مقدمة
لا شبهة فيما خصّ البهائم من حيوان البرّ- في حلّيّة الإبل والبقر والغنم الأهليّة، وكذا الخيل والبغال والحمير الأهليّة، وفي حلّيّة كبش الجبل والبقر والغنم والحمير والغزلان واليحامير الوحشيّة.
وهل يختصّ حل الوحشيّة غير ما استثني كالسباع والمسـوخ والحشار ونجس العين- بالخمسة المتقدمة فلا تحـلّ
الزرافة ووحيد القرن واللاما وفرس النهر والكنغر والسنجاب ونحوها أم لا؟
ففي منهاج الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه): "وفي تخصيص الحلّ بهذه الخمسة إشكال، والحلّيّة غير بعيدة"(1).
كما وقع الكلام في حلّيّة ما تولّد من مأكولٍ كالشاة ونجس العين كالكلب ولم يقع على المتولد اسم أحدهما أو اسم غيرهما من مأكولٍ أو غير مأكول، وقد ذكر الشهيد الثاني (قدِّس سرُّه) في طهارة الروضة أنّ مقتضى الأصل هو الحرمة(2).
فلابد من بحث مقتضى الأصل أولاً.
مقتضى الأصل
أمّا فيما يخصّ المتولّد من حيوانين أحدهما طاهر والآخر نجس ولم يصدق عليه اسم أحدهما أو اسم غيرهما فقد سيق أصلان للحرمة:-
الأول: استصحاب نجاسته الثابتة حينما كان دماً وعلقة في رحم الكلبة أو الخنزيرة أو حينما كان منيّاً(3).
الثاني: استصحاب نجاسته عندما كان جنيناً ولو قبل ولوج الروح فيه إذا كانت أمّه كلبةً أو خنزيرة؛ لكونه جزءاً من أمّه(4).
وفي هذين الأصلين ما لايخفى؛ لاستحالة المنيّ والدم، فلا يجري الاستصحاب في الأول، على أنّه يكفي في عدم جريانه عدم إحراز وحدة الموضوع، ولمنع الجزئية في الثاني، بل الجنين كالبيضة بالنسبة إلى الدجاجة من قبيل المظروف مع الظرف.
وأما مقتضى الأصل فيما يعم المتولّد من حيوانين أحدهما نجس أو غير مأكول، وكذا ما ليس محرّماً بعنوان عام من حيوان الوحش - فقد سيقت جملة أصول للحرمة:-
الأول: أصالة عدم وقوع التذكية على الحيوان المشكوك صحة تذكيته(5).
الثاني: استصحاب حرمة اللحم الثابتة حال الحياة(6).
الثالث: ما قيل: من أن المحلَّلات محصورة، والمحرّم غير محصور، فإذا لم يدخل في المحصورات حكم بحرمته(7). وقد يكون مردّ هذا إلى أنّ كثرة المحرّمات وغلبتها على المحلّل مانعٌ عن التمسّك بأصالة الحلّ، فالحلّيّة توقيفيّة، ولذا كان بناء أصحاب الأئمة (عليهم السلام) على السؤال عن المحلّلات -كما حاول أن يوجهه به الشيخ الأعظم(قد) -(8).
ويتوجّه على أصالة عدم قبول الحيوان للتذكية بعد عدم كونها أصلاً برأسه، بل مرجعها إلى استصحاب عدم التذكية- أنّ هذا الاستصحاب إنّما يجري في بعض الموارد وعلى بعض المباني في حقيقة التذكية، فإذا قلنا بأنّ القابلية المعتبرة في الحلّيّة مرجعها إلى اشتراط خصوصيّة وجوديّة في الحيوان كالغنميّة والأهليّة ونحو ذلك، وقلنا بأنّ حقيقة التذكية هي المسبَّب الشرعي أو التكويني عن الذبح، أو قلنا بأنّها عبارة عن عنوان مجعول شرعاً بإزاء الذبح الخارجي فيجري استصحاب عدمها عند الشكّ فيها؛ للشكّ في القابلية، وكذا إذا كان الشكّ في القابلية على نحو الشبهة الموضوعيّة وأنّها موجودة في نحو الكنغر أم لا، وقلنا بأنّ التذكية مركّبة من الذبح الشرعي والقابلية، فيجري استصحاب عدم القابلية أزلاً، أو قلنا بأنّ التذكية هي الذبح المقيّد بالقابلية، فإنّه يجري استصحاب عدم تحقّق المقيَّد نفسه، وتفصيله موكول إلى محلّه(9).
وأما حرمة اللحم الثابتة حال الحياة في الثاني فهي حرمة عرضيّة، وترتفع بالتذكية قطعاً، بينما المقصود إثبات الحرمة الذاتيّة، أي أنّ الشكّ في الحرمة مسبّب عن الشكّ في التذكية، فإن جرى استصحاب عدم التذكية فلا مورد لاستصحاب الحرمة، وإن لم يجرِ لم تحرز وحدة الموضوع كي يجري استصحاب الحرمة.
وأما ما حكي من حصر المحلّلات فأول الكلام، والغلبة العنوانيّة للمحرمات بمجردها لا تصلح مانعاً عرفاً عن الرجوع إلى الأصول المؤمّنة، وتباني أصحاب الأئمة (عليهم السلام) على السؤال عن المحلّلات إنما هي لجهة عدم جواز العمل بتلك الأصول قبل الفحص.
وقد تستفاد حرمة ما سوى بهيمة الأنعام من موثّقة غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه [عن عليّ (عليه السلام)] أنّه سئل عن لحم الفيل، فقال: ليس من بهيمة الأنعام(10). فإنّ الجواب فيها- إشارة إلى قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ}- ظاهر في التعليل وأنَّ ما ليس من بهيمة الأنعام فلا يحلّ.
ويؤيّد هذه الموثّقة رواية وهب بن وهب عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّ عليّاً (عليه السلام) سئل عن أكل لحم الفيل والدبّ والقرد، فقال: «ليس هذا من بهيمة الأنعام التي تؤكل»(11).
إلا أنّه لا عامل بمضمون الموثّقة المزبورة، فتسقط عن الاعتبار وإن قلنا بأنّ الوثاقة هي المناط في حجيّة الخبر.
فتحصّل أنه لا أساس لأصل الحرمة- ولو لفظيّاً- في الحيوان.
أصالة الحلّية:
ثم إنّه-وبقطع النظر عن الأدلّة الخاصّة على الحلّيّة- قد يتّخذ عموم قوله سبحانه: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ...}(12)- أصلاً لحلّيّة مشكوك الحلّيّة من الحيوان(13).
ولكن يتوجّه عليه _ على تقدير أن يراد بالحرمة مطلق المنع وإن لم يكن في الكتاب العزيز_ أنّ الحصر في الآية لا يمكن أن يكون حقيقيّاً؛ لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن؛ لوضوح أن المحرّمات غير منحصرة في تلك الأربعة؛ فإنّه منها السباع ومنها المسوخ... ومنها غير ذلك مما يحرم أكله شرعاً فلا محيص من تأويله، إما بحمله على الحصر الإضافي بدعوى أنّ المحرّمات- بالإضافة إلى ما جعلته العرب محرّماً على أنفسها في ذلك- منحصرةٌ في تلك الأربعة، وإما بحمله على زمان نزول الآية وانحصار المحرّمات فيها في ذلك الزمان؛ للتدرّج في الأحكام(14).
وأما لو أريد بالمحرّم خصوص ما حرّم في الكتاب بملاحظة صحيحتي محمّد بن مسلم:
الأولى: روايته عن أبي جعفر (عليه السلام) «أنه سئل عن سباع الطير والوحوش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمير والبغال والخيل، فقال: ليس الحرام إلا ما حرّم الله في كتابه»(15).
والثانية: أنه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) «عن الجرّي والمار ماهي والزمّير وماليس له قشر من السمك أحرامٌ هو؟ فقال: يا محمّد، اقرأ هذه الآية التي في الأنعام: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}، قال: فقرأتها حتى فرغت منها، فقال: إنما الحرام ما حرّم الله [ورسوله](16) في كتابه...»(17)؛ فبعد دعوى ظهورهما في أنّ المحرّم ليس مطلق الممنوع وإن كان من غير الكتاب فلا تعود الآية أصلاً لعدم المنع وإن لم يكن كتابياً عما سوى المذكورات فيها، بل هي حينئذٍ أجنبية عن المقام.
ولكن قد يقال: إنّ الظاهر عرفاً من السؤال هو السؤال عن المحرّم شرعاً، وجواب الإمام (عليه السلام) بالآية من باب ذكر الشاهد على عدم الحرمة شرعاً لا عدم الحرمة في الكتاب، فلا تصلح الروايات شاهداً على نظر الآية لحصر المحرّم في الكتاب، ولو استظهر من الآية أنّها ناظرة لما حرم بالوحي فلا تشمل ما حرم بالسنة كان ذلك منافياً لاستشهاد الإمام (عليه السلام) بها في الروايات(18).
والحاصل أن الآية ليست أصلاً للحلّيّة، ومما تقدّم تظهر الخدشة في الاستدلال لأصالة الحلّ بتمسّك الإمام (عليه السلام) من باب التعليم بقوله: (قل لا أجد) في إباحة بعض الأشياء(19).
وقد تتخذ روايات الحلّ الأربع أو الثلات أصلاً للحلّ فلنستعرضها:
الأولى: موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه، فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثواب يكون[عليك] قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر(قهراً)، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة»(20).
الثانية: معتبرة عبدالله بن سليمان قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن-إلى أن قال- فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(21).
ولا يوجد في سندها من يتوقّف في وثاقته سوى عبدالله بن سليمان وهو الصيرفي؛ لانصراف الاسم إليه عند الإطلاق، لكونه صاحب أصل دون غيره من المسمّين باسمه، إلا أنه -هو الآخر- ثقة، لرواية صفوان وأبن أبي عمير عنه، بل هما راويا أصله، على ما في مشيخة الصدوق (رحمه الله)(22)، وكبرى وثاقة من ثبتت رواية أحد الأجلاء الثلاثة عنه، ومنهم صفوان وابن أبي عمير- تامّة.
الثالثة: مرسلة معاوية بن عمار(23) المتّحدة مضموناً مع السابقة، والمظنون كونهما رواية واحدة، كما لا يخفى على من التفت.
الرابعة: صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(24).
وكلها أجمع لا تتناول مقامنا من فرض الشبهة الحكمية، بل هي متمحّضة في معالجة الشبهات الموضوعية؛ لقرائن مشتركة بينها أو مختصّة بالموثقة أو مختصة بغيرها.
أما القرينة المشتركة فهي كلمة (بعينه)؛ فإنها احتراز عن العلم بالحرام لا بعينه، ولا يكون ذلك إلا في الشبهة الموضوعيّة، ولا يتصوّر العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكمية فإنّه مع الشكّ في حرمة شيء وحلّيّته لا علم لنا بالحرام لا بعينه، وما قيل بأنّ مفردة (بعينه) احتراز عن العلم الإجمالي بالحرمة فتشمل الشبهة الحكميّة(25).- ففيه أنّ جعل الترخيص في الطرفين مع العلم بحرمة أحدهما مما لا يمكن الجمع بينهما ثبوتاً ويتناقضان، فالمتّجه عدم شمول روايات الحلّ لأطراف العلم الإجمالي بالحرمة.
وأما القرينة المختصّة بالموثَّقة فهي أمران، الأول: إن الأمثلة المذكورة فيها من قبيل الشبهة الموضوعية، فهي قرينة على اختصاص الموثقة بها، ولا أقل من احتمال القرينية فلا ينعقد لها ظهور في الشمول للشبهات الحكمية. والثاني: قوله (عليه السلام): «أو تقوم به البينة» قرينة أو صالح للقرينية على إرادة خصوص الشبهات الموضوعية، فإن اعتبار البينة إنما هو في الموضوعات لا في الأحكام التي يكفي لثبوتها خبر الواحد.
وأما القرينة المختصّة بغير الموثقة فهي قوله (عليه السلام): «فيه حلال وحرام» الظاهر في الانقسام الفعلي ولا يتصوّر ذلك إلا في الشبهات الموضوعيّة؛ وأما في الحكميّة كما إذا علمنا بحلّيّة نوع من الطير وعلمنا بحرمة نوع آخر منه وشككنا في حلّيّة نوع ثالث منه، فيصدق عليه أنّه فيه حلالٌ وحرامٌ، ولكن توهّم مدخولٌ بأن الظاهر منه قوله (عليه السلام): «فيه حلال وحرام» كون منشأ الشك في الحلّيّة والحرمة هو نفس انقسام الشيء إلى الحلال والحرام، وهذا لا ينطبق على الشبهة الحكمية؛ فإن الشك في حلّيّة النوع الثالث من الطير ليس ناشئاً من انقسام الطير إلى الحلال والحرام، بل هذا النوع مشكوك الحلّيّة والحرمة.
وممن رأى اختصاص روايات الحلّ بموارد الشبهات الموضوعيّة هو السيد الخوئي (قدِّس سرُّه)(26)، وما ذكرناه من القرائن على الاختصاص مختصر عما أفاده(27)(28).
نعم من الأصول التي يمكن اتّخاذها أصلاً مؤمّناً في مقامنا – هي أصالة البراءة الشرعيّة بعرضها العريض الثابتة -لا بما تقدّم- بل بمثل حديث الرفع(29) المعتبر سنداً، ولا يعيبه عدم توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار شيخ الصدوق (قدِّس سرُّه)، بعد كونه من معاريف الطائفة الّذين لم يرد فيهم قدحٌ الكاشف عن حسن ظاهره عرفاً، وحسن الظاهر يكشف عن الوثاقة بل العدالة شرعاً.
الدليل الاجتهادي على الحلّيّة
ثم إنّ النوبة لا تصل إلى الأصل العملي مع وجود الدليل الاجتهادي الدالّ على حلّيّة ما لم يكن سبعاً ولا ذا ناب ولا مسوخاً من الوحش، وهو موثّقة سماعة بن مهران بل صحيحته(30) قال: «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المأكول من الطير والوحوش. فقال: حرّم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كلّ ذي مخلب من الطير، وكلّ ذي ناب من الوحوش، فقلت: إن النّاس يقولون: من السبع، فقال لي: يا سماعة، السبع كلّه حرام، وإن كان سبعاً لا ناب له، وإنما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) هذا تفصيلاً، وحرّم الله ورسوله (صلَّى الله عليه وآله) المسوخ جميعاً... الحديث(31).
بتقريب: أنه لما سئل عن المأكول من الوحوش عدل إلى ذكر ما يحرم، فيستظهر من هذا العدول حلّية ما سوى تلكم العناوين وأن ما يؤكل غير منحصر بخلاف غير المأكول.
ويؤيّدها عموم ما في رواية تحف العقول عن الصادق (عليه السلام): «..وأمّا ما يحلّ أكله من لحوم الحيوان فلحوم البر والغنم والإبل، وما يحلّ من لحوم الوحش، وكلّ ما ليس فيه ناب ولا له مخلب..»(32).
وبموجب هذه الحلّيّة تحل الكنغر واللاما والزرافة ووحيد القرن وفرس النهر، نعم لا تتناول الحلّيّة المستفادة من هذه الصحيحة ما تولّد من مأكولٍ وغيره ولم يكن وحشاً، فالمرجع فيه أصالة البراءة الشرعيّة من الحرمة.
والحمد لله أولاً وآخرا، وصلّى الله على محمّد وآله.
[ملحق]:
وألحق بهذه المقالة حواراً جرى بيني وبين موقع(شفقنا) لأخبار الشيعة (ar.shafaqna.com)، وللأمانة وحفظ جهد الآخرين فإنّ جملة وافرة من المعلومات مستقاة من ترجمة صاحب الجواهر (رحمه الله) بقلم الشيخ محمّد رضا المظفّر (رحمه الله)، وقد صدِّر بها كتاب الجواهر في طبعته (ذات الـ 43 مجلّداً) بتحقيق الشيخ عبّاس القوجاني (رحمه الله) ونجله الشيخ محمود، فإلى الحوار:
س1: ما هي خصائص الشيخ محمد حسن النجفي، وشخصيته العلمية ؟
كان صاحب الجواهر (رحمه الله) -كما حكي- بارع البيان حسن التدريس غزير العلم جوّال النظر ثاقب الفكر دؤوب البحث مكبّاً على التدريس والتأليف، فقد نقل المرحوم السيد محمود الشاهرودي -على ما في تقرير بحثه في النكاح بقلم السيد عباس المدرّسي: 554- بأنّ "صاحب الجواهر نذر أن يكون كلّ عرفة في الحائر الحسيني (عليه السلام) فراراً من الحجّ لو قد استطاع، وذلك لأجل إتمام كتاب الجواهر".
ثمّ أنّ مجلس بحثه يضمُّ أكثر من ستين مجتهداً معترفاً لهم بالفضيلة، وقد تخرّج على يديه من أعلام الدين ما يفوق الحصر، ومنهم الميرزا حبيب الله الرشتي والشيخ حسن المامقاني والشيخ عبدالحسين شيخ العراقين الطهراني والشيخ عبدالله نعمة العاملي والمولى عليّ الكني والشيخ محمّد حسن آل يس.
ومن مؤلّفاته -مضافاً إلى جواهر الكلام- رسالته العملية (نجاة العباد)، وهي من الرسائل العملية التي حظيت بالتعاليق عليها والشروح لها بعد عصره، وله عدّة رسائل في الدماء الثلاثة وأحكام الأموات والزكاة والخمس، وله (هداية الناسكين) في مناسك الحجّ، وهي الأخرى قد حظيت بتعاليق جملة من الاعلام عليها، وله رسالة في المواريث، وهي آخر مؤلّفاته، وقد فرغ منها سنة الوباء (1264 هـ)، وله كتاب في الأصول، إلا أنّه قد تلفت نسخته الوحيدة التي هي بخطّه.
س2: ما هي ميّزات وخصائص كتاب جواهر الكلام؟
يتميّز كتاب جواهر الكلام -الذي عكف الشيخ على تأليفه طيلة اثنين وثلاثين عاماً- بعدّة ميّزات:
أ- السعة والإحاطة بأقوال العلماء وأدلّتهم ومناقشتها.
ب- اشتماله على تحقيقات تنمّ عن بُعد نظر ومزيد تقليب.
ت- أنّه كتاب كامل في أبواب الفقه كلّها، وما أعظمه وأندره من توفيق.
ث- اشتماله على كثرة التفريعات مع ندرتها، فهو جامع لأمّهات المسائل وفروعها، وهو من حيث السعة و الجامعية -كما قال المحدّث القمي في الكنى والألقاب (2/173)- كالبحار بين كتب الحديث.
ج- وحدة نسقه وأسلوبه وكذا سعته، فبالسعة التي ابتدأ بها انتهى إليها، رغم طول مدّة تأليفه.
ح- أنّه يغني عما سواه مما تقدّم عليه ولا يستغنى بغيره عنه، فعن صاحب الجواهر نفسه أنّه قال: "من كان عنده جامع المقاصد والوسائل والجواهر فلا يحتاج كتاباً للخروج عن عهدة الفحص الواجب على الفقيه في آحاد المسائل الفرعيّة".
ومن الشهادات على تفوّق (الجواهر) على ما سواه في القرن الثالث عشر- ما أدلى به العلامة المظفّر (رحمه الله) -وهو من صدّر كتاب الجواهر بترجمة مؤلّفه (ج1/13)- قائلاً: "وقد برز في ذلك القرن أقطاب لعلم الفقه وأصوله، هم في الدرجة الأولى علماً وتأليفاً وتقوى وصلاحاً، وخلّفوا لنا آثاراً قيّمة خالدة...، مثل كتاب كشف الغطاء ومفتاح الكرامة والرياض والمكاسب في الفقه...، وكان في القمّة من تلك الآثار الفقهية كتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) الموسوعة الفقهية التي فاقت جميع ما سبقها من الموسوعات سعةً وجمعاً وإحاطةً بأقوال العلماء وأدلّتهم...".
وللحقيقة فإنّه من حسنات الدهر، وقد نقل المحدّث النوري في خاتمة المستدرك -2/115- عن شيخه شيخ العراقين عن بعض العلماء أنّه قال : "لو أراد مؤرخ زمانه -يعني زمان صاحب الجواهر- أن يثبت الحوادث العجيبة في أيامه ما يجد حادثةً أعجب من تصنيف هذا الكتاب في عصره".
وهو-كما حكي عن الإمام الخميني (رحمه الله)- معجزة؛ لأنّ شخصاً واحداً أنجز عمل مائة فقيه.
س3: ما هي أسباب وعلل خلود كتاب جواهر الكلام من زمانه إلى الآن؛ علماً بأنّه ألّفت كتب فقهية كثيرة من بداية عصر الغيبة حتى وقتنا الحاضر فلماذا يؤكّد على هذا الكتاب؟
-بالإضافة إلى ما تقدّم مما يرجع إلى الكتاب ومؤلّفه- لا ينبغي إغفال ما انطوى عليه قلب صاحب الجواهر (رحمه الله) من نيّة حسنة وخالصة من طلب الجاه والسمعة، فهي السبب في توفيق المؤلّف لإكمال الكتاب وهي السبب في رواجه عند الناس، ويظهر أمر حسن النية وخلوصها مما حكي عن تكملة أمل الآمل: أنّ الشيخ قال لتلميذه الشيخ محمد حسن آل يس عن كتابه (الجواهر) : "والله يا ولدي أنا ما كتبته على أن يكون كتاباً يرجع إليه الناس، وإنما كتبته لنفسي حين أخرج إلى (العذارات) -بلدة السادة أخواله من قرى الحلّة- وهناك أُسأل عن المسائل، وليس عندي كتب أحملها؛ لأنّي فقير، فعزمت -وأقول: يا لها من عزمة، وكما يقول المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم- أن أكتب كتاباً يكون لي مرجعاً عند الحاجة...".
س4: ما هو فقه الجواهر؟
الفقه الجواهري هو فقه الصناعة والأصول الاجتهادية، هو الفقه المبتني على الأسس العلمية للاستنباط والذي يجافي الظنون التي لا تغني من الحق شيئاً، الفقه الجواهري يعني البحث المتضمّن للعمق والشمولية لا أن تسطّح عملية الاستنباط. وليس المراد بالفقه الجواهري -الذي دعا الإمام الخميني (رحمه الله) الحوزات العلمية أن تتّبع خطواته- هو ما يساوق الفقه المشهوري. كما ليس المراد من هذه الدعوة أن تتبنى آراء صاحب الجواهر (رحمه الله) سيما ما يتصل منها بولاية الفقيه.
س5: ما هي المدارس الفقهية التي تعدّ في مقابل فقه الجواهر، وهل يوجد فقه ما عدا فقه الجواهر؟
لا توجد مدارس -بالمعنى الصحيح للفظ المدرسة- في مقابل الفقه الجواهري، نعم ثمّت صيحات أو ممارسات وُئدت في مهدها تنادي بفقه جديد يقوم على نحو ما عليه العامّة أو بعضهم، والذي يعرف بالفقه المقاصدي، والذي يعزل -بالتالي- قال الباقر وقال الصادق (عليهما السلام) من جهة، ويعتمد الظنون الاجتهادية التي لاتثمر حقّاً من جهة ثانية، ويؤذن بوداع الصناعة الفقهية المعتمدة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من جهة ثالثة.
وقد انتهى ذلك الفقه ببعضهم -من حيث يشعر أو لا يشعر- إلى: حسبنا كتاب الله، فأحدهم كان يتحدّث عن آية {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}(33) وعن الروايات التي تحدّد القصر والإفطار بسفر ثمانية فراسخ وأخرى بمسيرة يوم ونحوها، فقال: "فإنّ الروايات وآراء الفقهاء مهما كانت كثيرة ولافتة للنظر لا ينبغي أن يكون لها دور في مقابل القرآن سوى الردّ أو التفسير بما يناسب القرآن". وهذا على خلاف الصناعة الفقهية المتعارفة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من إجراء صناعة الإطلاق والتقييد وإن كان المطلق كتابياً والمقيِّد غير كتابي.
هذا والحوزات العلمية ورجالاتها -بحمد الله- في عافية من ذلك الفقه المعوّق، ولا تستبدل عن الفقه الجواهري ما سواه كائناً ما كان.
ودرس الفقه في الحوزات العلمية -على مستوى البحث الخارج- وإن اعتمد في سيره على كتاب العروة الوثقى كمتن فقهي موسّع إلا أنّه على مستوى الممارسة الصناعية لا يجانب الفقه الجواهري.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلّى الله على محمّد وآله.
* الهوامش:
(1) منهاج الصالحين 2: 344 م1681، ط31 لمؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه).
(2) الروضة البهيّة 1: 66 ط مجمع الفكر الإسلامي.
(3) انظر: بحوث في شرح العروة الوثقى للشهيد الصدر3: 297.
(4) انظر: دليل العروة الوثقى، تقريراً لأبحاث الشيخ حسين الحلّي، بقلم الشيخ حسن سعيد الطهراني 1: 433، بحوث في شرح العروة الوثقى 3: 298.
(5) انظر: كتاب الطهارة للشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله) 5: 96.
(6) الحاشية على الروضة البهيّة للشيخ النراقي (رحمه الله): 112، وانظر: كتاب الطهارة 5: 96.
(7) انظر: الحدائق الناضرة 5: 212.
(8) انظر: كتاب الطهارة 5: 97.
(9) لاحظ: ما نشر لي في مجلة (رسالة القلم) –العدد 23 بعنوان "المسوخ وأحكامها" ص 192- 198.
(10) وسائل الشيعة 24: 111 ب2 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح16.
(11) وسائل الشيعة 24: 112 ب2 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح19.
(12) سورة الأنعام: 145.
(13) كتاب الطهارة 5: 97.
(14) انظر: التنقيح في شرح العروة الوثقى= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) 16،3:15، مستمسك العروة الوثقى 1: 353.
(15) وسائل الشيعة 24: 123 ب5 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح 6.
(16) كما في التهذيب 9: 6 ح16، والاستبصار4: 60 ح9، ولكن في تفسير العيّاشي وكتاب عاصم بن حميد بدون ما بين المعقوفتين، كما في مستدرك الوسائل 16: 178.
(17) وسائل الشيعة 24: 136 ب9 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح 20.
(18) لاحظ للمزيد ما نشر لي في مجلة رسالة القلم- العدد 15، بعنوان: قاعدة إنما الحرام ما حرّم الله في كتابه.
(19) كتاب الطهارة 5: 97-98.
(20) وسائل الشيعة 17: 89 ب4 من أبواب مايكتسب به ح4.
(21) وسائل الشيعة 25: 117 ب61 من أبواب الأطعمة المباحة ح 1.
(22) من لايحضره الفقيه (المشيخة) 4: 61.
(23) وسائل الشيعة 25: 119 ب61 من أبواب الأطعمة المباحة ح 6.
(24) وسائل الشيعة 17: 87-61 من أبواب ما يكتسب به ح1.
(25) انظر: أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية للإمام الخميني ره 2: 72.
(26) وكذا الإمام الخميني (رحمه الله) كما في تهذيب الأصول 3:85، وإن ذهب في أنوار الهداية 2: 72 إلى عدم اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعية.
(27) مصباح الأصول 2= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) 47: 316-321.
(28) ولكنّه طبق صحيحة ابن سنان -وعلى خلاف ما قرّره في الأصول- على شبهة حكميّة في الفقه في مسألة تصرف غير ذي الخيار في زمان الخيار وأنّه لا يجوز وضعاً وتكليفاً، ورغم ذلك التزم المشهور فيما لو باع جارية وجهل لنفسه الخيار بأنّه للمشتري وطئها، مع أنّه تصرّف في المال من غير ذي الخيار، مع التزام المشهور بأن الاستيلاد حقّ مانع عن الردّ، وهو مقدّم على حقّ الخيار، مع أنّ الوطء يوجب الاستيلاد، والجمع بين الالتزاميّة غير ممكن؛ فإنّ لازم القول بجواز الوطء مع البناء على أنّ الاستيلاد مانع عن الردّ القولُ بجواز تصرّفات غير ذي الخيار، كما أنّ لازم القول بعد جواز تصرّفات ذي الخيار الالتزامُ بحرمة الوطء الذي هو في معرض الاستيلاد.
واحتمل السيد الخوئي (قدِّس سرُّه) أن يكون نظر المشهور في ذلك إلى نفس الوطء؛ فإنّه بنفسه ليس تصرّفاً منافياً لحقّ ذي الخيار في الرّد، إذ يمكن ردّ الأمة بعد وطئها، نعم الوطء من حيث إنّه يوجب الاستيلاد مانع عن الردّ إلا أن الاستيلاد لا يتحقق في جميع الموارد، فإذا شككنا في أنّه يوجب الاستيلاد أو لا، والتزمنا بعدم جريان الاستصحاب في الأمور المستقبلة لنفيه ولا في الأعدام الأزلية- فالظاهر -والكلام للسيد الخوئي (قدِّس سرُّه)- أنّه لا مانع من التمسّك بالبراءة في رفع احتمال حرمة الوطء؛ لأن «كلّ شيء من حلال وحرام فهو لك حلال» فالوطء حلال؛ لأنّ فيه حلالاً وحراماً.
انظر: التنقيح في شرح المكاسب 5= موسوعة الإمام الخوئي (قدِّس سرُّه) 40: 184-185.
(29) التوحيد للصدوق (رحمه الله) : 353 ب56 ح24.
(30) انظر: معجم رجال الحديث 9: 313- 315 (5556).
(31) الكافي 6: 247 ح1، وسائل الشيعة 24: 114، 105 ب3، 2 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح3،3.
(32) تحف العقول: 337، وسائل الشيعة25: 84، 85 ب42 من أبواب الأطعمة المباحة ح1.
(33) سورة النساء: 101.
0 التعليق
ارسال التعليق