عمدة الآيات القرآنية الواردة حول تشريع وأحكام الصوم هي الآيات (183-187) من سورة البقرة، وقد شُرِّع الصوم في العام الثاني من الهجرة الشريفة يعني بعد خمسة عشر عاماً من الدعوة الإسلامية.
الآية مدار البحث
نقف هنا مع الآية الأولى من آيات الصوم وهي قوله تعـالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(1)، فمع مفرداتها القليلة إلا أنّها تحمل مضامين عالية وبحوثاً متعددة، هذا البحث يتكفل بسبر أغوار فقراتها الشريفة في أبعادها المختلفة العلمية والعملية كالفقهية والتفسيرية والتربوية لنحلّق في أجوائها ونستلهم من عظائمها.
* {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}:
البحث فيها في جهات:
الجهة الأولى: البُعد البلاغي:
ابتدأت الآية بهذا الأُسلوب الخطابي ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لاستجلاب انتباه المخاطب وشد أسماعه وتوجّه عقله وقلبه وقد روي عن عبدالله بن مسعود (رضيَّ الله عنه) أنّه قال: «إذا سمعت الله (عزَّ وجلَّ) يقول ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأعر لها سمعك فإما خيراً تدعى إليه وإما شراً تنهى عنه».
الجهة الثانية: البُعد النفسي:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نداء تحبب وتقرب يلتذّ به المؤمن ويفتح شغاف القلب، ويرفع معنويات الإنسان، ويشحذ همته، وفيه لذة قال عنها الإمام الصادق (عليه السلام): «لَذَّةُ مَا فِي النَّدَاءِ ـ أي: يا أيّها الَّذينَ آمَنُوا ـ أَزَالَ تَعَبَ الْعِبَادَةِ وَالعَنَاءِ»(2).
الجهة الثالثة: البُعد الفقهي:
هل الكافر مكلّف بالفروع؟
حيث إنّ خطاب وجوب الصوم موجّه إلى {الَّذِينَ آمَنُوا} فهل يعني ذلك أنّ هذا الوجوب مختص بهم دون غيرهم كالكفار أم لا؟ وهو بحث مطروح عند فقهائنا بعنوان "هل الكافر مكلّف بفروع الدين"، فبعد اتفاقهم وجميع المسلمين -إلا مَن شذّ- على أنّ الكفار مكلّفون بأصول الدين، وقع الخلاف بينهم في أنّهم مكلّفون بفروع الدين أم لا؟
وبما أنّ البحث تخصصي نقتصر على سرد الأقوال وبعض وجوهها فقط، فقد انقسم الفقهاء على قولين:
المشهور: يذهبون إلى أنّ الكفّـار مكلّفون بفروع الدين كتكليفـهم بأصـول الدين، وهذا يعني أنّ الكافر مطالب بالصلاة والصوم والحج، وهكذا بقية الفروع غاية الأمر أنه لو أتى بشيء من ذلك لم يصح منه، والسبب هو عدم تأتي قصد القربة منه كما لا يخفى.
خلاف المشهور: ذهبوا إلى أنّ الكفّار يختص تكليفهم بأصول الدين دون فروعه؛ الذي يعني عدم توجّه خطاب إليهم بالإتيان بالصلاة أو الصوم أو الحج أو الزكاة وبقيّة الفروع الأخرى، ويستدلّ له:
بعدد من الآيات التي اختص الخطاب فيها بالمؤمنين والتي منها الآية محل البحث، حين ابتدأت بنداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وبالتالي تكون مقيِّدة للإطلاق أو العموم الوارد في الآيات الأخرى التي تضمّنت الخطاب للناس، مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}(3).
ويجيب المشهور: لا يخفى أنّ البناء على صحّة التقيـيد أو التخصيص للإطلاق أو العموم وفقاً لما أراده أصحاب القول الثاني، يعتمد على وجود منافاة بين الطائفتين من الآيات الشريفة بحيث تكون إحداهما مثبِتة، والأخرى نافية، ولا ريب في عدم تحقق هذا في المقام، ضرورة أنّ كلتا الطائفتين مثبتة، عمدة ما كان وجَّهت إحداهما الخطاب لفئة خاصة، بينما وجهت الثّانية منها الخطاب إلى جميع الفئات، ومن الطبيعي أنّ توجيه الخطاب إلى فئة خاصة قد يكون موجبه أموراً دعت إلى ذلك.
الجهة الرابعة: علوم القرآن:
الآية التي تبدأ بـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهي آية مدنية.
وضع علماء علوم القرآن مجموعة من المميزات والقرائن للتمييز بين الآيات والسور النّازلة قبل الهجرة (المكيّة) والآيات والسور النازلة بعدها (المدنيّة)، وقد ذكروا أن الآيات المبتدأة بـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مدنيّة بخلاف المبتدأة بـ{يَا أَيُّهَا الناس} فإنّها مكيّة.
الجهة الخامسة: البعد التربوي:
جاء في روايات آداب التلاوة وقد ذكر بعضها صاحب العروة رحمه الله تعالى والتي منها: كلّما قرأ نداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أن يقول: لبيك اللهم لبيك، وذلك ليس قولاً فقط بل ينبغي أن يترجمه الفعل.
* {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام}
1- معنى الكتابة (كتب)
الكتابة معروفة المعنى ويكنّى بها أحد أمور:
- الفرض {كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}(4).
- العزيمة.
- القضاء الحتمي {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}(5) {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ}(6).
وفي الآية مورد البحث يفيد معنى الفرض والإيجاب، كما عُبِّر عن الصلاة المفروضة بـ(المكتوبة) ومعنى كَتَب يعني فرَضَ وأوجب، ويمكن بمعنى أنّه كتب في اللوح المحفوظ.
لماذا عُبِّر بالكتابة دون الفرض والإيجاب؟
عبر بـ(كتب) لأن المكتوب أبقى وأثبت.
2- عليكم: يفيد الإلزام كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فالجمع بين (كتب) و(عليكم) دلالته على الإيجاب الآكد.
3- الصيام: معناه لغة: مصدر بمعنى الكفّ عن الفعل، شرعاً: الكفّ عن أمور مخصوصة في زمان مخصوص وبشرائط خاصة.
للصوم تقسيمات متعددة بلحاظات مختلفة:
الصوم الحقيقي:
وهو ما يذكره علماء الأخلاق والعرفان، وقد قسّم العرفاء الصوم -من خلال ما ورد في الروايات- إلى ثلاثة أقسام وثلاث مراتب:
صوم العوام: الصوم عن الأكل والشرب وربما عوّض عنها في الليل.
صوم الخواص: صوم الجوارح السمع البصر.
صوم خواص الخواص: كفّ القلب عن الهموم الدنيئة والتعلّق بالله (عزَّ وجلَّ).
الآداب المعنوية للصوم
- يقول الرسول (صلَّى الله عليه وآله): «ما أقلَّ الصُوَّام، وأكثر الجُوَّاع».
- قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا العناء، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم».
- عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «إذا صُمتَ فليصُم سمعُك، وبصرُك، وجلدك -وعدَّد أشياء غير ذلك- ثم قال: فلا يكون يوم صومك مثل يوم فطرك».
- قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «من تأمّل خلف امرأةٍ، حتى يتبين له حجم عظامها من وراء ثيابها، وهو صائمٌ فقد أفطر».
- قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «ما من عبدٍ يُصبح صائماً فيُشْتَم، فيقول: إنّي صائمٌ سلام عليك، إلا قال الربّ تبارك وتعالى: استجار عبدي بالصوم من عبدي، أجيروه من ناري، وأدخلوه جنتي».
- قال الصادق (عليه السلام): «سمع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)امرأةً تسابُّ جاريةً لها وهي صائمةٌ، فدعا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بطعامٍ فقال لها: كلي! فقالت: أنا صائمةٌ يا رسول الله، فقال: كيف تكونين صائمةً وقد سببت جاريتك؟، إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنّما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصائم. ما أقلّ الصوّام!، وأكثر الجوّاع!»(7).
- قال الصادق(عليه السلام): «إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إنّما للصوم شرطٌ يحتاج أن يُحفظ حتى يتمّ الصوم، وهو صمت الداخل، أما تسمع ما قالت مريم بنت عمران: {ِإِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}(8) يعني صمتاً. فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضّوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تماروا، ولا تكذبوا، ولا تباشروا، ولا تخالفوا، ولا تغاضبوا، ولا تسابّوا، ولا تشاتموا، ولا تفاتروا، ولا تجادلوا، ولا تتأذّوا، ولا تظلموا، ولا تسافهوا، ولا تضاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة. والزموا الصمت والسكوت، والحلم والصبر والصدق، ومجانبة أهل الشرّ، واجتنبوا قول الزّور والكذب والفري والخصومة، وظنّ السوء والغيبة والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة، منتظرين لأيامكم، منتظرين لما وعدكم الله، متزوّدين للقاء الله، وعليكم السكينة والوقار والخشوع والخضوع وذلّ العبيد الخيّف من مولاه، خيّرين خائفين راجين مرعوبين مرهوبين راغبين راهبين. قد طهّرتَ القلب من العيوب، وتقدّست سرائركم من الخبث، ونظّفتَ الجسم من القاذورات، وتبرّأتَ إلى الله من عداه، وواليتَ الله في صومك بالصمت من جميع الجهات، مما قد نهاك الله عنه في السرّ والعلانية، وخشيتَ الله حقّ خشيته في سرّك وعلانيتك، ووهبتَ نفسك لله في أيام صومك، وفرّغتَ قلبك له، ونصبتَ نفسك له فيما أمرك ودعاك إليه.
فإذا فعلت ذلك كله فأنت صائمٌ لله بحقيقة صومه، صانعٌ له لما أمرك، وكلّما نقصت منها شيئاً فيما بيّنتُ لك، فقد نقص من صومك بمقدار ذلك»(9).
- «إذا أصبحتَ صائماً، فليصم سمعك وبصرك عن الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك عن القبيح»(10).
«وليكن عليك وقار الصائم والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلا عن ذكر الله»(11).
«ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك وإياك والمباشرة والقبل والقهقهة بالضحك فإنَّ الله يمقت ذلك»(12).
- عنهم (عليهم السلام): «إنَّ الصوم ليس من الطعام والشراب، إنّما جعل الله ذلك حجاباً مما سواها من الفواحش من القول والفعل»(13).
الصوم الظاهري
ما يذكر شروطه علماء الفقه:
ترك المفطرات المعروفة من طلوع الفجر إلى الغروب.
{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}:
توضيحها في نقاط:
النقطة الأولى:
- ما هو الغرض من سَوق هذا المقطع؟
حيث إنّ الصيام تشريعٌ جديدٌ على المسلمين وبطبيعته المشقة والتعب جاء هذا المقطع للتخفيف عليهم، أنّه لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقكم وأنّكم لم تتفردوا بفرضه عليكم.
النقطة الثانية:
- ما هي حيثية التشبيه (كما كتب)؟
الآية ليست في صدد البيان من جهة التطابق في التشبيه من جميع الجهات، بل هي في مقام التشبيه من حيث أصل تشريع الصوم لا من حيث التنظير من جميع الجهات وأنّ جميع الأمم السابقة كتب عليها ولأنّ صومهم كصومنا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف، بل التنظير من حيث أصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته. ليس في الروايات الواردة من طرقنا ما يظهر منه نفي فرض الصوم على الأمم السابقة وإنَّما الوارد هو أنّه لم يُفرض صوم شهر رمضان على غير الأمّة الإسلاميّة، فهي مزيَّةٌ منحها الله تعالى نبيَّه محمّد (صلَّى الله عليه وآله) وأمّته، ففرضَ عليهم صيام شهر رمضان لأنّه أفضل الشهور عند الله تعالى، لذلك كان فرض الصوم فيه على أمّة النبيّ الكريم (صلَّى الله عليه وآله) فضيلةً لهذه الأمّة على سائر الأمم.
النقطة الثالثة:
- مَن هم {الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}؟
اختلف المفسرون في تحديده على أقوال:
الأول: أنّهم الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم (عليه السلام) إلى يومنا هذا. وهذا يفيد أنّ للعبادات حقائق شرعيّة، وليست من الألفاظ المنقولة، فلاحظ.
الثاني: أن يكون المقصود هم «أهل الكتاب» لقوله «كُتِب» والقدر المتيقن منهم اليهود والنصارى، وقد يضاف إليهم المجوس بناءً على أنّهم أهل كتاب، وكذا الصابئة بناءً على أنّهم كذلك.
الثالث: أن يختص الأمر بخصوص النّصارى، فلا يشمل غيرهم، وهذا يعني أنّ الصوم لم يكن مكتوباً على اليهود مثلاً.
الرابع: أنّهم خصوص الأنبياء فقط دون الأمم. ولا يخفى أنّه لو كنّا وظاهر الآية لن نستطيع تحديد أيّ من الأقوال الأربعة، وذلك لأنّه لا يستفاد منها أكثر من ثبوت التكليف محل البحث أعني الصوم في الأمم السابقة دونما تحديد لهوية تلك الأمم، فهل هم جميعاً، أم خصوص فئة معينة منهم.
جاء في القرآن صوم زكريا ومريم "لكنّه عن الكلام".
النقطة الرابعة:
- ماذا يكشف لنا ثبوت هذا التشريع منذ القدم؟
بعض العبادات والتشريعات لأهميّتها الكاشف عن أهميّة وسمو ملاكها تجدها مفروضة ومشرَّعة في كل شرائع الأديان السماوية بل حتى غير السماوية القريبة من الفطرة، فالدلالة الالتزاميّة هذه تدل على عظمة هذه الفريضة وأساسيّتها في بناء إنسانيّة الإنسان وتكامله.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}:
الكلام فيها في مقامين:
حول معنى (لعلّ) و(التّقوى).
ما هي آثار الصوم التربويّة (الفرديّة والاجتماعيّة، الماديّة والمعنويّة)؟
ما هي العلاقة والرابط بين الصوم والتقوى؟
المقام الأول:
أولاً: معنى «لعلّ» لغة واصطلاحاً:
تستعمل في اللغة بمعنى الترجّي.
أما كاصطلاح قرآنيّ وفي موارد كلام الله سبحانه فتأتي للواجب العقليّ والشرعيّ وبيان الغاية مما سبقه وما ينبغي أن يوصِل إليه، وقد وردت في مواضع عديدة من القرآن الكريم، مثل قوله: لعلّكم تسلمون، تهتدون، تفلحون.
وأما سبب استعمالها -لعلّ- في مثل هذه الموارد فإنّه تنبيه على عدم الجبر بل جعل المشيئة لهم في مقام الطّاعة والعصيان. إشارة إلى الآيات: {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(14)، و{فمنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(15).
ومن هذا القبيل قوله تعالى لموسى في فرعون الذي يعلم حاله وعاقبة أمره {َلعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(16). وقد سئل الإمام الصادق عنها فقال (عليه السلام): «إِنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ تَذَكَّرَ وَخَشِيَ وَلَكِنْ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَأْسِ حَيْثُ لَمْ يَنْفَعْهُ الإِيمَان»(17).
ثانياً: أما «التّقوى» لغة واصطلاحاً:
فمصدره اللغوي الاتقاء وأصله: الإوتقاء، ومن وقى الشيء إذا صانه وستره، وتحرّز من الأذى والآفات.
فكأنّ المتّقي إذا لبس التّقوى من الله في قلبه لبس حرزاً ودرعاً حصيناً مما يخاف ويحذر. والتّقوى ضد الفَجَر والفُجُور {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}(18)، {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}(19).
ثالثاً: ما هو متعلّق التّقوى في قوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؟ هل هو لإفادة المعنيين: اتقاء الله، واتقاء النار أو أحدهما مردداً؟! أو يمكن أن يكون له مفهوم جامع ينطبق عليهما بالمطابقة والالتزام؟
أقول:
لا بأس بتقديم أمور:
الأمر الأول: أنّ الأمر بالتّقوى في الآيات القرآنيّة متعلّق بأمرين: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}(20)، {اتَّقُوا يوما}(21)، {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}(22).
ولا ريب -حقيقةً واعتباراً- أنّ تقوى الله تتحقق بطاعته وعبادته وهما سبب لاتقاء النّار والوقاية منها، فإذا لم يصرّح بما يتّقى، فالمراد هو الاتّقاء مطلقاً، الذي ينطبق عليهما إما مورداً كما الأول أو قهراً كما الثاني.
الثاني: أنّ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} في الآيات القرآنية لا تخلو إما متعلّقة بـ{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أو متعلقة بـ{الَّذِي خَلَقَكُمْ}، وهنا متعلّقة ظاهراً بـ اعبدوا دون خلقكم.
فإذا عرفت ذلك، أقول: (لعلّكم تتقون) جامع مطلق لم يخص باتقاء الله أو النّار، فله التوجيهان، والتوجيه بأيّهما صحيح يفيد مفهوماً انطباقياً.
فإذا وجّه قوله لعلكم تتقون -طبقاً للموضوع المتسلسل المتقدم- إلى خَلَقكم فالمناسب اتقاء الله بعبادته المستلزم لاتقاء النّار. وإذا وجه إلى اعبدوا فالمناسب اتقاء النّار الحاصل بالعبادة المستوجب لما حتم الله على المتّقين بقوله {ينجيِّ اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(23).
المقام الثاني:
فرق بين الآداب والآثار أنّ الأولى مقدمة للثانية وقد مر الكلام فيها وبقي في الثانية، ونعني بالآثار المعنويّة: "المعطيات التي تتصل بالروح والعقل والنّفس، فكل ما يؤثر في تسامي الروح، وكلُّ ما يسهم في تصفية العقل، وفي تزكية النّفس، فهو أثر معنويّ. وذلك في مقابل الآثار الماديَّة للصوم، كالآثار الصِّحية، والآثار السلوكيّة المرتبطة بنظام المجتمع، أو المرتبطة بالسلوك الشخصيّ"(24)، والفرق بين الآداب المعنويّة للصوم أنّها اختيارية وهذه طريق لتحصيل تلك والآثار المعنويّة تكون غير اختياريّة، فالصوم له آثار تربوية فردية واجتماعية ماديّة ومعنويّة أهمها:
1- التّقوى: وهو أبرز عنوان في المنظومة التّربويّة الإسلاميّة وهدف سام من أهداف الخلقة يأتي بعد هدف العبادة ونتيجة له، وإنّ أحَدَ أهمِّ الطُّرق إليه من تلك العبادات هو الصوم، لأنّه يُعبّد الطريق ويهيّئ السبيل إلى أن نصل إلى «الصوم جُنَّة من النّار».
- ما هي العلاقة والرابط بين الصوم والتّقوى؟
إنّ أكثر ذنوب الإنسان أساسها أمران هما: الغضب والشهوة، والصوم علاج وقائي ورادع واقٍ من عمل هاتين القوتين، لذلك كان سبباً للتقوى.
2- تقوية إرادة الإنسان: فقد فُسّر الصبر في بعض الآيات كقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}(25)، بالصوم فهو نوع من الصبر والقدرة على التحمّل وتقوية الإرادة وهو سبيل للاتقاء عن المعاصي، وما ترك بعض الأمور (المفطرات) في ظرف زمانيّ معيّن إلا نوع تدريب وتمرين ليتمكّن من ترك أمور أخرى أهم (المحرمات).
3- تعديل غرائزه: فقد ورد أنّه يقلّل تهيّج بعض الشهوات.
4- الحكمة: فقد ورد في حديث المعراج، إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال لربِّه: «يا ربّي، وما ميراثُ الصَّوم؟ قال: الصوم يُورث الحكمة، والحكمة تُورث المعرفة، والمعرفة تُورث اليقين. فإذا استيقن العبد، لا يبالي كيف أصبح، بعسرٍ أم بيسر»(26).
- وما هي العلاقة بين الصوم والحكمة؟
في حديث المعراج: إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) خاطب نبيّه (صلَّى الله عليه وآله): «يا أحمد، إنَّ العبد إذا أجاع بطنه، وحفظ لسانه، علَّمتُه الحكمة، وتكون حكمته نوراً وبرهاناً»(27)، وفي رواية أخرى عن الإمام عليّ (عليه السلام): «التّخمة تُفسد الحكمة، والبِّطنة تحجب الفِّطنة»(28)، وقال (عليه السلام): «القلب يتحمَّل الحكمة عند خلوّ البطن، والقلب يمجُّ الحكمة عند امتلاء البطن»(29).
5- سكون القلب، كما ورد في الروايات الشريفة: «أنّ من ثمرات الصوم سكون القلب».
6- تثبيت الإخلاص: «الصوم لي وأنا اجزي به»(30).
الآثار الاجتماعية للتقوى
- ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): «إنّما أمروا بالصوم لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة، ولِيَكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً على ما أصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثواب، ولِيَكون ذلك واعظاً لهم في العاجل، ورايضاً لهم على أداء ما كلّفهم، ودليلاً لهم في الآجل، وليعرفوا شدّة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا، فيؤدّوا إليهم ما افترض الله لهم في أموالهم»،تحتوي هذه الرواية على الأبعاد التالية: البناء الفكريّ والإعداد النّفسي والبعد الاجتماعي للصوم.
- الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّما فرض الله الصيام لِيَستوي به الفقير والغنيّ وذلك أنّ الغنيّ لم يكن لِيَجد مسَّ الجوع فيرحم الفقير، وأنّ الغنيّ كلّما أراد شيئاً قدر عليه فأراد أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مسّ الجوع والألم، ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع».
ومن الآثار الصحيّة ما ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «صوموا تصحوا»(31).
* الهوامش:
(1) البقرة :183.
(2) مجمع البيان في تفسير الآية.
(3) آل عمران :97.
(4) المائدة:45.
(5) المجادلة :21.
(6) يس:12.
(7) النوادر للأشعري القمي: 22.
(8) مريم :26.
(9) المصدر نفسه: 21.
(10) المصدر نفسه: 20.
(11) وسائل الشيعة، ج10، ص165.
(12) المصدر نفسه، ج10، ص165.
(13) المصدر نفسه، ج10، ص166.
(14) الإنسان :3.
(15) الكهف :29.
(16) طه :44.
(17) معاني الأخبار، الصدوق، ص385.
(18) الشمس : 7 و 8.
(19) ص:28.
(20) آل عمران: ١٠٢.
(21) البقرة: ٤٨، ١٢٣، ٢٨١.
(22) آل عمران: ١٣١.
(23) الزمر:61.
(24) مقالة للشيخ محمد صنقور، موقع حوزة الهدى.
(25) البقرة:45.
(26) إرشاد القلوب، الديلمي، ج1، ص203.
(27) المصدر نفسه.
(28) غرر الحكم، ص360.
(29) مجموعة ورام، ج2، ص118.
(30) الكافي، الكليني، ج4، ص63.
(31) اعتمدت في كتابة هذا البحث على عِدّة مصادر منها: تفسير الميزان؛ تفسير نور بـ(الفارسي)؛ وسائل الشيعة؛ موقع حوزة الهدى للدراسات والبحوث؛ موقع سماحة الشيخ محمّد العبيدان؛ علوم القرآن للسيد محمّد باقر الحكيم؛ المراقبات للملكي التبريزي).
0 التعليق
ارسال التعليق