لا شك لدى قارئي الكريم أن أحد المهام الرئيسية من بعث وإرسال الأنبياء(ع) هو إقرار العدالة الإِجتماعية، أي: إنها الهدف الذي تنزلت له جميع رسالات اللَّه، وسعى من أجله كلُّ الأنبياء والأولياء، كما ينبغي أن يتحرك لتحقيقه كلُّ المؤمنين الواعين، ولا تقوم العدالة إلا بالقائد الصالح - سواء كان رسولاً أو ولياً- والنظام الصالح في البعد السياسي والإِجتماعي والإِقتصادي والتربوي، وبالميزان الذي يشخص المخطئ من المصيب، وبالسلاح المنفّذ للنظام. لهذا، فإن الأُمة الإسلامية تنشد تفعيل العدالة الإجتماعية وإقامة الحق.
مع العلم أن الأُمة الإسلامية مسؤولة عن تحقيق وتفعيل ذلك المطلب المهم، لهذا ينبغي أن يسعى إليها كل مؤمن، بل كل إنسان، ولا يجوز أن ينتظر رسولاً يبعثه اللَّه ليتحملها، فإذا لم يحدث ذلك اعتزل الواقع، وبالغ في الترهب انتظاراً للمنقذ، كما فعل الكثير من أهل الكتاب، فانّ ذلك يصير بهم إلى الظلم والتخلّف في الدنيا، والعذاب والغضب الإلهيين في الآخرة.
وإذا رفع راية العدالة شخص أو تجمع فان على سائر الناس أن ينصروه إن وثقوا منه ومن أهدافه، ولا يدعوه وحيداً فريداً في مواجهة الظلمة الطغاة، فذلك هو المحك الذي يثبت شخصية الأُمة الحقيقية.
العدالة الاجتماعية في القرآن الكريم
العدالة: هو وضع كل شيء في محلّه ضمن منظومته.
ويمكن توضيح هذا من خلال قوله تعالى: {رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}(1).
فلو قيل إن هذه الجملة وهي مقطع من الآية المشار إليها، دليل على عدم العدالة الاجتماعية.
قلنا: هذا يصحّ في حالة تفسير العدالة بالمساواة، في حين أنّ العدالة - كما تقدم - تعني وضع كل شيء في محله ضمن منظومته، فهل أنّ وجود سلسلة المراجع والرتب في فرقة عسكرية، أو تنظيم إداري، أو في الدولة، دليل على وجود الظلم في تلك الأجهزة ؟
من الممكن أن يستعمل بعض الناس كلمة المساواة في مجال الشعارات من دون الإلتفات إلى معناها الواقعي، أمّا في الواقع العملي فلا يمكن أن يتمّ أو يقوم أي نظام بدون الإِختلاف والتفاوت، غير أن هذا التفاوت يجب أن لا يكون ذريعة لأن يستغل الإِنسان أخاه الإِنسان أبداً، بل يجب أن يكون الجميع أحراراً في استعمال قواهم الخلاقة، وتنمية نبوغهم وإبداعهم، والإِستفادة من نتائج نشاطاتهم بدون زيادة أو نقصان، وأما في حال عجزهم فيجب على القادرين أن يجّدوا ويجتهدوا في رفع النواقص وسد ما يحتاجونه.
وخلاصة القول: إنّ اللَّه سبحانه لم يفضل أي إنسان على الآخرين من كل الجهات، بل إن جملة: {رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} إشارة إلى الإِمتيازات التي تمتاز بها كل جماعة على الجماعة الأُخرى.
وتسخير كل فئة لأُخرى واستخدامها لها نابع من هذه الإِمتيازات تماماً، وهذا عين العدالة والتدبير والحكمة.
فهل يمكن بعد هذا تصور وجود قانون أوسع وأشمل من العدل ؟ !
فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود، وحتى السماوات والأرض فهي قائمة على أساس العدل.
والمجتمع الإِنساني الذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير، لا يقوى أن يخرج عن قانون العدل، ولا يمكن تصور مجتمع ينشد السلام يحظى بذلك دون أن تستند أركان حياته على أُسس العدل في جميع المجالات.
ولما كان المعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شيء في مكانه المناسب، فالانحراف والإِفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدي على حقوق الآخرين، ما هي إلا صور لخلاف أصل العدل.
فالإِنسان السليم هو ذلك الذي تعمل جميع اعضاء جسمه بالشكل الصحيح - بدون زيادة أو نقصان -، ويحل المرض فيه وتتبين عليه علائم الضعف والخوار بمجرد تعطيل أحد الأعضاء، أو تقصيره في أداء وظيفته.
ويمكن تشبيه المجتمع ببدن إنسان واحد، فإِنّه سيمرض ويعتل إنّ لم يُراع فيه العدل.
ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات - الطبيعية والإِستثنائية - في عملية بناء المجتمع السليم، إلّا أنّها ليست العامل الوحيد الذي يقوم بهذه المهمة، ولذلك جاء الأمر بالإحسان بعد العدل مباشرة ومن غير فاصلة.
وبعبارة أوضح: قد تحصل في حياة البشرية حالات حساسة لا يمكن معها حل المشكلات بالإِستعانة بأصل العدالة فقط، وإِنّما تحتاج إلى إِيثار وعفو وتضحية، وذلك ما يتحقق برعاية أصل الإِحسان.
وعلى سبيل المثال: لو أنّ عدواً غدّاراً هجم على مجتمع ما، أو وقعت زلزلة أو فيضان أو عواصف في بعض مناطق البلاد، فهل من الممكن معالجة ذلك بالتقسيم العادل لجميع الطاقات والأموال، وتنفيذ سائر القوانين العادية ؟ !
هنا لابدّ من تقديم التضحية والبذل والإِيثار لكل مَنْ يملك القدرة المالية، الجسمية، الفكرية، لمواجهة الخطر وإزالته، وإلا فالطريق مهيأ أمام العدو لإهلاك المجتمع كله، أو أنّ الحوادث الطبيعية ستدمر أكبر قدر من الناس والممتلكات.
والأصلان يحكمان نظام بدن الإنسان أيضاً بشكل طبيعي، ففي الأحوال العادية تقوم جميع الأعضاء بالتعاضد فيما بينها، وكلُّ منها يؤدي ما عليه من وظائف بالإِستعانة بما تقوم به بقية الأعضاء، وهذا هو أصل العدالة.
ولكنّ.. عندما يصاب أحد الأعضاء بجرح أو عطل يسبب في فقدانه القدرة على أداء وظيفته، فإِنَّ بقية الأعضاء سوف لن تنساه، بل تستمر في تغذيته ودعمه.. الخ، وهذا هو الإحسان وهو الأصل الثاني بعد العدل كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}(2).
لهذا لابد للمجتمع السليم أن يحكمه هذان الأصلان.
وما جاء في الروايات وفي أقوال المفسرين، من بيانات مختلفة في الفرق بين العدل والإحسان، لعل أغلبها يشير إلى ما قلناه أعلاه.
فعن الإمام علي (ع) أنّه قال في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} «العدلُ الانصاف، والإحسانُ التّفضّل»(3)، وهذا ما أشرنا إليه.
وقال البعض: إنّ العدل: أداء الواجبات، والإحسان: أداء المستحبات.
وقال آخرون: إِنّ العدل: هو التوحيد، والإحسان: هو أداء الواجبات.
وعلى هذا التفسير يكون العدل إِشارة إلى الإِعتقاد، والإحسان إشارة إلى العمل.
وقال بعض: العدالة: هي التوافق بين الظاهر والباطن، والإحسان: هو أنْ يكون باطن الإنسان أفضل من ظاهره.
واعتبر آخرون: أنّ العدالة ترتبط بالأُمور العمليّة، والإحسان بالأُمور الكلامية.
وكما تقدم فإنّ بعض هذه التفاسير ينسجم تماماً مع التفسير الذي قدمناه أعلاه، وبما أَنَّ البعض الآخر لا ينافيه فيمكن والحال هذه الجمع بينهما(4).
العدالة قانون أساسي ودستور عملي للحياة
إنّ محتوى الآية المباركة: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} له من قوّة التأثير ما جعل كثيراً من الناس يصبحون مسلمين على بينة من أمرهم، وهاهو عثمان بن مظعون أحد أصحاب رسول اللَّه (ص) حيث قال: كنتُ أسلمت استحياءً من رسول اللَّه (ص) لكثرة ما كان يعرض عليَّ الإسلام، ولم يقر الإسلام في قلبي، فكنت ذات يوم عنده حال تأمله، فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئاً، فلما سُرِّي عنه سألته عن حاله فقال: نعم، بينما أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} وقرأها عليَّ إلى آخرها، فقّر الإسلام في قلبي، وأتيت عمّه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش، اتبعوا محمّداً(ص) ترشدوا، فإنّه لا يأمركم إلا بمكارم الأخلاق، وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال: إنْ كان محمد قاله فنعم ما قال، وإن قاله ربّه فنعم ما قال(5).
ونقرأ في حديث آخر أنّ النبي(ص) قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال: «يا إبن أخي(6) أعد، فأعاد(ص) فقال الوليد: إِنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإِنَّ أسفله لمغدق، وما هو قول البشر»(7).
وروي عن النبي(ص) أنه قال: «جماع التقوى في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}»(8).
ونستفيد من هذه الأحاديث وأحاديث أُخرى أنّ الآية تعتبر دستور عمل إِسلامي عام، وتمثل أحد مواد القانون الأساسي للإسلام في كل زمان ومكان، حتى روي عن الإمام الباقر(ع) أنه كان يقرأ الآية المباركة قبل الانتهاء من خطبة الجمعة ثمّ يقول بعدها: «اللَّهمَّ اجعلنا ممن يذكر فتنفعه الذكرى»(9).
فإحياء هذين الأصلين، أي العدالة والاحسان في الحياة الاجتماعية كفيل بأن يجعل الدنيا عامرة بالخير، وهادئة من كل اضطراب، وخالية من أي سوء وفساد.
من هنا، يتضح لنا أن العدل سنة اجتماعية وواجب إلهي.
أي: على كل واحد من أبناء المجتمع الإسلامي أن يكون عادلاً، يعطي كل شخص حقه القانوني، وليس الحفاظ على العدل مسؤولية الدولة فقط، لأن المجتمع الذي لا يشعر أبناؤه بضرورة تطبيق القانون واحترام حقوق الآخرين، لا يمكن للدولة فيه أنى كانت أن تجبره على ذلك.
والحقيقة التي لا غبار عليها أن العدل لا يتنافى مع اختلاف الدرجات الذي تشير إليه الآية السابقة إذ قد تكون المساواة أقبح ظلم، فليس سواء الجاهل والعالم، الكسول والنشيط، المضحي بنفسه والجبان.. و.. و.. الخ.
وبالرغم من حاجة المجتمع إلى قانون يحدد أبعاد العدالة، وحقوق الطبقات المختلفة، حسب مساعيهم وحاجاتهم وحاجة الناس إليهم، ومما يجعل للعدالة معانٍ مختلفة حسب القوانين والأعراف، إلا أن العدالة حق وواقع فطري لا يختلف البشر في خطوطه العريضة، وان اختلفوا في التفاصيل.
ولكن قد يتعاسر الناس في تطبيق العدالة، فنحتاج إلى القضاء الذي لا يرضى عنه كل الخصماء، كما لا يطمئن الإنسان إلى نتائجه مائة بالمائة.
ولذلك يأمر القرآن الكريم بالإحسان فهو ضرورة العدل، والذي يعني التنازل عن بعض الحقوق للآخرين.
الضمير الصادق يقضي بضرورة العدالة
قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}(10).
حين يتحسس البشر بقدرة اللَّه الهائلة التي تتجلى في ملكوت السماوات والأرض، وتحيط به في كل شيء، حين يتحسس بذلك تجري في عروقه قشعريرة وارتعاشة تدفعه أبداً إلى الحذر، وتبعده أبداً عن الطيش والغفلة.
وكلما زادت معرفة البشر بالقدرة الكبيرة التي تحيط به، كلما زاد تقواه، وبالتالي انضبطت أعماله، واتجهت في مسير سليم، ونمى في روعه ضمير واع يردعه من اقتراف الخيانة أو ارتكاب الجريمة، ويدفعه إلى إقامة العدل، وأداء الشهادة للَّه.
وهذه الآية الشريفة على غرار الآيات السابقة من حيث الأحكام التي وردت حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات، تذكر الآية موضوع البحث مبدأ أساسياً وقانوناً كلياً في مجال تطبيق العدالة الإجتماعية في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء، وتأمر جميع المؤمنين بإقامة العدالة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ...}.
ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة «قوامين» هي جمع لكلمة قوّام وهي صيغة مبالغة من قائم وتعني كثير القيام أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور، لكي يصبح العدل جزءاً من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الانحراف عن العدل مخالفاً ومناقضاً لطبعهم وروحهم.
والإتيان بكلمة القيام في هذا المكان، يحتمل أن يكون بسبب أنّ الإنسان حين يريد القيام بأي عمل، يجب عليه أن يقوم على رجليه بصورة عامّة ويتابع ذلك العمل، وعلى هذا الأساس فإِن التعبير هنا بالقيام كناية عن العزم والإرادة الرّاسخة والإجراء لإنجاز العمل، حتى لو كان هذا العمل من باب حكم القاضي الذي لا يحتاج إلى القيام لدى ممارسة عمله.
ويمكن أن يكون التعبير بالقيام جاء لسبب آخر، وهو أنّ كلمة القائم تطلق عادة على شيء يقف بصورة عمودية على الأرض دون أن يكون فيه انحراف إلى اليمين أو الشمال، وعلى هذا فإن المعنى المراد منه في الآية يكون تأكيداً لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إلى أي جهة كانت.
فيتضح لنا مما تقدم: أن المحافظة على نظافة ونزاهة المجتمع تقتضي وتتطلب توفر عاملين:
الأول: ضمير رادع عن المعصية عند كل شخص، وهو ما يسمى في القرآن الكريم بالتقوى.
الثاني: إحساس الجميع بمسؤوليتهم عن المعصية، ومحاسبتهم العالم بها أنّى كان، وقد تحدثت الآيات السابقة عن العامل الأول.
وها هي الآية - مورد البحث - تتحدث عن العامل الثاني الذي يبرز دوره في الحقوق الاجتماعية، فلو كان ضمير المجتمع حياً، ويحس بمسؤوليته، فانه يقتل الظلم وهو في المهد، إذ ما إن يظلم أحد من الناس حتى يردعه أقرب الناس إليه، من قراباته أو أصدقائه أو زملائه، وبالتالي مِنْ أولئك الذين يرجو أن يدعموا موقفه الظالم، بل قبل أن يهم الظالم باغتصاب حق، فانه عادة ما يستشير القريبين منه، ويحاول تهيئة الأجواء لجريمته، فإذا كان المجتمع واعياً فإنهم يمنعونه عن تنفيذ مخططه فيقتلون الظلم وهو نطفة قبل أن يولد.
وهناك مرحلتان متدرجتان لقيام المجتمع بمسؤوليته تجاه الظلم:
الأولى: منع الظلم، وإقامة العدل.
الثانية: في حالة وقوع الظلم التعاون على إزالته، وذلك بالشهادة ضده، من هنا جاء التأكيد في الآية الشريفة بكلمة الشهادة، فشددت على ضرورة التخلي عن كل الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة اللَّه فقط أنى كانت الظروف، أي: حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه أو أقاربه، أو.. أو.. لا يستطيع لأي من هذه المبررات أن يسكت عن الشهادة، بل عليه واجب أن يشهد لصاحب الحق.{شُهَدَاء لِلّهِ}، أي: أقيموا الشهادة بهدف مرضاة اللَّه لا خوفاً أو طمعاً من أحد حتى ولو كانت الشهادة ضد مصالحكم، فلا تعيروا أيَّ أهمية لكون الظالم له قوة أو من الأقرباء أو الأصدقاء أو غيرها، وقد شاع هذا الأمر في كل المجتمعات، وبالأخص المجتمعات الجاهلية، حيث كانت الشهادة تقاس بمقدار الحبّ والكراهية ونوع القرابة بين الأشخاص والشاهد، دون أن يكون للحق والعدل أثر فيما يفعلون.
وقد نقل عن ابن عباس حديث يفيد أنّ المسلمين الجدد كانوا بعد وصولهم إلى المدينة يتجنبون الإدلاء بالشهادة لاعتبارات القرابة والنسب، إذا كانت الشهادة تؤدي إلى الإضرار بمصالح أقربائهم، فنزل قوله تعالى: {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ...} محذراً لمثل هؤلاء(11).
فإنّ هذا العمل لا يتناسب وروح الإيمان، لأنّ المؤمن الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يعير اهتماماً للاعتبارات في مجال الحق والعدل، ويتغاضى عن مصلحته ومصلحة أقاربه من أجل تطبيق الحق والعدل.
ويستفيد الفقهاء من هذه الآية الشريفة أنّ للأقارب الحق في الإدلاء بالشهادة لصالح - أو ضد - بعضهما البعض، شرط الحفاظ على مبدأ العدالة، إلّا إذا كانت القرائن تشير إلى وجود انحياز أو تعصب في الموضوع.
وتشير الآية بعد ذلك إلى عوامل الانحراف عن مبدأ العدالة، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإدلاء بالشهادة العادلة، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإنسان من أجل الفقراء، يجب أن لا تكون سبباً في الامتناع عن الإدلاء بالشهادة العادلة حتى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء، لأنّ اللَّه أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية اللَّه، ولا الفقير سيبيت جوعاناً بسبب تحقيق العدالة، تقول الآية في هذا المجال: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا}.
أي لا عليكم اذا كان من تشهدون له غنياً أو فقيراً، بل هذا أمر يخص اللَّه، أما أنتم فاشهدوا للَّه.
وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنب اتّباع الهوى، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إذ تقول الآية: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ}(12).
أي: فلا يضلنكم حب المصلحة، أو حب الأقارب من إقامة العدل بالشهادة أو بالتنفيذ.
ويتضح من هذه الجملة - بجلاء - أن مصدر الظلم والجور كلّه، هو اتّباع الهوى، فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمَنٍ مِنْ الظلم والجور.
ولأهمية موضوع تحقيق العدالة، يؤكد القرآن هذا الحكم مرّة أُخرى، فيبين أنّ اللَّه ناظر وعالم بأعمال العباد، فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب الحق عن حقه، أو تحريف الحق، أو الإعراض عن الحق بعد وضوحه، فتقول الآية: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}(13).
أي: ان تنحرفوا قليلاً أو كثيراً فان اللَّه خبير بكم.
فجملة «إِن تَلْوُواْ» تشير - في الواقع - إلى تحريف الحق وتغييره، بينما تشير جملة «تُعْرِضُواْ» إلى الإِمتناع عن الحكم بالحق، وهذا هو ذات الشيء المنقول عن الإمام الباقر(ع)(14).
والطريف أن الآية اختتمت بكلمة «خَبِيراً» ولم تختتم بكلمة « عليماً » لأنّ كلمة « خبير » تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعاً على جزئيات ودقائق موضوع معين، وفي هذا دلالة على أن اللَّه يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به الإنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان، وهو يعلم كل موطن أو موقع يتعمد فيه إِظهار الباطل حقاً، ويجازي على هذا العمل.
وتثبت الآية اهتمام الإسلام المفرط بقضية العدالة الاجتماعية، وإن مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبين مدى هذا الاهتمام الذي يوليه الإسلام لمثل هذه القضية الإنسانية الإجتماعية الحساسة، وممّا يُؤسف له كثيراً أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإسلامي السامي، وإن هذا هو سرّ تخلف المسلمين(15).
دور النعم الإلهية والعدالة في الحياة الاجتماعية
إنّ أهمّ حكمة وراء خلق الإنسان والكائنات أن يتعرف الرب لخلقه في كل شيء حتى لا يجهلوه في شيء فيعبدونه حق عبادته، ولا ينظرون إلى شيء إلا ويرونه قبله ومعه وبعده، لقد كان كنزاً مخفياً فأراد أن يعرف فخلق الخلق(16)، لا لحاجة منه إليهم، بل لحاجة منهم إليه، ولا ليربح عليهم، بل ليربحوا عليه.
وهكذا فان السمة البارزة في الخليقة هي رحمة اللَّه، وإن طبيعة الخلق الأولى للإنسان قبل أن تدنَّس من المخلوقين أنفسهم لهي طبيعة إيجابية حميدة، وإنّ فطرته ليست نابية ولا معادية، إنّه يتفكّر في نفسه فيراها غارقة في محيط من النعم والآلاء، خلقه رحمة، وتعليمه وبيانه نعمة أيضاً، ثم يجول بفكره في العالم من حوله فيرى الشمس والقمر، والنجوم والشجر، والسماء والميزان، وهكذا الأرض وما تحتويه كلّها نعم، وكلّها خلقت ولا زالت تؤدي دورها ضمن نظام دقيق في صالحه.
قال اللَّه تعالى في محكم كتابه الكريم: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}(17).
هذه الآيات هي استمرار لبيان النعم الإلهية التي جاء ذكر خمس منها في الآيات السابقة، حيث تحدثت عن أهم الهبات التي منحها اللَّه سبحانه.
وفي الآية مورد البحث يتحدث سبحانه عن النعمة السادسة، حيث يتجلى فيها اسم الرحمن سبحانه، ألا وهي نعمة خلق السماء، فهي تتضمن نعمة السلام والأمن، سواءً كان أمن وجود الإنسان أو أمن حقوقه، والسماء في هذه الآية سواء كانت بمعنى جهة العلو، أو الكواكب السماوية، أو جو الأرض - والذي يعني الطبقة العظيمة من الهواء والتي تحيط بالأرض كدرع يقيها من الأشعة الضارة، أي: أن الغلاف الجوي يمتص هكذا أشعة من الوصول إلينا، ويخفف من الأشعة الأخرى التي من شأنها لو وصلت إلينا بصورةٍ مركزة الإضرار بنا أيضاً، وتقينا هذه الطبقة، أي: الغلاف الجوي من الصخور السماوية وحرارة الشمس، والرطوبة المتصاعدة من مياه البحار لتتكوّن الغيوم وتنزل الأمطار، وهكذا - إنّ كل واحدة من هذه المعاني هبة عظيمة ونعمة لا مثيل لها، وبدونها تستحيل الحياة أو تصبح ناقصة.
نعم إنّ النور الذي يمنحنا الدفء والحرارة والهداية والحياة والحركة يأتينا من السماء وكذلك الأمطار، والوحي أيضاً، وبذلك فإنّ للسماء مفهوماً عامّاً، مادياً ومعنوياً.
وإذا تجاوزنا كل هذه الأُمور، فإنّ هذه السماء الواسعة مع كل عوالمها هي آية عظيمة من آيات اللَّه، وهي أفضل وسيلة لمعرفة اللَّه سبحانه، وعندما يتفكر أُولو الألباب في عظمتها فسوف يقولون دون اختيار: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}(18).
ثمّ يستعرض سبحانه النعمة السابعة حيث يقول تعالى: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}.
فكما ضمن اللَّه سبحانه وتعالى حياتنا بالسماء ضمن برحمته الحقوق للإنسان عندما وضع الميزان.
نعم، فالحياة كلها من النبتة الصغيرة حتى الشجرة الكبيرة، ومن الذرة المتناهية في الصغر، حتى المجرة المتناهية في السعة والضخامة، وفيما بينها الإنسان والشمس والقمر، كلُّ ذلك يتجلّى فيه التدبير اللطيف والنظام الدقيق، حتى قالوا أنّ الحياة كُتِبت بلغةٍ رياضية، ولذلك فإنّها تنعكس في ضمير الإنسان وفي رسالات اللَّه بصورة موازين وقيم، أَليس الفكر مرآة صافية ؟ أو لا تعكس هذه المرآة ذلك النظم الدقيق، والتدبير الحسن ؟ بلى.
وكذلك الوحي يذكرنا بالعقل، ويفصح عن تلك الموازين الحق التي انبثّت في الخليقة.
فالإنسان يعرف الخير من الشر، والحسن من القبيح، بل ويزن أيضاً أيَّ الشرّين أهون وأيَّ الحسنيين أفضل، كما أنّه يتمتع بحسٍّ جمالي، ألا تراه كيف يميّز بين لوحةٍ وأخرى، ووجهٍ وآخر، كما أنّه بحواسه يفرّق بين الأحجام، والألوان، والمسافات، والأصوات.
هل فكّرت كيف يميّز الإنسان بأُذنه بين الأصوات المختلفة، يقيس - مثلاً - صوتين متقاربين لأخوين، بل صوت الإنسان الواحد في مرحلتين أو حالتين، حينما يستيقظ من نومه، وحينما يكون مريضاً.
ولو أنك قارنتَ بين أكثر المسجّلات تطوراً وبين الأذن، أو بين المصورات المتقدمة وبين العين، لَوجدتَ حواس الإنسان تتميز بدقة الموازين، وهذه الموازين عكسها الإنسان في صور محسوسة، فصنع للثقل ما يسمّى بالميزان، وللمسافات المتر والذراع وما إلى ذلك، وللزمن الساعة، وللحرارة والرطوبة مقياساً آخر، كما وضع قوانين وأنظمة تجسد موازين العدل والأخلاق والقيم والأعراف، إذن ربُّنا هو الذي خلق الموازين في الطبيعة، إذ خلق كل شيء بحسبان وقدر، ضمن زمن، وحجم، ولون، وشدّة، وضعف، وعدد من الموازين الأخرى، وعكس ذلك في ضمير الإنسان وحواسه وعقله.
وهناك علاقة بين رفع السماء ووضع الميزان في الآية الكريمة، فالسماء رُفِعت بالميزان ومن أجل الميزان وضِعَتْ القوانين والأنظمة الطبيعية الخاصة بها، ولولاها لكانت تقع على الأرض، وهكذا كلّ شيء في الحياة، فحياة الإنسان تستحيل عذاباً لو لم يلتزم بالميزان، لذلك يؤكد ربنا مباشرةً بعد هذه الآية وبآيةٍ أخرى على ضرورة احترامه وإقامته.
إنّ اللَّه وضع الميزان في الطبيعة، ولكنّ رحمته لا تتجلى فيها فقط بل على يد الإنسان أيضاً، فهو بحكم حريته قد ينغص صفو الأمن على نفسه ويفسد السلام، كما أنّه يستطيع أن يساهم في جلب السلام والسعادة إليها لتتجلّى رحمانية اللَّه على يديه، وذلك إذا لم يطغ في الميزان وأقامه بحق، فلم يسرف في الأكل والشرب، ولم يبذّر في الصرف، ولم يستهلك أكثر ممّا ينتج، ولم ينم أكثر من حاجته، بل أقام الوزن في جوانب حياته الشخصية والإجتماعية(19).
المراد من الميزان
إن المراد من الميزان هو كل وسيلة تستعمل للقياس، سواء كان قياس الحقّ من الباطل، أو العدل من الظلم والجور، أو قياس القيم وقياس حقوق الإنسان في المراحل الاجتماعية المختلفة.
والميزان يشمل كذلك كلّ نظام تكويني ودستور اجتماعي، لأنه وسيلة لقياس جميع الأشياء.
والميزان لغة: هو المقياس الذي يوزن بواسطته الأجسام المادية المختلفة، إلا أنّ المقصود في هذه الآية، - والذي ذكر بعد خلق السماء - أنّ لها مفهوماً واسعاً يشمل كل وسيلة للقياس بما في ذلك القوانين التشريعية والتكوينية، وليس وسيلة منحصرة بقياس الأوزان المادية فقط.
ومن هنا فلا يمكن أن تكون الأنظمة الدقيقة لهذا العالم، والتي تحكم ملايين الأجرام السماوية بدون ميزان وقوانين محسوبة.
وعندما نرى في بعض العبارات أنّ المقصود بالميزان هو القرآن الكريم أو العدل، أو الشريعة، أو المقياس، ففي الحقيقة إنّ كل واحدة من هذه المعاني مصداق لهذا المفهوم الواسع الشامل(20).
قوله تعالى: {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}.
نستنتج من الآية الشريفة استنتاجا رائعاً حول ما تقدم من الموضوع، حيث يوجّه الخطاب لبني الإنسان الذين يشكلون جزءاً من هذا العالم العظيم ويلفت انتباههم إلى أنهم لا يستطيعون العيش بشكل طبيعي في هذا العالم إلا إذا كان له نظم وموازين، ولذلك فلابد أن تكون للبشر نظم وموازين أيضاً حتى يتلاءموا في العيش مع هذا الوجود الكبير الذي تحكمه النواميس والقوانين الإلهية، خاصة أنّ هذا العالم لو زالت عنه القوانين التي تسيّره فإنه سوف يفنى، ولذا فإنّ حياتكم إذا فقدت النظم والموازين فإنكم ستتجهون إلى طريق الفناء لا محالة، وربُّنا الكريم ينهانا عن ذلك، ويلحق بالنهي دعوةً إلى إقامة الوزن باحترامه والالتزام الدقيق به، وبأفضل صور العدل وهو القسط، حيث يقول سبحانه: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ»، وهو أقرب إلى التقوى حتى من العدل، ذلك أنّ القسط ليس مجرّد العدل، بل العدل بإضافة الاحتياط الذي يضمن حصوله بالفعل، فمثلاً إذا كنتَ صاحب محل تزن للناس تعادل ما تبيع بالوزن المطلوب ثم تضيف إليه شيئاَ، وإذا كنتَ تشتري تنقص ما تشتريه عن الوزن المتفق بينك وبين البائع، وذلك للتأكّد من فراغ الذمّة في الحالتين، هذا هو القسط، وكم تكون البشرية سعيدةً لو عملت بهذه القاعدة.
والإقامة هي الالتزام بالشيء وأداؤه على أحسن وجه، وإقامة الوزن تكون في أفضل صورها عند العمل بالقسط.
وربُّنا لا ينهى عن الطغيان، أي إخسار الميزان بصورة فظيعة ظاهرة فقط، كما تقدم قوله تعالى: {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}، بل وينهى حتى عن مخالفته بصورة بسيطة، أو خفيفة باستغلال غفلة الناس وثقتهم، أو بالاحتيال على القانون، فيقول تعالى: {وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}.
والعمل بالقسط يضمن من جانب تحقق العدالة، ومن جانب آخر يجنب الإنسان مخالفة الحق والنظام العام للمجتمع.
فيتضح لنا من الآيات السابقة: إن اللَّه سبحانه وتعالى يتحدث فيها عن ضرورة عدم طغيان البشر في كل موازين حياته الفردية أو الاجتماعية.
خسران الإنسان للميزان
إن من الإنجازات المهمة في عالمنا اليوم وحدة الموازين، أي على البشر أن يدققوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل، فالكيلو غرام، الكيلومتر مثلاً، وكذلك المقاييس والأوزان الأخرى، التي يعتمد ويتفق عليها الناس، فيفعلونها في معاملاتهم، ولعل هذا من أبرز معاني إقامة الميزان واحترامه وعدم التلاعب به، بأنْ يعتبر البعض الكيلو 900 غراماً، والبعض الآخر 100 غراماً، فذلك يفقد البشرية إنجازاً هاماً في حياتهم الاجتماعية، ويفسح المجال للمزيد من الظلم والتلاعب بالحقوق، بل إنّ إقامة الوزن - أي: الهدف- لا يتحقق إلا بالميزان، وإخساره تضييع لهذا الهدف.
ومما تقدم يتضح لنا أنّ أهمية الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة المجتمع، فهو يعني القوانين المميزة للخير من الشر والفضائل من الرذائل والحق من الباطل.
من هنا تمت الإشارة في القرآن الكريم بشكل عام إلى أحد الأغراض الرئيسية من بعث الأنبياء(ع) ألا وهو إقرار العدالة الاجتماعية، وأنّ نزول الكتاب والميزان بمثابة المقدمة له، يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(21).
لقد أُشير في هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة أمور باعتبارها مقدمة لإقامة العدل، وهي:
أولاً: البينات.
ثانياً: الكتاب.
ثالثاً: الميزان.
ولتوضيح المراد من هذه الأمور الثلاثة لابد لنا من الإشارة إلى تفسير الآية الكريمة من خلال تفاسير مدرسة أهل البيت(ع).
إن أبرز الأهداف التي تنزلت من أجلها رسالات اللَّه، وسعى إليها الأنبياء والرسل - كما تقدم سابقاً - يلخصها القرآن الكريم في العدل، أي: قيام الناس بالقسط، ولكن ليس بالمفهوم الضيق له المتمثل في ردم الهوة بين الطبقات الاجتماعية، بل التزام الحق والإنصاف من قبل الإنسان في كل أبعاد حياته وعلاقاته، في علاقته بربه وقيادته، وفي علاقته بنفسه ومجتمعه، وفي علاقته بالخليقة من حوله، وإنما يعرف مدى قيامه بالقسط من خلال الميزان المتمثل بالفطرة، والعقل، والكتاب، والقيادة....
والحركة الصادقة هي التي تسعى إلى ذلك بالكلمة الصادقة أو بالقوة والسلاح، وهي التي يجب على الناس تبنيها، ومساعدتها، والانتماء إلى صفوفها، لأنها تجاهد للحق ومن أجل سعادتهم، ولأنها المحك في نصرتهم للَّه ولمسيرة الأنبياء والمرسلين.
والآية المباركة تشير إلى هذه السمات إذ تقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا}.
دليلاً إلى اللَّه، وتعريفاً للناس به تعالى، فهم يتحملون مسؤولية محددة هي تبليغ رسالة الخالق إلى المخلوقين، وهدايتهم إلى معرفته، والإيمان به، والعمل برسالته.
قال أمير المؤمنين(ع): «بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ، وَجَعَلَهُمْ حَجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ، لِئَلاَّ تَجِبَ الحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الحَقِّ »(22).
فقد أشار أمير المؤمنين(ع) هنا إلى أمرين:
1 - إلى فلسفة بعثة الأنبياء.
2 - وإلى فلسفة الامتحان الإلهي.
وهذه العبارة فيها نقطة مهمة وردت كراراً في الآيات القرآنية وهي عدم مؤاخذة اللَّه سبحانه العباد دون بعث الرسل وإبلاغهم أوامره ونواهيه سبحانه عن طريق الوحي، فقد جاء في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}(23).
إن التاريخ يحدثنا بان العذاب لم ينزل على أمة ما إلا من بعد أن يرسل اللَّه إليهم هادياً ينذرهم، ويبلغهم رسالات ربهم، لهذا جاء قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
أي: حتى نبعث إليهم رسولاً يبين لهم الحق والباطل، وكلمة الرسول هنا عامة تشمل كل من حمل رسالة التوحيد بصورة مباشرة كانت كرسول اللَّه(ص) أو غير مباشرة مثل الأئمة المعصومين(ع) أو الفقهاء المجتهدين كالإمام الخميني(قده) والقائد السيد الخامنئي مد اللَّه في عمره الشريف، أو المؤمنين العاملين المجاهدين.
ودليل مسؤولية البشر هو جزاؤه في الدنيا على سيئات عمله، وعلينا أن نقيس الآخرة بالدنيا، ودليل رحمة اللَّه وحكمته، أنه لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً، انه سبحانه لم يهلك قرية إلا بعد أن أتم حجته عليهم بالرسل.
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا}.
يربط القرآن الكريم في هذا السياق بين الإسراف وهلاك القرى، ولكن بماذا أمر اللَّه المترفين؟
المأمور به هنا محذوف وهو معطوف على قوله تعالى: «حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» فاللَّه سبحانه وتعالى يأمر الناس بالهدى والخير والتقوى، ولكنهم حين لا يعملون بها بل يفسقون عنها، ويحاربون اللَّه ورسوله، فماذا يحدث آنئذ ؟
{فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}.
أي: تحققت عليهم المسؤولية وأصبحت للَّه الحجة البالغة عليهم، فدمرهم بسبب تركهم لها تدميراً، ولعل الآية تشير إلى حقيقة تاريخية هامة هي: أن اللَّه سبحانه وتعالى يبعث الرسل عادة على القرى التي ينتشر فيها الفساد، ويتسلط عليها المترفون، وذلك لكي يرتدعوا، ولا يستمروا في رحلة الفناء حتى النهاية، وعادة لا يتوبون فيحق عليهم العذاب.
والمحصل مما تقدم نقول:
إن اللَّه سبحانه وتعالى لا يعاقب شخصاً دون بعث الأنبياء ونزول الوحي سوى في المستقلات العقلية أي: أن الحجة تتم على الإنسان من خلال العقل الذي يحكم بحسن وقبح الأشياء، من قبيل إدراكه حسن العدل وقبح الظلم والجور والسرقة وقتل النفس، وعليه فهو يستحق العقاب أو الثواب حتى دون بعث الأنبياء والرسل.
ثم خاض الإمام أمير المؤمنين(ع) في مطلب آخر في إطار مواصلة لكلامه والذي يتمثل بفلسفة الامتحان الإلهي فقال(ع): «أَلاَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً، لاَ أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَمَكْنُونِ ضَمَائِرِهمْ، وَلكِنْ {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً، وَالْعِقَابُ بَوَاءً»(24).
فقد كشف الإمام(ع) بهذه العبارة اللثام عن مسألة مهمة حيث لا معنى لمفهوم الامتحان بالنسبة للَّه بالشكل الذي تعارف على العباد، فالهدف من اختبار العباد لرفع الجهل والإبهام، لمعرفة الأشياء والتعرف على الأشخاص، وليس لمثل هذه الأمور من مفهوم لمن كان الغيب والشهادة والظاهر والباطن عنده سواء، بل هدف البلاء الإلهي هو أن يظهر الإنسان ما يبطنه لتتحقق مسألة استحقاق الثواب والعقاب.
وبعبارة أوضح: لا يمكن إثابة الفرد أو معاقبته على ما يضمره من نيات حسنة أو سيئة، بل يترتب الثواب والعقاب على ما يصدر منه من أعمال وأفعال تفرزها النيّات، وهذا ما بيّنه الإمام(ع) في إحدى قصار كلماته في تفسيره للآية القرآنية: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ...}(25)، معنى أن يختبرهم بالأموال والأولاد «وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلكِنْ لِتَظْهَرَ الأَفْعَالُ الَّتي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ»(26).
فلم يرد في الفقه الإسلامي ولا في دستور أي بلد التصريح بعقاب شخص بسبب نيّة القتل أو السرقة، وكما لا يثاب بسبب نيّته الحسنة في الخدمة، وإن شمل مثل هؤلاء الأفراد بنوع من التكريم تفضلاً بسبب تلك النيّات وقد تظافرت الروايات التي صرّحت بجزاء الخير تفضلاً منه سبحانه كونه أرحم الجميع، لكنّه لا يعاقب على نيّة الشرّ كما ورد في الحديث: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَم تُكتَبْ عَلَيهِ»(27).
وعوداً على بدء:
قد عرفنا - فيما مضى - أن أحد الأغراض الرئيسية من بعث الأنبياء(ع) هو إقرار العدالة الاجتماعية فهم(ع) الواسطة بين الخالق والمخلوق، وحبل اللَّه الممدود من السماء إلى الأرض، ولكن كيف نعرف صدقهم وصدق دعوتهم من بين القادة المنحرفين والدعوات الضالة ؟
القرآن الكريم من خلال الآية مورد بحثنا المتواضع يجيب على هذا السؤال إذ يقول:
{بِالْبَيِّنَاتِ}.
لهذه الكلمة معنيان يبدو أن كليهما تشملهما الكلمة:
1 - تفاصيل الهدى، المتمثلة في الثقافة التوحيدية، والبصائر والقيم، والمناهج المنبثقة منها، واشتمال رسالات اللَّه على هذه التفاصيل دليل على أنها وحي من عند اللَّه، إذ قد يهتدي بشر أوتي صفاء النفس إلى بعض معاني الغيب، ولكن أنّى للإنسان أن يأتي بهذه المنظومة المتكاملة من البصائر الغيبية؟ ما ذلك إلا دليل اتصاله المباشر بالوحي.
2 - الحجج والآيات التي تهيمن على النفس والعقل، كالمعاجز، والخلوص من الهوى والمصلحة والتمحض للحق، وهذا يهدينا إلى أن الرسالات الإلهية قائمة قبل كل شيء على الإقناع، لأنه الذي ينمي الإيمان في النفس، ويحرّكه بفاعلية أكبر وأبقى من أي عامل آخر، وربنا يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(28).
ذلك أنّ الإيمان الناتج من الاستجابة للبينات والآيات هو الذي يخشع القلب والجوارح لذكر اللَّه، ويطوعها للرسول ولما نزل من الحق وللميزان، وبالتالي يدفع المؤمن للقيام بالقسط، وحينما يتخلّف أحد من المؤمنين عن الاستجابة للرسول وللوحي فانّ ذلك يدلّ على تزلزل في قناعاته.
وحيث لا يؤتي الإيمان ثماره إلا إذا تحول إلى نظام تربوي، اجتماعي، اقتصادي، سياسي، ثقافي شامل لجوانب الحياة، يكفل للبشرية السعادة، أنزل اللَّه شريعة متكاملة إلى جانب البينات متمثلاً بالكتاب.
{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ}.
فإذا كانت البينات تؤمّن القناعات الأولية فانّ الكتاب يؤمّن النظام العملي الشامل المنطلق من الإيمان، والذي يستهدف تكريسه بعمق في النفوس والواقع، والقيام بالقسط - هذا الهدف العظيم - إنما يستمد شرعيته وشرعته منه.
ومع دلالة الإنزال على المعنى الظاهر من الكلمة فانّه يدل على الفرض، وكل ما نزل من الخالق إلى المخلوق فهو لازم ومفروض عليه القيام به، ومن البديهي أن معرفتنا بالبينات وانّ الكتاب من اللَّه تلزمنا العمل به وتنفيذه.
«وَالْمِيزَانَ»
فما هو الميزان؟ هل هو العقل؟ أم هو الإمام العادل؟ أم هذه المقاييس التي يزن الناس أشياءهم بها؟
طبعاً المراد من الميزان هو الوسيلة التي يقاس بها وزن البضائع، وهذا مصداق حسي لمعنى الميزان. ومن الواضح هنا أن المراد من الميزان هو المصداق المعنوي، أي الشيء الذي نستطيع أن نقيس به كلّ أعمال الإنسان، وهي الأحكام والقوانين الإلهيّة أو الأفكار والمفاهيم الربانية، أو جميع هذه الأُمور التي هي معيار لقياس الأعمال الصالحة والسيئة.
فيبدو أن الميزان أساساً هو المقياس الذي نعرف به تطبيق الحكم على الواقع الخارجي، وهو لا يتمّ إلا بالعقل والإمام والمقياس السليم.
وقد تسأل - عزيزي القارئ - كيف ذلك ؟
نقول في الجواب:
أولاً: ما جاء القرآن الكريم ليلغي دور العقل، إنما ليثير دفائنه بالاجتهاد في فهم حقائقه وأحكامه وطريقة تطبيقه، وليقوم بدوره الحساس والخطير في حياة البشرية.
ثانياً: ما جاء القرآن الحكيم بديلاً عن الإمام، أي: السلطة العادلة، حيث يجب التسليم للقيادة الشرعية في حدود قيم الكتاب، فدور الإمام يكمل دور الرسالة، لذلك قال رسول اللَّه(ص): «إنّي قد تركت فيكم الثّقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي وأحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللَّه حبلٌ ممدود من السّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض»(29).
وقد أجمعت فرق المسلمين قاطبة على هذه الرواية، مع حكم العقل بضرورتها، أما قول الخوارج: حسبنا كتاب اللَّه ! فانّه باطل بشهادة الكتاب، وشهادة العقل، بل وشهادة التاريخ البشري حيث لم نعهد جماعة بلا سلطة تحكمهم، وحتى الخوارج أنفسهم ما عاشوا دون سلطة طول تاريخهم.
وميزان الإنسان في الدنيا هو ميزانه في الآخرة حيث يقول ربنا سبحانه: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}(30).
نعم، ففي ذلك اليوم يدعو اللَّه سبحانه كل امة بإمامها، والإمام يعكس قيم أمته، وهو تجسيد لكل فرد في الأمة، وهكذا يجب أن تنبع القيادة من صميم الأمة، وتعيش واقعها، وكل قيادة لا تنبع من صميم الأمة فإنها لا تملك مبرر البقاء لأنها تتنافر طبيعياً مع كل فرد في هذه الأمة، والإمام هو القرآن الموحى به، وهو الذي يجسد القرآن الكريم ويكون قرآناً ناطقاً، فالفكرة الإسلامية هي القائدة وإنما يمثلها ذلك الإمام الناطق بها، ويجب على الإنسان أن يتبع الفكرة قبل أن يتبع الشخص، وان يعرف خط القائد قبل شخصه، فإذا أردت اتباع قيادة فلابد أن تعرف خطها أولاً.
قال أمير المؤمنين(ع): «عليكم بالقرآن فاتّخذوه إماماً قائداً»(31).
{فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.
هؤلاء الذين اتبعوا القرآن يدعون بالقرآن، وبذلك الإمام الذي اتبعوه باسم القرآن وصاروا قرآنيين: أمّا وأنهم صاروا قرآنيين، فان اللَّه يعطيهم حقهم غير منقوص، دون أن يظلمهم فتيلاً، والفتيل هو الخيط الدقيق في شق نواة التمرة، ولعل نهاية الآية تدل على أن الوهم الذي يبثه الشيطان في روح أتباعه بأن عمل الخير لا جزاء له باطل.
وليس معنى هذه الآية أن اللَّه يظلم من لا يؤتى كتابه بيمينه، بل اللَّه عادل ولو يؤاخذ الناس بعدله لما نجى أحد من البشر، ولكن اللَّه سبحانه لا يتعامل مع الناس إلا بفضله، وقد ورد في الدعاء: «الهي عاملنا بفضلك، ولا تؤاخذنا بعدلك، فانه لا طاقة لنا بعدلك، ولا نجاة لنا دون فضلك» واللَّه سبحانه لا يظلم الناس، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فإذا عاقبهم اللَّه في الآخرة فإنما يعاملهم لقاء ظلمهم لأنفسهم.
والمحصل مما تقدم: أن كلمة الميزان واسعة فهي تشتمل على كثير من المضامين، فالعقل ميزان، والقرآن ميزان، والعهد ميزان، وما تتفق عليه التنظيمات في اجتماعها إلى بعضها ميزان، ولا يصح لأحدٍ أنْ يخرج عليه مهما كان مخالفاً لمصالحه الشخصية، ولكنَّ أظهر معاني الميزان هو القيادة الإسلامية، أو كما تقدم سابقاً السلطة العادلة، بأقوالها وأفعالها وآرائها باعتبار قربها من القيم فهماً وتطبيقاً، قال الإمام الرضا(ع): «الميزان أمير المؤمنين(ع) نصبه لخلقه، قال الراوي للإمام(ع) متسائلاً: قلتُ: {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} ما هو المراد من الآية الشريفة هذه؟ قال الإمام(ع) حول المراد منها أي: لا تعصوا الإمام(ع)، ثم قال الراوي للإمام متسائلاً حول قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} ؟ قال(ع): أي: وأقيموا الإمام بالعدل، بعد هذا سئل الراوي الإمام(ع) عن قوله تعالى: {وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}؟ قال الإمام(ع) مجيباً: أي: لا تبخسوا الإمام حقّه ولا تظلموه»(32).
والعقل يعكس مقاييس الميزان التي فطر عليها على مجموعة أدوات يقيس بها الأشياء، أرأيت أن العقل يعرف - عبر البصر - مدى قرب أو بعد الأشياء، ولكنّه التماساً للدقة يعكس ذلك على أدوات العلم - المتر والكيلومتر -، كما يقدر العقل على معرفة مدى حرارة الجسم باللمس، ولكنّه يبدع المحرار ليكون أقرب إلى الدقة، وهكذا سائر الموازين، إنّها تجليات العقل على الطبيعة، ومن جهة أخرى أنها أدوات لحكم السلطة العادلة، فلولا القوانين التي تنظم العلاقة وتوزن مدى تطبيق القيم على الواقع لم يستطع الإمام فرض العدل على الناس، وهكذا كان الميزان أساساً هو العقل الذي هداه اللَّه لمعرفة المقاييس والمقادير، والإمام الذي هو بمثابة العقل الظاهر، ثم الأنظمة والأدوات القياسية، لأنها تهدي الناس للحق والعدل، ولذلك جاء في التفسير: «نزل جبرئيل(ع) بالميزان - الكفتين واللسان - فدفعه إلى نوح، وقال: مر قومك يزنوا به»(33).
{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}
وإقامة الشيء تنفيذه على أصلح وجه، ومنه إقامة الصلاة إذا مارسها بوجهها الصحيح، والعوامل الثلاثة أي: البيان والكتاب والميزان، يكمل بعضها بعضاً، وهي كفيلة بأن توفر المناخ المناسب لإقامة القسط ولتحقيق الهدف الإلهي.
والقسط والإقساط هو الإنصاف، وهو أن تعطي قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك، والعادل مقسط، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(34). أي: الذين يحكمون بالقسط الذي هو محض العدالة، والقاسط الجائر، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً}(35)، قال الزمخشري: القاسطون الكافرون الجائرون عن طريق الحق، ونقل طريقةً عن سعيد بن جبير(رض): أنّ الحجاج قال حين أراد قتله: ما تقول فيَّ ؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال ! حسبوا أنّه يصفه بالقسط والعدل، فقال الحجّاج: يا جهلة ! إنّه سمّاني ظالماً مشركاً، وتلا قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} وقوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ}(36). والمراد من يعدلون أي: يجعلون له عِدْلاً مساوياً وشريكاً له في العبادة، والعديل هو الشريك والشبيه والمثيل(37).
وحسب بعض اللغويين: قسط بالكسر: عدل وقسطاً بالفتح وقسوطاً أي: جار وعدل عن الحق(38).
وأنّى كان فانّ مفردات استخدام الكلمة تدل على أنّها ليست مجرد بسط العدالة الظاهرة، بل هي إقامة العدالة الواقعية التي فيها المزيد من الإنصاف، وإيتاء الحق لأهله.
والآية تصرح بأنّ إقامة القسط تكون بيد الناس أنفسهم، فلم تقل: ليقوم الرسل بالقسط بين الناس، بل قالت: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، ولو أنّ الناس تخلوا عن مسؤوليتهم تجاه العدالة فان القسط لا يقوم، لأن رسالات اللَّه توفر للناس فرصة اقامة القسط، ولم يبعث الأنبياء لفرض العدالة بالإكراه على الناس.
وقيام الناس بالقسط يعني العدالة، وإقامة الحق في سائر جوانب حياتهم، مع اللَّه، ومع الرسول، ومع القيادة الشرعية، ومع الناس، بل ومع الحياة، فيتقون اللَّه حق تقاته، ثم يختارون الإمام العدل ويسلمون له ويتبعونه، قال الإمام الرضا(ع): «{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ}: أي: وأقيموا الإمام بالعدل»(39).
ويلتزمون الحق مع أنفسهم باتباع القصد من دون إفراط ولا تفريط، ومع الناس فلا يبخسون، ولا يطففون، ولا يظلمون ولا يعتدون، ولا ينقضون العهد، وهكذا يلتزمون العدل في علاقتهم مع الخليقة من حولهم، فلا يفسدون في الأرض بعد إصلاحها، ولا يهلكون الحرث والنسل، ولا... ولا.. فتحقّق العدالة الاجتماعية التي دعى إليها القرآن الكريم على أحسن ما يريده.
ولكن - وللأسف - تبقى شريحة من الناس تخالف الحقّ، من أجل هذا أنزل اللَّه الحديد وسيلة رادعة لتنفيذ القسط وإقامته بين الناس، ولا ريب أن القوة ليست الوسيلة المناسبة دائماً، فما يقره الإسلام شرعيّة القوة في الحالات الخاصّة، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ}.
قال الإمام عليّ(ع) : «يعني السلاح وغير ذلك»(40)، ممّا يحقق الغرض منه، وهو الردع وتنفيذ القسط، وهذا الشطر من الآية معطوف على الكتاب والميزان ولكن اللَّه يذكر أولاً الهدف من الحديد، لماذا ؟ يبدو لكي يبين هدفاً هاماً وهو: أن العوامل المتقدمة هي الأهم، ولابد أن تكفي في الظروف العادية، ليقوم الناس أنفسهم بالقسط، فلا يحتاجون إلى إعمال الحديد وذلك لأن القوّة التنفيذية في الإسلام تستمد قوتها الأساسية من الإيمان لا من السيف، وهنا نتساءل: إذاً لما أنزل اللَّه الحديد؟
الجواب: إنّما لأولئك الجبابرة والطغاة والمعاندين الذين قست قلوبهم عن وعي البينات والكتاب، وعارضوا الميزان والقسط، لمثل اولئك شرع اللَّه استخدام السيف، ورغب فيه، فقد روي عن رسول اللَّه(ص) انه قال: «الخير كله في السيف، وتحت ظل السيف، ولا يقيم الناس إلّا بالسيف»(41).
وقال الإمام عليّ(ع): «إنّ اللَّه داوى هذه الأمة بدوائين: السوط، والسيف، ولا هوادة عند الإمام فيهما»(42).
وقال الإمام الصادق(ع): «إنّ اللَّه عزّ وجلّ بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال، فالخير في السيف، وتحت السيف، والأمر يعود كما بدأ»(43).
وقال الإمام أمير المؤمنين(ع): «السيف فاتق، والدين راتق، فالدين يأمر بالمعروف، والسيف ينهى عن المنكر، قال اللَّه تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}»(44).
والمهمّ أن يتربّى الناس على العدل والقسط بحيث يصبحون واعين له داعين إليه، منفذين لبرامجه وسائرين في هذا الإتجاه بأنفسهم.
ثمّ إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقائدي والروحي عالياً، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان، ويقفون في طريق القسط والعدل، واستمراراً لمنهج الآية بالنسبة لإنزال وخلق الحديد، يقول تعالى فيه: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}.
أي: على الذين لا يقومون بالقسط، حيث الحدود، والقصاص، وسائر العقوبات الشرعية، وعلى الذين يظلمون ويحاربون العدالة حيث الجهاد في سبيل اللَّه.
واستخدام الحديد كرمز للقوة، باعتباره المادة الأساسية لصنع الأسلحة ووسائل القوة، وهنا يطرح السؤالان التاليان لإيضاح هذه المسألة:
الأول: إذا كان الإسلام يؤمن بالحرية فلماذا يستخدم القوة ؟
والثاني: إذا كان اللَّه سوف يحاسب الناس يوم القيامة فلماذا السيف والجهاد في الدنيا ؟
في الإجابة على هذين السؤالين نقول:
أولاً: الإسلام بين الحجة والقوة:
أبرز أهداف الإسلام تحرير الإنسان من الأغلال ظاهرة وباطنة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(45).
بلى، الرسول(ص) يخرج الناس من ظلمات الجهل والتخلف، ويرفع عنهم الأغلال الآتية من الإصر، مثل الأغلال الاجتماعية التي يفرضها النظام السياسي، أو الاقتصادي الحاكم على المجتمع، والقوانين المعيقة للتقدم، والكبت والدكتاتورية والإرهاب الفكري الذي يمنع تفجير النشاط، وتفتق المواهب، إلى نور العلم والتحضر والحرية، وقد تسأل عزيزي القارئ هنا: لكن كيف يكون ذلك؟
هل بقوة المنطق أم بمنطق القوة؟
الحقيقة في ذلك هي ما بينته الآيات القرآنية الشريفة العديدة أنّه لا إكراه في الدين، وأنّ الرسول ليس بجبار عليهم، قال سبحانه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(46) أي: لا إجبار في الدين، فقد تميز الحق من الباطل بكثرة الحجج والآيات الدالة عقلاً وسمعاً والمعجزات على يد النبي(ص) وقال سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}(47).
حيث يختم اللَّه سبحانه وتعالى سورة ق بالتأكيد للنبي(ص) ولكل داعية إلى الحق، بأنه ليس مسؤولاً عن الناس وليس عليه أن يجبر الناس على قبول الحق، وإنما مسؤوليته تتلخص في تبليغ رسالته إليهم، أما الحساب الفصل فهو عند اللَّه، الذي هو أحرص على رسالته، وأعلم بمواقف الناس تجاهها.
وإليك أيها قارئ الكريم مثالاً توضحياً نقول فيه: إن مجرد سماع الإنسان حديث القيامة يكفي أن يبعثه نحو التفكير، وإذا فكر تفكيراً سليماً اهتدى إلى الحقيقة، ونضرب على هذه الفكرة مثلاً فنقول: لو كان شخص يسير باتجاه حفرة في طريقة، فانَّ مخاطبته بكلمة انتبه وحدها، حري بأن يرفع عنه الغفلة ويوقظ عقله وحواسه، فيكتشفها دون أن يحتاج الأمر إلى بيان مفصل.
وتطبيقاً لهذه الحقيقة في الواقع منع ربنا الرسول والمسلمين من إكراه الناس على الدخول في الدين الجديد، فقال: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(48)، فالإيمان لا يتحقق بالإكراه، لا من قبل اللَّه، ولا من قبل الرسول، فلو شاء اللَّه لآمن من في الأرض جميعاً، ولكنه لا يكره الناس على الإيمان، فهل يحق لبشر أن يكره الناس على الإيمان وخالق البشر أحق بذلك لو كانت المصلحة تقتضيه ؟ مع العلم أن اللَّه سبحانه وتعالى خلق الحياة ليختبر فيها الناس، وجعل مادة الاختبار الإيمان، وقد منح ربنا للبشر حرية القرار فيما يخص الإيمان، وكان بإمكان ربنا القدير أن يهب الإنسان نعمة الإيمان بمثل ما وهب له نعمة العين، وأضاء له النهار، ولكنه لم يفعل، فعلينا الا نحاول إجبار الناس على الإيمان.
فالآية الكريمة تريد أن تقول:
إن اللَّه تعالى لو شاء لجعل مشيئته تكوينية فيؤمن جميع أهل الأرض، ولكنه رأى من الحكمة أن يكونوا أحراراً مختارين فمنهم مؤمن ومنهم كافر. أفأنت تجبر الناس حتى يكونوا مؤمنين ؟ أي: هل أنت تضغط عليهم باستمرار حتى يصبحوا مؤمنين، فهذا أمر يتنافى مع حكمة الاختبار في الدنيا، وهو لا يمكن عملياً لأنه بعيد عن سنة الحرية التي قرّرها للبشرية.
إذاً لماذا يستخدم الإسلام القوة تارةً ؟
إنما يستخدم الإسلام القوة ضد فريقين اثنين:
الأول: الذين يصادرون حرية الناس ويفرضون عليهم أغلالهم القمعية.
الثاني: الذين يخرجون على قوانين البلاد، ويعيثون في الأرض فساداً.
ثانياً: الإسلام والقوة والحياة:
1 - أمّا - قد تسأل قارئ الكريم - لماذا القوة في الدينا مادام اللَّه يحاسب الناس في الآخرة فيجزي المحسن والمسيء؟
وفي الجواب نقول: فلأنّ الابتلاء لا يتم إلّا عند توافر شروطه، فلو أطبقت على الأرض حكومات الضلال وأفرغت على الناس دعاياتها السامّة، دون أن تسمح لأحد بنشر الدعوة إلى اللَّه بينهم، كيف تتمّ حينئذ حجة اللَّه على سائر العباد؟
أَوَ ليسوا كانوا يقولون: ربنا لم تبلغنا الدعوة إليك، ولم نسمع عن رسولك شيئاً ؟
إذاً لابدّ أن يسعى المؤمنون لتوفير جوّ الامتحان ليهتدي من اهتدى عن بينة، ويضلّ من ضلّ عن بيّنة.
2 - ثمّ أنّ الذين يعارضون استخدام القوة من قبل المؤمنين لا ينظرون إلى الجهاد إلا من زاوية المضاعفات السلبية التي تستتبعه، وبالذات من زاوية بطش الحكومات الفاسدة بالمجتمع والمجاهدين أنفسهم، في حين يجب عليهم النظر من زاوية المعطيات الإيجابية للجهاد على صعيد الدنيا حيث الحرية والاستقلال والأمن والتقدم وسائر مضامين إقامة القسط ونتائجه، وعلى صعيد الآخرة حيث رضوان اللَّه وجنّته، وهذه بعض المنافع التي جعلها اللَّه للحديد {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}
طبعاً أحب أن أذكر هنا ملاحظة أشار إليها تفسير الأمثل وهي كالتالي:
بالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ تعبير {أَنزَلْنَا} يعكس لنا أنّ الحديد جاء من كرات سماوية إلى الأرض، إلا أنّ الصحيح أنّ التعبير بالإنزال في مثل هذه الحالات هو إشارة إلى الهبات التي تعطى من المقام الأعلى إلى المستوى الأدنى، ولأنّ خزائن كلّ شيء عند اللَّه تعالى فهو الذي خلق الحديد لمنافع مختلفة، فالحديد سلاح يساهم في إقامة القسط، وهو في ذات الوقت معدن يتدخّل في كثير من الصناعات ومرافق الحياة.
فعبر عنه تعالى بالإنزال، وهنا حديث لأمير المؤمنين(ع) في تفسير لهذا القسم من الآية الشريفة حيث قال: «إنزاله ذلك خلقه إيّاه»(49).
كما نقرأ في الآية السادسة من سورة الزمر حول الحيوانات حيث يقول سبحانه: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}.
وقد اختلف المفسرون في كلمة {وَأَنزَلَ} فكيف يمكن أنْ تنزل الأنعام، وهذا مجمل ما قالوا:
1 - إنّه أنزلها بعد أنْ خلقها في الجنة، وفي الخبر الشاة من دواب الجنة، والإبل من دواب الجنة.
2 - إنّه جعلها سبباً من أسباب نزول الرزق، والرزق يأتي من السماء.
3 - أن المراد من «الإِنزال» - كما أشرنا قبل قليل - حول حديث أمير المؤمنين(ع): «إنزاله ذلك خلقه إيّاه»، بمعنى الإحداث والإنشاء، كما في قوله تعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ}(50).
وهنا عندنا ملاحظة على ملاحظة التفسير العظيم «الأمثل» حيث يقول:
نلاحظ في آيات متعددة من القرآن الكريم أنّ اللَّه سبحانه وتعالى يقول في صعيد توفير اللباس للبشر: «وأَنزَلْنَا» وهو بمعنى الإرسال من مكان عال إلى الأسفل، إذ يقول: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} في حين أنّ اللباس كما هو المعلوم إمّا أنّه يُتَّخَذ من الصوف، أو يتخذ من مواد نباتية وما شاكل ذلك من أشياء الأرض.
كما أننا نقرأ في الآية السادسة المشار إليها أعلاه من سورة الزمر(51): {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وفي سورة الحديد: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ}(52)، فماذا يعني هذا ؟
يصرّ كثير من المفسرين على تفسير مثل هذه الآيات بالنزول المكاني أي من فوق إلى تحت، مثلاً يقولون: إنّ ماء المطر ينزل من السماء إلى الأرض فتروى منه النباتات والحيوانات، من هنا تكون مواد اللباس قد نزلت - بهذا المعنى - من السماء إلى الأرض.
وفي مجال الحديد أيضاً يقولون: إنّ الأحجار والصخور السماوية والعظيمة التي تحتوي على عناصر الحديد قد انجذبت إلى الأرض.
ولكن النّزول ربّما استعمل بمعنى النزول المقامي، وقد استعملت هذه اللفظة في المحاورات اليومية بهذا الشكل كثيراً، فيقال مثلاً: أصدر الحاكم أمره إلى أمرائه ومعاونيه، أو يقال: رفعت شكواي إلى القاضي، لهذا لا داعي إلى الإصرار على تفسير هذه الآيات بالنزول المكاني.
فحيث أنّ النعم الإلهية قد صدرت من المقام الربوبي الرفيع إلى البشر، لهذا عبر عن هذا المفهوم بهذا اللفظ، وهو تعبير يدركه الإنسان بدون إشكال أو صعوبة(53).
وملاحظتنا على هذا التفسير المتقدم كما استفدناها من علمائنا الأعلام:
إنّ قضاء اللَّه وتقديره وحكمه موصوف بالنزول من السماء، وإذا عرفنا أنّ بركات الأرض جميعاً - أو لا أقل أكثرها - من السماء سواء من أشعة الشمس أو من الماء الذي ينزله اللَّه من السماء، عرفنا أنّ هذه التأويلات غير ضرورية، واللَّه العالم.
* الهوامش:
(1) سورة الزخرف: 32.
(2) سورة النحل: 90.
(3) ميزان الحكمة ج6 رقم الحديث 11690 بتصرف.
(4) ما تقدم كان استفادات من تفسير الأمثل حول الآية الشريفة بتصرف.
(5) مجمع البيان ذيل تفسير الآية مورد البحث.
(6) قال هذا لأنه عم أبي جهل وكلاهما من قريش.
(7) مجمع البيان، ذيل تفسير الآية مورد البحث.
(8) نور الثقلين ج3 ص78.
(9) الكافي على ما نقل عنه تفسير نور الثقلين ج3 ص77.
(10) سورة النساء: 135.
(11) تفسير المنار ج5 ص455.
(12) يمكن أن تكون عبارة «تَعْدِلُوا» إشتقاقاً إمّا من مادة «العدالة» أو من مادة «العدول» فإن كانت من مادة «العدالة» يكون معنى الجملة القرآنية هكذا: فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا أي لكي تستطيعوا تحقيق العدل، وإما إذا كانت من مادة «العدول» يكون المعنى هكذا: فلا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا أي لا تتبعوا الهوى في سبيل الإنحراف عن الحق - الامثل -.
(13) إن عبارة «تلووا» مشتقة من المصدر «لي» على «وزن طي» وتعني المنع والإعاقة، فهي من لوى يلوي، بمعنى الإنحراف، وقد وردت في الأصل بمعنى «اللي» أي: الانحراف اليسير -الأمثل بتصرف-.
(14) تفسير التبيان، ج5، ص356 بتصرف بسيط.
(15) تفسير الأمثل ج3 ص320 بتصرف.
(16) محتوى حديث قدسي معروف.
(17) سورة الرحمان: 7 إلى 9.
(18) سورة آل عمران: 191.
(19) تفسير هدايت، بتصرف حول الآية الكريمة طبعة آستان قدس رضوي.
(20) تفسير الأمثل ج17 ص277 بتصرف.
(21) سورة الحديد: 25.
(22) ميزان الحكمة رقم الحديث 19185 خ نهج 144.
(23) سورة الأسراء: 15 و 16.
(24) بواء تعني في الأصل العودة والنزول ثم أطلقت على العقوبة المستمرة والمتواضلة وهذا هو المعنى المراد بها في الخطبة - نفحات الولاية ج5 ص392 -.
(25) سورة الانفال: 28.
(26) نهج البلاغة، قصار الكلمات 93.
(27) وسائل الشيعة ج1 ص36 من أبواب مقدمة العبادات الباب 6 ح رقم 6، هذا وقد استقينا هذا البحث المهم بتصرف من موسوعة نفحات الولاية في شرح نهج البلاغة ج5 ص391 لاستاذنا العلامة الكبير سماحة آية اللَّه العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(دام ظله).
(28) سورة فصلت: 53.
(29) ميزان الحكمة ج1 ص191 رقم الحديث 917.
(30) سورة الاسراء: 71.
(31) ميزان الحكمة ج8 ص68 رقم ح16125.
(32) نور الثقلين ج5 ص188 بتصرف في الرواية.
(33) جوامع الجامع للطبرسي عند الآية.
(34) سورة المائدة: 42.
(35) سورة الجن: 15.
(36) سورة الأنعام: 1.
(37) تفسير الرازي بتصرف ج29 ص243.
(38) المعجم الوسيط - قسط -.
(39)تفسير نور الثقلين ج5 ص189 بتصرف.
(40) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 250.
(41) بحار الأنوار ج 100 ص 9.
(42) شرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 275.
(43) فروع الكافي ج5 ص7.
(44) غرر الحكم طبعة ايران المترجمة حكمة 2157 باب الألف.
(45) سورة الأعراف: 157.
(46) سورة البقرة: 256.
(47) سورة ق: 45.
(48) سورة يونس: 99.
(49) تفسير نور الثقلين ح5، ص250، حديث رقم 100.
(50) سورة الأعراف: 26.
(51) سورة الزمر: 6.
(52) سورة الحديد: 25 المشار إليها سابقاً.
(53) تفسير الامثل ج5 ص7 بتصرف.
0 التعليق
ارسال التعليق