الفقيد الراحل [الشيخ عبدالأمير الجمري] (قده) في كلام أحد مريديه حوارٌ مع سماحة الشيخ علي فاضل الصددي (سلَّمه الله تعالى)

الفقيد الراحل [الشيخ عبدالأمير الجمري] (قده) في كلام أحد مريديه حوارٌ مع سماحة الشيخ علي فاضل الصددي (سلَّمه الله تعالى)

لقد أنجب رحم الموقف على مر التاريخ رجالاتٍ صنعت هذا التاريخ ونسجت فصولَه حسب ما تريد لا حسب ما يريد، فكانت نجوماً مضيئةً متفرقةً في فضاء التاريخ الأسود، وأصبحت نبراساً يحذو حذوه الناس الذين يتفطنون لأهمية ملاحظة التجربة والاغتراف من معينها.

وشخصيتنا التي نقصد التحدث عنها في هذا الحوار كانت من أبرز تلك الرجالات، وألمع تلك النجوم، شخصيةٌ عاشت للناس فَفَدَّتْها الناس بالأرواح، شخصيةٌ أحبَّت الناس فأحبَّها الناس، شخصيةٌ نذرت وجودها للناس وأخلصت لهم فأخلص لها الناس، العلامة المجاهد في سبيل الله تعالى، سماحة العلامة الشيخ عبد الأمير الجمري(قده)، رجلٌ حمل لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يعد يفرق عنده بعدُ أن يعيشَ بين أهله وأحبته أو أن يعيش بين جدرانٍ رهينَ القيود والأغلال، ولقد كان له في رسول الله(ص) وأهل بيته(ع) أسوةٌ حسنةٌ، عرف نهجهم فلم يرضَ عنه بدلاً.

الحديث حول هذا الرجل طويلٌ طويلٌ، وتناول جميع أبعاد هذه الشخصية عسيرٌ، لكن ـ وكما يُقال ـ لا يترك الميسور بالمعسور، فنتكلم ـ بالمقدور ـ مع أحد من عاشره في مرحلةٍ هي من أصعب المراحل، مما أتاح له معرفة الكثير من الكوامن الثمينة التي أظهرتها هذه الظروف من هذا الرجل الفذ، نتكلم مع سماحة الشيخ علي فاضل الصددي حفظه الله تعالى ـ مدير حوزة الإمام زين العابدين(ع) سابقاً..

* سماحة الشيخ، هل لكم أن تطلعونا على أهم الأبعاد الرئيسية التي حملتها ـ وتميزت بها ـ شخصية فقيدنا الراحل(قده)؟

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين، ربِّ أدخلني مُدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً، شخصية سماحة الشيخ الجمري(طاب ثراه) تتوفر على مجموعة أبعادٍ تعاضدت لتشكل منه شخصيةً فذةً وملفتةً، من هذه الأبعاد البُعد الأخلاقي والبُعد العبادي، وثمة بُعد مهم يسعني أن أسميه بُعْدَ المسؤولية، ففي ما يرتبط بالبُعد الأخلاقي شهدنا منه ـ وشهد كل من لقيه ولو لمرةٍ واحدةٍ ـ خلقَ التواضع غير المتكلف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى آمنتُ بأنه يتواضع حين يتواضع لا ليكسب مَنْ تواضع له بتواضعه، بل يرى التواضع ديناً لا يسعه تركه، ويرى تخطيه خطيئةً في حق نفسه ولو مع إلحاح المُتَوَاضَعِ له على تركه، بل رأيتُ منه حين يُحَالُ بينه وبين أن يأتيَ بسنة التواضع ـ المألوفة له وبتلقائيةٍ ـ تأثراً بَيِّناً، كيف لا؟! وهو يجنح ليعكس صورةً مثلى للناس عن تعامل العالم.

ويسترعي انتباهك منه إلحافُه في سؤال من يلقاه عن أحواله وشؤونه ومُتَعَلِّقِيه وإن كان غير معروفٍ لديه بحيث لا يحس الجديد في علاقته به بغربةٍ بمحضر من كان مع سماحة الشيخ، ويحس باهتمامه به، ويحسب الحاضر عنده أن سماحة الشيخ يعرف هذا القادم ويعرف جملة من شؤونه، ويتضح أنه لا يعرفه البتة، بل لأول مرة يراه، وإن أنسى فلا أنسى تَفَقُّدَه لمن غاب والتفاتَه لمن حضر، فلا يتشاغل بحُضَّاره عن بعضهم، وإن حاول الداخل أن يأخذ مكاناً من المجلس فإنه يلتفت إليه ويقوم لدخوله ويبادله التحايا، ولا يترك سماحته أن يمشي خطواتٍ في وداع أهل الفضل والشرف.

وفي ما يتعلق بالبُعد العبادي المشهود لنا والمعاش من قِبَلِنَا، فإن صلواته الخمس كانت في المسجد جماعةً، لا يلويه عن ذلك شيءٌ رغم مهامه الاجتماعية المتكثرة، وقد تَعَوَّدَ منه مأموموه في الصلاة على مواظبته، لذا ينتظرون مجيئه لسكونهم إلى أنه لا يَتَخَلَّف عن صلاة الجماعة، فقلَّ ما يعتذر عن حضوره لصلاة الجماعة. وقد شَهِدَت الليالي القصيرة والطويلة سُبحته فيها وتهجده وبكاءه ونياحته.

وفي ما يتعلق ببُعْد المسؤولية وهَمِّ التكليف الشرعي، فقد كان مُفَزِّعاً له، فتراه لا ينفك عن القيام بدور الرعاية والتكفل لحوائج المؤمنين ماديةً أو غيرها، شخصيةً أو اجتماعيةً وعامةً، فلا يوصد بابه دونهم، بل عمد إلى تخصيص ليلتين للقياهم والنظر في أمورهم، لو تغيب عن حضورهما فلمراتٍ محدودةٍ جداً، وقد تتسبب بعض مسؤولياته في إثقال حاله أو تغيُّبه عن بيته وعائلته لساعاتٍ غير قليلةٍ بحيث لا يقرُّ له مع عائلته قرارٌ، فكان حقّاً موئلاً ومعتصماً لهم.

* ما هي الشخصيات التي تأثَّر بها سماحة الشيخ(قده)؟

يتأثر الفرد منا بالشخصيات التي تطول علاقته بها فتنطبع بصمات تلك الشخصيات عليه، وشخصية سماحة الشيخ الجمري(ره) لإن طالت مع أحدٍ فإنه لم تصغه شخصيةٌ واحدةٌ، بل كانت صياغة شخصيته بتعمُّلٍ منه وانتقاءٍ، فكان يأخذ من كل شخصيةٍ امتيازَها، وكان(ره) دؤوباً على قراءة تجارب العلماء وما مروا به مستفيداً منها لا على مستوى المعلومة بل التطبيق للصحيح والتحاشي عن النشاز منها، نعم، ذكر الشيخ(ره) أنه قد تأثر بعبادة وتقوى أحد رجالات قريته، وهو المرحوم الملا جاسم الجمري.

* ما هي أهم البصمات المميزة التي تركها سماحة الشيخ(ره) في الناس بنظركم؟

إن الشخصية قد تُخَلِّفُ عديداً من الحسنات، وبعض تلك الحسنات تصل إلى حد البصمة المؤذن بكونها كالمنار، إلا أن بصمةً منها قد تستطيل بتعملقٍ لعيون النُّظَّار، وما أكثر ما يحصيه غيري لسماحة الشيخ من بصمات إصلاحٍ أسريٍّ أو اجتماعيٍّ، وبصمات عطفٍ ترفع فاقةً أو تدفع ضراً، وبصمات وبصمات.

ولا ينسى مجتمعه كلُّه بصمتَه التاريخية في الحركة المطلبية العادلة، إذ لم يخلد إلى الأرض وهوى النفس والمطامع وإن لُوِّح بها ولاح بريقُها.

* سماحة الشيخ، من الملاحظ جداً تلك العلاقة الوثيقة التي ربطت الناس بفقيدها العزيز سماحة العلامة الشيخ الجمري(قده)، فما هي حقيقة هذه العلاقة؟

كانت أبوته(ره) شاخصةً للناس، وكانوا يتحدثون بها قبل تغيُّبه عنهم فضلاً عما بعد تغيُّبه وفقده، وكانت كلمة (ابني) أو (ابنتي) لا تستأذن منه في مهمة النصح واستدعاء اللين في الموقف، وقد تجلَّت بوضوح عندما عُرِضَتْ عليه بعض التنازلات لقاء إطلاق سراح ابنه، فراح يقول: (كل السجناء أبنائي فأطلقوهم). إلى جانب ذلك كان يرى الناسُ فيه العالمَ المؤتمنَ على دينهم ودنياهم.

* كثيرةٌ هي تلك النشاطات والأعمال التي قام بها الفقيد الراحل في سبيل خدمة الدين والمذهب، فما هي أهم المؤسسات التي قام الشيخ(ره) بتأسيسها أو شارك في بنائها؟

إن أبرز مؤسسةٍ غرس الشيخ بذرتها وسقاها حتى أورقت وأثمرت هي حوزته المتميزة التي سمَّاها (حوزة الإمام زين العابدين(ع))، وكان يعدُّها ثمرة حياته. ومن قبل ذلك أسس جامع الإمام زين العابدين(ع) محرابَ جماعته ومقرَّ حوزته. وقد شاطر(ره) سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله) في تأسيس جمعية التوعية الإسلامية ذات البصمات الطيبة. كما أنه(ره) بارك خطوة جعل مكتبه ذا لجانٍ متخصصةٍ في خطوةٍ غير مسبوقة ـ فيما أظن ـ.

* متى أسِّسَتْ حوزةُ الإمام زين العابدين(ع) المعروفة بحوزة الشيخ الجمري؟ وما هي أهم أهدافها؟

أسس سماحة الشيخ(ره) حوزتَه المباركةَ قبل ما يزيد على عقدين، وتحديداً سنة (1405 هـ) الموافقة لسنة (1985 م)، وكان أهم ما يهدف(ره) إليه من تأسيسها ما يلي:

1) نشر الفقه الإسلامي وما يرافقه من علوم.

2) صنع الطالب الواعي العامل في الحقل الإسلامي.

3) ضبط الدراسة الحوزوية للطالب.

4) تسليح الطالب بالخلق الإسلامي الرفيع.

* سماحة الشيخ، باعتباركم قد عايشتم سماحة الشيخ الجمري(ره) في حوزته بصفة مديرٍ للحوزة وأستاذٍ فيها، هلا بيَّنتم لنا على أي أساسٍ كان يتعامل الشيخ(ره) مع الكادر الإداري لحوزته وطلابهِا؟

كان تعامله(ره) معنا ككادرٍ إداريٍّ للحوزة تعاملاً ملؤه الاحترام والود لشخوصنا وآرائنا، فإبداء الرأي مقابل رأيه كان متاحاً ويتلقاه بصدرٍ رحبٍ، وما كانت نفسه الطاهرة لتسمح له أن يستبد برأيه، وكانت له رعايةٌ خاصةٌ ومتميزةٌ لطلاب حوزته، وأحسب أن كل واحدٍ منهم قد احتفظ بذكرى طيبةٍ له معه.

* من الواضح أن من أهم فصول حياة الفقيد السعيد(قده) هو فصل انتفاضة الكرامة، وكان الدور القيادي للشيخ(ره) في هذه الانتفاضة واضحاً جداً، وقد تميزت شخصيته القيادية بسماتٍ عديدة، فما هي أبرز تلك السمات التي كان يتحلى بها سماحة الشيخ(قده)؟

أرى أن أمير المؤمنين(ع) يأذن لي في أن أشَخِّصَ أن سماحة الشيخ واحدٌ من الذين تنطبق عليهم منطوق الكلمة المأثورة عنه(ع) في نهج البلاغة: (لا يقيم أمر الله إلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يَتَّبِعُ المطامع)، وهي مقوماتٌ لشخصية القائد، فهو (رضوان الله عليه) قائدٌ لم يجامل على حساب الحق وحساب القيم وحساب حقوق الناس، وكان قد أهدى صورةً شخصية له إلى أحد أصدقائه كتب في ظهرها ستة أبيات رسم فيها منهجه، منها:

 

صديقي العزيز أروي إليك

                        هنا وعبر الصورة الماثلة

 

تطلعاتي وشجوني الغضاب

                        ويقظةً في محجري قائلة

 

لا لن أعيش الدهر إلا العناد

                        للفئة الفاسقة الجاهلة

 

 

نعم (لا يصانع)، وهو (رضوان الله عليه) قائدٌ لم يتوسل للوصول إلى أهدافه النبيلة من تحقيق الأمن وبسط العدل والحرية لمجتمعه إلا بالوسائل السامية، لا بالأسباب الدنيئة كما هو صنيع أولاد الدنيا، نعم (لا يضارع)، وهو (رضوان الله عليه) قائدٌ لم تشترِ المطامع منه نفسه، ولم يصرعه بريقُها، فما أكثرها وما أسنى بريقَها، وما أعتاه عنها وما أزهده فيها، نعم (لا يتَّبع المطامع).

* سماحة الشيخ، إن يوم الجمري أقرح جفوننا، وأسبل عيوننا، فماذا يعني فَقْدُ الشيخ(قده) لكم؟

كان(ره) ظلاً ظليلاً لم أجد فقدَه أيام مرضه وتوحده بنفسه وبارئها سبحانه، ولكني وجدت فقدَه يوم أسلم نفسَه إليه سبحانه، مخلِّفا فراغاً يحس به بوضوح وبلوعةٍ مَنْ كان يتعانق نَفَسُه مع نَفَسِه في تفانٍ منه(ره) في رفد ديوان حسناته بالحسنات، وقصير الكلمة عن طويلها أن لا قدرةَ لكلماتي على ترجمة إحساسي بفقده (رضوان الله عليه)، فليكن سرَّ نفسي.

 

 

لا يقيم أمر الله إلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يَتَّبِعُ المطامع.

عن أمير المؤمنين (ع)

(نهج البلاغة- قصار الحكم- ح 110)


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا