الطفل والتربية الروحية

الطفل والتربية الروحية

مقدمة

لا يخفى ما للأسرة من أهمية كبيرة في بناء أيّ مجتمع إنساني، لأنّ الأسرة تعتبر هي اللّبنة الأولى في بناء المجتمع، وهي التي تغذّي المجتمع بكلّ مؤسّساته ومراكزه، فلا شك في أنّ الأسرة ترفد المجتمع بما تحمله من أفكار وثقافة، وتفرض عليه ما تفرضه من عطاءات ونتائج تربيتها، وما عليه واقع العلاقات في داخلها من حسن وقبح، وخير وشر، وصلاح وفساد[1].

ومن الواضح أنّ تربية الأسرة تربية صالحة لها انعكاساتها على المجتمع بشكل كبير، فبصلاح الأسرة يصلح المجتمع، وبفسادها يفسد المجتمع. من هنا أولى الإسلام أهمية كبيرة بالأسرة وتربيتها، وبيّن حقوق كلّ فردٍ من أفرادها، وصاغَ دستوراً تربويّاً يُقَوِّمُ العلاقات داخل الأسرة الواحدة، فبيَّن حقوق الزّوجة على زوجها, وحقوق الزّوج على زوجته، وحقوق الوالدين على الأولاد، وحقوق الأولاد على الوالدين، وأعطى للأسرة منهجاً أخلاقيّاً لتسير عليه.

من هنا أحببت أن أتطرّق في هذا البحث إلى التربية الروحية بالنسبة للأسرة، وبالخصوص تربية الأطفال؛ لما لهذا البحث من أهمية كبيرة، وأريد أن أبيّن كم أنّ للإسلام نظرة واسعة ودقيقة في هذا المجال، فإنّه وإن كان العلماء منذ القدم قد قاموا بإبراز ما جاء به الإسلام من قيم عالية تنمّي سلوك الفرد شخصياً واجتماعياً، فوُضعت الروايات والأحاديث الأخلاقية تحت مجهر العلماء الربانيين وكوّنوا أبحاثاً ودراسات عميقة تقوم بدورها بتربية الإنسان علمياً وعملياً في الجانب التربوي الروحي، إلا أنّ الملاحظ على هذه الدراسات والأبحاث أنها ركّزت على جانب تربية وتزكية النفس بالنسبة لنفس الشخص؛ وذلك لأهمية هذا الأمر كما هو واضح. ولكن ممّا يلفت الانتباه أنّ مكتباتنا الإسلامية لا يوجد فيها إلا القليل من الأبحاث التي تتطرّق إلى تربية الأسرة والأطفال روحياً، ككتاب (تربية الأولاد في الإسلام)[2]، و(موسوعة أحكام الأطفال وأدلتها)، وككتاب (أخلاق ناصري) للمحقق نصير الدين الطوسي، وهو لا يتعمّق كثيراً في هذا الجانب، فهو غير كافٍ في هذا المجال، فعالم الأسرة والأطفال عالم واسع وفيه تحديّات ومسؤوليات كبيرة ملقاة على ربّ الأسرة، فلا بدّ من تطوير هذه الأبحاث، وتعميق الدراسة فيها، والغور في بحار علوم أهل البيتi لاستخراج كل ما هو نافع في هذا المجال.

نحن لا نجد في العالم الإسلامي دراسات استقرائية لبعض النماذج من الأسر المسلمة في كيفية التعامل مع الأسرة والأطفال، وطرق التربية، وحلّ المشاكل، ولذا تجد أغلب القرّاء في هذا الجانب يعمدون لقراءة ما هو مطروح من دراسات أسريّة في دول الغرب، والتي هي بعيدة كل البعد عن ثقافة مجتمعاتنا وأسرنا، وهذا وإن كان الاطّلاع عليها نافعاً ومفيداً إلا أنه لا يلامس واقع أسرنا ومجتمعاتنا.

ولا شك بأنّ كل زوج وكل أبٍ يتراوده هاجس تربية الأولاد، لأنّ إنشاء الأسرة الصالحة يعتبر تحدّياً كبيراً بالنسبة له، فدائماً ما يجول في خاطره هذا السؤال: كيف أربي أطفالي تربية صحيحة صالحة؟

ومن هنا نحاول التطرّق إلى أهم الأمور المتعلقة بهذا الجانب.

معنى التربية

مفهوم التربية مفهوم واسع ذو مدلولات كثيرة يشمل تربية الفرد، وتربية الأسرة، وتربية المجتمع، وتربية الإنسانيّة كلّها، وتحت كلّ صنف من هذه الأصناف تتفرّع أنواع، وتندرج أقسام، وكذا كانت للتربية طرق وأساليب مختلفة، وكلّها تهدف إلى إقامة المجتمع الفاضل وإيجاد الأمّة المثلى، وما تربية الأولاد إلاّ فرع من تربية الفرد الذي يسعى الإسلام إلى إعداده وتكوينه ليصبح عضواً نافعاً في المجتمع، وإنساناً صالحاً في حياته الدنيويّة والأُخرويّة[3].

التربية لغةً: مشتقة من (ربا) بمعنى (زاد) و(نمى) و(ربّيتُ فلاناً أُربّيه تربيةً... بمعنى واحد)[4].

وهكذا تشتق التربية من الربّ الذي يطلق على المالك والسيّد والمدبّر، فيكون المعنى القيام بأمر الطفل على وجهٍ حسن[5]. وجاء بهذا المعنى في الكتاب العزيز في قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[6]، ومعناه: "ادع لهما بالمغفرة والرحمة في حياتهما جزاءً لتربيتهما إيـاك في صباك"[7].

وتعريف التربية عند علماء التربية يمكن استخلاصه من عدّة تعريفات بما حاصله: هي عملية يُقصد بها تنمية وتطوير قدرات ومهارات الأفراد من أجل مواجهة متطلبات الحياة بأوجهها المختلفة، أو هي عملية بناء شخصية الأفراد بناءً شاملاً كي يستطيعوا التعامل مع كل ما يحيط بهم، أو التأقلم والتكيّف مع البيئة التي يعيشون بها، وتكون التربية للفرد والمجتمع[8].

التربية في اصطلاح الفقهاء: يبدو أنّه لا يوجد فرق واختلاف في المعنى الاصطلاحي عمّا هو في اللغة، والشاهد على ذلك هو تعبير الفقهاء عن المرأة التي تقوم بشؤون الطفل من إرضاعه ونظافته وغير ذلك بـ(المربية).

قال في التذكرة: "المربية للصبي إذا لم يكن لها إلا ثوب واحد أجزأها غسله في اليوم مرةً واحدة -إلى أن قال:- الظاهر مشاركة المربي للصبي للمربية؛ إذ لا مدخل للأنوثة هنا"[9].

ومن ذلك تعريفهم للحضانة بأنّها تربيةٌ للطفل، مع أنّ الحضانة في الحقيقة مرحلة من مراحل تربية الطفل، والمعنى اللغوي يشملها.

قال في الرياض: "هي -أي الحضانة- ولاية على الطفل والمجنون؛ لفائدة تربيته وما يتعلّق بها من مصلحته: من حفظه، وجعله في سريره ورفعه، وكحله، ودهنه، وتنظيفه ..."[10].

حكم الشرع في تربية الأطفال وتعليمهم

من الواضح أنّ الطفل يكتسب التعاليم في بداياته من الأبوين، ولذا ورد عن النبيّe: >كلّ مولـودٍ يولد على الفطرة، فأبَوَاهُ يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه<[11]، ولا شك في أنّ هناك أموراً اهتمّ بها الإسلام بحيث لا يرضى بتفويتها كربط الابن بالإيمان باللهa وبالرسولe وبالعقائد الحقّة، وتربيته على الفضائل، واجتناب الرذائل والمحرّمات. فما هو حكم الشارع في هذه الأمور؟

آراء الفقهاء في وجوب التربية:

مما يجدر بالذكر أنّ الفقهاء لم يتعرّضوا إلى مسائل التربية والتعليم بشكل مستوعب وفي باب واحد، ويمكن استفادة الوجوب من بعض كلماتهم في أبواب مختلفة.

قال الشيخ الطوسي في الخلاف: "على الأبوين أن يؤدّبا الولد إذا بلغ سبع سنين أو ثمانياً، وعلى وليّه أن يعلّمه الصوم والصلاة"[12].

قال العلامة الحلّي في نهاية الإحكام: "فيجب على الآباء والأمهات تعليمهم -أي الأطفال- الطهارة والصلاة والشرائع بعد السبع"[13].

قال السيد الخوئي في صراط النجاة: "ينبغي على الأب تعليم أولاده الأحكام الشرعية والوظائف الدينية من الواجبات والمحرّمات"، وعلّق عليه الشيخ التبريزي: "بل لا يبعد الوجوب إذا تركوا الواجبات وفعلوا المحرّمات بسبب ترك التعليم. نعم، لا فرق في التعليم بين المباشرة والتسبيب"[14].

إذاً هذه جملة من كلمات فقهائنا العظام حول حكم التربية والتعليم، ومن الواضح أنّ وجوب تعليم الأولاد ما يمنعهم عمّا أوعد الله تعالى عليه النار كالشرك واجتناب المعاصي لا يتحقق غرضه إلا من خلال التربية الإيمانية والأخلاقية والعقلية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[15].

وأما آراء الفقهاء في الموارد التي يستحب تربية الطفل وتعليمه فيها، فكثيرة في كلماتهم، كتمرينه لأداء الصلاة والصوم والأذان، وحضور الجمعة والجماعة، وتسبيح الزهراءj، وإحجاجه، وتعليمه القرآن، وغير ذلك[16].

صفات المربي الناجح

كلّ عامل في مؤسسةٍ من المؤسسات لكي يكون مؤثّراً وناجحاً لا بدّ من أن يتوفّر على شروط وصفات معيّنة تؤهّله للعمل بصورة صحيحة وناجحة، كذلك العامل في مؤسسة الأسرة -الذي هو المربّي- لا بدّ من أن يتوفّر على شروط وصفات تؤهّله لأن يكون ناجحاً في عمله وفي تربيته لأولاده، فلا بدّ من الاطّلاع على هذه الشروط ومحاولة الحصول والتوفّر عليها، ونحن هنا نذكر أهمّها:

الصفة الأولى: الإخلاص والتقوى

لا بدّ للإنسان أن يكون في كلّ أعماله مخلصاً للهd؛ حتى يحظى بالعناية الإلهية والتسديد الربّاني، وبالتالي إذا أخلص نيّته في تربية أولاده، ونوى أن يؤهّل جنوداً للهa وأهل بيتهi، فإنّ الله تعالى لن يخيّب مسعاه حين يلتزم بالضوابط الإسلامية في التربية، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[17].

وكذلك التقوى هي ممّا يجب أن يتوفّر عليه المربّي الناجح، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[18]، وعن الأميرg: >التّقى رئيس الأخلاق<[19]، فالتقوى كما تشير الآية هي شرط في قبول الأعمال، ثم إنّه من حقّ التقوى أن تكون رئيس الأخلاق؛ لأهميتها في طريق السلوك إلى اللهa.

والتقوى في اللُّغة جاءت بمعنى الحماية والحفظ والمِنْعَة والحذر، وهي كما عرّفها الشيخ الطوسي: "التقوى خصلة من الطاعة يُحترز بها من استحقاق العقوبة"[20]، وكما عرّفها الشهيد الثاني: "التقوى امتثال أوامر الله تعالى وترك نواهيه"[21].

الصفة الثانية: العلم

لا شك في أنّ من أساسيات نجاح كلّ عمل أن يكون هنالك إلمام وعلم بتفاصيل ذلك العمل، فكذا المربّي لكي يكون ناجحاً عليه أن يكون على علم بأساسيات التربية الإسلامية الصحيحة، وأن يكون ملمّاً بأحكام التربية الشرعية، وآدابها وقواعدها، وإلا عاد جاهلاً في أساسيات ومبادئ التربية، وهذا ما سيؤدّي إلى انعكاسه على الولد نفسه، فإذا كان أساس التربية ليس متيناً فإنّ النتيجة لن تكون مرضيةً دائماً.

قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[22]، فلا نستوحش من الإكثار من القراءة والمطالعة في هذا الجانب[23]، وكذلك ينبغي الاستفادة من البرامج الإلكترونية واستماع المحاضرات التربوية المفيدة، فمن كان هدفه عالياً عليه أن يجاهد في سبيل تحقيق هذا الهدف.

الصفة الثالثة: الحلم

من الصفات المهمة التي يجب أن يتوفّر عليها المربّي الناجح هي صفة الحلم وكظم الغيظ والاتّزان في ردّات الفعل؛ فهي صفة مهمة وضرورية يتم من خلالها السيطرة على الطفل؛ إذ الطفل عندما يجد هذه الصفة في مربّيه فإنّه ينجذب إليه ويستجيب لأقواله، وهذا أمر في غاية الأهمية، لأنّه لن يتحقق غرض المربّي إذا كان الطفل لا يستجيب ولا يتفاعل معه.

قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[24].

الصفة الرابعة: حسّ المسؤولية

لا بدّ من أن يستشعر المربّي بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، وتأخذ من شعوره ووجدانه الحجم الكافي، فإنّ من مسؤوليات المربّي إعداد الجيل الصالح إيمانياً وسلوكياً، وتكوينه جسمياً وعقلياً، وإعداده فكرياً واجتماعياً. فهذا الإحساس إذا حصل فإنّه يدفعه إلى الجدّية في التعامل مع التربية الصحيحة، وعدم الغفلة عن الولد في كل فترات نشأته، وتسديد الولد وإرشاده وحمايته وغير ذلك.

ما هو المطلوب أن يكتسبه الطفل من خلال التربية؟

بعد اتّضاح أهم صفات المربّي الناجح، لا بدّ من أن يضع الإنسان له خطةً عملية يصل من خلالها إلى هدفه السامي، ولا يكتفي بالعشوائية في مسيرته التربوية، لأنّ العمل العشوائي لا يكون منتجاً غالباً وإن كان الهدف واضحاً ومحدّداً، إذ وضوح الهدف والرؤية لا تعني الوصول إليه، بل لا بدّ من سلوك المسار الصحيح للوصول إليه. وعليه ينبغي أن يكون هذا السؤال حاضراً مع المربّي في عملية التخطيط وهو: (ما هو المطلوب أن يكتسبه الطفل من خلال التربية؟)؛ حتى يتمكّن المربّي من السعي إلى إيجادها في الطفل.

ونذكر هنا باختصار أهمّ الأمور التي ينبغي للولد التوفّر عليها من خلال التربية:

الأمر الأول: العقائد الحقّة

إنّ من أوائل الأمور التي أمر الإسلام بها حين ولادة الطفل هو الأذان في الأذن اليمنى للمولود، والإقامة في الأذن اليسرى، وبذلك يكون أول ما يتلقّنه الطفل حين ولادته هو الشهادة بوحدانية الله تعالى، وبنبوة النبي|، وبإمامة أمير المؤمنينg.

ورد عن النبيe أنه قال: >من ولد له مولود فليؤذّن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليقم في اليسرى، فإنها عصمة من الشيطان الرجيم<[25].

فلا بدّ من أن يسعى الإنسان إلى تعليم الطفل العقائد الحقّة الصحيحة من أصول الدين، حتى يكون الولد بعدئذٍ مطمئن القلب، محتمياً بما لديه من معلومات عن كل ما يمكن أن يزلزل عقيدته ويؤدّي إلى انحرافه.

الأمر الثاني: الأخلاق الفاضلة

ونعني بالأخلاق الفاضلة هي تلك المنظومة السلوكية الموصلة إلى السعادة، والتي بها يتكامل الإنسان، والتي تكون ناشئة من العقيدة السليمة؛ إذ الإنسان عندما يكون اعتقاده صحيحاً ومتيناً فإنّ هذا الاعتقاد لا محالة ينعكس على سلوكه.

فمثلاً عندما يعتقد الإنسان أنّ اللهd هو الرازق والمدبّر، فإنّ هذا الاعتقاد ينعكس على سلوكه العملي؛ فتراه ينفق أمواله في البرّ، ولا يخشى الفقر والحاجة، وأما لو بخل بأمواله فهذا يكشف عن وهنٍ في اعتقاده.

ولذا لا بدّ للمربّي بعد أن يغرس العقائد الحقة في قلب الولد، أن يحاول تعزيز هذه العقائد عملياً وسلوكياً من خلال التأكيد على الأخلاق الفاضلة وربطها دائماً بالعقائد والصفات الإلهية؛ حتى تكون هذه الأخلاق ملكة راسخة عند الولد، كالحلم والصبر، والصدق والأمانة، والكرم والإنفاق في الخير، وبرّ الوالدين واحترام الآخرين، وصلة الأرحام ومساعدة الناس، وغير ذلك.

ولا يخفى عليكم أنّ من شروط التحلّي بالأخلاق الفاضلة هو (التخلّي عن الرذائل والأخلاق الذميمة)؛ حتى يكون القلب صافياً مستعداً لتلقّي الفيوضات الإلهية. ولا شك ولا ريب في أنّه لا يوجد أصفى وأنقى من قلب الطفل، فهو سليم الفطرة، له أهلية تلقّي الأخلاق الفاضلة والتحلّي بها بشكل أكبر، فاسعَ جاهداً أن تغرس فيه هذه الأمور منذ نعومة أظفاره، وقبل أن يتلوّث بكدورات الرذائل والذنوب، فإنّه في هذه الفترة في أَوْج الاستعداد لتلقّي هذه الأمور.

الأمر الثالث: الفكر السليم

تواجه الإنسان في مسيرة حياته العديد من الأفكار ومن شتى الناس، منها السليم ومنها السقيم، وهذا ممّا قد يسلب الإنسان صحة وسلامة تفكيره، إلا إذا تسلّح بسلاح العلم، فبالعلم يستطيع الإنسان أن يواجه تلك الأفكار الدخيلة على الإسلام، بل ويستطيع أن يفكّر ويطرح نظريات فكريّة ناشئة من صميم الإسلام.

فكلّ مربٍّ عندما يكون هدفه إعداد جيلٍ واعٍ ومثقف، ينبغي أن يساعد الطفل في طرح الأفكار السليمة، وإبعاده عن الأفكار السقيمة، فلا بدّ عليه من أن لا يُغفل جانب التعليم وإعطاء الطفل فرصة التفكير الصحيح، وإرشاده إلى الكتب والمجلات الصالحة في بناء الفكر السليم.

الأمر الرابع: الشخصية المتّزنة

من الواضح أنّ الإنسان في جلّ حياته يتعامل مع الناس والمجتمع، والمربّي لكي يُخرِّج إنساناً يُحسن التعامل مع الناس فعليه أن يعزّز روح الثقة في نفس الطفل من خلال الممارسات السلوكية والعملية، فيعطيه فرصة التحدّث، ويحاول أن يستشيره في بعض الأمور، وأن يثني على اختياراته، وإلى غير ذلك، وبالتالي تكون شخصية الطفل متّزنة أمام الناس، شخصية غير متطرفة، وغير منعزلة.

الأمر الخامس: المسؤولية والحسّ الاجتماعي

ينبغي على المربّي أن يضفي روح المسؤولية والحسّ الاجتماعي على الطفل، فلا ينبغي أن يكون الطفل فاقداً للمسؤولية بحيث يكون مستخفّاً بالأمور ومستهيناً في تأدية واجباته ومسؤولياته.

ولا بدّ من أنّ يتوقّد عنده الحسّ الاجتماعي، فيسعى في صلاح المجتمع، ولا يرضى بضعفه، بحيث يتحمّل مسؤولية بناء المجتمع والوطن بعدئذٍ، وهذا يحصل من خلال حثّه على صلاة الجماعة، وانخراطه في برامج التعليم الديني، وغير ذلك.

الأمر السادس: الجسم السليم

لعلّ الكثير من المربّين يُغفل جانب الصحة البدنية بالنسبة للطفل، مع أنّها من الأمور المهمة والأساسية التي تنمّي ذهن الطفل ونفسيته، وتجعله أكثر تقبّلاً للأمور التربوية والروحية.

ولا أعني بذلك أخذ الطفل في يومٍ أو يومين خلال الشهر إلى المنتجع أو الحديقة للتسلية وكفى، فإنّ ذلك جيّد في حدّ نفسه، ولكنه غير كافٍ في تقوية البنية البدنية لدى الطفل التي بها تقوى ذهنيته وقابليته الفكرية، بل أعني عمل برنامج صحي ورياضي وفق منهج صحيح وتحت إشراف المختصين بهذا الشأن، وبهذا نكون قد تجاوزنا مشاكل عديدة قد تطرأ على الطفل، كالاضطراب النفسي والنوم غير المنتظم، والكسل والخمول، وانتقلنا إلى مرحلة السكون النفسي والتوقّد الذهني، والنشاط والحيوية.

هذه هي أهم الأمور التي ينبغي للمربّي أن يسعى لإيجادها لدى الطفل من خلال عمليته التربوية، وأن يضعها تحت نظره، ويفكّر ويبحث عن طرق توصيلها للطفل.

من هنا يأتي السؤال التالي: (كيف أوصل هذه الأمور إلى الطفل وأربّيه عليها؟).

أساليب التربية

نستطيع أن نذكر جملة من الأساليب المؤثّرة والتي يمكن من خلالها أن تُسهّل على المربّي عملية التربية، ومن خلالها يستطيع تغذية الطفل روحيّاً ومعنويّاً، وليس من الجيّد للمربّي أن يجهل أو يتجاهل هذه الأساليب؛ لأنّه قد يسلك أساليب غير صحيحة في التربية لا تؤدّي إلى المطلوب، فعن أبي عبداللهg: >قال رسول اللهe: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح<[26].

وقبل الكلام عن أساليب التربية لا بدّ من التنبيه على أمر مهم وهو: أنّ الأساليب الآتية ينبغي أن يُراعى فيها سنّ الطفل واحتياجاته، فليست كل الأساليب صالحة في كل مرحلة من مراحل الطفولة، فقد قسّم أئمتناi هذه المراحل إلى أقسام، نذكر منها:

عن أبي عبداللهg: >الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلّم الكتاب سبع سنين، ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين<[27].

عن النبيe: >الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت خلائقه لإحدى وعشرين سنة، وإلا ضرب على جنبيه فقد أعذرت إلى الله<[28].

نعود الآن لذكر أساليب التربية المؤثّرة:

الأسلوب الأول: التربية بإحياء شخصية الطفل

من أهم العوامل التي تساهم في تربية الطفل سلوكيّاً وروحيّاً هو إحياء وبناء شخصية الطفل، وهي مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتق الأبوين والمربّين، فمن ترعرع في أسرة تعامله بالاحتقار وعدم الاهتمام وعدم الاحترام فإنّه لا يستطيع في المستقبل أن يبدي اتّزان شخصيته، ولا يستطيع الاعتماد على نفسه.

من هنا لا بدّ من بيان عوامل إحياء شخصية الطفل بشكل مختصر:

أ‌-    تسمية الطفل باسم حسنٍ:

عن الإمام الكاظمg: >جاء رجل إلى النبيe فقال: يا رسول الله ما حق ابني هذا؟ قال: تحسّن اسمه، وأدبه، وضعه موضعاً حسناً<[29].

إنّ للاسم أثر عجيب في بناء شخصية الإنسان، ولذا نجد من يكون اسمه جميلاً أو ينتمي إلى عائلة ذات اسم جميل يفتخر بذلك ويرتاح لذكره، بخلاف ما لو كان اسمه قبيحاً أو غريباً فنجد أنه يخجل من ذكره.

ب‌- احترام الطفل وحبّه:

عن النبيe: >أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم<[30].

يعتبر احترام الطفل وتكريمه من أهم العوامل المؤثّرة في بناء شخصية الطفل، حيث إنّ الطفل إذا وجد مربّيه يُفيض عليه الاحترام والحب فإنّه سيبادله ذلك الاحترام والحب بدرجة أكبر، وبالتالي سيكون مأسوراً لذلك الحب، بحيث تسهل على المربّي إنفاذ كلماته ونصائحه إليه.

عن أبي عبداللهg: >قال موسى بن عمرانg: يا ربّ أيّ الأعمال أفضل عندك؟ فقال: حبّ الأطفال؛ فإنّي فطرتهم على توحيدي، فإن أمتّهم أدخلتهم جنّتي<[31].

ت‌- الملاطفة والترحّم بالطفل:

عن النبيe: >وقّروا كباركم وارحموا صغاركم<[32].

لا بدّ للمربّين أن يتفهّموا طبيعة خلقة الطفل، فهو كائن صغير ضعيف، يحتاج إلى العطف والحنان، فإذا لم يجد من يسدّ هذه الحاجة في أسرته فإنّه سوف يلجأ إلى أطراف أخرى محاولاً سدَّ هذه الحاجة، ولا يُعلم من هي تلك الأطراف، فقد يجرّه القدر إلى أطراف صالحة، وقد يجرّه إلى عكس ذلك، فلماذا لا نقطع جذور الشرّ من أوّلها، ونحاول أن نغيّر من سلوكياتنا تجاه الأطفال، ونفيض عليهم ما يحتاجونه من الحبّ والحنان؟!

كيف أفيض على أولادي الحب والحنان؟

1-   تقبيل الأطفال بكثرة، فقد ورد في مكارم الأخلاق: >كان النبيe يقبّل الحسن والحسين وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول اللهe ثم قال: من لا يرحم لا يُرحم<[33].

2-   إدخال السرور على الأطفال، فقد ورد عن ابن عباس قال: قال رسول اللهe: >من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنّ من فرّح ابنته فكأنّما أعتق رقبة من ولد إسماعيل، ومن أقرّ بعين ابن فكأنما بكى من خشية الله، ومن بكى من خشية الله أدخله جنّات النعيم<[34].

3-  التوسعة على العيال، فعن الإمام زين العابدينg: >أرضاكم عند الله أسبغكم -أوسعكم- على عياله<[35].

ولكن ينبغي الالتفات إلى عدم الإفراط في محبّة الأطفال، بمعنى إفاضة الدلال الزائد عليهم؛ لأنّه سيؤدّي إلى عكس النتيجة المرجوّة، وسيكون عاملاً على التمرّد والإلحاح في طلب أمور قد لا تكون في صالحهم، ويورّث في الطفل صفة العجب واستبداد الرأي، ولذا حذّر الأئمةi عن الإفراط في محبّة الأولاد.

فعن الإمام الباقرg: >شرّ الآباء من دعاه البرّ إلى الإفراط، وشرّ الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق<[36].

ث‌-  حث الطفل على السؤال، فلا بدّ من أن يفسح المربّون المجال للطفل بالسؤال والكلام، وأن لا يُجيبوا إلا بعد انتهاء سؤالهم، ثم ليحاولوا أن تكون أجوبتهم تامة ومتقنة[37]، فهذا الأسلوب يُنمّي أفكار الطفل ويجعله أكثر ثقة بنفسه.

ج‌- فنّ الاستماع، فينبغي للمربّي أن يصغي لحديث الطفل ويُبدي له الاهتمام، وبهذا يستطيع الطفل أن يتكلم ويتحدّث بكل ما لديه، وهذا ممّا يجعله يكتس مهارة فنّ الاستماع إلى الآخرين أيضاً، وبه تنمو شخصيته.

الأسلوب الثاني: التربية بالقدوة والأسوة الحسنة

من الضّروريّ أن يتّخذ الإنسان لنفسه قدوةً صالحةً تسير به نحو الكمال، فمتى ما وَجَدَ من نفسه قد مالَت عن الجادّة والطّريق الصّحيحين رجع إلى قدوته لتصحّح له أمره، وتنير له الطّريق من جديد، فهي بمثابة صمّام أمان عن كلّ ما يعتري الإنسان من فتنٍ وأهواءٍ وغيرها، ولذلك جعل اللهُa رجاء رحمته ورجاء الفوز والسّعادة في اليوم الآخر معلّقٌ على اتّخاذ القدوة الصّالحة في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً}[38]؛ لأنّ القدوة الصالحة تضمَن للإنسان عدم انحرافه، ولأنّها هي التي تقوده إلى الطّريق والهدف الصّحيحين والكمال الحقيقيّ.

ولذا ينبغي للمربّي أن يكون قدوة صالحة للطفل، بل وينبغي أن يربط الطفل بشخصية كبيرة مؤثّرة بحيث تكون هي أيضاً بمثابة القدوة والمثل الأعلى للطفل، حتى يتأثر به وينجذب إليه، ويتخلّق بخلقه وسلوكياته.

الأسلوب الثالث: التربية عن طريق التكرار والعادة:

إنّ الأطفال لهم قابلية التعلّم بشكل أكبر من الكبار، ولذا فإنّ الشيء الذي لم يكونوا معتادين عليه فإنّه من خلال التكرار يصبح أمراً معتاداً، فالصدق عند تكراره يصير أمراً معتاداً كما أنّ الكذب كذلك، فالتربية من خلال العادة تعتبر من أركز دعائم التربية؛ إذ هذه العادة ستظل مصاحبة للطفل في أغلب فترات حياته. يقول أمير المؤمنينg: >للعادة على كل إنسان سلطان<[39].

الأسلوب الرابع: التربية عن طريق الموعظة

الموعظة عبارة عن الوصية بالتقوى، والحثّ على الطاعات، والتحذير من المعاصي والاغترار بالدنيا وزخارفها، والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب[40].

لو تتّبع الإنسان القرآن الكريم لوجد أنّه مليء بأساليب الوعظ في الدعوة إلى الدِّين الإلهي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ}[41]؛ فالموعظة الحسنة لها الأثر الكبير في نفس المتلقّي، ولكن شريطة أن تكون بالكيفية المناسبة، بأن يعظه سرّاً، ويبتعد عن الخشونة والغلظة بأن تكون الموعظة مع اللّين واللطف، وعدم التصريح بالفعل، وأن تكون الموعظة واضحة سهلة الفهم، لا ثقيلة يصعب فهمها.

ولنا في هذا الطريق والمنهج أن نتّخذ لقمان الحكيم قدوة، فمواعظه لابنه ما زالت تُبحَث وتُدرس؛ لما لها من قوّة التأثير، ولما فيها من الحكم الثمينة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[42].

تلاحظ أنّه ابتدأ في وعظه بأعظم المسائل الاعتقادية وهي التوحيد؛ لأنّ أساس التربية والتزكية الروحية مرتكز على التوحيد وإخلاص العقيدة.

الأسلوب الخامس: التربية عن طريق التشويق

يعتبر أسلوب التشويق من العوامل المؤثّرة والدافعة نحو النشاط والجدّ، فينبغي على المربّين أن يتّخذوا هذا الأسلوب في أثناء تربيتهم للأبناء، وحثّهم على الطاعة وعدم المعصية عن طريق ذكر أمور فيها تشويق كالجنّة وما فيها من خيرات، بل حتى ترغيبهم بأمور مادية؛ فإنّ الطفل يستأنس بهذه الأمور وإن كانت بسيطة، ثم عليه أن يمدح عمل الطفل بعد إنجازه، وأن لا يخلف وعده له.

والمتأمّل في آيات القرآن الكريم يجد الكثير من الآيات التي فيها تشويق وترغيب، كقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[43]، وكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً}[44].

ولكن ينبغي أيضاً الالتفات إلى أنّ الإفراط في التشويق له انعكاساته السلبية، لأنّ كثرته قد توجب التملّق والملل.

الأسلوب السادس: التربية عن طريق القصة

تعتبر القصة من العوامل الجذّابة للطفل، فالطفل ينشدّ للقصة أكثر من غيرها؛ لما فيها من إثارات وتشويق وخيال، فلا مناص للمربّي من أن ينتهج أسلوب القصة محاولاً تصوير أحداث النبيe والأئمةi بأسلوب شيّق وجذّاب، وكذا يسرد له قصص العلماء والصالحين؛ فإنّ لهذا الأمر أثر كبير في نفوس الأطفال. وما أكثر القصص الموجودة في القرآن التي تجعل القارئ وكأنّه يعيش في تلك الأزمان.

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الأطفال الصغار -عادةً- لا يميّزون بين الواقع والخيال، ممّا يجعلهم يصدّقون كلّ ما يُقال لهم من قصص، وهذا ممّا يفرض علينا أن لا نتعاطى مع القصص -خصوصاً الدينية منها- بالكثير من الخيال.

ثم إنّه لا ينبغي استعمال الأسلوب القصصي الذي فيه وعظٌ ثقيلُ المعنى، بحيث يصعب على الطفل تلقّيه واستيعابه، بل لا بدّ من استخدام الأسلوب السهل الشيّق.

الأسلوب السابع: التربية بالملاحظة

والمقصود بالتربية بالملاحظة هو ملازمة الطفل ومراقبته في الإعداد العقائدي والأخلاقي والنفسي والاجتماعي والعلمي والصحي، والاستمرار في السؤال عنه، وعدم إهماله، فإن وَجد منه خيراً شجّعه وأكرمه، وإن وَجد منه شرّاً أو تقصيراً نهاه عنه.

فالولد إذا أحسّ بالرقابة فإنّه تلقائياً تجده يسلك السلوك الصحيح ويبتعد عن السلوكيات الخاطئة، وقد حضّ الإسلام على ملازمة الأهل والأولاد ووقايتهم، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[45]، فكيف يقي المربّي أطفاله إذا لم يراقبهم ويلاحظهم ويرشدهم؟!

الأسلوب الثامن: التربية بالعقوبة

هذا الأسلوب هو ممّا تُغفله أغلب الكتب التربوية، بل تعدّه بعض المناهج والدراسات من الأساليب المتخلّفة، فهل هذا الأسلوب صحيح في نظر الإسلام أو لا؟

نقول: لا تخلو دولة من الدول من وجود عقوبات على من يخالف الأنظمة والقوانين، فالعقوبة هي العلاج الحاسم لمعالجة الشعوب وتصحيح أخطائها، وإلا فلولا العقوبات لكثر الهرج والمرج، فإذاً العقوبات أمر عقلائي وراجح لحفظ الشعوب والمجتمعات، وليس لأحد إنكار أهمية هذا الأمر العقلائي.

وبالنسبة إلى تربية الأطفال فالأمر كذلك، فقد جعل الإسلام من هذا الأسلوب آخر طريق لعلاج انحراف الأطفال، فلا بدّ للمربّي أن يسلك كل السبل في محاولة إصلاح وتقويم اعوجاج الطفل وتهذيبه، فإن لم ينفع كل ذلك فعليه أن يسلك طريق العقوبة كحلّ، فلا بأس لأن يلجأ المربّي إلى طريق التأديب حفظاً للطفل نفسِه، فهذا أمر راجح وعقلائي، ولكن مع ملاحظة التدرّج في التأديب وملاحظ سنّ الطفل وطبيعته، فبعض الأطفال تكفي معهم النظرة العابسة، وبعضهم يحتاج إلى التوبيخ، وبعضهم يحتاج إلى الحرمان من أمرٍ ما، وبعضهم يحتاج إلى الضرب المؤدِّب، وهكذا.

عن الإمام الصادقg: >دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدّب سبع سنين، والزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح وإلا فلا خير فيه<[46].

ولكن ينبغي الالتفات إلى حكم الشرع في مسألة التأديب والضرب، حيث ذكر الفقهاء عدّة ضوابط في مشروعية التأديب بهذا النحو لا ينبغي تغافلها، نذكرها استلهاماً من استفتاءات الفقهاء:

أولاً: أن يتوقّف التأديب على الضرب، وأن يكون بداعي التأديب والتقويم لا بداعي التشفي والانتقام.

ثانياً: أن يكون المباشر في التأديب بالضرب هو الولي، فليس للأم ولا المعلّم أن يؤدّب الصبي إلا بإذن ولي الأمر.

ثالثاً: أن لا تزيد الضربات عن ثلاث (وهو أحوط الأقوال).

رابعاً: أن لا تُخلِّف احمراراً أو اخضراراً أو اسوداداً.

خامساً: أن يكون سنّ الصبي دون سنّ البلوغ، وإلا لزم أخذ الإذن من الحاكم الشرعي[47].

أمور عامة ينبغي الابتعاد عنها أثناء التربية

1-  تلقين الطفل معلومات خاطئة:

ينبغي على المربّين السعي في التعلّم على جميع الأصعدة، العقائدية والأخلاقية والفقهية؛ حتى لا يُلقّنوا أولادهم معلومات خاطئة ينشؤون معها ويكبرون عليها.

2-  التشدّد في إلزام الأولاد جميع الوظائف الدينية:

قد يسبّب حرص الوالدين على امتثال أولادهم الواجبات الدينية والتدقيق عليها ابتعاد الأولاد عن الأجواء الدينية، فالطفل قد يشعر بالضيق حيال هذه التصرفات المتشدّدة، فلا بدّ -بدلاً من ذلك- من تنمية روح الأنس باللهd بالأسلوب اللّين اللطيف والكلام العذب؛ حتى يأتي بالواجبات عن رغبة، فإنّ هذا الأسلوب أكبر وقعاً في نفوسهم.

عن يونس بن رباط عن أبي عبداللهg قال: قال رسول اللهe: >رحم الله من أعان ولده على برِّه. قال: قلتُ: كيف يُعينه على برِّه؟ قال: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يُرهِقه، ولا يَخرَق به...<[48].

3- التعقيدات الزائدة:

بعض المربّين يلجؤون إلى طرح أمور لا حاجة ملزمة لها في حياة الطفل؛ بحجّة تعليم الطفل بأنّ الدين أمر مقدّس، غير واعين بأنّ هذه الأمور قد تشكّل تعقيدات للطفل لعلها تجعله يبتعد عن الأمور الدينية في المستقبل.

4-  إهمال احتياجات الطفل الفطرية:

يُلاحظ أنّ بعض المربّين يعيشون حالة الإفراط في التركيز على الجانب المعنوي للطفل، متناسين أو متغافلين احتياجات الطفل وميولاته إلى الحركة واللعب التي تقتضيها مرحلة الطفولة، فالأفضل هو خلق التوازن بينهما، فلا إفراط ولا تفريط، فينبغي أن نلبّي للطفل حاجاته الطفولية مع تطعيمها بالروح المعنوية.

مشاكل تربوية وكيفية علاجها

الآن نأتي إلى بيان أهم المشاكل والعقبات التي قد تواجه المربّي أثناء تربيته للأولاد، ونحاول أن نسلّط الضوء على أهمّ الأسباب في ذلك؛ حتى نستطيع تفاديها، ومن ثمّ نذكر بعض العلاجات لهذه المشاكل؛ حتى أنّه على فرض حصولها نكون على إلمام بكيفية التعامل معها.

أولاً: المشاكل العقائدية

قد تواجه المربّي أثناء تربيته للأولاد مشاكل عقائدية ناتجة عن المحيط التي يعيش فيه الولد، مع انتشار الكتب والقنوات الإعلامية الإلحادية بشتى أنواع وسائل التواصل الاجتماعي، فالابن الذي يدفعه والده إلى المدارس الأجنبية غير الإسلامية والتبشيرية فإنّه بلا شك سوف يتأثّر بأفكارهم وثقافاتهم، والابن الذي تركه والده يشاهد ما يشاء في شاشات التلفاز، ويقرأ ما يشاء من كتب الضلال فإنّه بلا شك يتأثّر بأفكار ضلال، والأب الذي يترك ابنه يصادق من يشاء ويرخي له العنان ليرتبط مع أصحاب الأفكار الضالة كالعلمانيين والحداثويين وغيرهم فإنّه بلا شك سوف يتأثّر بهم، وقد تنطلي عليه بعض الشبهات العقائدية.

من هنا لا بدّ للمربّي أن يقوم بعدة تحصينات في هذا الجانب:

1-   أن يُرشد الولد إلى الإيمان بالله.

2-   الاستمرار في تثقيف الولد منذ الصغر حتى الكبر بالأمور الاعتقادية بما تناسبه مرحلة الولد العمرية.

3-  توفير الكتب العقائدية المناسبة لمرحلة الطفل، والتشجيع على قراءتها بشتى الطرق، وكذلك توفير المحاضرات المصوّرة، والأفلام المفيدة في هذا الجانب.

4-   ربط الولد بالعبادة وروح الخشوع والقرآن وحبّ أهل البيتi.

5-   ربط الولد ببيوت الله تعالى.

ثانياً: المشاكل الأخلاقية

ممّا لا شك فيه أنّ الفضائل السلوكية والخلقية إنّما تنتج عن العقائد الراسخة الحقّة والتنشئة الدينية الصحيحة؛ فالطفل بعد أن تربّى على الإيمان باللهd والخشية منه، تصبح عنده ملكة فطرية تجنّبه عن الصفات القبيحة.

ولكن قد يتأثر الطفل بعوامل أخرى توقعه في بعض الانحرافات السلوكية، فتظهر بعض المشاكل التي لم تكن في الحسبان والتي قد تكون خارجة عن السيطرة، كالكذب، والسباب والشتم، والسرقة، والميوعة وغيرها.

فلنأتِ إلى ذكر بعض هذه المشاكل محاولين إيجاد طرق لعلاجها:

المشكلة الأولى: الكذب

لقد حذّر الإسلام من الكذب ومساوئه كثيراً، فالكذب يعتبر من المحرّمات في الإسلام، ولا تخفى عليكم ما يترتّب على الكذب من رذائل، فقد ورد عنهمi: >إنّ اللهa جعل للشرّ أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرّ من الشراب<[49]، بل أمر الإسلام بالابتعاد عن الكذب جدّه وهزله، فقد ورد عنهمi: >لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجدّه<[50]، فالكذب من أقبح الظواهر في نظر الإسلام.

ولذا كان من اللازم على المربّين حماية الأولاد من آفة الكذب؛ إذ {إنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}[51]، من هنا نحاول أن نصوّر بعض الأمور التي يمكن أن تكون أسباباً في بروز هذه الظاهرة لدى الأولاد:

1-  السبب الأول: عدم التزام المربّي بالصدق في جميع أحواله

لعلّ الولد يرى أنّ مربّيه قد يتهاون ويكذب في بعض الحالات، كما إذا جاءت مكالمة هاتفية تسأل عن وجود الأب في المنزل أو لا، فيقول الأب لابنه: قُل لهم بأنّي لست موجوداً. وغير ذلك من الحالات، وبالتالي فالولد سيتهاون في هذه المسألة أيضاً.

2-  السبب الثاني: إساءة استخدام أسلوب العقوبة

إنّ عدم معرفة كيفية استخدام العقوبة كوسيلة في التربية والتأديب يؤدّي إلى بروز ظواهر غير صحيحة في سلوكيات الأولاد، فينبغي قبل استخدام هذا الأسلوب من دراسة جميع الحيثيات المترتبة عليه، ومعرفة الوقت والمكان المناسبين له؛ إذ لعلّ هذا الأمر يؤدّي بالولد إلى أن يكذب هرباً من العقوبة.

3- السبب الثالث: مرافقة الكذّاب

وقد يكون هذا الأمر سيّالاً في جميع المشاكل الأخلاقية، لأنّ رفيق السوء مؤثّر لا محالة على سلوكيات الولد، قال الإمام علي بن الحسينg لبعض بنيه: >يا بنيّ انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق، فقال: يا أبتِ مَن هم عرّفنيهم؟ قالg: إياك ومصاحبة الكذّاب، فإنّه بمنزلة السراب، يقرّب لك البعيد، ويبعّد لك القريب...<[52].

بعض العلاجات:

1-   على المربّين أنفسهم أن يجتنبوا الكذب أمام الأولاد ولو بقصد الإلهاء أو الممازحة.

2-   بيان فضائل الصدق ورذائل الكذب عن طريق القصص والروايات، وذكر النبي| كمثال أبرز للصدق والأمانة.

3-  تشجيع الأولاد على الصدق بشتى الوسائل المتاحة.

4-   نهي الأولاد عن مصاحبة رفقاء السوء، ومتابعة ذلك باستمرار.

المشكلة الثانية: السرقة

تعتبر ظاهرة السرقة أيضاً من الظواهر الخطيرة في المجتمعات، والولد إذا لم ينشأ على الخشية من اللهd والإحساس بمراقبته تعالى له، ولم يتعوّد على الأمانة وعدم ظلم الآخرين، فإنّه يكون عرضةً للانزلاق في هذه الظاهرة السيّئة.

ونحن هنا أيضاً نذكر بعض الأسباب لهذه الظاهرة وكيفية علاجها:

1-  السبب الأول: عدم تربية الطفل تربية صالحة

إذا لم تُزرع في قلب الطفل روح الخشية من اللهd، وعدم شعوره بأنّ الله تعالى يراقب الإنسان في كل مكان وزمان، قد يؤدّي إلى تهاونه في مسألة السرقة.

2-  السبب الثاني: تهاون بعض المربّين في مسألة الغش

قد يجد الطفل أباه أو أمّه يغشّون الناس في معاملاتهم ويحتالون عليهم طمعاً في جني بعض الأموال، كمن يحاول إخفاء بعض العيوب في المبيع ليزيد ربحه، أو يحاول التهرّب من تسديد حقوق الناس، وغير ذلك من الأمور التي قد يبرّرونها لأنفسهم بأنّها ليست من السرقة، فهذا يعطي شعوراً في نفس الطفل بأنّ هذا الأمر ممّا يُتهاون به، وبالتالي يتهاون في مسألة السرقة وما هو أكبر من السرقة أيضاً.

3- السبب الثالث: عدم إشباع حاجات الطفل المادية

هذا السبب تارة يكون قهريّاً كما في حالات الفقر، وتارة يكون عن تقصير، ولكن نقول بإيجاز: لا بدّ من سدّ احتياجات الأولاد المادية بما يناسب الحال، فالطفل -عادةً- ينظر إلى ما لدى رفقائه من ماديّات، ويشتاق للحصول عليها، فإذا لم يجد طريقاً للحصول عليها، ولم يكن متحصّناً بتقوى الله والخشية منه، فإنّه سيحاول الحصول عليها بطرق غير مشروعة.

4-  السبب الرابع: عدم زجر الطفل عند سرقته لشيء ما قد يؤدّي إلى تكرّر هذه الحالة

يحكى أنّ إحدى المحاكم الشرعية حكمت على سارق بعقوبة قطع اليد، فلما جاء وقت التنفيذ قال لهم بأعلى صوته: قبل أن تقطعوا يدي اقطعوا لسان أمي؛ فقد سرقتُ أول مرّة في حياتي بيضةً من جيراننا فلم تؤنّبني، ولم تطلب منّي إرجاعها إلى الجيران، بل زغردت وقالت: لقد أصبح ابني رجلاً ولله الحمد!، فلولا لسان أمي الذي زغرد للجريمة لما كنت في المجتمع سارقاً.

بعض العلاجات:

1-   غرس روح الإيمان في نفوس الأولاد، وإشعارهم بأنّ اللهd رقيب عليهم في كل مكان وزمان.

2-   بيان مدى أهمية الأمانة وكيف أنّ النبيe قد تميّز بين قومه بالأمانة، وهذا ممّا ساعده في نجاح دعوته الإسلامية.

3-  المحاولة قدر المستطاع في التوسعة على العيال.

4-   عدم التساهل مع هذه الظاهرة، ولا بدّ من ردعها بالشكل المناسب؛ لأنّ التساهل فيها يؤدّي إلى تكرار هذه الحالة (من أمن العقوبة أساء الأدب).

المشكلة الثالثة: السباب والشتم

أيضاً من المشاكل التي قد تواجه المربّي أثناء تربيته للأولاد مشكلة السبّ والشتم، فتجد الطفل يتفوّه بألفاظ غير مناسبة أمام الآخرين، ممّا يؤدّي إلى نفور الناس منه والنظر إليه بنظرة سلبية قد تؤدّي إلى عواقب وخيمة في المستقبل على نفسية الطفل.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أمور:

1-  الأمر الأول: القدوة السيئة

فالولد عندما يسمع كلمات الفحش من أبويه فإنّه سيصدر منه في النهاية كلام فاحش وغير لائق.

2-  الأمر الثاني: المشاجرة بين الوالدين

الإنسان حينما تنفلت أعصابه عن زمام الأمور فإنّه قد يرتكب الكثير من الحماقات، ولذا وردت الأحاديث الكثيرة المحذّرة من الغضب، فقد ورد أنّ >الغضب مفتاح كل شر<[53]، وأنّ >الغضب يفسد الألباب، ويبعد عن الصواب<[54]، و>إياك والغضب؛ فأوله جنون، وآخره ندم<[55].

ولذا فإنّ الزوجين إذا لم يكظما غيظهما وبدأوا بالمشاجرة أمام الأولاد، فإنّه ستصدر منهما أفعال وألفاظ غير لائقة، وبالتالي سوف يتلقّاها الأولاد ويتعلمونها.

3- الأمر الثالث: مشاهدة القنوات غير المناسبة في التلفاز

عندما يُترك الطفل ليشاهد ما يشاء في التلفاز من مسلسلات وأفلام غير لائقة، وفيها ما لا يحصى من الألفاظ البذيئة، فإنّ الولد سيتأثّر بمثل هذه الأمور.

4-  الأمر الرابع: الرفقة الفاسدة

ولعلّه أهم سبب في هذا الجانب، فالولد يذهب إلى المدرسة، ويذهب إلى المعاهد، ويخالط الناس في الشارع، فإذا أُلقي وتُرك لرفقاء السوء كيفما شاء، فإنّه من الطبيعي أن يتعلّم منهم لغة السبّ والشتم والفحش، ويتربّى على أقبح العادات.

بعض العلاجات:

1-   إبراز القدوة الصالحة للأطفال في حسن الخطاب وتهذيب اللسان وجمال التعبير.

2-   تجنّب المشاجرة أمام الأولاد، ومحاولة عرض المشاكل ومناقشتها بعيداً عنهم.

3-  تجنيب الأطفال صحبة رفقاء السوء.

4-   تلقين الأطفال الأحاديث المعصوميّة الناهية عن السباب والشتيمة، وتوضيح ما أعدّه الله تعالى لهم من إثم وعقاب كبيرين.

5-   انتقاء البرامج التلفزيونية المناسبة للأطفال.

تنويه:

هذه العلاجات تأتي فيما لو كانت هناك ظاهرة عند الطفل باستخدام الكلمات البذيئة والسب والشتم.

وإلا فإنّ التربويِّين ينصحون بالإعراض عن الطفل لو صدرت منه كلمة بذيئة بغير قصد قد سمعها بشكل عارض، لأنه قد يكون أمره ونهيه بعدم التلفّظ بها مدعاة لتركيزها في ذهنه، أو عناده وتمرّده والبوح بها مجدداً.

ثالثاً: المشاكل النفسية

من الأهداف الرئيسية في التربية أن تُنتج أولاداً يمتلكون صفات الشجاعة والجرأة، والانضباط عند الغضب، والشعور بالكمال، وحبّ الخير للآخرين.

ولكن هناك ظواهر تمرّ على الأولاد لا بدّ للمربّي أن يلتفت إليها حتى يتفادى حصولها، ثم إنّه إذا حصلت فإنّه يعرف كيفية التعامل معها.

المشكلة الأولى: ظاهرة الخجل

تعتبر ظاهرة الخجل من الظواهر المتفشّية عند الأولاد، بل قد تكون أمراً طبيعياً في بداية حياة الطفل، ولكنّ استمرار هذه الحالة يعدّ أمراً غير جيّد؛ لأنه سوف يُعيقه عن التطوّر في حياته بشكل سليم.

ولعلّ الأسباب في ذلك ترجع إلى عامل الوراثة، أو عدم محاولة خلط الولد مع غيره من الأطفال وفئات المجتمع، أو عدم محاورة الولد من قبل والديه وترك الحرية له في الكلام والتعبير، وغير ذلك.

فالعلاج الأنسب لهذه الظاهرة هو تعويد الولد على مخالطة الأولاد الآخرين، واصطحاب الولد مع الوالدين أثناء زيارة الأقارب والأصدقاء، وأخذه إلى المساجد والحسينيات، ومحاولة التحدّث معه أمام الآخرين حتى يتحرّر من شعور الخجل الذي يعيشه، وعدم تأنيبه أمام الآخرين لأتفه الأمور.

وينبغي التفريق بين الخجل والحياء، فالخجل هو انكماش الولد وانطواؤه عن ملاقاة الآخرين، أما الحياء فهو فضيلة أخلاقية وأدب من آداب الإسلام.

"يحكى أنّه قد قحطت البادية في أيام هشام بن عبد الملك فقدمت عليه العرب فهابوا أن يتكلّموا وفيهم (درواس بن حبيب) ابن ست عشرة سنة، له ذؤابة وعليه شملتان، فوقعت عليه عين هشام فقال لحاجبه: ما يشاء أحد أن يدخل عليّ إلا دخل حتى الصبيان! فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقاً فقال: يا أمير المؤمنين إنّ للكلام نشراً وطيّاً، وإنه لا يُعرف ما في طيّه إلا بنشره، فإن أذنت لي أن أنشره نشرته. قال: انشر لا أبا لك! وقد أعجبه كلامه مع حداثة سنه فقال: إنّه أصابتنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنفقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، فإن كانت لله تعالى ففرّقوها في عباده، وإن كانت لهم فعلامَ تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدّقوا بها عليهم فإنّ الله يجزي المتصدقين. فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذراً. فأمر البوادي بمائة ألف دينار وله بمائة ألف درهم.

فقال: أردُدْها يا أمير المؤمنين إلى جائزة العرب فإنّي أخاف أن تعجز عن بلوغ كفايتهم. فقال: أما لك حاجة؟ قال: مالي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين. فخرج وهو أنبل القوم"[56].

نلاحظ مدى جرأة وحذاقة هذا الصبي المذكور في القصة الذي لو كان الخجل مسيطراً عليه لما أمكنه التحدّث بهذه الطلاقة، ولما أمكن لطاقاته الكامنة في نفسه من التفجّر والانطلاق، فالخجل يعتبر من أكبر عوامل حبس الطاقات وفتورها، فلعلّ الطفل لديه من الطاقات والإمكانات ما لا يعلمها إلا الله تعالى، إلا أنّ الخجل يمنعه من إبرازها وتطويرها والاستفادة منها، فعلينا الالتفات إلى هذه الظاهرة وعواملها، ومحاولة التخلّص منها.

المشكلة الثانية: ظاهرة الخوف

حالة الخوف ليست مختصة بالأطفال، بل هي تبرز لدى الصغار والكبار. وحالة الخوف لدى الأطفال تارة تكون إيجابية وأخرى تكون سلبية:

تكون إيجابية حينما تُعدّ هذه الحالة ضمن الإطار الطبيعي ولا تتجاوزه، بحيث تكون هذه الحالة وسيلة لحماية الطفل من الأخطار والحوادث.

وتكون سلبية إذا تجاوزت الحدّ الطبيعي؛ لأنّها ستُسبِّب قلقاً نفسياً لدى الطفل، وقد تزداد معه هذه الحالة إلى حدٍّ يصعب علاجها بعدئذٍ.

ويمكن أن نذكر عدة أسباب لهذه الظاهرة لا على سبيل الحصر:

1-   تخويف الأم وليدها بالأشباح والظلام وغير ذلك.

2-   قلق الأم الزائد وتحسّسها الشديد.

3-  تعويد الطفل على الانطوائية والعزلة بالمنزل.

4-   سرد القصص الخيالية المخيفة.

5-   مشاهدة أفلام الرعب.

بعض العلاجات:

1-   تربية الولد على الإيمان بالله تعالى والتسليم لأمره، قال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}[57].

2-   إعطاء الولد فرصة تحمّل المسؤولية والاعتماد على النفس بحسب مقدرته ونموّه.

3-  عدم إخافة الولد -خاصة إذا كان يبكي- بالوحوش، واللصوص، والجنّي وغير ذلك، محاولاً إسكاته بهذه الأمور.

4-   تعريف الطفل -بطريقة مناسبة- بالشيء الذي يخاف منه، وأنّه ليس أمراً ممّا يستدعي الخوف منه.

5-   ذكر قصص البطولة والشجاعة للنبيe والأئمةi وسائر الصحابة الشجعان.

خاتمة

في ختام هذا البحث نختار جملة من الأسئلة مرتبطة باللهd عادةً ما يسألها الأطفال، وقد تُسبّب حرجاً للمربّين حيث إنّهم لم يكونوا على أهبّة الاستعداد للجواب عنها، ولذا نذكر هذه الأسئلة محاولين الإجابة عنها.

السؤال الأول: من هو الله؟

والجواب عنه يتّضح بعد ملاحظة عدّة أمور:

1-   حاول أن لا تجيب بكلمات مغلقة غير مفهومة بالنسبة للطفل، كالأزلي، الأبدي، واجب الوجود، المقدّس، بل لا بدّ أن تكون الإجابة متناسبة مع مرحلة الطفل العمرية.

2-   معرفة اللغة التي يفهمها الطفل، فمثلاً هو قبل سنّ السادسة يفهم كلمات مثل: (الحنون، الكبير، الطيّب، وغير ذلك)، وما فوق سنّ السادسة يفهم كلمات مثل: (القادر، في كل مكان، الكامل، وغير ذلك)، وفي مرحلة البلوغ يفهم كلمات أعمق، مثل: (الأزلي، الأبدي، العادل، غير محدود).

3-  معرفة التصوّرات التي يمتلكها الطفل عن اللهd، فقبل الإجابة عن سؤاله ينبغي مبادرته بالسؤال: (ما هو رأيك في الموضوع؟)؛ ممّا يعطيه الثقة والشعور بالاحترام.

4-   معرفة منطلقات سؤاله، فهل سأل هذا السؤال لأنّه يشك في وجود اللهd؟ أم أنّه يريد أن يطمئن فقط؟ أم هو حبّ الفضول والاستطلاع؟ فهذه كلّها أمور تساعد في اختيار الجواب المناسب للطفل، فتجيبه مثلاً: (إنّ الله تعالى أهمّ شيء في الوجود)، (الله هو نبع الحنان والدفء)، (الله أكبر من كلّ تصوّراتنا وتفكيرنا).

السؤال الثاني: أين هو الله؟

الإنسان بطبيعته لديه ارتباط وثيق بالمادة والطبيعة، فيتصوّر أنّ كلّ موجود إنّما هو محدود بهذا الوجود المادي الذي لا بدّ من أن يتواجد في مكانٍ ما وفي زمانٍ ما، والطفل بطبيعته لا يشذّ عن هذا الأمر، فيحسب أنّ الله موجود في مكانٍ ما كالمسجد أو السماء أو الجنّة وغير ذلك.

ويمكن أن يُجاب الطفل بأنّ: (الله موجود في كل مكان)، (الله قريب منّا يرانا ويسمعنا)، (في يوم القيامة سوف نذهب ونعود إلى الله).

السؤال الثالث: من أين أتى الله؟ من خلق الله؟

يُفضّل في الجواب عن مثل هذه الأسئلة التركيز على البعد الإيماني للطفل، بمعنى الابتعاد عن الأجوبة التي تشوّش ذهن الطفل والتي هي فوق إدراكه، كالدائم والأزلي والسرمدي، وأنّه قد خلق كل شيء ولم يخلقه شيء، فهذه أجوبة تصلح عندما ينضج الطفل من الناحية الذهنية والمعرفية.

أما قبل ذلك فالأفضل أن نُعلّم الطفل أنّ هذه المسألة إيمانية أي ينبغي الإيمان والاعتقاد بها حتى لو لم نعلم واقعها. وإذا أصرّ على السؤال فلا مناص عن إجابته بأنّه لن يعرف وهو في هذا العمر أكثر من هذا المقدار، وأنّه في المستقبل إذا جدّ واجتهد في طلب العلم وحافظ على إيمانه وأخلاقه فإنّه سوف يعرف الإجابة عن هذا السؤال.

السؤال الرابع: كيف هو شكل الله؟

كثير من الفرق وقعت في محذور التشبيه والتجسيم؛ وما ذلك إلا لميل الإنسان إلى المادة، فلذا تجدهم ينسبون كثير من الصفات البشرية إلى الباريa.

وعلى أي حالٍ فالطفل إذا سأل هذا السؤال فإنّه يمكن -إضافة لما مرّ من ملاحظات في أسلوب الإجابة- أن يُجاب مثلاً: (الله هو الخالق العظيم الذي خلق كل هذا العالم)، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[58]، (الله خلق كل شيء ولا يشبه مخلوقاته).

والخلاصة: إنّ الإجابة على أسئلة الأطفال بقدر ما هي بسيطة وساذجة، فهي معقّدة وتحتاج إلى فنّ ومهارة، وكلّما كان المربّون مطّلعين على ذهنية الأطفال وكيفية التعامل معها كانوا أقدر في إيصال المعلومة إليهم.

والحمد لله ربّ العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] آية الله الشيخ عيسى قاسمB، الزواج والأسرة، ص57.

[2] للأستاذ عبدالله ناصح علوان، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبدالعزيز بجدّة.

[3] موسوعة أحكام الأطفال وأدلتها، ج3، ص253.

[4] لسان العرب، ج3، ص29- 30، كلمة (ربا). مجمع البحرين، ج2، ص671، كلمة (ربا). المصباح المنير، ص217.

[5] لسان العرب، ج3، ص14، كلمة (ربب).

[6] سورة الإسراء: 17.

[7] مجمع البيان، ج6، ص227.

[8] مقال بعنوان (مفهوم التربية في الإسلام)، الدكتور علي عبده علي الألمعي، مدير عام التخطيط والسياسات بوزارة التربية والتعليم بالمملكة العربية السعودية، المشرف العام على موقع منبر التربية، (www.minbr.com).

[9] تذكرة الفقهاء، ج2، ص493- 494.

[10] رياض المسائل، ج12، ص144.

[11] الإحسائي، عوالي اللئالي، ج1، ص35، ح18.

[12] الخلاف، ج1، ص305.

[13] نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، ج1، ص318.

[14] صراط النجاة، ج3، ص264.

[15] سورة التحريم: 6.

[16] موسوعة أحكام الأطفال وأدلتها، ج3، ص294.

[17] سورة البيّنة: 5.

[18] سورة المائدة: 27.

[19] نهج البلاغة، ص490.

[20] التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ج5، ص299.

[21] رسائل الشهيد الثاني، الشيخ زين الدين العاملي، ج2، ص800.

[22] سورة الزمر: 9.

[23] من الكتب القيمة في هذا المجال: كتاب (الطفل بين الوراثة والتربية) لمحمد تقي فلسفي.

[24] سورة فصّلت: 34.

[25] الكافي، الكليني، ج6، ص27، ح6.

[26] الكافي، الكليني، ج1، ص43، ح1.

[27] الكافي، الكليني، ج6، ص47، باب تأديب الولد، ح3.

[28] المصدر السابق، ح7.

[29] الكافي، الكليني، ج6، ص48، ح1.

[30] مستدرك الوسائل، ج15، ص168، باب 63 من أبواب أحكام الأولاد، ح3.

[31] جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص292، ح23.

[32] عيون أخبار الرضا×، ج1، ص295.

[33] مكارم الأخلاق، ج1، ص474، ح1625.

[34] الأمالي للصدوق، ص462.

[35] وسائل الشيعة، ج15، ص248، باب 20 من أبواب النفقات، ح2.

[36] تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي، ج2، ص320.

[37] سيأتي في الخاتمة بيان أهم الأسئلة التي قد يسألها الأطفال وكيفية الإجابة عنها.

[38] سورة الأحزاب: 21.

[39] غرر الحكم، ص309، ح46.

[40] مجمع البحرين، ج3، ص1952.

[41] سورة يونس: 57.

[42] سورة لقمان: 13.

[43] سورة البقرة: 25.

[44] سورة النساء: 57.

[45] سورة التحريم: 6.

[46] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج15، ص194- 195، باب83 من أبواب أحكام الأولاد، ح4.

[47] السؤال: هل يجوز تأديب غير الولي أو المأذون من قبله للطفل بضربه؟

السيستاني: "لا يجوز لغير ولي الطفل أو المأذون من قبله أن يضرب الطفل لتأديبه إذا ارتكب فعلاً محرماً أو سبَّب أذى للآخرين، ويجوز للولي وللمأذوِن من قبله أن يضرب الطفل للتأديب ضرباً خفيفاً غير مبرح لا يؤدّي إلى احمرار جلد الطفل، بشرط أن لا يتجاوز ثلاث ضربات، وذلك فيما إذا توقف التأديب عليه، وعليه فلا يحق للأخ الشاب أن يضرب أخاه الطفل إلا إذا كان ولياً أو مأذوناً من قبل الولي، ولا يجوز ضرب التلميذ في المدرسة بدون إذن وليه أو المأذون من قبله بتاتاً". راجع استفتاءات موقع السيد السيستانيB، في خانة (الضرب).

[48] الكافي، الكليني، ج6، ص50، باب برّ الأولاد.

[49] الكافي، الكليني، ج4، ص41.

[50] المصدر السابق، ص44.

[51] سورة غافر: 28.

[52] تحف العقول، ص279.

[53] الكافي، الكليني، ج3، ص740.

[54] مستدرك الوسائل، المحدث النوري، ج12، ص11.

[55] المصدر السابق، ص12.

[56] ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، الزمخشري، ج5، ص226.

[57] سورة المعارج: 19- 23.

[58] سورة الشورى: 11.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا