خلقنا ذو العزة والجلالة والكمال عبيداً بين يديه، وخط لنا طرق الكمال والاستقامة، منعماً علينا بالحجج الظاهرة من الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) والحجج الباطنة ويمثلها العقل.
ولا مناص مِن أن نكون في مسيرنا للاستقامة مشتبهين مرة، ومذنبين ومتجرئين تارة أخرى-والعياذ بالله-، ولهذا تجد أنه من يخرج عن هذا الطريق قد يخرج إلى جادة المنافقـين، وقد يخرج آخرون إلى جادة الجاحدين و...الخ من
الطرق الكثيرة التي يشتبه العبد بينها وبين طريق الاستقامة، هذا إذا لم يكن على دراية ومعرفة بما يختاره.
ولكن وكما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) المهم بعد ذلك الرجوع، هو الندم على ما فات والإنابة للقوي العزيز {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1)، وفي سير العبد بمسلك التوبة تتعدّد أمامه كثير من الطرق، وربما اختار بعضها ولم يوفق وترك أخرى وسقط، إلا أن يجد في قرارة نفسه أنّ هذا الطريق شائك وصعب المنال، ولكن وكما نعلم أنّه وبعون الله وتوفيقاته من أيسر الغايات إذا أراد العبد ذلك. وبهذه الأسطر القليلة سوف نتعرّف على بعض الطرق التي تعتبر في الحقيقة رئيسية، وذلك لما لها من الأثر البالغ في ترك الذنوب وهجران المعاصي حيث تتوحد كل هذه الطرق في أنها توجه ذات الإنسان وعقله وروحه، فالعبد في طريق الاستقامة يتأرجح بين طاعته لله وبين معصيته-والعياذ بالله-، وقد يجد الكثير صعوبة في الثبات على الطريق السويّ.. مع معرفته بالواجبات، ومع وضوح المحرمات لديه كما جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي «وغلبني هواي وأعانتني عليها شقوتي وغرني سترك المرخى عليّ»(2).
الطريق الأول: حب الله
لا شك أن هذا الطريق يعتبر من أعبد الطرق وأسلكها لو التفتنا إلى مدى تأثير علاقة الحب والمودة على المحب، ففي الكافي والعياشي عن الصادق (عليه السلام): «هل الدين إلا الحب، ثم تلا هذه الآية الكريمة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}»(3)، وقد ورد في تفسير هذه الآية "فقال: قُلْ يا محمّد لهؤلاء {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} أي: إن كنتم صادقين في دعوى محبّة اللّه {فَاتَّبِعُونِي} فيما أمرتكم ونهيتكم.
والمحبّة عبارة عن ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، بحيث يحملها على ما يقرّبها إلى ذلك الشيء. والعبد إذا علم أنّ الكمال الحقيقي ليس إلا للّه، وأنّ كلّ ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من اللّه وباللّه وإلى اللّه، لم يكن حبّه إلا للّه وفي اللّه، وذلك يقتضي إرادة طاعته، والرغبة فيما يقرّبه إليه. فلذلك فسّرت المحبّة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتّباع الرسول (صلّى الله عليه وآله) في عبادته، والحرص على مطاوعته"(4).
ولهذا قال أحد الشعراء:
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه
هذا محــال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إنّ الـمحب لمن يحب مطيع(5)
وفي الواقع نرى هذا الانقياد بين الحبيب والمحب بشكل واسع وجليّ في حياة الإنسان اليوميّة، فأكثر علاقات الأرحام قائمة على هذا المنوال، ويرتسم غالباً في طاعة الوالدين، واجتماعياً ينخرط الفرد في الجمعيات والمؤسسات، وكل ذلك الانخراط قائم على الحب لتلك الشخصية أو الميل العاطفي لبعض الأفكار أو الحب لنفسه كما في كثير من الأحيان.
والسؤال البديهي والذي يطرح نفسه، من الأولى أن يحبه الإنسان؟ نفسه، ماله، أمه، صاحبه أم خالقه وموجده؟ والجواب البديهي أيضاً أن الأحق والأولى بالحب هو الموجد والمبدع والمنعم وهو الله القدير جلت عظمته. إلا أن الكثير في الواقع يعملون خلاف ذلك، فالنفس مقدمة في ميادين كثيرة، فيعمل وفق محبته لذاته؛ فتصبح حتى العبادات لديه -التي نأتمر بها للباري (عزّ وجلّ)- وفق أهواء النفس وتبجيل شأنها. وقس على ذلك الكثير.. فعندما يتجّه الإنسان لحب نفسه يرى كثيراً من الطاعات والخيرات صعبة المنال. وتحبب إليه نفسه بعض المكروهات بل حتى المحرمات، فلا يرى استئناساً حتى في صلاته، فتراه ميالاً لبعض الذنوب وهو يعلم أثرها وشدّة حرمتها، بل ويريد في بعض المراحل أن يهجرها فيبقى صراع طويل في ظل محبة النفس، والنتيجة قلّما تكون لصالح هذا العبد.
ولو أردنا تعريفاً للمحبة (فهي عبارةٌ عن ميل النفس إلى الملائم..لتستفيد من هذا الحب لنيل كمال ما تستلذ به).
الطريق لحب الله
ذكر الحبيب: كل حبيب تراه مولعاً بذكر حبيبه، وقلما تجد لسانه أو قلبه ناسياً لذكره.. والذكر لله في الحقيقة يحتاج نفسه إلى قلب يسعه وتوفيق من المذكور عز شأنه، وأكبر الذكر وأقواه حينما يقف العبد قبال عتبات المعصية ويتراجع عنها، نعم فهذا الرجوع يمثل في الحقيقة رجوع لله تعالى إنابة إليه وذكراً ما بعده ذكر.. ونحن محتاجون للإكثار من هذا الذكر، ولعله المراد مما جاء عن الرسول (صلّى الله عليه وآله): «من تواضع لله رفعه، ومن تكبر وضعه الله، ومن أكثر ذكر الله أحبه الله».
وهذا الذكر الذي أوردناه ما هو إلا نقطة بداية في مسيرة العبد في سبيل لقاء الحبيب، حتى يوفق للأذكار الواردة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فهم السرج المضيئة لأحباء الله وأودائه. وتتضح هذه النكتة من الحديث القدسي الذي أخبرنا به رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حيث جاء في الكافي: «لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...إلخ»(6) وبعد هذا الحب وشدة القرب إلى المولى (عزّ وجلّ) من البعيد جداً أن يرتكب العبد ذنباً أو يقترف معصيةً، فهنيئاً لأحباء الله.
ونتائج هذا الحب واضح وجليّ، إذ ورد في بعض الأخبار: «إذا أحبّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه»(7)، فلا يحتاج إلى مرشد خارجي ليبعّده عن تلك الذنوب التي يخشاها أو تلك المعاصي التي اعتاد عليها. وبهذا صار بعيداً عن شباك الغفلة، فيرى أنّ قلبه أصبح عوناً له ينهاه حتى تراه مستوحشاً من أن يجلس مع الملوثين بالذنوب ويفرّ منهم؛ خوفاً من براثن المعاصي. فيتحول هذا الحب إلى وقاية تعزل الإنسان عن طريق الغي والفساد وكل ذلك نتيجةٍ لذكر الله وحبه.
قد يُشكل أحدهم على بأنّ معرفة الله هي من الطرق الكافية لترك الذنوب والعلة التامة لهجرانها، ويجاب عليه بأنه ليس كل من عرف الله ووحدّه ووصل إلى المراتب العالية في المعرفة يكون ذلك مانعاً له عن معصية الله. ألا ترى قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}(8) ولو سلمنا أنّ المعرفة لها أثر كبير في طاعة المولى إلا أنها ليست علة تامة.
الطريق الثاني: إرادة الإنسان للتغيير
الإنسان في عبوديته لله (عزّ وجلّ)، يشعر بأنّه مقصّر في طاعته كما يشعر برغبته في إصلاح ما أفسده، وتبييض صفحته التي ازداد سوادها. فيقف الإنسان طالباً العون الإلهي بالدعاء والرجاء من الله للبعد عن تلك الذنوب، فيمّده رب العزة واللطف برحمةٍ منه، ولكن تراه سرعان ما يعود لذنبه المعهود... لماذا؟ هل تغير خط ونهج هذا العبد أم ماذا؟ نعم لعلّ الكثير منّا فاته التأمّل في الآية المباركة: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(9) فالآية الشريفة تضع لنا هذه القاعدة العريضة لتوجيه بوصلة هذا العبد إلى السعادة أو الشقاوة عبر عجلة الثورة التغيرية في نفس الإنسان وداخله.
فالإنسان في الحقيقة تحرّكه محركات كثيرة لأفعاله وسلوكياته، ولكنّ الحركات والسلوكيات والطبائع الناتجة عن الإرادة الداخلية في الإنسان هي المتصفة بالدوام والاستمرار، وقد أسماه صاحب الأمثل بـ (القانون العام) حيث ذكر أنّ الآية المزبورة قد جاءت في موردين متفاوتين في القرآن "وإنها قانون عام وقانون حاسم ومنذر، هذا القانون الذي هو واحدٌ من القوانين الأساسية لعلم الاجتماع الإسلامي، يقول لنا: إنّ ما يصيبكم هو من عند أنفسكم، وما أصاب القوم من السعادة والشقاء هو مما عملت أيديهم وما يقال من الحظ والصدفة وما يحتمله المنجمون ليس له أساس من الصحة... حتى اللطف الإلهي أو العقاب لا يكون إلا بمقدمه"(10).
إذاً لا مناص للمذنب والعاصي والمقصر الذي يريد العودة لله أن يبدأ بنفسه، ويغيّر تفاصيل وجزئيات هذه النفس، ويبدّل رغباتها وتحركاتها، وذلك في الحقيقة محتاج إلى التخلية والتحلية في سبيل الوصول إلى نتيجة في الواقع.
ولعلنا نستلهم هذا التغيير المطلوب من لدن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) حينما قال: «إنّ أبي كان يقول: إنّ الله قضى قضاء حتماً لا ينعم على عبد نعمةٍ فيسلبها إياه قبل أن يُحدث العبد ذنباً يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة وذلك قول الله: إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم».
ويقول صاحب الميزان في صدد بيان هذه الآية أنّه "من الممكن أن يستفاد من الآية العموم وهو أنّ بين حالات الإنسان النفسية وبين الأوضاع الخارجية نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشر، فلو كان القوم على الإيمان والطاعة وشكر النعمة عمّهم الله بنعمه الظاهرة والباطنة ودام ذلك عليهم حتى يغيروا فيكفروا ويفسقوا فيغير الله نعمه نقماً ودام ذلك حتى يغيروا..."(11).
الطريق الثالث: استشعار مراقبة الله تعالى ومراقبة حججهِ
مقام استشعار المراقبة الإلهية:
هذا الطريق في الحقيقة واضح المعالم في تأثيره على سلوك الإنسان وعوده إلى طريق الهداية والرشاد، فشعور أي مسلم ولو على نحو بسيط بأنّ عين الله ناظرة إليه، وحتى أولئك الملوثين بالمعاصي والذنوب الكبيرة لديهم نصيب وحظ لا بأس به، فمثلاً يمنعهم استشعارهم هذا من التعدي على مقدسات الله بل ويوجب هذا الاستشعار البسيط احترام لأولياء الله بإحساسهم بالعلاقة التي تربطهم بالله تعالى.
إذاً هذا الاستشعار مفهوم مشكك في الواقع العملي، فالبعض يحافظ على درجة عالية من الاستشعار بوجود الله ومراقبته لعمله والبعض الآخر ملوّث ببعض المعاصي التي جعلت من غفلته طاغية على هذا الشعور اللطيف لدى العبد.
ولو دقّقنا وركّزنا النظر في استشعار المراقبة الإلهية بشكل غير متقطع بلحظات الغفلة التي أدخلتنا في شبهاتها لما تجرأنا على معصية الله ومخالفة أحكامه. ويمكن القول بأنّ الاستشعار موجود لدى كل الناس بشكل عام إلا أنّ الاختلاف يكمن في نوع المراقبة، فالمتقين يستشعرون عين الله تعالى ورضا الله بحكم إيمانهم وبالذات الذين وصلوا لمراتب عالية حيث لا يغفلون ولو لحظات عن وجود الله ولطفه، فقلوبهم منيرة بوجود الله وعظمته، عملاً بالحديث الذي ورد عن صادق الأئمة (عليه السلام): «القلب حرم الله، فلا تسكن حرم الله غير الله»(12)، أمّا المرائين والمنافقين يستشعرون عين الخلق، وقد ينزل أولئك العصاة وأعداء الله إلى استشعار شياطينهم والعياذ بالله.
ويتمحور هذا الطريق بأنّ العبد يقف قبل أن يبدأ في أي فعل أو قول أو سكون متحسساً بأنّه يقف في ساحة قدس الله وجبروته وعظمته، وعين الله ناظرة إليه وأن حسناته سيئاته متمثلة أمام عين خالقة وبارئه تعالى.. فلو كان عمله متصفاً بالمخالفة لله تعالى يمكن بهذا الشعور وبحسب قوته أن يردد الإنسان فيتراجع ويختار ترك التجرؤ على أمر الله ونهيه. وهكذا لو كان العمل متّصفاً بالموافقة لأوامر الله سيقدم عليه متقرباً إلى الناظر الحسيب جلت عظمته.
ومفهوم هذا الاستشعار ورد في القرآن المجيد وفي روايات أهل البيت (عليهم السلام) فقد جاء في سورة العلق {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}(13) بعد أن تقدمت هذه الآية {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى...}(14) فالمؤمن الحقيقي يعتبر العالم كله حاضراً عند الله تعالى، وأنّ كل الأعمال تتم في محضره، وينبغي لهذا الحضور الإلهي أن يكون رادعاً وكافياً للخجل والكف عن المعاصي والذنوب. كما جاء عن أهل البيت (عليهم السلام): «اعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»(15)، فالحديث الشريف يوضح للعبد أنّه لا بد أن ينظر لجهتين في عبوديته لله تعالى، الجهة الأولى أنّ عباداته ومعاملاته وأعماله يجب أن تكون متجهة ومتقرباً بها للنّاظر الأوّل وهو الله (عزّ وجلّ) باعتبار أنه هو القابل والمثيب لهذا العمل، ويأتي الوجه الثاني والذي ينصب في أنّه تعالى يقيناً يراك ويسمعك..
مقام استشعار مراقبة حجج الله:
وهذا المقام لا ينفصل عن المقام الأول، ويمتاز هذا المقام أنّ بصمته واضحة على صفائح المؤمنين، كيف لا وقد تجلى في حجج الله عين الله وحكمته، ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «أنا عين الله، وأنا يد الله، وأنا جنب الله، وأنا باب الله»(16) وليتضح هذا المعنى من مراقبة أولياء الله المعصومين (عليهم السلام) من خلال ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): «أما علمت أنّا معاشر الأئمة تُعرض علينا أعمال شيعتنا صباحاً ومساءاً، فما كان من التقصير في أعمالهم سألنا الله تعالى الصفح لصاحبه، وما كان من العلو سألنا الله الشكر لصاحبه»(17)، وعن الإمام الحجة المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) فهو يرى أعمالنا، وسلوكنا، وعلاقاتنا فإن كانت في الجانب السليم فهي التي تسعد وتبشر الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وهنا تنشئ العلاقة الوطيدة بين هذا العبد والإمام الغائب الحاضر، حيث ترى العبد دائم الذكر له، وبالخصوص هذا الذكر العملي في الواقع، فالإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ينظر إلى أعمال الشيعة وخواصه، ويسرّ بحسناتهم ويغضب من سيئاتهم، ويعين وكلاءه بالدعاء والإرشاد والتصرف في قلوبهم ويشرف على أحوال الشيعة، فإذا اتصلوا به بواسطة الدعاء بالفرج والتوسل والاستشفاع به أقبل عليهم، ويدعوا لهم ويطلب من الله أن يقضي حوائجهم، وقد ورد في توقيعه (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) إلى الشيخ المفيد (قدّس سرّه) «إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء»(18).
الطريق الرابع: التوسل بالمعصومين وأولياء الله الصالحين (عليهم السلام)
والتوسل تعلقت به الفرقة الناجية، كونه الطريق الذي دلّ عليه الله في كتابه العزيز {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَابْتَغُوا إليهِ الوَسِيلَةَ وجاهِدُوا في سبيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(19). فلا بد أن يكون لهذا الطريق القدرة على الهداية والاسترشاد، والنجاة من الذنوب وآثارها الوخيمة على الإنسان، باعتبار أنّ التوسل وما يعني من الاستعانة بوسيلة للتقرب إلى الله وطلب الحوائج، أكان هذا التوسّل بأسماء الله وصفاته أو التوسّل بالقرآن الكريم أو التوسّل بالأعمال الصالحة، أو التوسّل بدعاء الأخ المؤمن. ولكن كيف إذا كان هذا التوسل للتخلص من الأدران القلبية، والتوسل بالرسول وأهل بيته (عليهم السلام) ليوفق الإنسان من هجران أسباب المعاصي ومقدماتها.
فمن البعيد أن يترك الله هذا العبد الذي لجأ لوليّه ولجأ في الحقيقة إليه، بعد هذا التوسل. فنحن على علم بأنّ دعاء الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، بل ودعاء المتقين من عباد الله مستجاب ولا يردّه الله. وهذا ما ثبت عملياً لدى الكثير من الصلحاء والمؤمنين، وهذه النتيجة طبيعية لأنّ المتوسل بهم هم المقربون لله تعالى، وهم العالمون بالله، والعارفون به، هم الطاهرون قلباً وقالباً.
الطريق الخامس: استذكار الموت
«وكفى بالموت واعظاً..»(20) نعم إنّه حديث عظيم وكلام نستطيع أن نقف عليه ويتمّ به مرادنا، كونه يحمل المعنى البليغ، والبيان العميق لتأثير هذا الطريق على صفحة العبد بشكل سريع وشديد، وهذا ما نستوحيه من كلمات الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، حيث كان كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: «أكثروا ذكر الموت فإّنه هادم اللذات حائل بينكم وبين الشهوات..»(21).
وطريق استذكار الموت وأثره العملي الكبير يوقف المتأمل لمعرفة خبايا هذا الطريق في نفس الإنسان، ففي الحقيقة تتفاوت نظراتنا للموت في نواحي شتى، ولكن تتفق تلك النظرات في أنّ الموت يكبح شهوات الإنسان ويهدم لذاته، ويستوقفه في محطات تفكر وتمعن، لعظمة هذا الرحيل ومفصليته.
فمنّا من ينظر إلى الموت بأنّه نهاية له وفناء لملذاته ومحطة فقدان خيرات هذه الدنيا ولحظاتها المختلفة، فيستوقفه الموت-إن استوقفه- ليقيس فوائده وخسائره نسبةً بهذا الرحيل المحتم، فهو وإن كان يعتقد في قرارة نفسه أنّ موته ورحيله بعيد لطول أمله، إلا أنّ صورة المقابر ولحظات الوداع لأقاربه، تستوقفه بقوة لتطرق أفكاره، لعلّها تكون طريق نجاة له من ذنوبه التي أثقلت ظهره.
ومنّا من ينظر للموت بأنّه ميعاد للحساب فيتفكر في سجل أعماله ويغوص في تاريخ أقواله، فتارة تطمئنه نفسه بأنّه في الخط السليم، وتارة يتغلّب عليها، ويحسم حسابه في صالح الأرباح وتقليل الخسائر، فتراه مائلاً عن طريق الأثام متوجها لسعادته ورشاده.
ومنا من ينظر إلى أن الموت بداية له وشروع في سعادته ومحطة تغير في نفسه، فهو وإن كان في خوف الحساب وهول المطلع عند الرقيب الحسيب، إلا أنّه دائماً ما يفحص كتابه وجهوزيته لهذا اليوم فيسدّ ثغرات المعاصي ويحصّن نفسه بالأذكار ويتقرب إلى الله زلفى.
وكل النظرات تلك وأصحابها يشتركون في النتيجة التي يصلون إليها من نظرهم للموت بأنّ ذكر الموت يصبح طريقاً سالكاً للبعد عن المعاصي ودافعاً وواقيا عنها، كما يصبح سبباً للمراتب العالية بين العباد المقربين، لعمله الصالحات وبنائه قلباً سليماً بين جوانبه إلا أنّ الاختلاف في مستوى النتيجة طبيعية بين أصحاب النظرات وذلك وفق مقدار استذكارهم للموت ومانعية الغفلة لديهم.
فإنّ أهل الدنيا وبسبب اشتغالهم بنعيم الدنيا الزائلة، قد غفلوا عن نعيم وجنان الآخرة الباقية، فأصبح حب الدنيا ونعيمها عازل عن العمل وفق المرحلة القادمة التي يؤكدها الموت، لذلك فإنّ ذكر الموت أكّدت عليه أدبيات أهل البيت (عليهم السلام) لا سيما أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد تكرر في محطات مختلفة قوله (عليه السلام): «من أكثر من ذكر الموت..» وعقبه بجواب شرط مختلف اشترك في المعنى «..، قلَّت في الدنيا رغبتُه» و«..، رضى من الدنيا بالكفاف» و«..، يهون أسباب الدنيا» والمعنى الإجمالي بأنّ العبد من خلال استذكاره للموت يستطيع أن يقتل الغفلة في أعماقه ويعرف حقيقة هذه الدنيا الزائفة، فلا تصبح الدنيا هدفاً له ومغنماً، وإنّما قنطرة يعبرها(22).
وفي الختام نسأل المولى أن يتطلف علينا-نحن المذنوبون الغارقون- برحمته، ويخرج حب الدنيا من قلوبنا، ويحشرنا مع المتقين الأبرار، بجاه النبي وآل بيته الأطهار (عليهم السلام).
* الهوامش:
(1) سورة المائدة:39.
(2) مصباح المتهجد للطوسي، ص589.
(3) سورة آل عمران:31.
(4) زبدة التفاسير للملا فتح الله الكاشاني، ج1، ص473.
(5) إرشاد الأذهان للعلامة الحلي، ج1، ص 20.
(6) موسوعة العقائد للريشهري، ج3، ص 296.
(7) ميزان الحكمة، ج1، ص842.
(8) سورة النمل: 14.
(9) سورة الرعد: 11.
(10) الأمثل، ج7، ص357.
(11) الميزان، ج11، ص311.
(12) بحار الأنوار، ج67، ص25.
(13) سورة العلق: 14.
(14) سورة العلق: 9- 12.
(15) شرح أصول الكافي، المازندراني، ج8، ص206.
(16) بصائر الدرجات، الصفار، باب نادر، ص81.
(17) مستدرك الوسائل، النوري، ج12، ص161.
(18) بداية المعارف الإلهية، الخرازي، ج2، ص157.
(19) سورة المائدة: 35.
(20) الكافي،ج1، 2/85.
(21) موسوعة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، الشيخ هادي النجفي، ج4، ذكر الموت، ص23.
(22) ن م.
0 التعليق
ارسال التعليق