تمهيد
من المعاجز التي أجراها الله (سبحانه تعالى) على أيدي رسله هي الكتب السماويّة، والتي يعدّ القرآن الكريم أشرفها وأجلّها فهو المعجزة الخالدة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الذي جعله الله -تبارك ذكره- تبياناً لكلّ شيء حيث قال: {َونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}(1)، فهو يشمل إيضاحاً للعقيدة الإسلاميّة وتشريعاتها وما كلّف الله به هذه الأمّة، وكذلك أخلاقها وكلّ ما يرتبط بشؤون حياتها.
ومن العناوين التي تطرَّقَتْ إليها آياته عنوان «الصّيام»، فحينما نستقرئ هذا العنوان في آياته نجد أنّه قد تكرّر في تسع آيات مباركات، والبحث سيدور حول بعض الأبعاد التي تعرّضت لها كل آية بشكل موجز ومختصر، ولكن قبل الشّروع في بيان ما أودّ ذكره، أشير إلى بعض المقدّمات:
الأولى: أنّ الصوم في الأصل هو الإمساك عن الفعل مطعَماً كان أو كلاماً أو مشياً(2)، أمّا الصوم في الشّرع فهو إمساك المكلّف بالنيّة من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن المفطرات التي منعها الشّارع المقدّس عن الصّائم، وقد عرّفها صاحب الرياض (قدِّس سرُّه) بالكفّ عن المفطرات مع النيّة(3).
الثّانية: إنّ شهر رمضان مشتقّ من الرّمض أي: شدّة وقع الشمس، فيقال: أرمضه فرمض أي أحرقته الرّمضاء(4)، وهذا المعنى يتناسب مع حال ذنوب الإنسان المؤمن في شهر رمضان فإنّها تُرمَضُ رمضاً كما ورد في كتاب البرهان في تفسير هذه الآية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كنّا عنده ثمانية رجال، فذكرنا رمضان، فقال: «لا تقولوا: هذا رمضان، ولا ذهب رمضان، ولا جاء رمضان، فإنّ رمضان اسم من أسماء الله (عزَّ وجلَّ) لا يجيء ولا يذهب، وإنّما يجيء ويذهب الزّائل، ولكن قولوا: شهر رمضان، فالشّهر مضاف إلى الاسم، والاسم اسم الله -عزّ ذكره-، وهو الشّهر الذي أنزل فيه القرآن جعله مثلاً وعيداً».
الثّالثة: أمّا الحديث حول الأبعاد المستفادة من هذه الآيات فيمكن تقسيم الآيات التي ورد فيها جذر الصوم باعتبار البعد الفقهيّ إلى قسمين، الأوّل: آيات تتحدّث عن الصّيام، بما هو فريضة شرّعها الله (سبحانه وتعالى) في شهر رمضان، وأمّا القسم الثّاني: فآيات تتحدّث عن الصّيام كنوع من أنواع الكفّارات، وفي هذا القسم نجد أنّ الآيات تتحدّث عن الكفارات التالية: كفّارة القتل الخطأ، وكفّارة تعجيل حلق الرّأس قبل بلوغ الهدي، وكفّارة اليمين، وكفّارة الظهار. كما أنّه سوف يكون التّعرض إلى بعض الأبعاد الأخلاقيّة في بعض الآيات.
آيات القسم الأول
1- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(5).
ونوقع الكلام حول هذه الآيات في بُعدين:
الأوّل: البعد الفقهيّ:
تتحدّث هذه الآيات المباركة وكذلك ما سبقها من آيات عن مجموعة من الأحكام الإسلاميّة، كأحكام القتال، والإنفاق، وشرب الخمر وغيرها، ثمّ تأتي هذه الآيات المذكورة وتتحدّث عن تشريع الصّوم ووجوبه وبعض أحكامه، بحيث تدلّ الآيات على تشريعه في حصّة من المؤمنين وأنّه ثابت عليهم كما هو ثابت على الأمم السالفة، أمّا الأحكام المستفادة من هذه الآيات فهي كالتالي:
تشريع وجوب الصوم على المؤمنين، وأنّه في أيّام معدودات معيّنة بحيث يمكن استفادة تعيينها من قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}(6)، أمّا الألف واللام عهديّة، وعليه يكون الصّيام في خصوص شهر رمضان إذا ثبت هلاله(7).
وقد ذكر الفخر الرازيّ في تفسيره أنّ هناك قولاً آخر في تفسير الأيام، حيث قال: "وقع الخلاف في هذه الأيّام إلى قولين، الثّاني هو ما تمّ ذكره، أمّا الأول، فهو أنّ بعضهم قال بأنّ هذه الأيّام غير أيّام شهر رمضان، ثمّ اختلف فيها، فقيل ثلاثة أيامٍ من كلّ شهر، وقيل ثلاثة أيّام من كلّ شهر وصوم يوم عاشوراء، ثمّ اختلفوا أيضاً فقالوا إنّه كان تطوّعاً ثم فُرض، لكنّهم اتّفقوا على نسخ هذا الحكم، واحتجّوا على قولهم، على ما ورد عن النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله): «إنّ صوم رمضان نسخ كل صوم»، فدلّ هذا على أنّ قبل وجوب شهر رمضان، كان صوماً آخر، واجباً وكذلك احتجّوا على ذكر حكم المريض والمسافر في الآية الأولى من الآيات المذكورة ثمّ ذكر حكمها أيضاً في الآية اللاحقة، فلو كان الحكم واحداً في صيام الشّهر الكريم، لكان ذلك تكريراً محضاً من غير فائدة، وأنّه لا يجوز"(8)، وقد ناقش هذه الأقوال وردّها.
وقد أفتى الفقهاء بأنّ من أنكر وجوب الصوم فهو مرتدّ يجب قتله، ومن آمن بوجوبه ولكنْ تركه تهاوناً واستخفافاً عزّر بما يراه الحاكم الشرعيّ واختلفوا هل يقتل في المرة الثّالثة أم الرّابعة لو عاد إلى تركه(9).
وممّا ورد عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في فرض الصّيام على هذه الأمّة، ما ورد في تفسير البرهان عن حفص بن غِياث النّخعي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا، فقلت له: فقول الله (عزَّ وجلَّ): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، قال: إنّما فرض الله (عزَّ وجلَّ) صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم ففضّل الله به هذه الأمّة وجعل صيامه فرضاً على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وعلى أمّته»(10).
تشير الآيات المتقدّمة إلى أنّ الصيام يتعلّق بمن تتوفر فيهم شروطٌ معينة ذكرت في كتب الفقه، واستثني منها ثلاثة: المريض، والمسافر، والذي لا يتمكّن من الصّوم إلا بمشقّة لكبر السنّ ونحوه. والأوّلان يلزمهما القضاء بعد شهر رمضان بالمقدار الفائت، والأخير يلزمه دفع الفدية، وذلك بإطعام مسكين عن كل يوم(11)، وهذا هو المعروف عن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام). أمّا عند غيرهم ففي خصوص السّفر، فإنّ الإفطار فيه رخصة لا عزيمة، كما أنّهم اختلفوا فيما بينهم في السفر المبيح للإفطار، فبعضهم قال كل سفر ولو كان فرسخاً، وتمسّك على ما قال بصدق عنوان المسافر عليه، وقال بعضهم مسافة يوم؛ لأنّ أقلّ من هذا المقدار قد يتّفق للمقيم، والشّافعي قدّره بستة عشر فرسخاً دون الإياب(12). أمّا المذهب الحقّ فيرى أنّ مقدارها ثمانية فراسخ على التّفصيل المذكور في الكتب الفقهيّة، ولكنّ المتأمّل في الآية يجد أنّ التّرخيص فيها عزيمة لا رخصة؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}(13)، يعني أنّ الله –تعالى- أوجب القضاء بنفس السّفر، والمرض، ولم يقل: فأفطر فعدّة من أيام أخر، وتقدير (أفطر) خلاف الظاهر، والكلام لا يوجبه؛ لأنّه يستقيم من غير تقدير(14). ويقول صاحب تفسير الميزان (قدِّس سرُّه): "وعلى فرض التقدير لا يدلّ على الرّخصة؛ لأنّه غاية ما يدلّ عليه أنّ الإفطار لا يقع معصية، بل جائز بالمعنى الأعم من الوجوب، والاستحباب، والإباحة، وأمّا كونه جائزاً بمعنى عدم كونه إلزامياً فلا دليل عليه من الكلام ألبتة، بل الدّليل على خلافه، فإنّ بناء الكلام في مقام التّشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرّع الحكيم"(15). ولذلك ثبت عن طريق السنّة والشّيعة أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال: «ليس البر الصيام في السفر»(16). لكن ما هو الوجه في الآيات المباركة أنّها ذكرت مرّتين بأنّ المسافر والمريض عليهما القضاء في عدّة من أيّام أخر؟
قد يجاب: بأنّ ذلك من كراهية بعض المسلمين لترك الصيام أيّام شهر رمضان ولو كانوا مسافرين أو مرضى، والقرآن بهذا التَّكرار يفهم بأن الإفطار حكم إلهيّ لا يجوز مخالفته كما هو الحال في حال الحضر(17).
ثم ما هو السرّ في تشريع الصّيام في شهر رمضان بالخصوص من بين سائر الشّهور؟
السر في ذلك أنّ الله (سبحانه تعالى) أنزل القرآن فيه، وعليه مدار الدّين والإيمان، كما أنّ الكتب السماوية كما تذكر بعض الروايات نزلت في هذا الشهر الفضيل، فقد نقل الشّيخ في التّهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: «نزلت التوراة في ست مضين من شهر رمضان، ونزل الإنجيل في اثنتي عشر مضت من شهر رمضان، ونزل الزبور في ثمانية عشر مضت من شهر رمضان، ونزل القرآن في ليلة القدر»(18).
الثّاني: البعد الأخلاقيّ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(19)، تشير هذه الآية المباركة إلى الحكمة من إيجاب الصّوم، وهو حصول الصائم على التّقوى التي مدح الله (سبحانه تعالى) أصحابها في آيات عديدة في القرآن الكريم.
والتّقوى من وقى؛ أي: الوقاية، وهي حفظ الشيء ممّا يؤذيه ويضرّه(20). ويقال اتّقى السّيف بدرعه؛ أي: اجتنب ضربة السيف بدرعه، والتّقوى في الشّرع، حفظ النّفس عمّا يؤثم وذلك بترك المحظور، ويتمّ ذلك بترك المباحات، لما روي «الحلال بَيّن، والحرام بَيّن، ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه»(21). ولذلك ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام): «التقوى أن يتّقي المرء كل ما يؤثمه»، وكذلك ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سئل عن تفسير التقوى، قال: «أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك»(22).
إذاً الصيام يؤدّي إلى التّقوى، أو بعبارة أخرى: التّقوى غاية العبادة باعتبار أنّ الله (سبحانه تعالى) خلق الإنسان لأجل عبادته -تعالى ذكره-، ولكن هذه العبادة طريقٌ ووسيلة لتحصيل التّقوى؛ لذلك ورد في قوله (سبحانه تعالى): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فنجد في هذه الآية أنّ التقوى جُعلت هي الغاية والهدف من العبادة، لكن مع ذلك لا تكون التّقوى هي الهدف النّهائيّ والغاية القصوى فالقرآن يصرّح بهذه الحقيقة ويقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(23)، إذاً الغاية من التّقوى الوصول إلى الفلاح، بل هي (التقوى) وسيلةٌ وطريقٌ إلى الكرامة الحقيقية {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(24)، ولذلك ورد عن الإمام علي (عليه السلام): «مفتاح الكرامة التقوى»(25). وكذلك تعتبر التّقوى وسيلة إلى المحبّة الإلهيّة، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(26)، وكذلك إلى التّعليم الإلهيّ {واتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}(27)، وكذلك بالتّقوى تقبل الأعمال {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(28) وغيرها من الآيات التي تبيّن مدى أهميّة التّقوى في حياة الإنسان المؤمن.
أما خصائص المتّقين، فيكفينا فيها حديث الإمام عليّ (عليه السلام) لهمام: «... فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ. غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ. نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ. لَوْلاَ الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ. عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ. صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم. أَرَادَتْهُمُ الْدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أُنْفُسَهُمْ مِنْهَا. أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لأجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ»(29).
2- {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(30).
والكلام حول هذه الآية يقع في بعدين أيضاً:
الأوّل: البعد الفقهيّ:
تشير الآية المباركة إلى أربعة أحكام إسلاميّة في متعلّق الصّوم والاعتكاف وهي كالتّالي:
أ- حلية مقاربة الزوجة في ليالي شهر رمضان بعدما كان ممنوعاً في لياليه كما ورد في بعض الروايات كما في تفسير عليّ بن إبراهيم قال: قال الصادق (عليه السلام): «كان النّكاح والأكل محرّمان في شهر رمضان بالليل بعد النوم، يعني من صلّى العشاء ونام ولم يفطر ثمّ انتبه حرم عليه الإفطار وكان النكاح حراماً بالليل والنّهار في شهر رمضان...»(31).
ب- جواز الأكل والشّرب في الليل إلى طلوع الفجر {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، والخيط الأبيض هو الفجر الصادق وهو بياض يعترض الأفق في الفجر وقد ورد عن النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله): «الفجر، فجران: فأمّا الذي كأنّه ذنب السرحان فإنّه لا يحلّ شيئاً ولا يحرمه وأمّا المستطيل الذي يأخذ في الأفق -أي ينتشر- فإنّه يحلّ الصلاة ويحرم الطعام»(32)، وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال سألته عن الخيط الأبيض وعن الخيط الأسود فقال: «بياض النّهار من سواد الليل»(33).
ج- قالت الآية: {أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فانتهاء الصّوم يكون بدخول الليل، والآية عبرت بـ(أتموا) ولم تعبر بـ(أكملوا)، ففيها دلالة على أنّه واحد بسيط وعبادة واحدة تامّة غير مركبة من أمور عديدة(34).
د- جواز المقاربة مختصّ بحالة عدم كون الرجل معتكفاً في المسجد، فهو أشبه باستشناء من الحكم السابق.
والمقصود من الّليل هو مغيب الشمس، ولكن مغيبها لا يعرف بمواراتها عن العيان، بل بارتفاع الحمرة المشرقيّة؛ لأنّ المشرق مطلّ على المغرب، وعلى هذا تكون الحمرة المشرقيّة انعكاساً لنور الشمس، وكلّما أوغلت الشمس في المغيب تقلّص هذا الانعكاس، أما أبناء العامّة فقالوا بأنّ الّليل هو غروب الشمس بحيث بمجرّد غروبها يمكنهم الإفطار اعتماداً على رواية نقلوها عن عمر بن الخطاب(35).
الثّاني: البعد الأخلاقيّ:
ذكرت الآية المباركة حكماً من أحكام الاعتكاف، والاعتكاف في الّلغة: الإقبال على الشّيء، وملازمته على سبيل التعظيم له، أمّا في الشّرع: فهو الاحتباس في المسجد على سبيل القربى(36)، وهو مستحبّ تأسيّاً بالنبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) فقد كان يواظب عليه خصوصاً في العشر الأواخر في شهر رمضان، بحيث كانت تضرب له قبّة بالمسجد من شعر، ويطوى فراشه، قال الشّيخ الصدوق: «وقال أبو عبد الله (عليه السلام): كانت بدر في شهر رمضان، ولم يعتكف رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فلمّا أن كان من قابل اعتكف عشرين، عشراً لعامه، وعشراً قضاءً لما فاته»(37).
أ- وفي الاعتكاف عناصر متعدّدة يجنيها المعتكف لتسمو نفسه وروحه، منها:
التّفرغ لعبادة الله (سبحانه تعالى) وذكره، بحيث إنّ الإنسان في أيّامه العادية، وفي زحمة المشاغل اليوميّة، وضرورات الحياة، لا يمكنه ذلك إلا بشكل قليل، أمّا في الاعتكاف فهو قد ترك كل مشاغله خلف ظهره، وتفرّغ لمناجاة الله (سبحانه وتعالى) وعبادته، وبهذا التّفرغ تسمو روحه وتتربّى نفسه.
ب- مخافة الأهواء، فمقتضى كونه صائماً في بيتٍ من بيوت الله، ليست له الحريّة الكاملة في فعل كلّ ما تشتهيه نفسه، لكن يمكن في هذه الفترة القصيرة أن يربّي نفسه على مخالفة الهوى.
ج- العزلة المؤقّتة عن النّاس وإتاحة الفرصة له لمراجعة نفسه ومحاسبتها واختبارها ومراقبتها، بينما في اليوم العاديّ طبيعة المشاغل التي يقوم بها والوقت الذي تستغرقه لا يمكنه ذلك من مراجعة ذاته وتقييمها وتركيز علاقته بخالقه(38).
إذاً كما يحتاج الإنسان إلى خلوة يتوجه فيها إلى الله (سبحانه تعالى) فيشعر أنّه في ضيافة ربّ العالمين وفي بيت من بيوته إذا كان في شهر رمضان وهو أفضل وقت للاعتكاف، بل يستأنس المعتكف بهذه الضيافة فيناجي ربّه، فيجيبه إذا دعاه ويقبل عليه إذا ناداه، ويقيله إذا استقاله فهنيئاً للمعتكفين.
آيات القسم الثّاني
وقبل الحديث عن هذا القسم نذكر تعريف الكفارة: الكفارة من الكَفر بالفتح بمعنى التغطية، وقد سمّيت بذلك؛ لأنّها تكفّر الذنب عن الذنب أي تمحوه وتستره وتغطيه(39)، أمّا في الشّرع فإنّها اصطلاح على الجزاء الثّابت على ارتكاب بعض الذنوب لسترها في الجملة، فإنّ الستر الكامل وإن كان لا يتحقّق إلا بالتّوبة الصادقة إلا أنّه يتحقق بالكفارة في الجملة(40).
أمّا أقسامها فأربعة: فتارةً تكون كفارة مرتّبة، وأخرى مخيّرة، وثالثة يجتمع فيها الأمران التّخيير والترتّب، ورابعة تكون كفارة جمع، وقد تعرّض القرآن الكريم إلى قسمٍ كبيرٍ منها، نذكر من ذلك الآيات التي تعرّضت للصّيام على أنّه أحد أنواع الكفارات.
ومن الأبعاد المستفادة من هذه الآيات:
أوّلاً: البعد الفقهيّ:
1- {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(41).
ويمكن عنونتها بكفارة حلق الرّأس: فالآية المباركة تشير إلى أنّ المحصور في الحجّ -الذي امتنع عن إتمام الحجّ والعمرة لمرض ونحوه- لا يجوز له الإحلال من إحرامه، بل عليه قبل ذلك إرسال هديٍ بالمقدار المتيسّر إلى منى، فإن أبلغها جاز له الإحلال آنذاك، ويُستثنى من ذلك المريض أو الذي في رأسه قمل يؤذيه فإنّه يتمكّن من الحلق قبل بلوغ الهدي محلّه ولكن عليه الفداء الذي هو عبارة عن التخيير بين أمور ثلاثة: الصيام، أو الصدقة، أو النّسك، وقد فسّر الصوم في الرّوايات بصوم ثلاثة أيّام، والصّدقة بإطعام ستّة فقراء، والنّسك بذبح شاة(42)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن أحصر الرجل فبعث بهديه فآذاه رأسه قبل أن ينحر هديه فإنّه يذبح شاة في المكان الذي أُحصر فيه أو يصوم أو يتصدّق على ستّة مساكين والصّوم ثلاثة أيام والصّدق نصف صاع لكلّ مسكين»(43).
2- {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}(44).
دلّت هذه الآية المباركة على أنّه ليس من شأنيّة الإنسان المؤمن قتل أخيه المؤمن، وإن صدر منه القتل أحياناً فذلك بسبب الاشتباه والخطأ، والقتل على ثلاثة أنواع: إمّا عمد محض، أو خطأ محض، أو شبه العمد، والحكم هنا في صورة الخطأ المحض أو شبه العمد وهو التكفير بعتق رقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين، فإن عجز أطعم ستّين مسكيناً ولذلك ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «... وإذا قتل خطأً أدّى ديته إلى أوليائه ثمّ أعتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً مداً مداً...»(45).
3- {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(46).
ويمكن عنونتها بكفارة اليمين، وتشير الآية المباركة إلى نوعيّة من الأيمان، فهناك يمين لغو وهناك يمين شرعيّة مستوفية الشروط، فالأولى هي التي ينطق اللسان بها من غير قصد مثل: لا والله، ورد في تفسير العياشي عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في قوله: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}، قال: «هو قول الرجل لا والله، وبلى والله (ولا يعقد عليها) ولا يعقد قلبه على شيء»(47).
وهذه اليمين لا يترتّب عليها شيء.
أمّا اليمين الشرعيّة -وهي التّي يجب الوفاء بها ويؤاخذ الخالق على حنثها- فهي التي تتوفّر فيها الشّروط المذكورة في كتب الفقه، وبحنثها تجب عليه كفّارة تخيير من خصائص ثلاث: إطعام عشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين، أو العتق، فإن لم يجد أو لم يتمكّن من إحدى هذه الخصال الثلاث صام ثلاثة أيام، ولو عجز عن الصوم استغفر الله ورجا عفوه(48).
لكن هل يشترط التّتابع في الأيّام الثلاثة؟
أبناء العامّة مختلفون في ذلك، فالشافعيّ مثلاً يجوّز التّتابع وأبو حنيفة يوجبه(49)، أمّا أبناء المذهب الحقّ فالظاهر أنّهم يجمعون على شرطيّة التّتابع في الصيام.
4- {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(50).
تشير هذه الآية إلى أنّ الزوج إذا ظاهر من زوجته حرم عليه وطئها إلا إذا كفَّر أولاً فإنّه يحقّ له الوطئ بعد ذلك، لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، ولا تجب الكفّارة إذا لم يرد الوطئ، والكفارة هي تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً وللظهار أحكام وشروط مذكورة في كتب الفقه، عن جميل بن درّاج قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يقول لامرأته: أنت علي كظهر عمتي أو خالتي؟ قال: هو الظهار. قال: وسألناه عن الظهار متى يقع على صاحبه الكفّارة؟ فقال: إذا أراد أن يواقع امرأته قلت: فإن طلّقها قبل أن يواقعها، أعليه كفارة؟ قال: سقطت الكفارة عنه. قلت: فإن صام بعضاً ثم مرض فأفطر، أيستقبل أم يتمّ ما بقي عليه؟ فقال: إن صام شهراً فمرض استقبل، و إن زاد على الشّهر الآخر يوماً أو يومين بنى على ما بقي قال: وقال: الحرة والمملوكة سواء، غيرَ أنّ على المملوك نصف ما على الحُرّ من الكفارة، وليس عليه عتق ولا صدقة، إنّما عليه صيام شهر»(51).
فلسفة الكفّارة في التّشريع الإسلاميّ:
بالرّجوع إلى آيات القرآن الكريم وإلى روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وبالنّظر إلى عنوان الكفارات، نجد أنّ هناك حكمةً بالغة لتشريعها، حيث نجد أنّ الشّارع المقدّس شرّعها من منطلق الحكمة والرّحمة والعدل بعيداً عن الحقد والتّشفّي والانتقام من الجاني كما في بعض التّشريعات التي تفرق بين طبقة وأخرى كما في القانون الهندي(52)، أو تارة ينظر إلى نفس الجاني بغض النّظر عن الجريمة، أو أخرى إلى نفس الجريمة وحجمها، وإغفال الجاني(53).
وتعتبر الكفّارة من أشكال العقوبة الإيجابيّة التي تحقّق أمرين، أحدهما: رعاية مصلحة المجتمع بعقوبة من وجبت عليه الكفارة عقوبة تزجره عن ارتكاب ما يؤثر سلباً على المجتمع ويزعزع من أمنه، فمثلاً: تحرير الرّقبة، وإطعام عدد من المساكين، أو كسوتهم، ينعش فئة من فئات المجتمع في مستواها المعيشيّ. وثانيهما: رعاية مصلحة الفرد باعتبار أنّ الكفارة تزجره عمّا نهاه عنه الشّارع المقدس؛ لأنّ فيما نهاه المولى عنه مفسدة كبيرة عليه.
إذاً الكفارة عبادة إلهيّة يُشترط فيها ما يُشترط في سائر العبادات، تهدف نحو صيانة الفرد والمجتمع.
آثار الكفّارة:
أمّا الآثار المترتّبة على الكفّارة فهي كالآثار المترتّبة على أيّة عبادة أخرى؛ لأنّها عبادة شرّعها الشّارع المقدّس، فكما أنّ الصلاة والحجّ يربيّان الإنسان على القيم الأخلاقيّة والفضيلة، كذلك الكفّارة فإنّها تزجر الإنسان عن الوقوع مرّة أخرى في المخالفة، وتجعل منه إنساناً منتبهاً لما قد يواجهه في مستقبل أيامه، بل قد توقفه على قيمته التي حفظها الله تعالى له من الناحية الدينيّة والاجتماعية، فمثلاً في القتل الخطأ الشّارع المقدس حمّل القاتل كفّارة معينة -مع أنّ القتل لم يكن عن عمد- تجعل منه إنساناً حذراً على حياة الآخرين وحفظ نفوسهم وحرصه على حياتهم(54).
أمّا فلسفة كفّارة الصيام، فإنّها تفيد ما يفيده نفس الصّيام من تقوية إرادة الصّائم على مقاومة نفسه وجهادها، ومن تكاملٍ ورقيٍّ للإنسان على المستوى الماديّ والمعنويّ، وهذا واضح، لكن هناك فرق وهو أنّه في فترة صيام المكفّر شهرين متتابعين أو ثلاثة أيام مثلاً، فإنّه في هذه الفترة يعيش جوّ المعصية التي ارتكبها، فيكون صيام الكفّارة بمثابة محطّة يقف فيها الشّخص مع نفسه فيشعر بالندم سواء على المعصية أم على الإهمال والتّقصير، فيعزم بعد ذلك على اجتناب كلّ ما يسخط الله تعالى ويتكامل بأداء هذه الكفارة، ولهذا يشير العلامة الفضلي (رحمه الله) إلى هذه المسألة: "التكفير قد يفعله الإنسان تعبيراً عن ندمه على خطيئته، وقد يفعله تعويضاً عن الخطأ الذي صدر منه تداركاً لمصلحته أو درءاً لمفسدته"(55).
* الهوامش:
(1) النّحل 89.
(2) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني - ص 500.
(3) رياض المسائل - ج 5 - ص 283.
(4) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني - ص 366.
(5) البقرة:183-185.
(6) البقرة :185.
(7) دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام للشيخ الأيرواني - ج 1 - ص 154.
(8) التفسير الكبير للفخر الرازي - ج2 - ص 241.
(9) تفسير الكاشف - ج 1 - ص 282.
(10) تفسير البرهان - ج 1 - ص 394.
(11) دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام للشيخ الأيرواني - ج 1 - ص 154.
(12) التفسير الكبير للفخر الرازي - ج2 - ص 244.
(13) البقرة :185.
(14) التفسير الكاشف - ج 2 - ص 283.
(15) تفسير الميزان - ج2 - ص 11.
(16) التفسير الكاشف - ج 2 - ص 283.
(17) تفسير الأمثل - ج 1 - ص 455.
(18) التهذيب - ج4 - ص 193.
(19) البقرة :183.
(20) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني - ص 881.
(21) المصدر السابق.
(22) منتخب ميزان الحكمة - ص 675.
(23) آل عمران 200.
(24) الحجرات 13.
(25) منتخب ميزان الحكمة - ص 672.
(26) آل عمران 76.
(27) البقرة - ص282.
(28) المائدة - ص 27.
(29) نهج البلاغة الخطبة193.
(30) سورة البقرة: 187.
(31) تفسير نور الثقلين - ج1 – ص 172.
(32) التفسير الكاشف - ج 1 - ص 290.
(33) تفسير العياشي - ج1 - ص 103.
(34) تفسير الميزان - ج2 - ص 42.
(35) التفسير الكاشف - ج 1 - ص 290.
(36) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني - ص 579.
(37) وسائل الشيعة - ج4 - ص 397.
(38) نظرات في الإعداد الروحي للشهيد الشيخ حسن معن - ص 323.
(39) مجمع البحرين - ج3 - ص 476.
(40) دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام للشيخ الأيرواني - ج 1 - ص 525.
(41) سورة البقرة:196.
(42) المصدر السابق - ص 535.
(43) وسائل الشيعة - ج 9 - ص 308.
(44) سورة النّساء: 92.
(45) المصدر السابق - ج 15 - ص 559.
(46) سورة المائدة:89.
(47) تفسير نور الثقلين - ج 1 - ص 665.
(48) التفسير الكاشف - ج 3 - ص 120.
(49) التفسير الكبير - ج4 - ص 422.
(50) سورة المجادلة:40.
(51) تفسير البرهان - ج 7 - ص 470.
(52) فلسفة العقوبة علي جعفر - ص10.
(53) التشريع الجنائي لعبدالقادر عودة - ج2 - ص17.
(54) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - ج 5 - ص 314.
(55) مبادئ علم الفقه للفضلي - ج 2 - 81.
0 التعليق
ارسال التعليق