بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على محمد وآله.
من المسائل الابتلائية لآمّين البيت الحرام بمكة المكرمة ـ مسألة صحة الطواف من الطابق الأول(1)، وقد كتب سماحة الشيخ محمد جواد اللنكراني «سلّمه الله» رسالةً في هذه المسألة اختار فيها صحته منه وإجزاءه حتى في فرض الاختيار، وإليك ـ قارئ هذه الأسطر ـ الوجوه التي استدل بها على مطلوبه مذيَّلةً بما يمكن أن يورد به عليها سائلاً مولانا سبحانه التسديد في القول والفعل والقصد إنه نعم المولى ونعم النصير.
الوجه الأول من الوجوه التي استدل بها الكاتب الفاضل لجواز الطواف من الطابق الأول ـ ما رواه الصدوق «رضي الله عنه»قائلاً: «قال الصادق(ع): أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا(2) بدعوى عدم اختصاص هذه المرسلة بالاستقبال حال الصلاة، وأنها مطلقة دلّت بإطلاقها وبوضوح على أن الكعبة كما هي قبلة المصلي من تخوم الأرض إلى عنان السماء فهي أيضاً مطاف الطائف من التخوم إلى العنان، كما لا توجد قرينة في المرسلة على اختصاصها بالاستقبال حال الصلاة(3) سيما بعد أن يضم إلى المرسلة خبر عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(ع) قال : سأله رجل قال: صلّيت فوق أبي قبيس العصر فهل يجزي ذلك والكعبة تحتي؟ قال: نعم، إنها قبلةٌ من موضعها إلى السماء(4).
ويلاحظ على الاستدلال بالمرسلة أولاً: أنها في مقام تحديد أساس الكعبة لا تحديد نفس الكعبة، وكون أساسها ـ أي قاعدتها ـ من الأرض السابعة السفلى إلى أعلى طبقة من الأرض أجنبي عن محل الكلام، وهو دعوى امتداد نفس الكعبة إلى عنان السماء، فغاية مفاد المرسلة امتداد الكعبة في جهة السُفل، وعليه فيجوز الطواف مما دون أرض المطاف لو اتفق إنشاء مطافاً كذلك.
وثانياً: إن المرسلة ليست بصدد البيان من جهة ما يصح الطواف به ليكون مفادها أنه كما يصح الطواف بالبنية يصح بالمحاذي لها من جهة السفل والعلو، بل المرسلة ليست واضحةً في النظر حتى إلى حيثية الاستقبال.
ثالثاً: إن رواية الصدوق مرسلةٌ فلا تتناولها أدلة حجية خبر الثقة؛ لعدم تشخّص رُواتها فضلاً عن معرفة وثاقتهم، وجزم الصدوق بصدور الرواية المستفاد من إسناد القول إلى المعصوم(ع) غير كاف للاعتداد بهذه المرسلة(5).
رابعاً: إن رواية ابن سنان هي الأخرى ليست بصدد البيان من جهة ما يصح الطواف به، كما أنها لا تتحدث عن البيت «شرّفه الله» وأنه ممتد من الجانبين العلو والسفل ولا يختص بالبناء الموجود، بل واضحها التحدث عما يستقبل في الصلاة، على أن هذه الرواية ضعيفة السند لضعف طريق الشيخ «رضي الله عنه» إلى الطاطري بجهالة علي بن محمد القرشي.
الوجه الثاني: استبعاد وجود الفرق بين ما يستقبل في الصلاة وما يطاف به مع كون التكليف فيهما إلى البيت، فلما كان ما يستقبل في الصلاة ممتداً إلى عنان السماء ـ وهو أمر مفروغ عنه ومسلّم ـ فلا محالة يكون ما يطاف به كذلك(6) مستشهداً لعدم الفرق بأنه لو أزيل البناء لصحت الصلاة إلى الفضاء، ولما صحت إلى البناء الزائل، فأيضاً يجوز الطواف حول الفضاء الموجود ولا يسقط وجوبه في هذا الفرض(7).
ويرده: أنه لا ملازمة بينهما بمجرد كون التكليف فيهما إلى البيت، بعد أن قام الدليل على كون ما يستقبل في الصلاة يمتد إلى العنان، ولم يتم دليل على مساواة الطواف بالبيت لاستقباله في الصلاة بعد أن عرفت حال مرسلة الصدوق.
وأما ما ذكره الكاتب الفاضل «سلّمه الله» من الاستشهاد لعدم الفرق بين ما يستقبل في الصلاة وما يطاف به فهو مرتكز على دعوى عدم الفرق لا أن عدم الفرق بينهما مرتكز على الاستشهاد ليكون استشهاداً، هذا وفي فرض إزالة البنية ـ لا قدّر الله ـ فالصلاة إلى فضاء محل البنية صحيحة بعدئذ فرغنا من صحتها باستقبال فضائها المحاذي لها في جهة العلو على تقدير وجودها، إذ لا يحتمل الفرق والتفصيل في الصحة بأن نقول بعدم صحتها إلى فضاء البنية بدونها، وتصح إلى فضائها المحاذي في جهة العلو على تقدير وجودها، كما أن ما دل على أن قبلة المصلي من تخوم الأرض إلى عنان السماء يتناول فرض ما إذا أزيلت البنية، فتصح الصلاة إلى فضاء محل البنية، وأما الصلاة إلى البناء المزال فغير محتمل. وأما الطواف فلما كان دليله مثل قوله سبحانه {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فعلى تقدير إزالة البنية لما لم يحتمل سقوط وجوب الطواف فلا محالة يطاف بمحلها، وذلك لا يؤذن بجواز الطواف من الطابق الأول على تقدير وجود البنية. إذن فالفرق بين ما يستقبل في الصلاة وبين ما يطاف به موجود فتدبّر.
الوجه الثالث: الإحالة إلى العرف في صدق الطواف بالبيت على الطائف في الطابق الأول بلا مسامحة عرفية في الصدق، مضيفاً بأن الصدق ـ ولو بالمسامحة العرفية ـ كاف في حكم العقل بامتثال الأمر(8).
وفيه: أن الإحالة المذكورة ممنوعةٌ بعد عدم إحراز صدق الطواف بالبيت بالطواف من الطابق الأول، لو لم نقل بإحراز عدم الصدق. وقد تقدم من الكاتب الفاضل «سلّمه الله» الإقرار بما يلي: (إن قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ظاهرٌ في لزوم كون الطواف بنفس البيت لا بفضائها (كذا)... فقوله [طاف بالمكان] يعني أنه جعل المكان في وسطه لا فوقه ولا تحته) فعقّبه بقوله «نعم، وإن كان الظاهر كذلك إلا...»(9)، وهذا من الكاتب «سلّمه الله» كما ترى يناقض دعواه صدق الطواف بالبيت على الطواف من الطابق الأول فلاحظ. اللهمَّ إلا أن يكون الكاتب الفاضل «سلَّمه الله» بانياً على وهم ارتفاع جزء من الكعبة عن أرض الطابق الأول، والحال أنه قد تقدَّم بأن أرضه تعلو عن الكعبة بنحوٍ من قدم ثم إن ما أفاده من أن الصدق المسامحي كاف في حكم العقل بالامتثال ليس على إطلاقه، بل يتبع ذلك التلقي العرفي للخطاب، فإن تلقي العرف لخطاب يتعلق بكيلو غرام من الذهب يختلف عن تلقيه لنفس الوزن من التفاح، ففي الثاني يتلقاه بمسامحة في الوزن بنقيصة أو زيادة يسيرتين دون الأول فإنه يتلقاه ببالغ الدقَّة.
الوجه الرابع: استفادة عموم تنزيل الطواف منزلة الصلاة من النبوي «الطواف بالبيت صلاة»(10) قائلاً: «فإنه دال على أنه كما يمتد في الصلاة علواً وسفلاً فكذلك في الطواف»(11). وأضاف بأن الدليل على عموم التنزيل أنه قد استثني في الرواية مورداً واحداً، قال:«الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى قد أحل فيه النطق».
ويردُّ هذه الاستفادة أولاً: إن أقصى ما يستفاد من التنزيل المذكور هو تنزيل الطواف منزلة الصلاة في الشرائط والموانع، فما يعتبر في الصلاة من شروط فهو معتبر في الطواف، وما يمنع من صحتها يمنع من صحته إلا ما خرج بالدليل، ولما كان استقبال البيت غير معتبر في الطواف بل هو مانع من صحته أو أن عدمه معتبر فيه، فما في الاستقبال من التوسعة إلى العلو والسفل لا ينسحب على الطواف المعتبر فيه جعل البيت على يسار الطائف، وما جعله الكاتب الفاضل «سلّمه الله» شاهداً لما ذكره من التعميم فهو لما ذكرناه أوضح في الشهادة؛ فإنّ ملاحظة ذيل النبوي شاهدةٌ على أنّ الجهة التي ذكرناها هي الجهة المنظورة في النبوي.
ومنه تعرف النظر فيما قد يقال من أن مقتضى إطلاق التنزيل أن كل موردٍ يصدق فيه عنوان الصلاة شرعاً فيصدق فيه عنوان الطواف، وحيث تصدق الصلاة من الطابق الأول فكذلك الطواف.
وثانياً: إن الرواية نبوية لا وجود لها في مصادرنا الحديثية حاشا غوالي اللئالي، ودعوى استناد المشهور إليها الجابر لضعف سندها(12) ـ ممنوعة صغرى وكبرى، إذ ما أورده الكاتب «سلّمه الله» من كلمات لعلمائنا كشاهد لاستناد مشهورهم إليها لا تعبّر عن حالة شهرة، فإنّ منْ استعرض الكاتب «سلَّمه الله» كلماتهم ليسوا بالكثيرين، إذ لم يتعد عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، هذا فيما يرجع إلى صغرى الانجبار، وأما كبراه ـ بعد تسليم تمامية الصغرى ـ فهي دائرة مدار حصول الوثوق بالصدور وجوداً وعدماً، وعهدة ادّعاء حصول الوثوق بمنشأ استناد المشهور إلى روايةٍ ما على المدّعي نفسه، فكيف عندما لا يحرز استناد المشهور إليها كما هو الحال مع النبوي؟!
الوجه الخامس: «أنه لو كان الطواف مرتفعاً عن الكعبة غير جائز لصار هذا أيضاً حداً من جهة الارتفاع، ولكان اللازم على الشارع ذكره، كما ذكر الحد في جهة المسافة ومحيط الدائرة الأرضية، فمن عدم البيان نستكشف صحة العمل»(13).
ويردّه: بأنّه من غير اللازم على الشارع أن يبين كلّ حد على حدة، ومعه فيكفيه لبيان هذا الحد أن يقول: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} الظاهر ـ كما تقدم ـ في لزوم كون الطواف بنفس البيت لا بفضائه المحاذي له.
النتيجة: وقد تبيّن مما قدّمناه عدم نهوض شيء من الوجوه الخمسة لإثبات صحة الطواف من الطابق الأول، بل إنّ مثل قوله سبحانه {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(14) ظاهرٌ في عدم إجزاء الطواف من الطابق الأول فضلاً عن غيره؛ وذلك لدخالة بنية الكعبة في صدق الطواف بها لغةً ـ كما تقدّم ـ وعرفاً، وعليه فيتعيّن على منْ لا يطيق الطواف بفناء الكعبة أن يستنيب في طوافه غيره.
نعم لو قلنا بعدم جواز الطواف من الطابق الأول، لا للوجه الذي ذكرناه، بل لعدم إحراز مشروعيته، فلا يُفيدُ هذا الوجه القطعَ بالاكتفاء بالاستنابة بل يلزم الاحتياط بالجمع بينها وبين الطواف من الطابق الأول، ولعلّه الوجه في ذهاب بعض المراجع «أيّدهم الله» إلى اختيار الاحتياط.
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلى الله على محمد وآله.
العاشر من شوال لعام 1426هـ، عُدِّل وزيد عليه في الخامس والعشرين من جمادى الأولى 1428 هـ، قم المقدَّسة.
* الهوامش:
(1) وقد صارت هذه المسألة مثاراً للبحث وبنحو آكد منذ حج 1424 هجرية، حيث حظر إدخال الكراسي المتحركة والأسرة المحمولة إلى فناء الكعبة، وقد استفتي المراجع العظام (أيَّدهم الله) عمن لا يستطيع الطواف ماشياً بفناء الكعبة لعلة أو للزحام هل له أن يطوف من الطابق الأول والحال أن أرضه أرفع من الكعبة «شرّفها الله» بنحو من قدم واحد؟ فالطائف منه لا يطوف بالبنية المشرّفة بل بفضائها.
وممن استفتي سماحة السيد السيستاني «دام ظله» فأفتى بعدم كفاية الطواف من الطابق الأول فيما إذا كان أرفع من الكعبة المعظَّمة. ملحق مناسك الحج: 252، وعليه فتصل النوبة إلى أن يستنيب من لا يطيق الطواف غيره، بينما احتاط من تردد في كفايته وعدمها بالطواف من الطابق الأول مع الاستنابة، إلى جانب جزم البعض بكفاية الطواف من الطابق الأول بل جوّزه اختياراً.
(2) الوسائل4: 339 ب18 من أبواب القِبْلة ح3.
(3) رسالة في الطواف من الطابق الأول: 16.
(4) الوسائل4: 339 ب18 من أبواب القِبْلة ح.1
(5) فإن المحتملات في جزم الشيخ الصدوق(قده) بصدور الرواية إما تواترها في زمانه، وإما وصولها إليه بنقل ثقة عن ثقة وهكذا إلى المعصوم؛ لأصالة الحس، وإما لاحتفافها بقرائن أفادته الوثوق بصدورها ـ على الأقل ـ، والأول غير محتمل؛ إذ أنه إنما يتم في بعض الأحاديث التي كثُر نقلها، والثاني إنما يتم فرضه في إخبارات الصدوق إذا كان مسلكه حجية خبر الثقة، وأما لو كان مسلكه حجية الوثوق ـ كما يظهر من كتابه (الفقيه) ـ فلا مجال لهذا الحمل، كما أنه لا يتم أيضاً لو كان مسلكه هو حجية خبر الثقة؛ فإن القدر المتيقن لأصالة الحس في إخبار الثقة ـ بعد كون مدركها بناء العقلاء ـ هو ما إذا كان الخبر بلا واسطة، أما لو كان الخبر مع فاصلٍ زمانيٍ طويل بحيث يجزم بالوسائط فلا يحرز بناء للعقلاء على إجراء أصالة الحس في إخبار الصدوق «رضي الله عنه» بمعنى أنه يروي حساً عن ثقة، وحساً عن ثقة، وهكذا إلى المعصوم. والثالث إنما يتم لو فرض وصول القرينة المفيدة للوثوق ـ على الأقل ـ إلينا، وحيث لم يصلنا ما اعتدَّ بها من قرينة فقد لا تفيدنا فيما لو وصلتنا غير الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً.
(6) رسالة في الطواف من الطابق الأول: 18.
(7) رسالة في الطواف من الطابق الأول:21.
(8) رسالة في الطواف من الطابق الأول:22، 23.
(9) رسالة في الطواف من الطابق الأول:18، 19.
(10) غوالي اللئالي 2: 167.
(11) رسالة في الطواف من الطابق الأول، هذا الوجه غير موجود في كراس الرسالة المطبوع إلا أنه أدرج في نفس الرسالة على صفحة الكاتب «سلّمه الله» في الموقع الإلكتروني لسماحة المرجع اللنكراني «دام ظله».
(12) رسالة في الطواف من الطابق الأول كما تقدّم.
(13) رسالة في الطواف من الطابق الأول:24.
(14) سورة الحج:29.
0 التعليق
ارسال التعليق