والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
تعتبر مسألة عدالة الصحابة من أمهات المسائل التي اختلف فيها المسلمون. فإنّ من المسلمين من يعتبر أنّ الإسلام لا يمكن أن يصل إلينا على ما هو عليه وعلى ما تقتضيه حقيقة حفظ الدين لولا عدالة الصحابة أجمعين. فإنّ الله (سبحانه وتعالى) اختارهم لحمل الدين وقد حملوه على أحسن وجه و-لا أقل- أوصلوه لنا على أحسن ما يكون الإيصال وسلّموه إلى الأجيال اللاحقة على تمام مقتضى الأمانة وأرقى معاني تحمّل الحديث. وهذا أشبه بالدليل العقلي الثبوتي.
قال ابن حجر العسقلاني في الإصابة: "اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة".
ثم نقل كلام الخطيب البغدادي في الكفاية قال:
"وقد ذكر الخطيب في «الكفاية» فصلاً نفيساً في ذلك فقال: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في آيات كثيرة سبق ذكر بعضها، وأحاديث شهيرة يكثر عددها؛ فجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق؛ على أنّه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، ونصرة الإسلام ببذل المهج، والأموال، وقتل الآباء، والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان، واليقين القطع بتعديلهم، والاعتقاد بنزاهتهم هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتمد قوله ولم يخالف فيه إلا شذوذ من المبتدعة الذين ضلوا وأضلوا، فلا يلتفت إليهم ولا يعول عليهم، وقد قال إمام عصره أبو زرعة الرازي من أَجَلِّ شيوخ مسلم: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله فاعلم أنّه زنديق؛ وذلك أنّ الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق وإنّما أدى إلينا ذلك كله الصحابة فمن جرحهم إنّما أراد إبطال الكتاب والسُنَّة؛ فيكون الجرح به ألصق والحكم عليه بالزندقة والضلالة والكذب والفساد هو الأقوم الأحق".
وفي ضمن كلام الخطيب نقل قول ابن حزم: "قال أبو محمد بن حزم: الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعاً؛ قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}(1)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}(2)، فثبت أنّ جميع الصحابة من أهل الجنّة، وأنّه لا يدخل أحد منهم النّار؛ لأنّهم المخاطبون بالآية السابقة"(3).
وقال ابن تيمية في منهاج السنة:
"وأصحاب النبي (صلَّى الله عليه وآله) ولله الحمد من أصدق النّاس حديثاً عنه، لا يعرف فيهم من تعمد عليه كذباً، مع أنّه كان يقع من أحدهم من الهنات ما يقع ولهم ذنوب وليسوا معصومين، ومع هذا فقد جرب أصحاب النقد والامتحان واعتبروها بما تعتبر به الأحاديث، فلم يوجد عن أحمد منهم تعمد كذبة، بخلاف القرن الثاني فإنّه كان في أهل الكوفة جماعة يتعمدون الكذب.
ولهذا كان الصحابة كلهم ثقات باتفاق أهل العلم بالحديث والفقه، حتى الذين كانوا ينفرون عن معاوية»(4).
وقال ابن الصلاح: "ثم إنّ الأمّة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، ونظراً إلى ما تمهّد لهم من المآثر (عليهم السلام) وكأنّ الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، وجميع ما ذكرنا يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاجون مع تعديل الله ورسوله لهم إلى تعديل أحد من النّاس"(5).
ومن المسلمين من لا يعتدّ بهذه الفكرة صغرى وكبرى. وعلى أية حال فقد استدلوا على هذه الكلية بأحاديث وروايات كثيرة، تارة بالمطابقة وتارة بالالتزام. ولعل الأصل في أكثر ذلك هو الخطيب في الكفاية. وليس غرضنا استقصاء ذلك ومناقشته، غير أنّ لعدالة الصحابة معانٍ كثيرة ذكروها في كتبهم أهمها ما ينسب إلى محدثي العامة وما ينسب إلى أصوليّيهم، كما قسم ذلك ابن الصلاح في مقدمته على علوم الحديث. والذي يجده الباحث هو توسع المحدثين أكثر من الأصوليين في إدخال الصغير غير البالغ مثلاً أو من لم تطل صحبته سنة أو من لم يرو حديثاً أو من ارتد بعد وفاة النبي (صلَّى الله عليه وآله) لكنه عاد ومات على الإسلام كما صرح ابن حجر، إلى غير ذلك من التساهل في القيود. فتكفي مجرد الرؤية على مبنى مشهور المحدثين. ولهم في ذلك تبريرات لا يهم نقلها.
فهذه مجموعة من القيود التي ربما تجدها لدى بعض الأصوليّين ولا تجدها عند المحدثين. فمِن أبرز القائلين بمذهب المحدثين المشار إليهم ابن حجر العسقلاني وابن الصلاح وأحمد في أشهر قوليه وتلميذه البخاري وابن كثير والحاكم النيسابوري صاحب المستدرك وغيرهم. وأمّا من ذهب إلى طريقة الأصوليين أو نسخة مخففة من طريقة المحدثين فهم مجمل من تجده يفرق بين من له صحبة ومن له رؤية، في مقابل المحدث الذي تكفيه مجرد الرؤية لإدخال من أدخله في الصحابة. وعلى هذا فربما نسبت طريقة الأصوليين إلى أحمد والبخاري لأنّك تجد في بعض كلماتهم التفرقة بين الرؤية والصحبة. وربما أجيب عن هذه الجزئية بأنّ أحمد عندما يفرق بينهما فهذا من باب إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، فلا ينافي قوله بمقالة المحدثين. وممن نسبوا إلى طريقة الأصوليين مسلم وأبو حاتم الرازي والباقلاني ابن عبد البر وشعبة بن الحجاج وغيرهم(6) لذلك تجد ابن الصلاح في مقدمته في نفسه شيء من كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، على جلالة ابن عبد البر عندهم.
قال ابن الصلاح في فصل معرفة الصحابة:
"هذا «معرفة الصحابة» علم كبير، قد ألف الناس فيه كتباً كثيرة، ومن أحلاها وأكثرها فوائد كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، لولا ما شانه به من إيراده كثيراً مما شجر بين الصحابة، وحكاياته عن الأخباريين لا المحدثين. وغالب على الأخباريين الإكثار والتخليط فيما يروونه.
وليس هذا إلا لأنّ ابن عبد البر المعروف بحافظ المغرب لم يعمل بمبدأ الإمساك الذي ترجع روح عدالة الصحابة إليه كما ربما يتضح من بعض ما سيأتي. ومن مبدأ الإمساك تلاحظ أنّ ما نقلناه قبل قليل عن ابن تيمية مسألة تحتاج إلى تفسير وربما يتحير العقل في فهمها. فكيف جمع بين كونهم ليسوا معصومين وارتكابهم الهنات، مع عجز كبار نقاد الحديث على أن يجدوا من تعمد منهم كذبة؟ قال في موضع آخر من منهاج السنة:
ومعلوم أنّ الله قد جعل للصحابة مودة في قلب كل مسلم لا سيما الخلفاء رضي الله عنهم لا سيما أبو بكر وعمر فان عامّة الصحابة والتابعين كانوا يودونهما وكانوا خير القرون ولم يكن كذلك علي، فإن كثيراً من الصحابة والتابعين كانوا يبغضونه ويسبّونه ويقاتلونه"(7).
وهذا يزيد التحير. وخصوصاً على منهج المحدثين الذين توسعوا كثيراً حتى بلغ الصحابة عشرات الآلاف بعد أن لم يتجاوزوا الألفين في بيعة الرضوان. ويبدو أنّه كان عليه أن يدعى عدم تمكن نقاد الحديث من إثبات تعمّد كذبة، لا إثبات أنّهم لم يتعمدوا كذبة جزماً. أو كان عليه أن يدعي بأنّ سيئاتهم لا تضر وبأنّهم أولى من يلتمس إليه العذر لقدمهم وإخلاصهم في خدمة الإسلام وما شابه ذلك مما ذكروه من تخريجات لمبدأ الإمساك عما شجر بين الصحابة.
وكيف كان فما ذكره لا يخرج عن مبدأ السكوت والإمساك عما شجر بينهم الذي لا معنى محصل لعدالة الصحابة غيره، ولكن يصعب الاعتراف بذلك لأنّه يتضمن الاعتراف الصريح بعدم عدالتهم، فيقع التناقض.
وليس هذا خاتمة التساؤلات. نقول في هذا المقام، لا يبعد أنّه بالنظرة البدوية الفطرية لا بد من أن تكون هذه المسألة طريقية لا ذاتية لها موضوعية. المقصود أنّ الاعتقاد بعدالة الصحابة لا يجب أن يكون على حد الاعتقاد بعصمة الأنبياء مثلاً أو عصمة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) عند مذهب الشيعة الإمامية، فإنّ العصمة مسألة عقائدية وتعتبر جزءاً من الدين أو فقل قيداً في أصل من أصوله. فمن اعتقد بالنبوة ولم يعتقد بالعصمة فليس الأمر أنّه اعتقد بأصل من أصول الدين وخالف في مسألة فرعية، بل يعتبر أنّه قد آمن بأصل من أصول الدين ناقصاً. فالنقيصة من عصمة الأنبياء تعتبر منقصة في الدين الذي يعتقده المسلم. أما الإيمان بعدالة الصحابة فبالنظر البدوي الفطري وعند إحسان الظن بهذه الفكرة ليس هو إلا مسألة استقرائية ويجب أن يكون قد لاحظ المؤرخون والعلماء بأنّ الصحابة لم يوجد فيهم كذاب أو مرتكب للمعصية مثلاً إلا وكان معذوراً أو متأولاً وما شابه ذلك. إنّ هذه الدعوى -أنّ فطرية المسألة تكون بهذا المعنى- ليست جزافية، بل كما سيتضح «ما أصبحت عدالة الصحابة مسألة يصعب فهمها إلا لأنّها خرجت عن ما ينبغي أن تكون عليه» فإنّ المسائل العلمية لا بد من أن تكون واضحة لا أقل على مستوى الدعوى والمفهوم، وإن اختلف في إثبات الدعوى. ولكن إذا كانت المشكلة في فهم الدعوى والنتيجة، فهنا لا بد أن يرجع الأمر إلى مخالفة لما يفهمه الإنسان العالم. وعلى أية حال فليست عدالة الصحابة بهذا المعنى مسألة عقائدية كمسألة عصمة الأنبياء.
بهذا المقدار ربما تكون الفكرة مقبولة على مستوى الإمكان رغم احتياجها إلى أكثر من ذلك لإثباتها على مستوى الوقوع. ولكن الباحث عندما يستقصي هذه الفكرة في كلمات من يتبنونها فإنّه يجدها تصل إلى أكثر من هذا بكثير.
فإنّ جمعاً من كبار علماء المسلمين قد رتبوا آثاراً عظيمة على من أنكر عدالة الصحابة أجمعين، وعلى من طعن واحدا منهم. فمنهم من نسب منكر ذلك إلى الكفر، ومنهم من نسبه إلى المكيدة للدين. إنّ هذه الآثار لا تتلائم مع مسألة استقرائية لا موضوعية لها بحسب الفرض، فأيّ موضوعية لكون الآلاف من الأشخاص عدولاً لمجرد كونهم قد آمنوا وكانوا في القرن الأول ولمجرد تشرفهم برؤية النبي الأعظم محمد (صلَّى الله عليه وآله) في فئام من النّاس ويعدى هذا الحكم لمن رأى محمداً (صلَّى الله عليه وآله) ومن رأى من صحب محمدٍ ومن رأى من رأى من صحب محمداً (صلَّى الله عليه وآله)؟ خصوصاً وأنّ المدّعى في بعض الكلمات هو عدالتهم جميعاً وبدون استثناء، رغم كثرتهم خصوصاً على بعض تعريفات الصحبة كما سيأتي بيانه، ورغم اختلاف ثقافاتهم واختلاف مشاربهم. هذا الظن الأولي يصطدم مع ما ذهب إليه هؤلاء المشايخ. ولا مشكلة في ذلك، وإنّما هذه الفكرة بهذا النحو تولد الكثير من التساؤلات التي تحتاج إلى الإجابة عليها. وأول ما يخطر على البال هو الجرائم التي نقلها التاريخ عن الكثير من الصحابة، واللعن الوارد في بعضهم في القرآن والسنة، والاقتتال بين الصحابة أنفسهم الذي أنتج فتنة لم تزل آثارها إلى قرون متمادية بعد القرن الأول أو القرون الثلاثة التي يدعى فيها العدالة. ومن جهة أخرى فيلزم من هذا التعميم تخصيص الآيات التي ملأت الدنيا عدلاً ونبذاً للظلم والطغيان، فتخصص لأجل الحفاظ على مكانة وسمعة الصحابة، وبالتالي كما يدعى، على سمعة وحقانية الإسلام.
والمسألة الأخرى هي أن البحث في هذه القضية لا ينبغي أن يقع في عالم الثبوت والإمكان، فإنّ الإمكان عالم واسع وغير يقيني ولا يدفع الشبهة عن أصل الدين بل غاية الأمر أنّه يرفع التناقض في الفكرة. فمثلاً لو سلمنا بعدالة جميع الصحابة صيانة للدين وأنّه لا يمكن أن يكون الصحابة فاسقين، فهنا يرتفع التناقض الذاتي في الفكرة، بمعنى أنّه لا مانع من الاعتقاد بصحة الدين الواصل إلينا بما أنّ الصحابة كلهم عدول. ولكن مع هذا الافتراض يتوجه السؤال إلى أصل الدين وإلى إشكال الدور فضلاً عن المؤنة العظمى في إثبات ذلك بالأدلة الواقعية التاريخية.
أما مع التماشي مع هذه الفكرة، فلو سلمنا بهذه المسألة على أفضل صورها وجئنا بأدلة عصمة الأنبياء وطرحناها بعينها لإثبات عدالة الصحابة وفرضنا أهمية الصحابة كأهمية الأنبياء. -لأنّه مع عدم العصمة لا يحصل الوثوق بالدين الواصل إلينا وأنّ الله الحكيم لا يمكن أن لا يبعث أنبياء معصومين وإلا للزم نقض الغرض من الخلقة أو عدم تحقق الغرض منها لأنّ شريعته لن تصل كما هي عليه، أو أنّ الأنبياء لن يكونوا حجة منجزة على النّاس، لأنّ النّاس حينئذٍ لهم أن يحتجوا على الله بأنّه لم يحصل الوثوق بكلام هؤلاء الذين يرتكبون الذنوب أو يخطؤون في شؤون حياتهم فكيف يوثق بما جاؤوا به في مقام التبليغ. ودعوى عصمتهم في التبليغ فقط مما يتعذر الالتزام به بعد أن أدخلنا مثل الإيماء والتقرير في حجية ومنجزية التكليف. لو لم يكن الأنبياء معصومين لكان هذا من القبيح الذي لا يرتكبه المولى الحكيم تبارك وتعالى- فيقال هنا الأمر في الصحابة كذلك لأنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) أوصل الدين من جانبه ولكن من يوصل الدين إلينا من بعده؟ فلو لم يكن الصحابة عدولاً للزم نفس المحذور الذي كان سيلزم لو لم يكن الأنبياء معصومين، وحينئذٍ فلا محيص من القول بعدالتهم جميعاً وبدون استثناء وذلك استقصاء لأشد مراتب حماية الدين وصيانة له من إدخال ما ليس منه أو إخراج ما كان فيه. وهذا هو المناسب لحكمته وعدله (سبحانه وتعالى). هذا غاية ما يقال في إثبات العدالة عن طريق الدليل العقلي.
فكما يلاحظ القارئ أنّ هذا استدلال في عالم الثبوت لأنّه بلسان لا يمكن أن يكون، أو لا يمكن أن لا يكون، فنقول لو كان الأمر كذلك فيلزم استمرار السلسلة إلى أجيال أخرى بعد الصحابة لعين ما ذكر من دليل، ولم يلتزم أحد بذلك. فإن قيل لا يلزم ذلك في القرون اللاحقة، قلنا لا يلزم ذلك في القرن الأول بنحو وجوب ثبوت العدالة لجميع الصحابة بلا استثناء، بل ما يجاب به عن القرون اللاحقة نجيب به عن الكلية المذكورة. ولو سلمنا استثنائية الصدر الأول لقربه من زمن الوحي فدون إثبات الكلية بهذا الدليل خرط القتاد، بل غاية ما يجب هو أن يوجد ثلة من العدول الأخيار بمقدار ما يحتاجه نقل الدين لا أكثر.
وثانياً لو كانت عدالتهم ضرورية لكي يصل الدين صحيحاً للأجيال اللاحقة، فصحّة الدين الواصل للأجيال اللاحقة متوقفة على أن تثبت عدالتهم عند الأجيال اللاحقة. فلو لم تثبت عدالتهم بطريق خارجي مستقل لما أمكن التحقق من صحة الدين، ولكن الفرض أننا نستدل بضرورة أن يكون الدين صحيحاً لإثبات عدالتهم. فهل يصح أن نستدل بصحة الدين على عدالتهم، والحال أن صحة الدين لا تعرف إلا بعد ثبوت عدالتهم لأنّهم هم من نقل الدين بحسب الفرض؟ وهذا دور صريح ومنبّه حثيث على أن الاستدلال الثبوتي على أمثال هذه الأمور لا ينبغي أن تقوم عليه أسس الإيمان والاعتقاد.
بل إنّ هذا الدليل لا يتم حتى في إثبات عصمة الأنبياء، بل لا بد من المعجزة والدليل الإثباتي على أصل النبوة ثم يمكن جر الحديث إلى تلك النواحي العقلية. هذا، فضلاً عن أن جميع الطرق الإثباتية تدل على عدم عدالة الصحابة، ونحن لا نحتاج إلى هذا المقدار بل يكفي أن تعجز الطرق الإثباتية عن إثبات عدالتهم جميعاً ولا نحتاج إلى إثبات عدم عدالتهم. وهذا مما يصعب إثباته في مجموعات صغيرة من الناس كيف ونحن نريد إثبات ذلك لمجموعات قامت بينها الحروب ونهبت بينهم الأموال وقتل بينهم الآلاف من الناس.
ومن هنا تجد جمعاً من علماء العامة الكبار حشدوا آياتً ونصوصاً دينية كثيرة للاستدلال على هذه الحقيقة.
إنّ هذا النحو من الاستدلال أيضاً مبتلى بالدور كما لا يخفى، ولكنه أخف وطأة من سابقه لأنّ الدور هنا ربما يتم حله بدعوى التواتر ونحوها من الأمور التي توجب العلم بتحقق النص أو المضمون بمعزل عن الطريق المعين التي وصلت منه. ومع ذلك فما يمكن أن يلزم الفرق الأخرى التي لا تعتقد بعدالة جميع الصحابة إنما هو الآيات القرآنية على تقدير تمامية دلالتها، لأن النصوص الواردة من طرق معينة لا يمكن استعمالها في الإلزام. وسيأتي قريباً ذكر بعض هذه النصوص.
ثم يجد الباحث هنا معضلة أخرى في كلمات القوم، وهي هل أن صحبة النبي (صلَّى الله عليه وآله) أو رؤيته، على الاختلاف في تفسير مفهوم الصحابي، علة لصيرورة الصحابي عادلاً، أم هي كاشفة عن ذلك (بنحو الواسطة في الإثبات لا أكثر؟) فلو كانت علة لذلك لصارت نحواً من التسديد الإلهي والهداية الربانية وهذا مما يحتاج إلى بيان وتوضيح، لأن مجرد رؤية وصحبة النبي (صلَّى الله عليه وآله) لا يكاد يتصور كيف يكون هو العلة في تلبس الرائي بالهداية والنجاة سواء آمن وعمل صالحاً أم آمن وعمل طالحاً. ولو كانت الصحبة كاشفة عن ذلك وليست علة للعدالة فلا مشاحة في ذلك لأن نقض الكلية حينئذٍ لا يوجد ما هو أيسر منه. ومن هذه النقطة بالذات تجد العلماء المدافعين عن هذه الفكرة يرجعونها إلى عدالة الصحابة لا بمعنى كونهم معصومين عن ارتكاب المعاصي بل إنما هي نظرية احترازية لكي لا يبدأ الطعن في الصحابة فيصل الطعن إلى صحابة آخرين فلا يسلم لنا شيء من الإسلام المنقول إلينا عن طريق الصحابة بحسب الفرض. فمثلا لا يمنع الطعن في صحابي لم ينقل لنا سوى حديث أو حديثين في نفسه، لكن هذا الطعن بوابة للطعن في المكثرين الذين تصل أحاديث بعضهم إلى الآلاف، وحينئذ يكون الدين في وضع حرج وصعب لإمكان تزلزله في أي وقت. فلا بد من منع الطعن، فيرجع معنى عدالة الصحابة إلى صيانة الصحابة من الطعن.
ومن هنا عمل مجموعة من علماء العامة على تشييد مبدأ الإمساك كابن تيمية مستندين إلى مثل قوله تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} صدق الله العظيم.
إنّ هذا مرة أخرى استدلال باللازم الباطل الذي لم يثبت ملزومه إلا من خلال هذا اللازم. فنتيجة لكون هؤلاء قد حشروا أنفسهم في دائرة ضيقة وهي أن الدين قد وصل إلينا عن طريق الصحابة فلا بد من الدفاع عنهم بأي وجه كان، فقد اضطروا لأمثال هذه التبريرات التي هي في ظاهرها لحفظ الدين.
قال ابن السبكي في جمع الجوامع وننقله مع شرح ابن المحلى:
"(ونعتقد أن خير الأمّة بعد نبيها محمد ص أبو بكر خليفته، فعمر، فعثمان، فعلي، أمراء المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين) لإطباق السلف على خيرتهم عند الله على هذا الترتيب وقالت الشيعة و كثير من المعتزلة الأفضل بعد النبي (صلَّى الله عليه وآله) علي وميزهم المصنف عن مشاركيهم في أسمائهم بما كانوا يدعون به فكان يدعى أبو بكر خليفة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لأنه خلفه في أمر الرعية مع أنه استخلفه للصلاة بالناس في مرض وفاته ص كما رواه الشيخان ويدعى كل من الثلاثة أمير المؤمنين... (ونمسك عما جرى بين الصحابة) من المنازعات والمحاربات التي قتل بسببها كثير منهم فتلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا (ونرى الكل مأجورين) في ذلك لأنه مبني على الاجتهاد في مسألة ظنية للمصيب فيها أجران على اجتهاده وإصابته وللمخطئ أجر على اجتهاده كما ثبت في حديث الصحيحين إن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"(8).
فهذا الكلام يشير إلى أن الإمساك عما جرى بين الصحابة له نحو من الموضوعية خصوصا وأنه جاء خاليا من الدليل على هذه القاعدة الخطيرة التي تؤسس لقبول الأفاعيل التي أومأ إليها الشارح وصرح بها غيره كابن تيمية فيما نقلناه عنه وما لم ننقله أيضاً. وأما مقولة أن هذه دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا، وهي منسوبة إلى عمر بن عبد العزيز كما أشار إليه الشربيني في الحاشية على كلام في ذلك بينهم، فهي مما لا يكاد يستقيم لا بجعله كبرى لوجوب الإمساك ولا في نفسه أيضاً. أما الاستدلال بها على وجوب الإمساك فواضح البطلان لأنه اجتهاد من عمر بن عبد العزيز ولا يعتبر حجة. وإن أرجع إلى الدليل العقلي على وجوب الإمساك فإما أن يرجع إلى العقل النظري أو العقل العملي. أما نظرياً فلا يخفى أن هذه الكبرى دعوى محضة ولم تتضمن دليلاً لأنه لا ملازمة عقلية بين طهارة الأيدي من الدماء ووجوب الإمساك. وأما بإرجاعها إلى مدركات العقل العملي فهذا مما لا يكاد يستقيم إذ لا يتضمن الإمساك عنواناً يدركه العقل، ولو سلمنا بإرجاعه إلى ما يدركه العقل فليس مسلّماً وقوع المسألة صغرى لما يدركه العقل. وعلى أية حال فالدعوى لا تستقيم في نفسها أيضاً لأن القرآن صريح في وجوب قتال الفئة الباغية وحينئذ فلا يمكن الالتزام بأن هذه دماء طهر الله منها أيدينا بل الفئة الباغية مقتولة بأمر الله فلو شاركتهم أيدينا لما كانت ملوثة بذلك.
فكما يلاحظ القارئ أنّ تبرير الإمساك عن الكلام حول الصحابة بأي نحو كان في باطنه يتضمن اعترافاً بأن هذا الدين لو أنصف التاريخ والوقائع لما وصل إلينا منه إلا المشوش والمحرف عن طريق فئة لا تسلم أمام النقد التاريخي المنصف. ويشهد لذلك اعتراف ابن تيمية فيما نقلناه عنه في صدر الكلام بأنهم رغم ما صدر عنهم من الهنات إلخ وغير ابن تيمية أيضاً يجد كلماتهم المتتبع في مظانها. فالحل هو أن يغلق باب التاريخ والنظر في الوقائع. ولكن بالنظرة الدقيقة لهذه الفكرة لا يكاد الباحث يجد تناسقاً فيها، فإن الدين قد نقله الآلاف ولا يمكن أن تسقط أصوله المعتضدة بالأدلة العقلية والقضايا الضرورية المتصلة يدا بيد إلى زمن النبي محمد (صلَّى الله عليه وآله). وحينئذ فسوف تسقط أمور فرعية متأخرة رتبة عن أصول الدين ونحن بحسب الفرض إنما نقدس الدين ولا نقدس أشخاصاً أو أحداثاً أو فروعاً لا تثبت لدينا إلا بالتكتم والسكوت عما لو لم نسكت عنه لوقع المحذور، وليس المحذور إلا سقوط هذه الأمور التي لم تثبت أهميتها إلا من خلالها. ومن هنا لو تم هذا الكلام يعرف أن المقصود إنما هو الذود عن تراث وأفكار ربما لا يصمد البحث العلمي لإثباتها.
وعلى أية حال فإن هذا من أوهن ما يمكن أن يتصور في معنى العدالة، كيف ويلزم منه أن يكون الشيء أصلاً لنفسه وهذا أشد ما يناقض الغرض الذي من أجله قامت هذه الفكرة ويقترب من نقض الدين أكثر من كونه لحفظ الدين.
هذه مجرد مقاربات في تصور المسألة. أما بقية المباحث من تعريف الصحبة ومدتها وشؤون التابعين والفرق بينها وبين العصمة وتعريف الصحابي وأثر المسألة الحديثي والتاريخي وغير ذلك من المباحث فلم تتعرض له هذه المقالة، وربما يكون لها ما يتممّها في المستقبل إن شاء الله.
***
* الهوامش:
(1) الحديد:10.
(2) الأنبياء 101.
(3) الإصابة في معرفة الصحابة ص13.
(4) منهاج السنة النبوية 2456.
(5) مقدمة ابن الصلاح.
(6) لاحظ الصحابة وعدالتهم.
(7) منهاج السنة النبوية 7137.
(8) حاشية العلامة البناني على شرح ابن المحلى على متن جمع الجوامع 2422 423.
0 التعليق
ارسال التعليق