العلامة المجاهد الجمري.. وإنجاز الانتفاضة المباركة

العلامة المجاهد الجمري.. وإنجاز الانتفاضة المباركة

من أجل الوفاء لعالم رباني ورجل كبير وشجاع ومضحٍّ، جسّد شعبه بآلامه وآماله ثم رحل فخلّف جرحاً غائراً في القلوب، وفُجعت الجماهير لفقده، وبكاه شعبه طويلاً.

من أجل الوفاء لسماحة العلامة المجاهد الشيخ الجمري(ره) أحببتُ أن أكتب هذه السطور المتواضعة، محاولاً تجاوز العاطفة المجروحة لفقد الشيخ المجاهد؛ لتلمُّس الدروس والعِبَر والدلالات من دور المجاهد الجمري في قيادة الانتفاضة المباركة. وسوف أتناول الموضوع ضمن محاور محددة.

العلامة الجمري وانطلاق الانتفاضة المباركة:

يمثل انطلاق الانتفاضة المباركة في البحرين في عام (1994م) حدثاً نوعياً وتاريخياً، هذه الانتفاضة التي انطلقت على خلفية العريضة الدستورية والتي بدأت نخبويةً في عام (1992م)، حيث وقَّع ما يقارب 300 شخصيةٍ إسلاميةٍ ووطنيةٍ شيعيةٍ وسنيةٍ عريضةً تطالب حاكم البلاد بإعادة العمل بدستور عام (73م) وتفعيل الحياة البرلمانية.

ثم بعد عامين وفي عام (1994م) تحولت لعريضةٍ شعبيةٍ، حيث وقَّع عليها 23 ألف شخص تقريباً. ومن المعروف أن العلامة الجمري مثَّل دوراً أساسياً في قيادة مشروع العريضة وتعميق تفاعلاتها الشعبية والوطنية باعتبار ثقله الشعبي ومقبوليته الوطنية العامة، وهذا ما يدفعنا للقول بأن العلامة الجمري يُعَدُّ أحد الرواد والصناع الأساسيين للتأسيس لمرحلةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ في تاريخ البحرين الحديث، هي مرحلة الحركة الدستورية والانتفاضة المباركة. ولذلك ـ ومن أجل تسليط الضوء على الأهمية الاستثنائية للدور السياسي للعلامة الجمري ـ من الضروري تأمل ظاهرة الانتفاضة الدستورية في إطار الفكر الإسلامي والسياسي العام.

نصوص الإسلام والإصلاح السياسي:

على طول التاريخ البشري ظلّ الإنسان يتطلّع لبناء أفضل العلاقات في إطار مجتمع تسوده الوحدة والتقدم والعدالة والاستقرار. وقد عاشت البشرية مخاضاتٍ عسيرة من أجل التأسيس لإطارٍ سياسيٍّ يحفظ الاستقرار والعدالة والوحدة للمجتمع الإنساني، وكما يذكر العلامة الطباطبائي والسيد الشهيد الصدر، فإن الأنبياء(ع)  ـ وبعد تجاوز البشرية لمرحلة الفطرة وبروز الاختلافات والتفاوتات ـ كانوا هم الرواد للسعي لبناء مجتمع سياسي متجانس وعادل.

يقول العلامة الطباطبائي(قده) في الميزان بهذا الشأن: (وبعبارة أخرى: العلة في الدعوة الدينية، هو أن الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائرٌ نحو الاختلاف كما أنه سالكٌ نحو الاجتماع المدني، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم يتمكن من رفع الاختلاف، وكيف يدفع شيء ما يجذبه إليه نفسه؟ فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم)(1). وقد ذكر ذلك عند تفسير قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}(2). فالعلامة الطباطبائي يشير لقضيةٍ قرآنيةٍ هامةٍ، وهي أن الدين هو المؤسس الأول للاجتماع السياسي البشري، وأن وظيفة الدين وهدفه توحيد المجتمع وإقامة القسط والعدل ورفع الاختلاف. وإلى ذات المعنى ـ وعند تفسير ذات الآية ـ يشير السيد الشهيد الصدر(قده) بقوله: (إن الدولة ظاهرةٌ اجتماعيةٌ أصيلةٌ في حياة الإنسان، وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء).

إذن يمكن تقرير هذه الحقيقة: وهي أن الدين الإلهي ومنذ فجر البشرية هو صاحب راية السبق والريادة في السعي لتأسيس مجتمع وحكومة التوحيد والعدل، والبشرية بعد ذلك قلّدت الأديان في هذا المسعى، وهذا ينتج حقيقةً أخرى، وهي أن العمل السياسي والحقوقي هو من صميم الرسالة الإلهية، بل إن الرسالات الإلهية هي السباقة في هذا المجال.

ولنحاول الآن تعميق المضمون السياسي والحقوقي الذي بشّرت به رسالات السماء من خلال التوقف عند النصوص التالية. فنجد القرآن الكريم يؤكد على مسألة إقامة القسط والعدل باعتباره هدفاً محورياً لرسالات السماء. يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}(3). ولكن المؤسف حقاً وما يبعث على التألم والتعجب في نفس الوقت، هي تلك الحالة الغريبة التي هيمنت على واقع الأمة الإسلامية على امتداد تاريخنا! حيث سادت الأمة الإسلامية حالة الاستسلام للأجهزة الطاغوتية، وانبعثت ثقافةٌ هجينةٌ تضخم الحاكم وتعظم شأنه لمجرد كونه حاكماً، وتستهتر بقيمة العدل وحقوق العامة، وعندها فقد غابت عن الواقع الإسلامي وتلاشت ـ بصورةٍ شبه كاملةٍ ـ مفاهيمُ العدل والحقوق والإصلاح، وترسّخ بديلاً عنها مفاهيم أولي الأمر والطاعة والبيعة ودرأ الفتنة وحرمة الثورة وغيرها. ثم ازدادت هذه المفاهيم الهجينة رسوخاً وعمقاً حتى تحولت لمبانٍ كلاميةٍ عقائديةٍ عملت على تحطيم الشخصية الإسلامية الحرة المقتدرة فرداً وجماعةً تحت شعاراتٍ براقةٍ تُنسب زوراً للقرآن الكريم، من قبيل نفي الحسن الذاتي للعدل والظلم، واعتبار حسن العدل وقبح الظلم شرعياً اعتبارياً وليس عقلياً ذاتياً!

ثم استكملت دائرة البناء الكلامي بنفي حرية الإنسان وإرادته، وإثبات الجبر التكويني لكل أفعال الإنسان، فالإنسان تسيّره الإرادة الإلهية والقضاء والقدر!

وبمعية هذه المباني الكلامية سارت مبانٍ فقهيةٌ قشريةٌ كانت تعمل على تحطيم الإنسان المسلم، وتدمير وعيه الحقوقي والسياسي، وتذويب إرادته وعزيمته على الإصلاح والنهوض، فأصبحت الشخصية المسلمة بلا وعي ولا إرادة!

الإمام الخميني والثورة الثقافية:

وفي العصر الحديث ـ وتحديداً في إيران ـ وفي سياق مسيرة الإصلاح العقائدي التي جذَّرها أهل البيت(ع) وواصلها عظماء الأمة، كان هناك رجلٌ كبيرٌ هو الإمام الخميني(قده)،حيث انبرى هو وأنصاره للقيام بعمليةٍ واسعةٍ وجذريةٍ لتصحيح المفاهيم، والتأسيس لثورةٍ ثقافيةٍ إسلاميةٍ تمثل القاعدة المتينة للثورة السياسية، وقد كانت المعركة الثقافية أصعب وأقسى بمراتب من المعركة السياسية؛ لأن المعركة الثقافية إطارها الصف الإسلامي ذاته، وهدفها إزالة المفاهيم الزائفة التي علقت بالوعي الإسلامي بسبب سنوات طوال من الجمود والركود. يقول السيد أحمد نجل الإمام الخميني(قده) واصفاً أهمية المعركة الثقافية: (إن الانتصار السياسي الساحق في الثاني والعشرين من بهمن استند إلى عدة انتصارات سبقته حققها الإمام بجهاده الطويل في ميادين الجهاد المرير المختلفة أمام أولئك المتحجرين والقشريين الحمقى ومن باعوا دينهم بدنياهم. فقد كان لابد من وقوع ثورة أكثر تعقيداً بكثير من الثورة السياسية لإبطال مفعول طلاسم التحجر ونسف التحليلات والاستنتاجات المنحرفة عن الإسلام والتي ضربت بأطنابها، وتنقية الأجواء من الغبار الذي تراكم نتيجة حملات الأجانب على مدى القرون، وإزالة الزخارف والشكليات والزينة الكاذبة التي أحيط بها الإسلام الحقيقي لإيصال الجيل المعاصر المتعطش المتعب إلى النبع الزلال الرائق الصافي للأفكار والمبادئ التي تستند إلى الإسلام المحمدي الأصيل)(4).

ثم يوضح السيد أحمد عدة مقولات وشعارات ثقافية رُفعت لمواجهة الثقافة الأصيلة التي قدمها الإمام الخميني(قده) فيقول: (يقول الإمام ـ واصفاً هذا التيار وصفاً حاداً ـ إن ترويج الفكرة القائلة بأن الشاه هو ظل الله في الأرض، أو ترويج الكلام القائل بأننا لا يمكننا أن نواجه المدافع والدبابات بقبضات خالية، أو إننا غير مكلفين بالجهاد، أو من الذي سيقدم الإجابات عن دماء هؤلاء المقتولين؟ والأكثر إيلاماً من كل ذلك، رفع شعار كل راية ترفع قبل ظهور صاحب الأمر ـ أرواحنا فداه ـ فهي راية ضلال، وآلاف المقولات الأخرى التي كانت تمثل مشاكل كبرى لا تُطاق، والتي لم يكن ينفع معها النصح أو المواجهة السلبية أو التبليغ)(5). و(حينما راح شعار فصل الدين عن السياسة، وصار الفقه في نظر الجهلة مجرد الخوض في الأحكام الفردية والعبادية طوّق الفقيه ولم يسمح له بالخروج على دائرة الحصار المفروض ذاك، والتدخل في السياسة أو شؤون الحكومة. وأضحى جهل الروحاني وبساطة تفكيره عند معاشرته الناس فضيلةً ـ كما كان يزعم البعض ـ فإن الروحانية ستكون موضعاً للتقدير والتكريم فقط حينما يكون الروحاني ساذجاً إلى أبعد الحدود)(6).

الإسلام والتضحية الحقوقية:

والنصوص الإسلامية قرآناً وسنةً ـ وفي الوقت الذي أكدت فيه على محورية الأهداف الحقوقية والسياسية في إطار أهداف الإسلام ـ لم تقدم هذه القضية كمجرد شعار نظري تربوي وثقافي، بل اعتبرت العمل على تحقيق العدالة وإقرار الحقوق في المجتمع البشري، هو الوظيفة الأساسية التوأم لتحقيق التوحيد وإقامة الأحكام الإلهية، فنحن نجد أن العناوين المشيرة للمسألة الحقوقية متلازمةٌ مساراً وقيمةً مع المسألة التوحيدية التشريعية.

يقول تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}(7). فالجهاد في سبيل الله هو جهادٌ لإعلاء كلمة الله تعالى، وإنقاذ المستضعفين من الظلم والقهر بصوره المختلفة، والآية الكريمة تتضمن دعوةً أكيدةً للجهاد التوحيدي والحقوقي.

ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(8). وهذه الآية الكريمة تشير لنوعين من الشهداء، شهداء يسقطون لأجل القيم التوحيدية {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}، وشهداء يسقطون لأجل قيم العدل والقسط {وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ}.

وهذا التقسيم القرآني للشهداء يشير لكون القيم التوحيدية والحقوقية مترادفين ومتلازمين، كما يشير لاستحقاق القيم التوحيدية والحقوقية للتضحية وتقديم النفس لأجلها.

وفي نصوص المعصومين(ع) هناك كلماتٌ تشير لنفس المضامين القرآنية. يقول الإمام علي(ع): (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم)(9).

فالإمام أمير المؤمنين(ع) يشير لعهدٍ وميثاقٍ أخذ على العلماء بعدم طاعة الظالمين وخذلان المظلومين. ويقول سيد الشهداء الإمام الحسين(ع): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك)(10). ومن الملاحظ كذلك أن الروايات المبشرة بظهور الإمام الحجة المنتظر(عج) تركّز بصورةٍ خاصةٍ على قضية القسط والعدل، فعن رسول الله(ص): (أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلافٍ من الناس وزلزال، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض)(11).

وفي دعاء العهد وردت العبارة التالية: (واجعله اللهم مفزعاً لمظلوم عبادك، وناصراً لمن لا يجد له ناصراً غيرك، ومجدداً لما عُطِّل من أحكام كتابك، ومشيّداً لما ورد من أعلام دينك وسنن نبيك)(12).

فنلاحظ أن الدعاء المبارك جعل الإمام الحجة(عج) محققاً لهدفين متلازمين ومترادفين، الأول ( مفزعاً لمظلوم عبادك)، والثاني (ومجدداً لما عُطِّل من أحكام كتابك).

فالهدف التوحيدي والهدف الحقوقي ـ وبحسب الفكر الإسلامي الأصيل ـ يسيران متلازمين قيمةً وأهميةً وتكليفاً. وفي الواقع فإنه ـ وبحسب النصوص الإسلامية ـ فإن القيم التوحيدية والتشريعية تهدف لتحقيق العدالة، كما أن العدالة تقتضي تحقيق الحقوق الإلهية والاجتماعية على السواء، ومنها إقامة التوحيد والشريعة المقدسة؛ ولذلك نجد أن عنوان (الظلم) قرآناً يشمل انتهاك الحقوق الإلهية والاجتماعية. يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(13).

العلامة الجمري وانطلاق الانتفاضة المباركة:

حاولت في السطور السابقة توضيح موقعية المسألة الحقوقية في الفكر والنصوص الإسلامية؛ وذلك لإزالة الالتباس والإبهام الذي ربما يكتنف أهداف الانتفاضة المباركة وعلاقتها بالمسار الإسلامي، وكذلك لأجل تسليط الضوء على الدور التاريخي للشيخ الجمري(ره) للاقتراب بالمجتمع البحريني من الأهداف الإسلامية. فالمجتمع البحريني وبعد ما يقرب من 20 عاماً من الحياة اللادستورية ـ ورغم الجهود المباركة وغير المنكورة للمبلغين الإسلاميين في سبيل نشر الوعي الإسلامي ـ أصيب بحالةٍ عامةٍ من الجمود الفكري والمعنوي والاجتماعي، وهو ما ظهر بصورة غياب للمشروع السياسي المستلهم من نصوص الإسلام والمستوعب لآلام وآمال المستضعفين. من الطبيعي أن غياب المشروع السياسي هو نتيجةٌ منطقيةٌ لغياب الوعي السياسي أو ضعفه وغياب الإرادة السياسية أو ضعفها. وأتذكر تماماً أن الحس الاجتماعي العام كان بعيداً ـ بصورةٍ شبه كاملةٍ ـ عن المسائل الحقوقية والسياسية، ففي مستوى الوعي لم تكن هناك أهميةٌ واضحةٌ للمسألة الحقوقية في تفكيرنا الإسلامي، كما أننا لم نكن مستعدين معنوياً للمبادرة والتضحية لأجل المسألة الحقوقية. بل حتى الاهتمام والاعتناء بالمسائل السياسية والحقوقية كان ضعيفاً جداً.

نعم، لم يخلُ المجتمع من شخصياتٍ ذات توجه سياسي ثوري، والتي كانت تقوم ببعض المبادرات والمواقف الإصلاحية، إلا أن تجاوب المجتمع معها إن لم يكن سلبياً أو لا مبالياً فهو محدود. من الطبيعي أن المشروع السياسي الحقوقي لم يكن غائباً عن الرموز الإسلامية، والقضية كانت مرتبطةً بتشخيص الظروف الموضوعية التي تهيئ لنجاح المشروع الحقوقي شعبياً وسياسياً. ولكن من الطبيعي أيضاً أن غياب المشروع السياسي الإسلامي عن وعي ومعنوية وحياة المجتمع البحريني ـ ولمدة طويلة ـ سبَّب مضاعفاتٍ كثيرةً شكّلت فيما بعد أحد العقبات المهمة في طريق الانتفاضة المباركة.

إن عملية انقلاب المعايير والمفاهيم، والانفصال المفاهيمي والاجتماعي عن فكر الإسلام ونصوصه الأصيلة هي آفةٌ ومرضٌ لم يسلم منه أي مجتمع إسلامي، وقد عرضنا لنموذج من ذلك للتجربة الإسلامية الإيرانية. فالسكوت والرضا يصبح هو القاعدة والوضع الطبيعي، فالوعي لا يفهم الإسلام إلا تكاليف فردية أخلاقية! والإرادة والمعنوية ليست مستعدةً للتضحية والتعرض للأذى، والوضع الاجتماعي مصاب بالركود التام! ومن يرفع الصوت بنداء العدالة والحقوق فهو أحمق ومراهق! ومن يظهر عزماً وإرادةً للتضحية في سبيل العدالة والحقوق فهو متهور وغير متشرع! ومن يحاول ترسيخ الوعي الحقوقي اجتماعياً فهو داعٍ للفتنة والفرقة! فغياب المشروع السياسي والحقوقي ـ ورغم وجود مقتضياته العقائدية والشرعية والموضوعية السياسية ـ يسبب غالباً مرض (غياب الوعي الحقوقي) و(غياب الإرادة الحقوقية) و(غياب المجتمع الحقوقي).

وفي ظروف تاريخية مناسبة ينبري جماعة من الطليعة المؤمنة بمشروع ومبادرة سياسية حقوقية تسعى أولاً لتحقيق إصلاح اجتماعي مفاهيمي ومعنوي وعلاقاتي، وتسعى ثانياً لإصلاح سياسي حقوقي دستوري. وطبيعي أن هذه الطليعة المؤمنة       ـ وفي مرحلة الإصلاح الاجتماعي ـ تتحمل كل الأذى والتجريح والهتك والتهجم الذي يوجه لها والناتج عن انفصال المجتمع في حركته الواقعية عن مضامين النصوص الإسلامية الأصيلة. يقول الإمام الخميني(قده) واصفاً الضغوط الموجهة لرواد الثورة الإسلامية: (لم تكن الأوضاع كحالها اليوم، من كان ينقصه الاعتقاد التام بالجهاد كان ينسحب من الميدان تحت الضغوط القاسية والتهديدات التي يمارسها أولئك القشريون)(14).

وقد مثلت النخبة الطليعية وقائدها العلامة الجمري(ره) تلك الطليعة التي حققت ذلك الانتقال النوعي التاريخي للمجتمع البحريني بعمومه، من مجتمع راكد جامد سياسياً وحقوقياً إلى مجتمع يحمل وعياً وإرادةً وأخلاقيةً مشبعةً بفكر الإسلام الحقوقي وقيمه المبدئية التضحوية وفقهه النهضوي. وبذلك فإن (الحركة الدستورية) أزالت الغبار والتراب عن وعي وإرادة المجتمع البحريني، واقتربت به نحو وعيه ومبدئيته الإسلامية الأصيلة المترسخة أصلاً في لاوعيه الإسلامي التاريخي.

وإن من إنجازات الحركة الدستورية كذلك أنها وحّدت الصف القيادي والعلمائي ـ إلا النادر ـ في إطار حركة مطلبية حقوقية مشتركة، وأنها صهرت المجتمع البحريني بمناطقه وشرائحه وفئاته المختلفة ضمن مشروع موحّد، كما استطاعت إيجاد إطار مشترك جامع للرموز والقيادات الوطنية والإسلامية سنيةً وشيعيةً، وأحيَتْ الإنجاز التاريخي القديم الذي حققته هيئة الاتحاد الوطني من قبل.

المجاهد الجمري واحتضان الانتفاضة المباركة:

بعد تقديم العريضة للناس للتوقيع عليها، ورفض الحكم لمطالب العريضة، تمَّ ضرب المسيرات فسقط الشهداء واعتُقِل المئات ونُفِيت بعض القيادات.

وفي هذه المرحلة بالذات يمكن للحركة الدستورية أن تولد ميتةً فتقبر في مهدها، فالصدمة لم تكن اعتياديةً وكانت الحركة الدستورية ـ ولأجل تحقيق التجاوب الجماهيري الواسع والعميق برغم الدماء والتضحيات ـ بحاجة لتَبَنٍّ واحتضانٍ رمزيٍّ وعلمائيٍّ مرموقٍ يمثل محوراً شعبياً ومعنوياً وشرعياً لحركة الانتفاضة الوليدة، وهذا ما جسَّده المجاهد الجمري(ره) حين قاد حركة العريضة الشعبية، وحين رعى وتبنى واحتضن الانتفاضة المباركة. فاحتضان الانتفاضة ـ وبعد سقوط الشهداء وتضرر الآلاف ـ لم يكن موقفاً عادياً وعابراً للمجاهد الجمري، فالموقف البطولي للشيخ الجمري كان يحمل بطياته تحملاً لمسؤوليةٍ تنوء بثقلها الجبال. وإن أول مظاهر المسؤولية هي المسؤولية الشرعية، فنحن نعلم القدسية الاستثنائية للدماء والأموال والأعراض إسلامياً، وهو ما كان يمكن أن يمثل باباً للتشكيك بحقانية الانتفاضة. كما أن للمسؤولية مظهراً اجتماعياً، فمن يتحمل اجتماعياً مسؤولية الأضرار المترتبة؟ فالمجتمع ـ سواء منه من يتخوف من التضحية أو من هو مستعدٌّ لها ـ يتطلع لمن يبادر لتبرير الاستمرار وحقانية الموقف والتضحية.

وهكذا الأمر على المستوى السياسي، فإن الحكم يبحث عن جهة يحملها المسؤولية فيصب عليها العقاب نتيجة التمرد والاضطراب الحاصل! وهو ما يعني أن المجاهد الجمري(ره) ـ وباحتضانه للانتفاضة والشهداء والمعتقلين والمطالب الدستورية ـ قد جعل وجوده ومستقبله وحياته كلها على كف عفريت ومرهونة بالخطر الشديد! علماً بأن الشيخ الجمري(ره) ـ وفي قبالة موقفه وتضحيته التاريخية الشجاعة ـ لم يكن يتوقع وينتظر أي مكاسب مادية أو معنوية، ولم يكن في الأفق إلا الضرر والخطر والأذى! وقد كان الشيخ الجمري يستطيع لو أراد ـ وهو عالم الدين المرموق ـ أن يعيش مستقراً مادياً ومعنوياً بعيداً عن الأذى والمتاعب له ولعائلته، إن المجاهد الجمري(قده) ـ وبموقفه واحتضانه البطولي الشجاع ـ قد أثبت شجاعته وإخلاصه وتفانيه، وأسس للانتفاضة في وجدان الشعب البحريني وثقافته وحياته، كما عمق موقف الجمري(ره) مفاهيم العزة والعدالة والتضحية وقيادة العلماء. وهو ما تلقاه الشعب بكل صدق وإخلاص، فكما ضحى الجمري لأجل الناس فقد صدقت الناس مع الجمري، فاعتبرته المجسد الأول لشخصيتها وأصالتها وآلامها، فرهنت مستقبلها بمستقبله وعيدها بعيده، وحزنها وفرحها بحزنه وفرحه، حتى تردد وما زال شعار (لا عيد والجمري بعيد).

المجاهد الجمري وإدارة الانتفاضة:

لقد استطاع العلامة الجمري ـ وبمعية الشخصيات المؤمنة المجاهدة المعروفة ـ تشكيل ما يمكن تسميته بـ (قيادة الانتفاضة)، كما استطاعت قيادة الانتفاضة أن تقود حركة الانتفاضة بصورة جيدة ومقبولة.

فعلى مستوى الإدارة الإعلامية استطاعت الانتفاضة أن تقدم مطالبها للإعلام العالمي بصورة قوية ومقبولة شكلت ضغطاً قوياً على الحكم، فالفعاليات الإعلامية بكثافتها وقوتها وخطابها كانت موفقةً بصورة كبيرة، وكذلك فإن الإدارة الشعبية والاجتماعية للانتفاضة واستيعاب الموج الجماهيري، وتقديم خطاب جماهيري مقبول، وتنظيم حركة الجمهور، وتعميق علاقة القيادة بالجمهور، وغيرها من الأمور تشكل نجاحاً لقيادة الانتفاضة.

وكذلك الأمر بالنسبة لـ (إدارة المنهج)، فقد قدمت قيادة الانتفاضة نموذجاً جيداً للمبدئية والثبات والتضحية لأجل الأهداف المقدسة، ورغم المرونة التي ظهرت أحياناً، إلا أن الصورة الإجمالية الرئيسية التي ترسخت أن قيادة الانتفاضة تنتهج نهجاً مبدئياً واضحاً. وأيضاً فقد ظهرت صورةٌ جيدةٌ لإدارة القرار بالعمل الجماعي، فرغم الرمزية الخاصة للعلامة الجمري، إلا أن العمل الجماعي والشوروي ظل هو الصفة الغالبة.

عطاء الانتفاضة والتأصيل للمستقبل:

لقد حقّقت الانتفاضة المباركة الكثير للشعب البحريني والحركة الإسلامية، وإننا نقيس قيمة الانتفاضة المباركة ومطالبها بالنظر للنصوص الإسلامية وحركة الأنبياء والأئمة(ع)، وليس للأضرار الجانبية المترتبة عليها، والتي هي أمر طبيعي لا يمثل معياراً لحركة المجتمعات. فالانتفاضة المباركة عمّقت وَعْيَنَا ومعنويتَنَا السياسية الإسلامية، وأوجدت مجتمعاً سياسياً حقيقياً يمتلك طموحاً وآمالاً وإرادةً وعزيمةً ومشروعاً ومبدءاً. والمطلوب هو أن نتمسك بكل وجودنا بمكاسب الانتفاضة المباركة، فإن عطاء الانتفاضة إنما تحقق بتضحيات كبيرة، والتنازل عنها يمثل خسارةً كبرى. والمطلوب هو استيعاب عطاء الانتفاضة المباركة وترسيخه والبناء عليه. وإننا نحتاج للتركيز على عملية (تأصيل سياسي وإسلامي) عميق للوصول للأهداف الإسلامية والسياسية.

وتتمثل عملية التأصيل ـ اختصاراً ـ بالأمور التالية:

أولاً: تأصيل الفكر والمنهج: فقد ورثنا إرثاً ثميناً من حركة الانتفاضة وتضحياتها، ويمكن تعميق مفاهيم التوحيد والحقوق والعدالة والنهي عن المنكر والمبدأ والتضحية والثبات، وتدخل الغيب الإلهي لتأييد المستضعفين وقيادة العلماء لحركة المستضعفين وغيرها.

ثانياً: تأصيل المشروع السياسي: فنحن لسنا مجتمعاً بدون مشروع سياسي، وينبغي أن يتم بلورة المشروع إسلامياً وشعبياً ونخبوياً بحيث يصبح عميقاً ضرورةً وقيمةً ووضوحاً.

ثالثاً: تأصيل الإدارة السياسية الموضوعية: فالعمل السياسي خاصةً يحتاج لموضوعية الإدارة، وهي الإدارة التي تمارس التخطيط والتنظيم والمحاسبة والتقييم بعيداً عن الفردية والذاتية والتأثر بالعوامل غير الموضوعية، وهو ما يقتضي سعة الأفق واحترام الاختلاف والحوار والشورى، وإلا فإن القرار والعمل السياسي القائم على الذاتية والفردية والارتجال لا يمكن أن ينجح مهما كان الإخلاص.

رابعاً: تأصيل الشخصية السياسية الملتزمة: فنحن نحتاج لبناء شخصيات سياسية تمتلك عمقاً عقائدياً أصيلاً، وروحاً متقيةً مبدئيةً مضحيةً، وبصيرةً سياسيةً وإداريةً عاليةً. فالشعارات لا تتحرك إلا برجال على قدرها ومستواها.

والحمد لله رب العالمين.

 

 * الهوامش:

(1) الميزان: ج: 2، ص130.

(2) البقرة، الآية 213.

(3) الحديد، الآية 25.

(4) أبتاه يا حامل راية الإسلام ص10.

(5) نفس المصدر ص16.

(6) نفس المصدر ص12.

(7) النساء، الآية 75.

(8) آل عمران، الآية 21.

(9) المعجم الموضوعي لنهج البلاغة: ص 380-381.

(10) تحف العقول: الحراثي: ص 170-171.

(11) الغيبة: الشيخ أبو جعفر الطوسي: ص124.

(12) مفاتيح الجنان: الشيخ عباس القمي: ص662.

(13) لقمان، الآية 13.

(14) لقمان، الآية 13.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا