتماماً، ولا تتشاغل بشأنه أساساً. هذا النوع من المساجد لا يُبذل في مواجهته عليه فلس واحد من قبل السياسة.
الصورة الثانية:
تداخل وظيفي: تتحدّث السياسة في الأحوال الشخصية، ويتحدّث المسجد في الأحوال الشخصية، تتحدّث السياسة في السياحة الحرّة، ويتحدّث المسجد في السياحة الحرّة، السياسة تحتضن الربا، المسجد يرفض الربا، للسياسة طريقتها في تقسيم الثروة، وللمسجد رأيه واقتراحه في تقسيم آخر للثروة، إنّه تداخل وظيفي واحتكاك بين المسجد والسياسة.
وهنا يسهل على السياسة بل يتوجّب على السياسة أن تبذل الكثير من أجل احتضان المسجد، توجيه المسجد، تعديل سياسة المسجد، السيطرة على المسجد.
مرّة تتفق الرؤية بين الطرفين في الأحوال الشخصية، في السياحة الحرة، في الربا، في تقسيم الثروة، في كلّ مجال من المجالات، وهذا ما كان على عهد رسول اللهe، وفي هذه الحالة يكون تناصر وتكامل وتآزر بين المسجد وبين المؤسّسة السياسية في كلّ مرافقها.
المسجد يدعم السياسة، والسياسة تدعم المسجد، المسجد يعمل على نجاح الدور السياسي في هذه الحالة، والسياسة تعمل على نجاح دور المسجد.
ومرّة يكون اختلاف في الرؤية، -وكلّ هذه المواضيع محلّ اختلاف في الرؤية بين السياسة وبين المسجد- وهذه حالة تُقسّم الأمّة، تخلق الصراع في المجتمع، تجعل السياسة معادية كلّ المعاداة للمسجد، وتضطر المسجد لأنْ يقول الكلمة التي تضير السياسة، وفي هذا الفرض تأتي أهمية المسجد والسيطرة عليه من قبل السياسة.
ومنذ بدايات مفارقة الأمّة خطّ إسلامها بدأت المفارقة بين المسجد والسياسة. وبدأ لونٌ من المواجهة بين المسجد والسياسة، وتكبر المواجهة كلّما شطّت السياسة بعيداً عن طريق الدين، وكلّ ما حرص المسجد على أن يلتزم خطّ الرسالة.
عند اختلاف الرؤية إمّا أن يسكت المسجد على ظلم السياسة، ويتحوّل إلى شيطان أخرس، أو ينطق المسجد في صالح ظلم السياسة ويتحوّل إلى شيطان ناطق، والشيطان لا ينطق إلا بالباطل، والشيطان لا يسكت إلا عن الحق.
تنتهي مشكلة الصراع بين المسجد والسياسة عندما يتّخذ المسجد موقف الصمت من السياسة، ويكون الشيطان الأخرس عن النطق بالحق. ويكون التصالح، والتحاضن، والعلاقة الحميمة، والدعم الهائل للمسجد حين يتحوّل المسجد إلى شيطان ناطق، في نطق بما تريده السياسة، ويكون حقُّ السياسة حقاً عنده، وباطل السياسة باطلا عنده، وصديق السياسة صديقه، وعدو السياسة عدوّه، حينئذٍ يغنى المسجد، ويرتفع الشأن المادّي للمسجد، ويأمن، وتصفّق السياسة للمسجد.
أما إذا اتّجه المسجد إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وقول كلمة الحق، فإنّ العلاقة ستكون مرهقة، وسيتعب المسجد، وإمام المسجد من أذى السياسة، وربما أغلق المسجد وطُرد إمام المسجد بقوّة السياسة.
إذا كانت... [السياسة] ستعطي رواتب بلا تبعية فذاك موضوع آخر، وإذا كانت ستعطي رواتب مع التبعية فهي الكارثة التي لا ريب فيها، وهو الموقف المحرج دينياً، والذي لا يمكن المساومة عليه، ولا اتخاذ موقف الصمت منه. نجح الموقف المعارض أو لم ينجح، فإنّها الوظيفة الشرعية التي لا بدّ منها، والداخلة في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر، والقول بالحق.
لا تردّد في أنّ رواتبَ مربوطةً بالتعيين والفصل لإمام المسجد تمثِّل انعطافة خطيرة في تاريخ مذهبنا على الأقل، ومفارقةً لخطّ الأئمة^، أقولها صراحة يلزمني الإسلام بها...[16].
المساجد لا تعطَّل:
1ـ المساجد لا تعطّل دائماً ولا مؤقّتاً، ولا كلياً ولا جزئياً، والمساجد لا تُدان ولا تُعاقب، وتوقيف المسجد عن وظيفته الشرعية تعدٍّ عليه، ومخالفة دينيَّة من مرتكبه، ووظيفة المسجد دائماً شرعيّة، وفي خدمة الشريعة، وتكييفها إنّما هي بيد دين الله، وتوظيفها لأهدافه، وهي وظيفة واسعة بحسب أحكامها الثابتة من الدّين.
2ـ وإمامة الجماعة، وأوصاف وشرائط المتولّي لها موضوع فقهي أحكامه في الشريعة واضحة جليّة، والإمام في مثل زماننا ومكاننا يختاره المصلّون ممن يرغبون في الائتمام به طبقاً للضوابط الشرعية، ومن تقدّم لإمامة الجماعة فللمؤمنين الخيار في الصلاة بصلاته وعدمها تبعاً لتشخيصهم لأهليّته بالنظر الشرعي الذي يحكم المسألة.
3ـ ولا دخل من الناحية الشرعية لأيّ جهةٍ رسميّة في اختيار الإمام شخصاً أو صنفاً، وأن يكون من أهل رأي سياسي معيّن أو لا يكون...[17].
رأي رجال المسجد:
... في الانتخابات، وفي الشأن السياسي عامّة على المسجد أن يسكت أم له أن ينطق؟ وإذا سكت يسكت حياءً لأنّه لا يملك رأياً له وزنه واحترامه؟ أو يسكت خوفاً من صحافة أو من قانون؟ أو يسكت لمكسبٍ من مكاسب المادّة التي تباع من أجلها الذّمم والقيم؟ وإذا نطق ينطق لرضى من، ولنصرة من؟ وبأيّ كلمةٍ ينطق؟ وعن أي منهج يستقي؟ ومن أيّ رؤية ينطلق؟
والإجابة:
أن ليس على المسجد أن يسكت، بل ليس له أن يسكت، وهذه فتوى الإسلام الصريحة وسعها صدر الآخرين أو ضاق.
المساجد تمتلك رجالاً امتحنهم درب العلم، ودرب العمل والخبرة، ودرب المخاوف والمواقع والإغراءات، وليس في وزن رأيهم من نقص يجعله يطأطئ أمام رأي الآخرين أو يتوارى، فلرأيهم الوزن الثقيل الذي يستمدّه من قواعد العلم، وعطاءات الخبرة، وهدى الإيمان، على عكس آراء كثيرة خفيفة تنتشر في طول الساحة وعرضها. وعليه لا يمكن أن تسكت المساجد حياء، وكذلك لا يمكن أن تسكت خوفاً، وهي تنطق بكلمة الحق والعدل والصدق والهدى، وتحتمي بحمى الله، وتلجأ إليه، فلا خوف من صحافة وإن جارت كلمتها، ولا خوف من قانون يعارض أن تكون للمسجد كلمته الحكيمة الرشيدة الهادية؛ إذ لا قانون بهذا المضمون مطلقاً، ولو وجد في يوم من الأيام فهو غير شرعي أولاً، وغير دستوري ثانياً، وغير عملي ثالثاً، وهو معارض لحضارة الأمّة وقيمها ودينها وتاريخها بكلّ وضوح، وإنّ قدسية الشريعة فوق كلّ قدسية، وحرمة دين الله فوق كلّ حرمة.
ولا يسكت المسجد ما دام مسجداً، ولا يسكت رجال المساجد وهم كذلك لمكسبٍ من مكاسب الدنيا؛ لأنّ من صنعه الإسلام لا يكون من باعةِ الذمم والقيم.
فمتعيّنٌ جداً أنّ المسجد يمارس حقّه في النّطق كما تمارسه كلّ المؤسّسات، وهو أكثرها تجذّراً، وأشدّها تغلغلاً في وعي الأمّة وضميرها، ولن تُدافع الأمّة في يوم من الأيام عن مؤسّسة دفاعها عن المسجد ووعيه ودوره ورسالته.
والمسجد ينطق بكلمة الدين، وفتوى الشريعة، ونصرته للإسلام والإنسان، ورؤيته إيمانية، ومنطلقه قرآني، ومنهجه رباني.
والمسجد يطلب رضا واحدٍ لا أكثر. لا يطلب إلا رضا الله، ولا ينظر إلا إليه، هكذا هو المسجد، وإلا لم يعد مسجداً حقاً، أو قل كما هو أدقّ: إنّه مسجد خانَه رجالُه. وكلّما كان المطلوب هو مجتمع الصدق والحق، والعفة والاستقامة، والإنصاف والعدل، والتعاون على الخير، والتفاني في مصلحة الآخرين؛ اشتدّت الضرورة للمسجد، ودوره الكبير البنّاء، وصياغته للشخصية الإنسانية الإيمانية التي تعيش للآخرين أكثر مما تعيش لذاتها. والقضاء على المسجد ودوره قضاء على هذا المجتمع، وقطع للطريق السالك إليه[18].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] المقالة هي عبارة عن ترتيب لكلمات آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسمBمستلّة من خطب متفرقة من الخطب الجمعة، ألقاها في مسجد الإمام الصادقg في البحرين في الدراز.
[2] من دعاء الإمام الحسن بن عليg إذا أراد دخول المسجد، بحار الأنوار، المجلسي، ج43، ص339، ح13.
[3] تتمة الحديث المروي عن الإمام الصادقg: >وصلّوا من المساجد في بقاع مختلفة، فإنّ كلّ بقعة تشهد للمصلّي عليها يوم القيامة< الأمالي، الشيخ الصدوق، المجلس السابع والخمسون، ح8.
[4] بحار الأنوار، المجلسي، ج74، ص85.
[5] كما في الجعفريات: (واجمروها) ، من إشعال الجمر ليوضع عليه البخور.
[6] النوادر، فضل الله الراوندي، ص242.
[7] هكذا في نص الخطبة، والأنسب (الداخلي).
[8] بحار الأنوار، المجلسي، ج81، ص257، ح55، في تأويل أفعال الصلاة. ومثله وزيادة ورد أنقله للفائدة >أوحى الله إليّ يا أخ المرسلين، يا أخ المنذرين، أنذر قومك ألّا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلّا بقلوب سليمة وألسن صادقة وأيدٍ نقيّة وفروج طاهرة، ولا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة فإنّي ألعنه ما دام قائماً بين يديَّ يصلّي حتى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الذي يسمع به، وأكون بصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين< تفسير الثعلبي، ج1، ص272.
[9] وفي الكافي: (الخبيثة)، ج 6، ص 375.
[10] بحار الأنوار، المجلسي، ج63، ص247، الباب العشرون، ح2؛ علل الشرائع، الصدوق، ج2، ص 519.
[11] خطبة الجمعة (32) بتاريخ 23 شعبان 1422ﻫ الموافق 9-11-2001 م.
[12] خطبة الجمعة (355) 10 صفر 1430ﻫ ـ 6 فبراير 2009م.
[13] مسجدك أولى برعايتك من بيتك. وللمسجد قدسيّة ليست للبيت، وإذا كانت مسؤولية كالّبيت في عاتق صاحبه، فسمؤولية المسجد في عاتق الجميع. منه .
[14] هذه وظيفة لا يُقتص منها ولا يُنقص، ولا نقبل المس بها على الإطلاق، وعلى المجتمع أن يقف الوقفة الحازمة المتينة القوية في وجه أيّ محاولة لاغتيال دور المسجد. منهB.
[15] خطبة الجمعة (419) 24 شعبان 1431ﻫ ـ 6 أغسطس 2010م.
[16] خطبة الجمعة رقم (243) 21 ربيع الثاني 1427ﻫ ـ 19 مايو 2006م.
[17] خطبة الجمعة (357) 24 صفر 1430ﻫ ـ 20 فبراير 2009م.
[18] خطبة الجمعة (57) 20صفر 1423ﻫ - 3مايو2002م.
0 التعليق
ارسال التعليق