الصحوة الإسلامية ورياح التغيير.. قراءة في خطب آية الله الشيخ عيسى قاسم (حفظه الله)

الصحوة الإسلامية ورياح التغيير.. قراءة في خطب آية الله الشيخ عيسى قاسم (حفظه الله)

تمهيد

حينما عادت الشعوب العربية إلى إسلامها عادت إليها إرادتها التي طالما كبلتها العروش وأرعبتها التيجان، عادت الإرادة فأشرقت شمس الحرية وألقت بأشعة كرامتها وعزتها وشرفها على ربوع الشعوب، وأحرقت عروش السلاطين. هكذا هو الإسلام، يُعِز من أخذ من عزته، ويهدي من استرشد به، ويحرر من طلب عبودية الله (عزّ وجلّ) وحده، ولا يخيب من اعتصم بحبله. فبالعودة إلى الإسلام تتكسر القيود وتنحني التيجان وتتساقط العروش.

وفيما يلي نستعرض جملة من خطب سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله) تتعلّق بالصحوة الإسلامية ورياح التغيير، فكلمات سماحته رائدة في هذه الصحوة ورافدة لها.

السياسة في الإسلام

الطرح السياسي موجود في الإسلام، على الرغم من اختلاف المسلمين في فهم هذا الطرح وكيفية التعاطي معه، فمدرسة الإمامة لا تفكك بين سياسة الدين والدنيا، وتشترط العصمة في الإمام والاصطفاء من الله (عزّ وجلّ)، استناداً إلى الأدلة العقلية والنقلية، بينما مدرسة الشورى تحصرها في الدنيا وتعطي أهل الحل والعقد حق اختيار الحاكم على ضوء مواصفات دنيوية.

يقول سماحته: "في الإسلام طرح سياسي واحد لا اثنان، ولكن المسلمين اختلفوا حول هذا الطرح، فمدرسة الإمامة غير مدرسة الشورى فهماً لهذا الطرح. تذهب مدرسة الإمامة، وهي تربط بين سياسة الدنيا والدين، بلا تفكيك بينهما فيه -بلا تفكيك بين الإمامة فيهما معاً على الإطلاق-، ولكون إمامة الدين متوقفة على فهمه فهماً دقيقاً مأموناً كاملاً، وتطبيقه كذلك، وعلى حاجة السياسة الدنيوية ونجاحها إلى خط الدين، اقتضى ذلك تعيين الإمام من الله (عزّ وجلّ)، لأنه وحده الذي يعلم بالمعصوم الثابت على العصمة في علمه وعمله، وتستند مدرسة الإمامة مع ذلك إلى عدد من النصوص الواردة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، ومواقف الرسول (صلّى الله عليه وآله) العملية.

وتذهب مدرسة الشورى إلى حق أهل الحل والعقد فيها، في اختيار الإمام على ضوء مواصفات دينية مطلوبة، ولا وقفة هنا للنظر في أي من المدرستين، فالحديث ليس بصدد التحقيق العقدي"(1).

العودة إلى الإسلام

عادت أمة الإسلام إليه، وانبعثت الحياة في روحها تحت ظل تعاليم القرآن الكريم وقيادة النبي محمد (صلّى الله عليه وآله). وهي عودة فيها صحوتها وحياة عقلها وإرادتها وعزتها وكرامتها وتحررها من العبودية لغير الله (عزّ وجلّ).

يقول سماحته: "أمة الإسلام تعود لماضيها عودة حياة لا موت، حركة لا جمود، تقدم لا تراجع، تجدد لا تقادم، ذلك لأنها عودة لقيادة الإسلام، قيادة القرآن، قيادة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي قيادة لإنماء الحياة ولإثرائها، لتدفقها، لتقدمها، للارتقاء بها، لتخليص حركة الإنسان في إنسانيته الكريمة، وفي إنجازاته المثمرة، وإبداعاته واكتشافاته وإضافاته النافعة من كل معوقاتها، والدفع بها إلى الأمام على الخط القويم.

وإن عودة الأمة إلى هذه القيادة فيها صحوتها، وحياة عقلها وإرادتها، وفيها حيويتها ونشاطها، وعزتها وثقتها بنفسها، وقوة عزيمتها، وحريتها واستقلالها وإبائها ورشدها وهداها.

العودة إلى الإسلام لا توجد معها هزيمة، ولا يوجد معها كلل ولا بطر ولا فساد ولا إفساد، هي القوة، وهي الاستقامة، وهي الرشد، وهي الصلاح والإصلاح.

ما بقيتم على خط الإسلام لن تضعفوا ولن تستضعفوا، ولن تضلوا ولن يضل بكم، ولن تتراجعوا أو تقهروا، ولن تذلوا، ولن تبطروا أو تستكبروا، ولا بد لكم من النصر وتستحيل عليكم الهزيمة"(2).

الحكم الوراثي والرؤية الإسلامية

الحكم الوراثي خطيئة اقترفها أرباب السياسة في الدولة الأموية، واستن بهذه السنة الأموية من عبد الكراسي وعشقها، وكأن العروش والتيجان خلقت له ولخلفه، باعتبارها إرثا يتوارث وكرة يتلقفها الصبيان. والحكم الوراثي الذي تنتهجه جلّ الأنظمة العربية، حكم لا يمت إلى الإسلام بصلة، لا على نظرية الإمامة ولا على نظرية الشورى، بل ولا على النظرية الديمقراطية التي طالما تغنى بها حكام الجور الذين ورثوا العروش والتيجان من أسلافهم.

يقول سماحته: "وقع المسلمون في خطأ الحكم الوراثي، الذي لا يلتقي مع إي من المدرستين -مدرسة الإمامة ومدرسة الشورى-. جاءت الدولة الأموية التي كانت ترى أن على الأمة أن تعيش تحت سيطرة الحكم الأموي ما دام على الأرض إنسان، وهكذا كانت وجهة نظر العباسيين والعثمانيين من بعد، وكل أسرة حكمت بلداً من بلاد المسلمين صار رأيها أن تحكم هذا البلد حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وحتى لا يشتبه الأمر على أحد، ويخلط بين هذا الفهم -الأجنبي قطعاً عن الإسلام- وبين فهم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فلا بد من الالتفات إلى أن مدرسة الإمامة بعيدة كل البعد عن الحكم الوراثي، فإمامة الحسن أو الحسين (عليهما السلام) ليس لأن هذا أو ذاك ابن لعلي ابن أبي طالب (عليه السلام) وإنما لأنهُ منصوص عليه بالنص الديني، وممن بشر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بإمامته، وهكذا الحال في إمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، والإمامة في أهل البيت (عليهم السلام) إنما حددت في إثني عشر إماماً سُمّوا سلفاً، وقبل ولادة الكثير منهم، ولا تمتد الإمامة في ذرية النبي وعلي (عليهما السلام) حتى النهاية.

ثم إنه في غياب المعصوم (عليه السلام) لا تقصر مدرسةُ الإمامة إمامةَ المسلمين على ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وعليه فإنه إذا أراد المسلمون أن يحترموا فهمهم للإسلام في المسألة السياسية حتى مع تخلِّيهم عن مدرسة الإمامة، فليس لهم أن ينسبوا الحكم الوراثي للإسلام ويشرعوا لهُ على هذا الأساس، وإذا أعطوا الحكم لأي فرد من إي عائلة فلا بد أن ينظروا في صلاحيته على أساس ما فهموهُ من مواصفات الحاكم في الإسلام حتى تتصحح نسبة اختيارهم إليه وأنهم اختاروه لأن الإسلام يوافق عليه، وأن اختيارهم ذاك إنما هو من اختيار الإسلام"(3).

الصحوة الإسلامية والربيع العربي

حركة الشعوب العربية لها خلفياتها وتطلعاتها، من حيث الظلم والاستعباد والقهر والأسر والتهميش، فتحركت الشعوب من أجل كرامتها وحريتها وحاضرها المشرف وغدها الأفضل. وهذه الحركة لا رجعة فيها للوراء ولا انحسار لها، بل هي في تصاعد وإصرار، لأن الربيع العربي ولد من رحم الصحوة الإسلامية، وإذا حضر الإسلام في وعي الشعوب حضرت كرامتها وعزتها ورفعتها، وذهب عنها الذل والهوان.

يقول سماحته: "تحرّك عدد من الشعوب العربية في سبيل واقعٍ جديد، وحاضرٍ مشرّف وغدٍ أفضل ينطلق من إصلاح الوضع السياسي الظالم في الأمة وتغييره، ومن تحقيق الانعتاق من الأسْرِ الخانق الذي تعاني منه شعوب الأمة على يد الأنظمة السائدة، وحالة التهميش التي تفرضها عليها، والاستخفاف الذي تتعامل به معها، إذْ كل جَنَبات الحياة عند الإنسان يصيبها الضرَرُ والتصدّع والتأثّر بسبب سوء الوضع السياسي والخلل الداخل عليه.

تحرّك هذا العدد من الشعوب لاسترداد كرامة الدين والإنسان وحريّته، وإنقاذ الثروات الوطنية من يد العبث والنهب والتلاعب، وهو تحرّكٌ لا رجعة فيه إلى الوراء ولا انحسار، وشعوب الأمة التي لم تلتحق بعد بحَراكِ الإصلاح والتغيير لاحقةٌ به لا محالة. وقطار التغيير مواصلٌ انطلاقته إلى آخر الطريق ولن توقفه قوّة غاشمة ولا تحايل ولا مكر، ولا كلّ ألاعيب السياسة، ولا موقف دولةٍ صغرى ولا دولةٍ كبرى في الأرض كلّها على الإطلاق.

ربيع الثورة العربي وحركات الإصلاح إنما وُلد كلّ ذلك من رحم الصحوة الإسلامية التي سرَت في روح هذه الشعوب. وكلما حضر الإسلام في وعي شعبٍ وشعوره، كلما امتنع أن يردّ هذا الشعب رادٌ عن طريق العزة والكرامة والحريّة والمطالبة بالحقوق والتغيير الصالح والانعتاق.

منطلق الربيع العربي مخزونٌ من الشعور بالقهر والإذلال والحرمان والتهميش والكبت وفقد الأمن، وكل ذلك من عطاءات النظام السياسي العربي الغاشم، منطلقه هذا المخزون وتلك الصحوة التي بعثت الوعي وأحيت الضمير، وحرّكت الإرادةَ وألهبت الشعور.

والنجاحُ الحقيقي لحركات التغيير والإصلاح وتحقيق مستقبلٍ زاهرٍ كريمٍ رائدٍ للأمةِ مرهونٌ باستمرار هذه الصحوة وتعمقها وصدقيّتها في ميزان الدين وشدتها وتوسعها"(4).

يقظة الشعوب ونوم السلاطين

استيقظت الشعوب من سبات خوفها وشعورها بالعجز والفاقة، ونفضت عنها غبار التبعية الذليلة، ولبست ثوب العزة والكرامة والإباء، فما عادت تجدي أساليب البطش والقمع، فقد صدح صوت الأحرار بأهازيج الحرية المصبوغة بالدم، فارتعد السيف حينما تجلى نزف الدماء.

يقول سماحته: "العام الحادي عشر بعد الألفين الميلادي ما هو إلا عام البداية للثورات العربيّة في وجه الأنظمة الحاكمة التي ضاقت بها الأمّة ذرعا؛ بما أوقعتها في مستنقع التبعيّة الذليلة وسلبتها العزّة ولقمة العيش وأذاقتها الهوان.

ثوراتٌ لن تُلقي عصا السير ولن تتوقّف عن تصاعدها ولن تستريح حتى تكون الحاكمية التي تُؤمِن بها الشعوب، لا الحاكميّة التي تُؤمّن طاغوتيّة السلاطين؛ ذلك لأنها لم تنطلق من فراغ ولا نظرةٍ سطحيّة أو حالة انفعالٍ عابر أو رؤية مُتعجّلة أو إرادةٍ متلكّئة أو عزمٍ ضعيف.

وإنه لن تنفع -بعد يَقًظةِ الشعوب وانبعاث إرادتها والإصرار على استرداد حقوقها وحريّتها وكرامتها في إيقاف هذه الثورات- أساليبُ بطشٍ وقمع، ولا حيلةٌ ولا وسيلةٌ ممّا يقع تحت يدِ الباطشين الذين لا يرعون إلاً ولا ذمّة ولا يقيمون لإنسانٍ وزناً"(5).

الزلزال العنيف

رياح التغيير في البلاد العربية والزلزال العنيف ليس من قبيل الصدف، بل جاءا على وفق السنن التاريخية، حيث إن المقتضي موجود، والمانع ليس بالشدة التي تحول بين الأمة وبين التغير.

يقول سماحته: "هذا الذي يعرض الأجواء السياسية في البلاد العربية هو من رياح التغيير العاتية والزلزال العنيف والطوفان الجارف والتحولات الكاسحة، ما يحدث ليس صدفة، ولا مفاجأةً كاملة، ولا شذوذاً في سير التاريخ، ولا خروجاً عن صنعه.

المقتضي موجود والموجب تام والسبب قائم في جور الأنظمة، ونهبها للقمة الشعوب، وسياسة الإذلال والهوان، وتهميش الأمة، وبيع المقدرات، والتنكر للهوية، وسحق الكرامة، وبيع الأوطان، والفساد والإفساد الشامل.

وإذا كان مانعٌ من التغيير فهو على ما هو عليه لم يتغير، ما هو المانع؟ هو قرار الأنظمة، بطشها، تمسكها بالحكم بأي ثمنٍ تجده على الإطلاق، استهزاؤها بإرادة الشعوب.

والثابت أن المانع على شدته ليس إلى الحد الذي يعطل رياح التغيير، ويؤجل الزلزال، ويحول بين الطوفان وبين أن يبدأ، ويمد في عمر الباطل لو حصل شرط التغيير. المفقود كان هو الشرط، والمقتضي للتغيير موجود، والمانع ليس بالشدة بين الأمم وبين التغيير، لكن الشرط كان مفقوداً"(6).

الطوفان بدأ لا ليهدأ

طوفان بدأ لا ليهدأ، وهو لا يستجيب لمنطق الترهيب أو الترغيب أو التخدير أو التأجيل، فهو بدأ ليسترد حقوقه المسلوبة، وخيراته المنهوبة، وإذا لم يُعطاها اليوم فسوف يأخذها غداً، ولن يقبل بها إلا مضاعفة بحجم تضحياته ومعاناته.

يقول سماحته: "الطوفان بدأ لا ليهدأ، ولا ليقف عند حد بلدٍ وشعب، وهو غير قابلٍ للالتفاف والمغالطة والتخدير والتأجيل.

ومن التغيير ما يكلف البلدان الكثير من الخسارة على مستوى الإنجازات والإنسان، ومنها ما هو دون ذلك، والمسألة ترتبط بحكمة الأنظمة وتعقلها، ومبادرتها في الاستجابة لضرورات الناس ومطالبها العادلة السياسية وغيرها، والاعتراف العملي العاجل بكرامة الشعوب وحقوقها في شكل الحكم وسياسته.

وقد رأينا أن ما يمتنع عن إعطائه للشعوب اليوم، لا ترتضيه غداً على مضاعفته.

اليوم أي شعبٍ يطلب قدراً من الحقوق، غداً يتضاعف الطلب، وتعرض عليه الحكومات أكثر مما طلب، إلا أنه بعد التضحيات الكثيرة لا يقبل بما يعطى. وهو درس يجب أن تتعلمه الأنظمة.

وأن الذين يتذرعون بألوان التذرع، ويعتذرون بألف عذر عن الإعطاء للقليل والتغيير في حال السعة، يعلنون عن استعدادهم للإعطاء الواسع والتغيير الكثير إذا ضاقت بهم الأمور، وعند فوات الأوان"(7).

الوطن العربي بين خريف وربيع

طال الخريف العربي في ربوع البلدان العربية، وكاد أن يُذهب ببقية الفصول، إلا أن أمطار الصحوة الإسلامية أحالت الأرض القفراء إلى جنة خضراء يفوح أريجها بعبق الحرية والكرامة والعزة، ذهب الخريف وجاء الربيع العربي للشعوب وسيستمر بإذن الله تعالى وإن بقي خريف الحكومات والأنظمة.

يقول سماحته: "الوطن العربي بين خريف حارق لكل أخضر ويابس على مستوى العقول والقلوب والضمائر، وإرادة الخير والإبداع الكريم في الإنسان، وعلى مستوى الساحة الخارجية وكل مظاهر الحياة، هو بين ذلك وبين ربيع بدأت نسائمه تهب عبقة ببشائر الحياة.

طال الخريف العربي حتى كاد أن يقضي على الحياة، إلا أن الأرض العربية بدأت تستقبل الربيع، وتعيش مظاهره في واقع الشعوب وحركتها، والخريف العربي والجمود في الواقع العربي الرسمي لا زال يقاوم بشراسة ودهاء وإمكانات وخزائن هائلة حركة الوجود الشعبي وانبثاقة الحياة في الأرض العربية.

وما بيد الوجود الرسمي من خزائن وجيوش وإمكانات إنما هي ملك الأمة، وكل إمكاناته التي يواجهها بها من صنع ثروتها. الحركة حركة شعوب لا حركة أنظمة من ذاتها، ولا حركة لأي نظام عربي بمقدار خطوة إيجابية صغيرة إلا بتحرك من الزلزال العربي على مستوى الشعوب.

دور الأنظمة دور مقاوم، مجهض، مبطل، محرف، متحايل، سارق لحركة التغيير ونتائجها"(8).

لغة الحكومات ولغة الشعوب

لغتان تتصارعان، لغة الحكومات المستبدة ولغة الشعوب الأبيَّة، لغة حكومات تخير الشعوب بين الذلة والسلة، ولغة شعوب تهتف هيهات منَا الذلة، مستلهمة هذا الشعار من إباء الإمام الحسين (عليه السلام) -نصاً أو معنى- ومن كانت هذه لغته فنصر الله (عزّ وجلّ) حليفه لا محالة.

يقول سماحته: "لغة الحكومات لشعوبها؛ هي أن تموت هذه الشعوب أو تنحني، أن تموت جسداً أو تموت فكراً وإرادةً وإنسانية وتتنازل عن حريتها، أن تقبل الهوان والذل والفقر والجهل والمرض وتخسر دينها.

وذراع هذه اللغة ما بنته ثروات الأوطان التي هي ملك الشعوب من قوة عساكر، ومؤسسات استخباراتية، وسجون، وقوى تسلحية، وصحافة موالية، وقنوات إعلامية تحت التصرف، وإمكانات هائلة، ومرتزقة وكل ما يستعان به لقهر الآخر وإذلاله.

أما اللغة الأخرى، فهي لغة شعوب أفاقت من غفوة طالت، ونفضت عنها غبار المسكنة، وتخلصت من عقدة الخوف، وكسرت طوق رعبها، ولسان هذه اللغة يعلو مجلجلاً الموت لا الانحناء، الحرية وإلا فالمنية، الموت أولى من الذل والعار"(9).

الحسين (عليه السلام) ملهم الربيع العربي

ويواصل سماحته: "وأخذَت كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) التي انطلَقت من روحه الأبية، وقطعت مسافة القرون المتوالية لتملأ الساحة الثورية العربية والإسلامية الواسعة الملتهبة كلها، وتنطلق مدوية على ألسن الملايين ـ نصا أو معنى ـ لتملأ مسمع الدنيا كلها بشعار هيهات منا الذلة، كلمة قالها الإسلام من أول يوم، وبقيت على لسان الرسول (صلّى الله عليه وآله) وفي سلوكه، وعلى لسان كل إمام بمعناها وبمؤداها، وهي باقية على لسان المسلم الحق إلى الأبد"(10).

لغة الشعوب تنتصر

ويقول سماحته: "هذه اللغة سلاحها الإيمان بقيمة الإنسان وكرامته، وأن الله (عزّ وجلّ) يأبى للمؤمن أن يذل نفسه، وأن يطأطئ لإرادة العبيد المخالفة لإرادة ربه، وأن يسلم للعبودية لغير خالقه، وسلاحها الصبر على مواجهة الموت، وبذل الروح في سبيل الله وما أذن الله (عزّ وجلّ) أن يبذل الدم من أجله.

ولغة الشعوب هذه أخذت تتحول إلى لغة عامة ومفهومة ومستذوقة بل معشوقة في العالم العربي والإسلامي، وأخذت في التعمق والتجذر يوماً بعد يوم في ظل ظاهرة الاستشهاد المتتابع، وبحور دماء شهداء هذه اللغة في الأرض العربية.

هذه اللغة بدأت تفرض نفسها على الأجيال الجديدة بقوة بعيداً عن العدوانية، وإنما هو عشق الحرية والكرامة، ورفض العبودية إلا لله سبحانه الذي لا يستكثر عليه أي ثمنٍ في سبيل رضاه.

وما تجلى عن هذا الصراع بين اللغتين، هو انتصار لغة الدم على السيف، والحق على البطش، والحرية على رغبة الاستعباد، والشعوب المطالبة بالإصلاح على الحكومات المضطهدة للشعوب"(11).

حاجز الخوف ورياح التغيير

ارتفع حاجز الخوف عند الشعوب فسقطت عروش الأنظمة الظالمة وتزحزح بعضها، فبداية التغيير مرهونة بهدم جدار الخوف والرعب الذي بنته الأنظمة.

يقول سماحته: "مسألة بداية التغيير وزحفه، وحدوث الزلزال واشتداده، وانطلاق الطوفان واكتساحه، مرهونةٌ بانهدام حاجز الخوف والرعب الذي أقامته ومتنته الأنظمة السياسة الجائرة في نفوس أبناء الأمة، والحرص على الحياة الدنيا وإن كانت شحيحةً ذليلةً في نفوس أبناء الشعوب، ومرهونةٌ بإدراك الحالة البائسة حتى لمن كان شبعاناً من الناس، وانفتاح الأمل بعد اليأس المقيت"(12).

القيادة ورياح التغيير

لا بد للتغيير من رشد يقيه من الانفلات أو الانحراف أو الالتفاف، ورشد التغيير يتمثل في وجود قيادة شرعية وحكيمة وشجاعة وعاقلة، تقود السفينة في البحر المتلاطم إلى شاطئ الأمان. فكل ثورة تحتاج إلى خميني، والخميني يعني الفقيه العالم العادل البصير الشجاع الحكيم الذي لا تأخذه في الله لومة لائم.

يقول سماحته: "رشد التغيير، وتحقيقه للآمال العريضة، وانضباطه، وأمنه من الحرْف والالتفاف عليه، ويسره، وانسيابيّته بدرجة أكبر وأضمن، فيحتاج إلى شرط القيادة الموحدة الكفوءة الرشيدة الأمينة الشجاعة، النابعة من ضمير الأمة، المنسجمة مع آمالها، المجسدة لرؤيتها، التي لا ينقصها الوفاء والإخلاص، والتقدير الدقيق، وقد تجسد هذا الشرط في مثل قيادة الإمام الخميني "رضوان الله عليه" في ثورته العملاقة أمام طغيان النظام الشاهشاهي المقبور.

وكل ثورة تحتاج إلى خميني جديد، في عزمه، في رشده، في إسلاميته، في تصميمه، في دقته، في تقواه.

على أن أي تغيير صالحٍ في الأنظمة الفاسدة، تتوفر عليه الشعوب هو خير، وإن لم يبلغ كل ما تبلغه ثورةٌ تامة المقومات، مكتملة الشروط"(13).

عناد حكومات وإصرار شعوب

الشعوب صامدة صابرة مصرة على تحقيق مطالبها وخروجها عن الأسر والقهر والذل والهوان، والحكومات في عناد وخيلاء وعنجهية واستهتار في إرجاع الحقوق المغتصبة لأربابها، إلا أن الليل قد انجلى بصبح جديد، والقيد قد انكسر بعد أن صدأ الحديد. فالشعوب لا تتراجع، بل الحكومات هي التي تسقط إن لم ترجع عن غيِّها وظلمها وجبروتها.

يقول سماحته: "حكومات لا تريد أن تتنازل عن شيء من استبدادها، وظلمها ونهبها، واستعلائها واستكبارها، أو تعترف بشيء من قيمة الشعوب وحقها في رسم مسار حياتها وتقرير مصيرها، وتمتعها بحريتها وكرامتها، والاعتزاز بإرادتها.

وشعوبٌ لم يعد يثنيها عن استرداد هذا الحق صعوبة من الصعوبات، ولا تحدٍّ من التحديات، ولا أي آلامٍ تلقاها على الطريق أو سبب منيةٍ يعترضها.

عود الأمور إلى ما كان ليس في الإمكان، وليس له أي مكان، والتنازل السهل من الحكومات غير واردٍ في الكثير، والواقع المشهود وما يسجله من استماتة الشعوب رغم كل التضحيات، وتصاعد الروح الثورية في إنسان هذا الجيل ـ يوماً بعد يوم ـ حتى لا يزيده ارتفاع مستوى التضحيات إلا إصراراً وصموداً، ينفي تماماً إمكان أن يحصل تراجعٌ في حركة المقاومة، لظلم الحكومات واستبدادها وما تصر عليه من استعباد الشعوب.

والمظلوم إذا استرد إرادته أقوى من الظالم، والموجع أشد اندفاعةً للتخلص من آلامه من مترفٍ يهمه أن يحافظ على ترفه، فالنتيجة للصراع حسب المقدمات الموضوعية هو الإصلاح والتغيير، والتراجع لصالح إرادة المظلومين وحقهم، وهو التراجع الذي يدعو إليه العقل والدين والضمير، وهو التراجع الذي يحفظ إنسانية الطرفين ومصلحتهما"(14).

خيارات الأنظمة الظالمة

للأنظمة خياران لا ثالث لهما، الاستجابة لإرادة الشعوب التي رجعت إلى إسلامها وأبت إلا العبودية لله الواحد القهار، أو قتل الشعوب واستبدالها بشعوب تقبل الذل والهوان، ولن يجدوا شعباً بعد هبوب رياح التغيير يقبل الذل والهوان، والخيار الأول فيه رجاحة عقل، بينما الخيار الثاني فيه سفاهة وبداية للسقوط.

يقول سماحته: "مع استمرار هذه الصحوة وتصاعدها يستحيل على أيّ نظامٍ من أنظمة الحكم الظالمة أن يكون في منأى عن المواجهة والمطالبة بالإصلاح والتغيير. وفي ظلّ الواقع الجديد لشعوب الأمة لم يبقَ أمام الأنظمة الحاكمة المناهضة للإصلاح والتغيير إلا أن تستبدل عن شعوبها أو تستجيب لإرادتها.

يا رجال أنظمة الحكم الظالمة إذا أردتم أن يبقى لكم ظلمكم واستئثاركم بكنوز الأوطان واستعبادكم للنّاس فاقتلوا شعوبكم واستبدلوا عنها شعوبا ميتةً ذليلة تقبل الأسر والاستعباد، ولن تجدوا بديلاً في الأرض اليومَ من هذا النوع. شعوبكم العربيّة المسلمة صار يستحيل عليكم بعد صحوتها وعلى من هو أشدّ منكم وأقسى أن يحكمها بالحديد والنار، ويقتل إرادتها ويُخمد في داخلها روح الثورة وطموح الإصلاح والتغيير.

سبيلكم الوحيد إذا عزّ عليكم الإصلاح والتغيير أن تحصدوا هذه الشعوب حصداً إلى آخرها إن أمكنكم ذلك -ولن تستطيعوا- وإلا فإنَّ أيّ شعبٍ من الشعوب التي حرّكها الشعور بضرورة التغيير على ضوء الإسلام لن تتراجع ما دام الدم سارياً في عروقها، ولن يطول سكوت أي شعبٍ من الشعوبِ المظلومة التي لم تهبّ بعدُ على الظلم. وكلّ الاحتياطات الوقائية من التغيير لن تصمد أمام هبّة الشعوب وعزمها وجديّتها، واستمراركم في الظلم يُفقِد شعوبكم الصبرَ ويستنهِضُ إرادتها.

على أي حكومة عربية ألا تصدّق نفسها بعد اليوم بأنّها ستبقى صاحبة الكلمة الوحيدة وسيّدة القرار والموقف، تتحكم في مصير شعبها كما يحلو لها"(15).

الطائفية مخرج الطوارئ عند الحكومات

للسياسة القذرة الرسمية جرائم في حق الأوطان والشعوب، فساسة العروش إذا اكتوت مصالحهم بحرارة لهيب ثورة الشعوب لتحرير الأوطان، نراهم يفتعلون إشعال حرائق جانبية بعيدة عن قصورهم، لتحميهم من لهب الثورة الذي يقترب من قصورهم وحصونهم، ومن تلك الوسائل التي تحرق اليابس والأخضر، لهيب الفتنة الطائفية التي هي مخرج الطوارئ للحكومات من لهيب الثورات.

يقول سماحته: "من له شيءٌ من عقل، شيءٌ من دين، شيءٌ من ضمير، شيءٌ من إنسانية، شيءٌ من غيرة، شيءٌ من حياة لا يُحرق وطنه، أهل وطنه، ثروة وطنه، أخوّة مواطنيه، دينه، أخلاقه، إنسانيته، أمنه، حاضره، مستقبله. وكل ذلك تحرقه الفتنة الطائفية التي يضيع فيها العقل، ويغيب الدين والضمير، وتعطل الكوابح، وتقفز على الحواجز وتتجاوز الحواجز.

فلا ريب أن من يسعى لإشعال الفتنة الطائفية، فإنما يريد إشعال حريق شامل يجد منه مخرجاً للتحكم في الأوضاع، غير مبالٍ في نفوس الناس وما لهم من أرضٍ ومال.

إنها جريمة السياسة القذرة في حق الوطن والمواطنين أن يعمد أحدٌ إلى إحداث فتنة طائفية، إنها عملية استهتار، وسحق إلى الدين والقيم والإنسانية وكل حرمة من الحرمات.

هناك من يريد احتراق الوطن، من يريد لكم يا أبناء الشعب سنة وشيعة أن تقتتلوا، أن تسفكوا دماءكم، أن تدخلوا في حربٍ مفتوحةٍ لا حدود لها، ولا تستثني مالاً ولا عرضاً ولا دما، ولا ترعى حرمةً من الحرمات، ولا تحترم أخوَّة ولا تاريخاً ولا ديناً ولا خلُقاً.

أمامكم مصر، ليبيا، اليمن، سوريا انظروا كم حصدت السياسة الدنيوية المقاومة لمطالب الشعوب وحركات الإصلاح، وإصرار السلطات على كل مكاسبها الظالمة من أرواح هذه الشعوب.

لم يُحصد الليبيون على يد القذافي السني لأنهم شيعة، ولم يُحصد المصريون على يد حسني مبارك السني لأنهم شيعة، ولم يُحصد أهل صنعاء وعدن على يد صالح السني لأنهم شيعة، حُصد كل أولئك وهم سنة من الحاكم السني بذنبٍ واحدٍ مشترك هو المطالبة بالحقوق والإصلاح والحرية والكرامة، ولم تشفع لهم أخوَّةٌ دينيةٌ ولا مذهبيةٌ ولا وطنيةٌ يشترك الحاكم معهم فيها. إن السياسة الدنيوية لا تعرف وزناً لدين ولا مذهب ولا قيم ولا أعراف، كل القيمة عندها للكرسي والسلطة والدنيا.

ولا تفتقر السياسة الدنيوية إلى الحيلة والمكر الذي يوقع أبناء الشعب الواحد في الاقتتال حفاظاً على السلطة بل على كل ما تغتصبه من الشعوب وتصادره من ثروة وحرية وكرامة الأوطان ظلماً، والمداخل لهذا المكر متوفرة دائماً والفرص ميسورة.

هناك التعدد الديني، التعدد المذهبي، التعدد القومي، التعدد اللوني، التعدد القبلي، التعدد المناطقي، التعدد الطبقي، التعدد اللغوي، كل هذه التعددات وكثير منها يتواجد في الوطن الواحد والشعب الواحد، أي شعب يخلوا من هذه التعددات ومن غيرها حتى لا تجد السياسة الظالمة مدخلاً تلِجه للفرقة وتفتيت الشعب الذي تحكمه واحتراب أبنائه؟

في مصر استخدمت ورقة التعدد الديني، وفي ليبيا استخدمت ورقة التعدد القبلي والمناطقي وكذلك في اليمن. أما ورقة الاتهام والورقة الرابحة في البحرين هي ورقة الطائفية التي تجيد السلطة لعبة استخدامها.

أما ورقة الاتهام بالتآمر والعمالة للأجنبي والخيانة، فهي ورقة مشتركة استخدمها المصري والليبي واليماني، وهي مستعملة في سوريا وفي كل مكان.

والسياسة التي لا تقدس إلا الدنيا، لا تستثني أي أسلوبٍ دنيء إجرامي في سبيل الحفاظ على مصالحها، ومن أبشع هذه الأساليب دناءةً وإجراماً تمزيق الشعب الواحد، وزرع روح الكراهيّة بين أبنائه، وإثارة الأحقاد والريبة والبغضاء بين صفوفه، والانتهاء به إلى حربٍ داخليةٍ طاحنة لا تلتفت إلى دينٍ ولا قيم ولا مصلحة وطن"(16).

باعة الضمير والدين

ويقول سماحته في معرض حديثه عن باعة الضمير والدين في ظروف النزاعات بين الشعوب وحكامها: "هناك محب ظهور، باحثون عن مال، باحثون عن مناصب، أصحاب أحقاد، أصحاب عقد، لا يجدون فرصة أفضل من جو النزاع والصراع وتضارب المصالح بين شعب وحكومة، والحكومات تبحث في كل الظروف عن عملاء، عن ألسن، عن أيدي، عن عيون تستعين بهم لتنفيذ خططها وتثبيت وجودها بأي ثمن مستطاع، ولا تجد أفضل من باعة الدين والضمير من كل الفئات والشرائح والملل والمذاهب والتخصصات ممن يبحثون عن مشتر لهم كما تبحث تلك الحكومات عمن تشتريه لأغراضها السيئة.

وأعظم ما تشتد حاجة الحكومات لهذه السلعة ويكثر طلبها عليها، فيكبر ثمنها في حال أزماتها مع شعوبها وإصرارها على كسر إرادة الشعب وإذلاله وعدم التنازل له في أي من حقوقه الثابتة، وهذه هي الفرصة الذهبية لمن كان يبحث عن الدنيا في أي بُعدٍ من أبعادها وأي مُغرٍ من مغرياتها أو تفاهة من تفاهاتها وكان مستعداً أن لا يُبقي لنفسه ذمةً ولا ديناً ولا إنسانيةً ولا شرفاً في قبال ما يطمح له من مال أو منصب أو تزلّف، وفي هذا مصيبة كبرى للدين والشعوب والأمة"(17).

الوحدة الإسلامية وقلق الأنظمة

الدعاة إلى الوحدة الإسلامية من أبغض الناس إلى الحكومات، فتراهم ملاحَقون منها بالتشويه والكذب والافتراء، والخاسر الأكبر من تحقيق الوحدة الإسلامية هي الحكومات، بقدر ربح الشعوب من تحقيقها في أرض الواقع.

يقول سماحته: "الدعوة إلى الوحدة الإسلامية والوطنية موجعة إلى الحكومات الظالمة ومفشلة لأهدافها الخبيثة -إذا دعوت إلى الوحدة آذتك الحكومة التي تريد تفريق الشعب، وألّبت عليك الأقلام والألسن- والدعاة إلى هذه الوحدة من أبغض من يكونوا لهذه الحكومات، وهم ملاحَقون منها بالتشويه والعقوبة وقلب الحقائق والكذب والزيف والبهتان.

وعلينا أن نؤكد دائماً على وحدتنا الإسلامية والوطنية وليغضب ذلك من يغضب، وهذا الشعب الواحد حين يطالب بالديمقراطية التي تعطيه حق الرأي في دستوره وقوانينه وحكومته وتقرير المصير لا يطالب بديمقراطية شيعية أو ديمقراطية سنية، فالديمقراطية ليست ذات تصنيف مذهبي وليست صديقة مذهب معين وعدوة لمذهب آخر، الديمقراطية في مجالها السياسي لا حديث لها عن المذاهب ولا مساس لها بها. الديمقراطية لإنصاف الشعوب وليس لظلمها، وإذا كان هناك متضرر من الديمقراطية فهي الحكومات الفاسدة والمستبدة وأهل المطامع الظالمة الذين يشاركونها الأثرة والفساد والبغي في الأرض وتهميش الشعوب، وهؤلاء ليسوا قصراً على مذهب معين أو قومية خاصة"(18).

وعاظ السلاطين وإنكار الظلم

كما أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، فإن شر الخلق من تاجر بالدين بسرقة لباسه خدمة للسلاطين، بعد أن أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كِظَّة ظالم ولا سَغب مظلوم.

يقول سماحته: "ليس لمسلم وعلى أساس الإسلام أن ينكر على الأمة مواجهتها إلى الظلم ومحاولتها ردع الظالم عن ظلمه، وإنما على المسلم من منطلق إسلامه أن لا يقرَّ أحداً على ظلم، ولا يسكت على مظلمة مظلوم ما وجد إلى ذلك سبيلاً ومنفذا، فكلما وُجد سبيل أو منفذ إلى إنكار المنكر وإيقاف الظلم كان ذلك متعيناً على المسلمين جميعاً.

إن الوقوف مع الظالم ضد المظلوم يفصل العالم الديني -وأي متحدث باسم الإسلام- عن الإسلام نفسه في هذا الموقف الشائن المعادي لدين الله، ورفع شعار الإسلام ممن يقفون هذا الموقف الشيطاني، ممن يقفون موقف المناصرة للظلم؛ من أكبر عمليات التزوير المضرة بصفاء الدين ومكانته في الناس، وعلى الأمة فضح هذه المواقف والتبري من أصحابها، إنقاذاً للدين من التزوير وسوء السمعة، وللأجيال من الاغترار بالزور، كما حدث كثيراً في التاريخ وابتليت به الأمم، وكم من أمة ضلت أجيال منها بسبب مواقف علماء الدين الموالين للسلطات الظالمة، وإن الذين يناهضون حركات التحرير والتغيير النافع والإصلاح ويعادون المصلحين إنما ينطلقون في هذه المناهضة والعداوة من ارتباط مصالحهم المادية بالوضع الظالم المتخلف والفساد المستشري فيه، وإن تستروا بشعارات مختلفة منها الديني والمذهبي والدفاع عن هذه الفئة أو تلك من فئات المجتمع التي كلها تعاني من آثار الوضع الظالم الذي يضطهد الجميع، ويسلب ويسرق ويستخف بكرامة الجميع ويستعبد الجميع ويمزق النسيج الاجتماعي الذي يحفظ وحدة كل الفئات"(19).

فتاوى وعاظ السلاطين

ويقول سماحته: "من انتسب إلى دين أو مذهب أساء إليه بإساءته إلى الناس، وشوهه بممارسته للظلم أو مساندته له، وإذا جاءت الإساءة أو الظلم أو المساندة له من عالم دين عظمت بذلك الإساءة إلى الدين، أما أن يحدث ذلك من عالم دين وباسم الدين أو المذهب فهو من أظلم الظلم للدين والمذهب.

وليس هناك ما هو أشد عداوة على دين أو مذهب من عالم يسيء لخلق الله أو يمارس ظلماً في حقهم، أو يعين على الظلم والجور والفساد بما يفهم منه أن هذا بإذنهما لما يلتمس لذلك من مبررات ينسبها للدين والمذهب اللذين ينتسب لهما، أو يرى الناس فيه أنه يمثلهما في قوله وسلوكه.

وما أكثر العلماء اليوم ممن يصدرون فتاوى تحرم المظاهرات والمسيرات والاعتصامات ومختلف أنواع الاحتجاج السلمي ضد السياسات الظالمة، والتي تطالب بالحقوق و الإصلاح في صالح الإسلام والمسلمين.

ولا يخلو بلد من بلاد المسلمين اليوم من علماء تعتمدهم الحكومات الجائرة لمحاربة الشعوب بفتاوى التحريم والتكفير لمن يعلنون الإنكار على السياسات الظالمة ويطالبون جهراً بالإصلاح بطرق الاحتجاج السلمي.

وهذا من أسوء ما يواجه الدين من مسخ وتشويه وزيف، وعمل مسقط لقيمة الدين، ملوث لنزاهته، وهو من أحدِ أدوات الفتك به وأشدها فاعلية وأثراً قاتلاً له"(20).

مسؤولية الأمة تجاه وعاظ السلاطين

ويقول سماحته: "ينبغي للجماهير في كل مكان أن تعي المنطلقات الحقيقية والدوافع الخلفية للمناهضين لحركات التغيير والإصلاح وتعزلهم، وإذا كان البعض يرى في الإصلاح إضرارا بامتيازاته المادية بالوضع الظالم والصيغة السياسية الفاسدة وتقليلاً من فرص تسلقه إلى المواقع المغرية، والمكاسب الحرام، التي لا يرى له فرصة ولا طريقاً إليها إلا بمساندته للظلم والفساد، واستماتته في التبرير والدفاع عما لا يرضاه الله سبحانه من ظلم العباد، وامتهان كرامة الاستئثار بالثروة المشتركة، فإن الشعب الذي يرى في الإصلاح حياته وكرامته، وفي التخلي عن الإصلاح العبودية والانتحار، لأشد استماتةً ودفاعا عن حقه في الحياة الكريمة والحرية والعيش في سعة وأمان.

لن يكون المدافعون عن الظلم والفساد -خوفاً على مصالحهم الشخصية وامتيازاتهم الظالمة القائمة على آلام المحرومين- أشدَّ حماساً وتضحية من المكتوين بنار الوضع الظالم والمتطلعين إلى الخروج من العذاب، على الذين يتمنون بقاء الأوضاع السياسية المنحرفة الظالمة في البلاد العربية على ما هي عليه من صورة سيئة مخزية تتنافى مع حقوق الإنسان وكرامته والشأن العزيز للمسلم، حرصاً على ما يستفيدونه من امتيازات محرمة ترتبط بهذه الأوضاع أن ييأسوا من ذلك، وليس لهم يوم يأتي نصر الله للمؤمنين إلا أن تتقطع قلوبهم حسرات"(21).

تساقط العروش والتيجان

حينما ارتفعت صرخات الأحرار وعلت قبضاتهم، انحنت تيجان السلاطين وتساقطت عروشهم، فالصبر ملَّ من الصبر، والظلم حصان جموح بلا عنان، فإذا تكلمت الشعوب الحرة، سكتت الحكومات والأنظمة.

يقول سماحته: "في أقلّ من عام سقطت ثلاثة أنظمة من أعتى الأنظمة العربيّة، وغادر حاكمُ اليمن موقع السلطة مُكرهاً تحت ضغط الشعب الثائر الذي لن تهدأ ثورته حتّى يتمّ له مطلبه في الحريّة والكرامة، ويختار نظام الحكمِ الذي يؤمن به من غير هَيْمنَةِ أحدٍ عليه إلا اللهُ تبارَك وتَعالى.

وسيبقى التحرّك الثوريُّ زاحفاً للأمام وعلى مساحة الأمة كلّها، وتتعالى الصرخات ويستمرّ الزلزالُ حتّى تتحقّق أهداف الشعوب في الحريّة والكرامة واسترداد الحقوق، ويُستَجابُ لإرادة الأمة فيما تختار من حُكمٍ وحاكمين.

لم يبقَ صبرٌ للأمّة على الذلّ والهوانِ والإقصاءِ والتحكّمِ ومصادرةِ الإرادةِ الشعبيّةِ والفسادِ السياسيّ والاقتصاديّ وألوان الفسادِ الأخرى؛ نعم هناك صبرٌ جديدٌ مُضاعفٌ كبيرٌ على البذلِ والأذى في سبيل الله والتضحيات، لا صبرٌ على طاعةٍ كطاعةِ العبيد، وفي ذلك ضمانةٌ من ضمانات الاستمرار على طريق الجهادِ من أجل العزّة والكرامة.

صار مستحيلاً في وعي الأمّة وشعورها وتصميمها أن تكونَ عودةٌ للأمسِ الظالم، وصار لا بدّ أن تُغلَقَ كلّ أبوابِ العودةِ إليه، بل لا بدّ أن يكونَ غدُ الأمّةِ أفضلَ دائماً من يومها الذي تعيشه والحالِ الذي تكون عليه"(22).

أُبَّهة الحكم وغرور السلطان

غرور الحكام والسلاطين وثقافتهم الفرعونية المتمثلة في دعوى الربوبية العليا عملاً، وأن الشعوب مجرد مربوبين وظيفتهم التسبيح بحمد الحكومات والتقديس لتيجانها والطواف حول عروشها، كل ذلك أدى إلى التعجيل بسقوط الكراسي والعروش، ولكن هل يتعظ فراعنة اليوم بمصير فرعون الأمس؟

يقول سماحته: "ما أكثر ما يغيب الخيار الصحيح عند الإنسان في هذه الحياة في ظل جهالة النفس التي تغمر العقل، وتظلِّل رؤيته أو تعزبه عن التأثير فيما يتجه إليه خياره، وهذا سار في الكثير من الناس، هذا سار في شأن القوي والضعيف، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، وفي كل الطبقات، والخيار الصحيح أن يعترف الإنسان بعبوديته للواحد الأحد ويظل كل حياته ثابتا على طريق هذه العبودية المشرفة.

ومن أشد ما يثقل الإنسان رشده وهذا الخيار الصحيح، أُبَّهة الحكم وغرور السلطان وبذَخ المُلك، وضحايا هذا الغرور يملئون ساحة الحياة.

كان يسع الذين أطاحت بهم ثورات هذه الآونة أن يعترفوا بعبوديتهم لله سبحانه، ولا يخسروا شيئا من اللذة الحلال في الحياة وأن يخرجوا منها كراما أماجد لا يلعنهم اللاعنون.

وخيار العدل لو كان، لرفع لهم شأنا في الدنيا ما بقيت، وجعل الملايين تودعهم بالدموع، والأجيال تذكرهم في الخالدين، فلماذا الظلم والبطش والنهب والتعالي يا ذوي السلطان؟

إن في مقتل القذافي درساً واعظاً يضاف إلى دروس كلها عظة، غنيت بها الساحة العربية في زمن قصير، عظة للطغاة بأن لا تطغوا فلستم آلهة، إنما أنتم عبيد ولكم يوم محتوم، ودرس وعظة للحكومات البديلة بأن كونوا أذكياء فلا تخرجوا من هذه الدنيا ملعونين كما ودعت من قبلكم لعنات الملايين، وعظة لعبدة السلطان بأن هذا هو مصير آلهتكم المكذوبة، فلا تأووا إلى ركن ضعيف، وعظة للمستضعفين بأن لا تنسوا أن الإله الحق هو الله، وأنه الرب الذي لا رب غيره، وأنه مهلك الظالمين"(23).

الحكومات بين الوظيفة والواقع

بين ما تريد الشعوب من الحكومات وما تريد الحكومات من الشعوب تتأرجح الحرية والعبودية، فمطلب الشعوب هو العيش الحر الكريم، وتأبى الحكومات إلا بعبوديتها للحكام، هذا هو واقع الحكومات، وهذه هي صحوة الشعوب.

يقول سماحته: "الحكومات تمثل وظيفة من أجل أمن الشعب، ونظم أمره، ولمِّ شمله، وحماية دينه ونفوس أبنائه وبناته، وتطوير اقتصاده وثروة وطنه وتوظيفها لغذائه وصحته وتقدمه العلمي والاجتماعي، وتحسين بيئته، وتوفير الخدمات المدنية التي يحتاجها، وتقدم كل أوضاع حياته.

أما عن واقع حكومات كثيرة فقد صار مطلوبها شعباً بلا أظافر، بلا عقول، بلا إرادة، بلا اعتزاز بذات، بلا رأي، بلا شوق للحرية، بلا إيمان بالكرامة، بلا تطلع لحياة مريحة، بلا أمل، وحتى بلا لسان.

وصار مطلوبها شعوباً مستسلمة مستكينة متنازلة عن حريتها، أو لا تؤمن بهذه الحرية أساسا، وكل إيمانها بالحرية المطلقة للحكومات في أن تفعل فيها ما تشاء وتختار لها ما تشاء، وأن الحكومات مالك مطلق للأرض والشعب وكل الثروة، وأن على الشعوب أن تكدح جاهدة لثراء حكوماتها التي إن شاءت أن تتصدق عليها بما يقيم أودها لتقوى على خدمتها كان ذلك منها إحسانا، وإن شاءت أن تقبض يدها فهي تمارس حقها الطبيعي ولا مورد لأي اعتراض عليها.

المطلوب لهذه الحكومات شعبٌ يسبِّح باسم حاكميه ليلاً ونهارا، وينسى ذاته وربه ودينه وقيمه وضروراته وحاجات حياته، ويكون بلا أمل ولا أمنية ولا تطلع، وهذا هو الواقع الذي تعاني منه شعوب هذه الأمة، ويثير تحركات أقطارها، ويفجر ثوراتها، ويسقط حكومة تلو حكومة ونظاماً تلو نظام من حكوماتها وأنظمتها.

هذا الواقع المرفوض عقلاً وديناً ووجدانا، والذي يحرك جميع شعوب الأرض اليوم من أجل الانعتاق واسترداد الحرية والكرامة، هو الذي يؤدي إلى كل التحركات الشعبية، ويدفع بها إلى الأمام، ويعطيها الدوام والاستمرار، ولا يأذن لها بالتوقف، ويجعل الأثمان الغالية في سبيل التخلص منه زهيدة رخيصة"(24).

تبعية الحكومات والقرارات المستوردة

الحكومات بين مدّ التبعية وجزر الاستقلالية، فاستقلالية الحكومات عن التبعية الخارجية ربما يُعجِّل ويُعزِّز من مسألة التوافق  بينها وبين شعوبها، بينما تبعيتها لجهة خارجية يُعقِّد العلاقة بين الحكومات وشعوبها، ويشتد التعقيد إذا كانت التبعية لأكثر من جهة خارجية.

يقول سماحته: "هناك حكومات مستقلة تأتي قراراتها من إرادتها بلا أن تكون هذه الإرادة مهيمَناً عليها ومملوكة لإرادة حكومة أخرى، هذه الحكومات قد تتوافق في سياستها مع شعوبها وقد تختلف، لكن حتى على فرض الاختلاف لو اقتنعت أن مصلحتها الدائمة أو المؤقتة في التوافق مع إرادة الشعب والسماع إلى مطالبه فإنه لا يبقى أمامها مانع من إعمال إرادتها في هذا الاتجاه وحل المشكل وإنهاء الأزمة.

وهناك حكومات لا تتمتع بالاستقلال الكافي وتكون إرادتها مقيدة بإرادة مهيمنة لحكومة أخرى، وهذه الهيمنة تأزم -في العادة- العلاقة مع الشعب وتزيد من تعقيد حالات الاختلاف وتخلق مانعاً من الوصول إلى التوافق في موارد النزاع، وخاصة عندما يكون استمرار النزاع مطلوبا للطرف المهيمن ويرى فيه فرصة للتمكين لهيمنته وترسيخها، والمد في بقائها وفرض شروط أكبر على الطرف الواقع تحت هيمنته، ويزيد التعقيد تعقيداً حينما تكون حكومةً عبداً مملوكا لأكثر من جهة خارجية تفرض عليها هيمنتها، وتعيش هي الحاجة إليها وتعتمد على حمايتها أو عطائها وإمدادها، فالعبد المملوك لأكثر من جهة سيادية يكون نهبا في مشاعره ومواقفه لهذه الجهات، ولا يستطيع أن يتخذ قراره بنفسه، فهو إن أرضى جهة بما يريد اتخاذه من قرار ينهي مشكلته، ربما لن ترضى عنه جهة أخرى، وقد تتصادم إرادات مالكيه إلى الحد الذي يحيره ويمزقه ويمنع عليه اتخاذ قرار واضح وافق مصلحته أو مصلحة الشعب، إلا أن تتفاوت قوة مالكيه فتكسر إرادةُ الأقوى إرادةَ الأضعف من أولئك.

ثم إن هذه الحكومة أو تلك قد لا يأتي دور إرادتها إلا في المرتبة الثالثة من إرادات سيادية يكون متوسطها مملوكا لأعلاها، وهي مملوكة لكل ما فوقها من إرادات، وعندئذ تشتد مصيبة شعب حكومته في هذه المنزلة من الضعف والذل، في حين أنها تعد نفسها سيداً للشعب، وما أكثر الحكومات الإسلامية والعربية التي تعيش حالة تبعية واضحة في إرادتها وسياستها وعلاقاتها وتعاملها مع شعوبها لإرادة حكومة أخرى أو أكثر"(25).

ولاء الأوطان لا ولاء الأنظمة

الوطنية والولاء للوطن ليس مجرد كلمات ولقلقة لسان يلوكها أزلام الأنظمة المستبدة كدروس تلقينية إلى الشعوب، بل الوطنية -كل الوطنية- تتمثل في حب الخير إلى الوطن والمواطنين من خلال رفض ظلم الظالمين حفاظاً على الوطن من جورهم وبطشهم، ففرق بين الولاء للوطن والولاء للأنظمة والحكام المستبدين.

يقول سماحته: "المقياس الذي تعمل به الحكومات العربية غالباً هو مقياس الولاء للنظام لا الكفاءة، وينبغي أن نلتفت جيداً إلى أن ولاء النظام يختلف عن ولاء الوطن، لأن ولاء الوطن قاضٍ برعاية مصلحته، وأخطاء الأنظمة وظلمها وتجاوزاتها لا تلتقي مع مصلحة وطن، فهنا يأتي كثيراً أن ولاء النظام يعني الكفر والمواجهة لمصلحة الوطن.

وولاء النظام يتطلب منك أن تقف مع كل تجاوز، ومع كل خطأ، ومع كل جرم في حق الناس، ولاء النظام يقتضي منك أن تقف مع أخطاء سياسته وظلمها واستخفافها بمصلحة الوطن، وأن تقف مع مخالفتها لدين الله وإرادته، ويتطلب منك أن تقف بحزم في وجه أي دعوة إصلاحية لا يعطي النظام بها إشارة ضوئية خضراء لحاجة في نفس يعقوب أو ضرورة قاهرة، وأن تعين على كل ظلم ترتكبه السياسة وتسرف فيه"(26).

بيع الأوطان

ويقول سماحته: "ينطلق المسلم المؤمن بدينه حق الإيمان في حب وطنه وكل ما يقع عليه حبه من رؤية وشعور ديني لا يعدل به عن حب الخير وبغض الشر لمن خلق الله من نفس، ولا يبغض المؤمن في أحد إلا شراً، ولا ينكر منه إلا إضراراً، ولا يخرجه من حبه إلا سوءه وبمقدار سوئه.

وحب المؤمن لوطنه يدفع به إلى الأخذ به دائماً في اتجاه خيره ورقيه وصلاحه، والعمل على رفاهه وسلامة أوضاعه، وذلك لا يتم إلا بالأخذ بإرادة الله سبحانه في إقامة القسط، والرضا بالعدل، والتمسك بالحق، وخضوع كل طاعة لطاعته، وكل رضاً لرضاه، وكل تشريع لتشريعه، فلا بد من الدعوة لكل ذلك بالتي هي أحسن، وهذا دأب المؤمنين.

والمؤمن لا يبيع وطنه على المخلوقين، كما لا يبيع نفسه إلا لله، ولا يجد ثمناً أبداً عند أحد لبيع الأوطان، وأي ثمن ذاك الذي يبيع به المؤمن نفسه وولده وأهله وإخوانه ومواطنيه في ظل شعوره الديني النافذ الذي يحترم الإنسان ويخاف الله؟!

وإذا كان خارج وطنه نماذج إنسانية طيبة، ففي وطنه نماذج طيبة كذلك، وإذا كان من أبناء أمته الواسعة مؤمنون أتقياء، ففي وطنه منهم الكثير، وإذا كان لأمته كلها عليه حق، فإن حق أبناء أمته وإخوته في الإسلام والإيمان من أهل وطنه أكبر.

وراحة الأوطان وسعادتها في إصلاحها وسلامة أوضاعها، وليس في وضعها في مزاد علني أو سري لبيعها على أي كان.

المؤمن لا يمكن أن يبيع وطنه، أتدرون من يبيع الأوطان؟ إنما يبيع الأوطان والمقدسات أهل الدنيا، ومن لا يرون أن لهم وزناً إلا في المال والجاه، ولا يشبع أحدهم أن تكون له الدنيا خالصة بلا مزاحم، لا يبيع الأوطان إلا من لا دين له ولا شرف ولا احترام عنده للإنسان.

وكثيراً ما يسوق الإعلام العربي الرسمي اليوم في حق الحركات التصحيحية والمطلبية والتغييرية وصمة التآمر وبيع الوطن للخارج، هرباً من الاستجابة لضرورة الإصلاح والتغيير، وللتشويش على سمعة وصدق المعارضة، واستغفال من يمكن استغفاله، واصطياد من يمكن اصطياده، وهذا مضحك.

فماذا أبقت الأنظمة العربية من مادة أو معنى مما تغنى به الأوطان لم تساوم عليه الأجنبي -القريب والبعيد- من أجل الإبقاء على تسلّطها الظالم، واستنزافها لما يبقى من ثروات الأوطان بعد أن تعطي منه ما تعطي للأجنبي، ومن أجل استعباد إنسانها؟"(27).

جامعة الدول العربية.. عين ترى وعين لا ترى

أجمعت جامعة حكام الدول العربية -بقرار أمريكي وتأييد أوروبي- على وأد حركة الشعوب العربية، ومن منطلق الكرم العربي وحسن الضيافة العربية، نرى جامعة حكام الدول العربية يتاجرون بدماء الشعوب من أجل إبعاد شبح الأنظمة الممانعة للكيان الغاصب الإسرائيلي، فلذا نراها تفتح عينا -لظلم نظام لشعب- وترى الإبرة في قعر البحار والمحيطات في الليل المظلم، بينما تغض الطرف بعينها الأخرى عن ظلم نظام لشعب في وضح النهار.

يقول سماحته: "وضع الجامعة العربية بالنسبة لظلم الأنظمة العربية ومأساة شعوبها وضع من له عينٌ ترى وعينٌ لا ترى، أذنٌ تسمع وأذنٌ لا تسمع.

العين التي ترى والأذن التي تسمع متوجهةٌ لأنظمةٍ وشعوبٍ بعينها. والعين التي لا ترى والأذن التي لا تسمع متوجهةٌ لأنظمةٍ وشعوبٍ أخرى.

بل الأمر أكبر، فإن عين الجامعة العربية ترى ظلم بعض أنظمتها عدلا، وخطأها صوابا، وتنكيلها بشعوبها حقا، ومعارضة حكمها جورا، ومطالبة شعوبها بحقوقها ذنبا، وحرصها على حريتها وكرامتها إثما، والمقابلة لصوتٍ شعبيٍ يطالب بالحقوق والحرية والكرامة بكل أنواع القمع والتنكيل والسحق حق طبيعي لهذه الأنظمة، تباركه الجامعة العربية وتقف معه وتسانده بكل قوة.

وترى الجامعة العربية أن تترفع عن مقابلة من يمثل المعارضة لظلم هذه الأنظمة المختارة، أو تسمع له وجهة نظر ينقل فيها معاناة شعبه وما تصب عليه حكومته من ألوان العذاب والمهانة صبا(28).

أبوا أن يقابلوا وفد المعارضة، وأن يسمعوا منه كلمة، ما لشعب البحرين ومطالبه المشروعة من الجامعة العربية هي هذه العين التي ترى حق هذا الشعب باطلا، ومطالبته بحريته وكرامته تعديا، وتطلعه لتقرير مصيره غرورا، وترى في سلميته حربا.

وليس لها عين ترى من ظلم الحكومة لهذا الشعب شيئا، لا من ظلم قتل الأبرياء تحت التعذيب، ولا الاغتيالات للآمنين العاديين، ولا انتهاك حرمة النساء والمساجد والقرآن الكريم، ولا سجن المئات بسبب التفوه بكلمة ناقدة أو مشاركة في مسيرة سلمية، ولا حرمان الألوف من أبناء هذا الشعب القليل العدد ومن يعيلونه من سبب الرزق الشريف، ولا سلب طعم الأمن ليلاً ونهاراً للكبار والصغار من أبناء هذا الوطن، وتحويل مناطق كثيرةٍ من مناطقه إلى ساحة حربٍ من طرف واحد.

هذا إلى جانب التمييز والتهميش والاضطهاد الديني والثقافي وإنسانية الإنسان الذي تمارسه هذه الحكومة، كل ذلك والجامعة العربية لا ترى.

كل ذلك لا تراه عين الجامعة العربية، وأذنها صماء عن كل صراخ وتوجع وأنين طفل أو ثكلى أو معذب من أبناء هذا الشعب"(29).

جامعة الدول العربية بين سوريا والبحرين

ويقول سماحته: "جميلٌ أن تذهب الجامعة العربية إلى مطالبة سوريا بإنهاء العنف وسحب القوات من الشوارع، وبالتعددية السياسية والإصلاح الجذري، لكن لماذا هذا في سوريا دون البحرين مثلاً؟

أهذه حقوقٌ إنسانية أو جغرافية؟ لماذا يُشدَّد على هذه الحقوق في قِطر أو أكثر من قِطر، وتُحرم الحقوق نفسها على يد المتشدد من أجلها هناك؟ لماذا هناك مطالبة وهنا عقاب؟

دول الخليج دورها في القرار المتعلق بالوضع السوري بارزٌ وريادي، وعددٌ منها له تواجده العسكري في البحرين لوأد المطالبة بهذه الحقوق، ولتفرغ جيش البحرين بمواجهتها على الأقل حسب الإعلان الصريح. كيف ينسجم هذا كله بعضه مع بعض؟ كيف يجوز هذا مجتمعاً يا وزراء يا محترمون يا مسلمون يا عقلاء يا عرب؟

افرضونا غير عرب، افرضونا غير مسلمين، لكن هل لا إنسانية لنا على الإطلاق؟ ألستم تتحدثون عن هذه الحقوق بما هي حقوقٌ إنسانية؟ وإذا كانت هذه حقوقاً فيما ترون -وهي حقوق فعلاً- فلماذا لا يأخذها المطالبُ بها الغيرَ حقوقاً على نفسه قبل غيره؟!"(30).

النصر من عند الله (عزّ وجلّ)

حينما يتم الحديث عن الجامعة العربية أو غيرها من المؤسسات العربية والإقليمية والدولية، ليس ذلك من باب الاستجداء إلى النصرة أو من منطلق وهن وضعف، بل الناصر الأوحد هو الله (عزّ وجلّ)، ولا يستجدى النصر من المخلوقين بل هو من الخالق وحده لا شريك له، وإنما الحديث معهم من باب إلزامهم بما التزموا به نظرياً وخالفوه عمليا.

يقول سماحته: "نحن نعرف أن النصر إنما هو من عند الله، وأنه لا يُستجدى إلا منه، ولا يملكه غيره، وليس بيد غيره، ولا يجد من سواه سبيلاً إلى منعه وتأجيله، فنحن لا نستجدي النصر من المخلوقين وإنما نسأله ونستجديه من الخالق، وعلينا أن لا نتوكل إلا عليه، مع الأخذ بما أمر به من بذل المظلوم لما يجد من جهد في سبيل النصر والخلاص من الظلم، ولكن هذا لا يتنافى مع إنكار ما عليه موقف الجامعة العربية من هذا الشعب المظلوم، وتذكيرها بأنها تتحمل مسئولية ثقيلة بين يدي الله (عزّ وجلّ) لهذا الموقف غير العادل وغير الأخلاقي والبعيد كل البعد عن الحق والدين، وما النصر إلا من عند الله، والله خير الناصرين"(31).

الموقف الأمريكي في التعاطي مع الحكومات والشعوب

يعتمد الشيطان الأكبر -أمريكا- في تعاطيه مع الآخر -حكومات أو شعوب- بمحورية مصالحه ومصالح صناع سياسته، فلا صديق دائم ولا عدو دائم، ففي سياسة صُنَّاع السياسة الأمريكية التي ترتكز على المتغيرات، لا ثابت لها إلا ثابت المصالح.

يقول سماحته: "رائع جداً ومفرح جداً أن تتجه الإرادة في النظام العربي الحاكم إلى إنكار الظلم من أي دولة من دوله للشعب الذي تحملت أمانة حكمه بصورة وأخرى، وأن تردها عن ظلمه وتفرض عليها الاحترام لإرادة الشعب الذي همشت إرادته وإرجاع حقوقه المسلوبة منه وحريته المصادرة عليه وثروته المتلاعب بها، هذا رائع ومحل تثمين كبير إذا كان من العودة إلى الحق والأخذ بالصحيح واحترام الشعوب والنظر إلى الإسلام وأحكامه وقيمه، فهل هذا هو المنطلق لإدانة هنا ولخطوة هناك يمارسها النظام العربي في مساحة منه ضد إحدى دوله؟ ظاهرها أنها من أجل تصحيح وضع تلك الدولة أو تغييره انتصاراً للشعب هناك.

إذا كان هذا هو المنطلق فالشعوب العربية كلها مضطهدة ومهمشة ومنهوبة ومسروقة ومستخف بها، وحريتها مصادرة وكلمتها مقهورة وحقوقها مضيعة ودينها مغيب وإرادتها مسحوقة، وكل الحكومات العربية تمارس هذا بدرجة عالية وصورة فاضحة في حق شعوبها، وبذلك يتساوى الجميع، وإذا كان كذلك فعلى كل هذه الحكومات أن تنتفض ضد نفسها وتدين ظلمها ضد شعوبها، وتتخذ قراراً جماعياً شجاعاً ينهي تسلطها على هذه الشعوب ومن أجل إنهاء مأساتها وأن ترجع إلى إرادة الأمة في حكم نفسها.

كيف يصحّ للنظام الرسمي العربي أن يكون منه مطالِبٌ بالإصلاح والتغيير ومطالَب؛ بينما كله يعيش الحاجة إلى الإصلاح والتغيير، وكلّه غارق في الظلم والخطأ والتخلّف والاستبداد واضطهاد الشعوب؟!

ما تفسير أن الصوت المطالب من داخل النظام الرسمي العربي بالإصلاح والتغيير والمحشِّد لهما والمستنصر بالغرب أحيانا لتنفيذهما، هو نفسه المدافع عن ظلم حكومات من داخل هذا النظام، ويثبت أركانها ويدين ويخوِّن أي تحرك داخلي ضد تلك الحكومات وأي حركة إصلاحية تريد أن تغير من الواقع المأساوي؟

ولا يكفيه إلا أن يحشِّد الجيوش لإجهاض أي لون من الحراك يقاوم تلك الأوضاع. من جهة هناك دفاع عن شعوب، ومن جهة أخرى هناك دفاع عن حكومات وحماية حكومات بينما الحكومات على حدٍّ واحد والشعوب على حدٍّ واحد.

وما تفسير هذا التوافق بين كلمة هذا الصوت وموقفه مع الكلمة الأمريكية والموقف الأمريكي في إدانة من تدين أمريكا، وحرب من تحارب ومقاطعة من تقاطع والسكوت عن من تسكت، وتأييد من تؤيد ومناصرة من تناصر؟

وما تفسير الموقف الأمريكي المتباين من حكومات تتساوى ظلماً وتسلطاً ودكتاتوريةً واستبداداً ونهباً وسرقةً وعبثاً بمصير الشعوب؟ ومن شعوب تشترك في المعاناة والمأساة من هذه الحكومات، وتصادر حريتها وتوأد إرادتها وتحارَب وتُجهَّل وتُمزَّق بثرواتها على يد الساسة المتسلطين عليها؟

حكومةٌ من هذه الحكومات تُدان علناً وتُناصر خفاءً حتى يتمّ اليأس منها، ويُعثر على بديل مناسب لها. وحكومة أخرى يُتدخّل ضدّها بالسلاح، وبالصورة المكشوفة. وثالثة تُغازَل وتُدلّل وتُكرّم لقمع شعبها.

وشعب تُؤجّج مشاعره ويُلهب حماسه ضد حكومته، وربما مُدَّ بالمال والسلاح. وآخر يُغرّر بكلمة، ويلام بكلمة، وثالث يُغرى بالوعود الزائفة، ورابع يُيأس من أجل أن يركع.

السِرُّ تعرفه كل الشعوب، وكل الدنيا، وكل الحكومات. السِّرُّ أن أمريكا لها ميزان واحد، ومقدّس واحد ليس هو إلا مصلحتها المادية، وقبل ذلك المصلحة الماديَّة لكبار ساستها، والطامعين في رئاستها، والمراكز السياسية العليا فيها"(32).

حركات الإصلاح والتغيير بين الأخطار والهواجس

إن بقاء الأنظمة المستبدة مرهون بإرادة الأجنبي، والأجنبي لا ثوابت له في صداقاته أو عداواته، حيث إن ثابته الوحيد المصلحة الذاتية، لذا نراه يوجد البديل وإن كان إسلامياً من حيث إطاره وعنوانه لا محتواه ومضمونه، خدمة لنفوذه وتحقيقاً لمصالحه. أو يغازل من هو قوي في الميدان من أجل تحييد مبادئه أو مساومته عليها أو تغييرها.

يقول سماحته: "امتحن الوطن العربي خاصة والوطن الإسلامي عامة منذ زمنٍ طويل بأنظمة حكم تسلطية، فرضت نفسها على خلاف إرادة الأمة ودينها، ولا يمكن لها في ظل وعي الأمة وصحوتها وإدراكها لمقتضيات هويتها ومصلحتها واعتزازها بذاتها وحضارتها، أن تنال ولاءها وثقتها ومناصرتها، فصارت تعمل دائماً على تجهيلها واستغفالها وقتل إرادتها، ومنع أسباب القوة والنهوض عنها، درءاً لما تراه خطراً عليها في صحوتها ووعيها وقوتها، وإدراك مأساتها، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، لقد مكنت هذه الأنظمة الأجنبي من رقبتها، وأباحت له الأرض العربية والإسلامية وخيراتها، وأعانته على غزو ثقافتها وأخلاقيتها وقيمها، وإفساد دينها وتربيتها، شعوراً منها أمامه بالضعف، وحاجتها إلى دعمه وتأييده في قبال حركة الشعوب المتوقعة، وهذا ما جعل بقاء هذه الأنظمة مرهوناً بإرادة الأجنبي، وأتاح له أن يبتزها بأي درجةٍ من الدرجات متى شاء وكيف شاء، وجعل له تغلغلاً واضحاً في كل مفاصل هذه الدول الذليلة المستسلمة، وملكه علاقاتٍ مهيمنةً على مستوى التفكير والشعور والإرادة ونوع الطموح على كثيرٍ من أبنائها خارج جسم الحكومات، لتكون البديل المناسب لخدمة نفوذه ومصالحه عند الضرورة.

وقد جعل هذا الواقع المعقد حركات الإصلاح والتغيير الصالح في الأرض العربية والإسلامية، تواجه خطر القمع الداخلي العنيف على يد الأنظمة الحاكمة والدعم الأجنبي لها، والذي كان قائماً في المثال الليبي إلى وقتٍ كان القذافي يقمع فيه الشعب وينزل حمم سخطه عليه.

كما تواجه خطر البديل المتعاون مع الاستعمار الأجنبي من أبناء شعوبها، ممن صُنعوا على عين المستعمر نفسه لمدة طويلة على أيدي الحكومات الظالمة، وأُعدُّو بصورة جاهزة لخدمته وتمثيل سياسته وأهدافه.

وخطرٌ آخر على حركات الإصلاح والتغيير في البلاد العربية والإسلامية، قد أوقعها فيه ذلك الواقع المرير الذي صنعته الأنظمة الفاسدة والحكومات الجائرة، وهو شعور الكثير من هذه الحركات إلى مغازلة الأجنبي واسترضائه، والدخول في مساومةٍ معه، لا إيماناً بقيمته ولكن إذعانا لهيمنته، وقبل أن تتحرر حركة تغيير أو إصلاح من هذا الهاجس، وتتمتع بروح الاستقلال الحقيقي، وتعتمد على قوتها الداخلية ورصيدها الوطني، وجهدها وجهادها وتضحياتها وإن طال الطريق، وذلك وإن قلَّ إلا أنه قد تحقق على الأرض وهو قائمٌ وموجودٌ فعلاً. وإذا وُجد كان معادًى من جميع قوى الظلم والانحراف والزيف والظلال، وكان عليه أن يواصل جهوده المضنية، ويصبر على مُرِّ الأعداء الكثيرين وحربهم وأذاهم، وأن يملك دائماً انتباهه ويقظته لما يدور حوله وما يحاك له من مؤامرات، وأن يبني قوة متينةً متناميةً تحميه.

ولا أمل في تحرر الأمة وانعتاقها من ذلّ العبودية لقوى الطاغوتية في الداخل والخارج، إلا في حركة إصلاح أو تغييرٍ مستقلة عن هيمنة القوى المعادية للأمة، تولد من رحم أمتها المجيدة، ووعيها الإسلامي، وخطها الحضاري، وإرادتها الحرة التي لا تخضع إلا لله، ولا تستكين إلا أمام إرادته، ولا تتطلع إلا إليه، ثم لا تعتمد مع بذل كل الجهد إلا على ربها، وتتحمل المعاناة الصعبة والتضحيات الجسيمة في سبيله، وتكون على نباهةٍ ووعيٍ بالغين لا يسمحان بأن تسرق صنائع الأجنبي وخلاياه المعدة عطاء التضحيات الباهظة لجماهير الأمة ومكاسبها"(33).

الإسلاميون والامتحان الصعب

ويقول سماحته: "هناك أكثر من ثورة عربية أسقطت نظاماً حاكماً مغضوباً عليه من شعبه، وهي في طريقها لإقامة حكومة أخرى ونظام حكم آخر مكانه وعلى أنقاضه، والغالبية في الشعوب العربية -عاطفة أو رأي وعاطفة- لا تقدم نظاماً وحكماً على الإسلام ولا تنسجم معه، وفي حال أن تجرى انتخابات حرة بالمعنى الحقيقي، بعيدة عن كل ألوان المغالطة والغش والخداع والمراوغة والاحتيال والتلاعب وشراء الذمم، فسنجد أن خيار الغالبية من الشعوب الإسلامية هو الإسلام.

وهنا يكون الإسلام والإسلاميون أمام تجربة جديدة صعبة، وامتحان عسيرٍ مكشوفٍ مؤثرٍ بدرجة عالية على مصيرهما، ولو أخفقت هذه التجربة المتطلع إليها من قبل جماهير مسلمة عريضة، والتي ستكون مراقبة بالمجهر الدقيق من قبل مختلف الملايين، ومقاومةً من قبل كثيرين، فإنها ستكون أشد خطراً وأبلغ في تأثيرها السلبي على الإسلام من حالة إقصائه عن السياسة وعداوتها السافرة له.

والإسلام قد خاض تجربة الحكم قديماً وحديثاً، ولم تحقق أي أطروحة أخرى ما حققه من نجاح حينما خاض هذه التجربة برؤيته وعقيدته الدينية والسياسية الصادقة وشريعته وقيمه وأخلاقيته الحقيقية.

وكذلك قد خاض الإسلام تجربة الحكم مظلوماً على يد التزوير والأطماع الرخيصة ممن لا يؤمن به حق الإيمان، وإنما اتخذه مطيةً لأطماعه وهو عابدٌ للدنيا -ولأكثر من مرة في القديم والحديث- فسجل ذلك تشويهاً للإسلام، وتحريفاً لأحكامه وقيمه، وإسقاطا لوزنه، وانقلاباً في الرأي العام في أوساط المسلمين عليه، وبحثاً عن بديلٍ سيءٍ له.

واحتيج في تصحيح رأي الناس في إسلامهم بعد ذلك إلى جهود مضنية، وتوعية صبورة، وثورات قاسية، ودماء غزيرة.

ويبقى امتحان الإسلاميين في التجربة الجديدة، لو تأتى للأمة أن تعطيهم خيارها، وتضع يدها في يدهم، وتحمِلهم أمانة الحكم وهي أمانة ثقيلة لا يتحملها إلا أمناء كبار، وقادة أوفياء، وعقول راجحة، وهمم عالية، ونفوس متحررة من شهواتها، متأبية على الأهداف الرخيصة، وذمم طاهرة، وأيد نظيفة، وفهم إسلامي ناضج، وقلوب لا تغفل عن ذكر الله ولا يصرفها عنه لهو ولا تجارة.

موقع الحكم يتطلب كل هذا، فهل يكون الإسلاميون في هذه التجربة الجديدة بوزن هذه الأمانة الكبرى بمقدار لا يسيء إلى الإسلام، ولا يظلمه ظلماً أشد من ظلم أعدائه؟ هل يقربون في فهمهم من فهمه، وفي طهر نفوسهم ونياتهم من طهره، وفي حكمتهم من حكمته، وفي إنسانيتهم من إنسانيته، وفي عقلانيتهم من عقليته؟ وهل يأخذون في سيرة حكمهم نزاهة تزينهم من نزاهته، ودرجة عدل تعشقهم بها الملايين من عدله المطلق الشامل الذي تفرد به؟

إن كان لهم ذلك، سعدت بهم الأمة وسعدوا بها، وحمتهم بقلوبها وأيدها، وكانت قلعتهم الحصينة، وسياجهم المتين، ودعامة وجودهم الثابتة بعد دعم الله وحمايته، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وتعمق إيمانهم به، وتصلب وتثبت اختيارهم الإسلام ولن يستبدلوا عنه أو يتخلوا عن نصرته.

أما لو أساؤا فهم الإسلام، ولو صبغوه بالعصبية العمياء، لو فصلوه عن بعده الإنساني، لو أوغلوا السيف في رقاب العباد، لو ظلموا وهم يعلنون انتماءهم للإسلام ويتحدثون باسمه، لو كان أول تنافسهم على المواقع والثروة، لو اشتغلوا بالغنائم عن هموم الناس ومشاكلهم، لو توجهوا لبناء الأمجاد الدنيوية الشخصية والفئوية ضاربين بمصالح الأمة عرض الحائط، فإنهم سيسقطون من نظر الأمة، وسيسقطون الإسلام من ناحية عملية إلى حدٍ كبير، ويجنون عليه أكبر جناية، وفي الجناية على الإسلام أعظم جناية على الأمة المظلومة والإنسانية المعذبة، وحرمان لأهل الأرض من منقذ لا منقذ لهم سواه إلى مدى قد يطول، وإن كان لا بد أن ينقذ الإسلام العالم من مأساته التي أغرقها فيها البعد عن الله سبحانه على يد الكافرين والظالمين.

ويُسقط الإسلاميون الذين يصلون إلى الحكم باسم الإسلام، ويُنزلوا به ضربة قوية أن يساوموا أعداءه عليه، ويحرفوه مجاملة لهم وكسباً لودهم، ليجدوا فيهم سنداً أو يأمنوا منهم شراً وتأمرا.

نجاح الإسلاميين في حكم الأمة أو شعب من شعوبها أن يكونوا رساليين مبدئيين بمقدار رسالية الإسلام ومبدئيته، واقعيين عند حدود واقعيته، جديين بمستوى جديته، منفتحين بسعة انفتاحه، نزيهين كنزاهته، عادلين في الناس لا يعدلون عن عدله، بعيدين عن كل عصبية أرضية تعكر نقاءه وصفاءه، بهذا يقوون وتقوى بهم الأمة ويجدون منها محضراً دافئا، وحصناً حصيناً، وعيناً ساهرة، ويداً ضاربة، وإمداداً غير منقطع، وبهذا يحترمهم العدو ويهابهم، ويعطون لأوطانهم الإستقلال ولأمتهم العزة والمهابة والكرامة.

يخطئ الإسلاميون لو طلبوا البقاء في الحكم عن طريق الإكراه والتحايل على الأمة وترهيبها، إنهم يستطيعون أن يضمنوا البقاء في الحكم والعودة إليه عبر صناديق الاقتراع في كل مرة تعطى الأمة فيها فرصة الانتخاب، لو رأى الناس منهم صدق الإسلام وعدله ورحمته وأخلاقيته، واهتمامه بتقدم المجتمع في كل مسارات حركته الصالحة وأبعاد وجوده الكريمة، ولو رأوا منهم التفاني في خدمة الشعب والإخلاص له، والأمانة الصادقة على ما تحت أيديهم من خيراته وثرواته، والاحترام لإرادته وكرامته على خلاف ما رأوا ويرون في غيرهم من الطغاة والمستكبرين وأهل المصالح الدنيوية الضيقة.

وبعدَ أن تجدّد وجود الأمّة فكراً ورؤية وإرادةً وطموحاً وعزماً وشعوراً بالعزّة والكرامة ووعياً وخبرة، لن يسعَ الأنظمة المُنبثقة عن الثورات العربيّة أن تتعامَلَ مع شعوبها تَعامُلَ الأنظمة البائدة وأن تعودَ بها إلى ما كانت عليه من حالة الإقصاء والتهميش والاستغلال والاستنزاف والذيليّة والتبعيّة المهينة.

ومن جهةٍ أخرى لا بدّ أن تتركَ الأنظمة الطاغوتيّة التي أسقطتها إرادة الشعوب بصماتٍ سيّئة ومتاعِبَ جمّة وآثاراً مُعرقِلة وأزماتٍ متراكمةً من مخلّفاتها، يُحتاج للتخلّص منها مع الجدّ والإخلاص إلى جهودٍ مُضاعَفة ووعيٍ كبير وعملٍ حثيث وزمنٍ مُمتد"(34).

مستقبل الصحوة ورياح التغيير

إن مستقبل صحوة الشعوب مرتبط بمدى رجوعها إلى إسلامها ونصرتها لربها وبارئها وخالقها ورازقها، ومن ينصر الله (عزّ وجلّ)، فالنصر حليفه لا محالة.

يقول سماحته: "كل الأنظمة الجائرة عليها أن تعدل، كل الحكومات المفسدة عليها أن تُصلِح، وإلا فلا مكان لها في المستقبل، هذا هو منطق الواقع الجديد لإنسان الأمة وشعوب الأمة وكل شعوب العالم، وهذه هي الحتمية المترتبة على الصحوة والثورة العارمة في وعي الأمة وإرادتها والمتولدة من وحي الحياة الجديدة في إيمانها بربها وإسلامها"(35).

 

* الهوامش:

(1) خطبة الجمعة (482) لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله) 21- محرم 1433هـ - 16 ديسمبر 2011م - جامع الإمام الصادق (عليه السلام) بالدراز.

(2) خطبة الجمعة (477) ذو الحجة 1432هـ - 11 نوفمبر 2011م.

(3) خطبة الجمعة (482) 21 محرم 1433هـ - 16 ديسمبر 2011م.

(4) خطبة الجمعة (484) 5 صفر 1433هـ - 30 ديسمبر 2011م.

(5) خطبة الجمعة (485)  12صفر 1433هـ ¬- 6 يناير 2012م.

(6) خطبة الجمعة (438) 7 ربيع الأول 1432هـ - 11 فبراير 2011م.

(7) خطبة الجمعة (438) 7 ربيع الأول 1432هـ - 11 فبراير 2011م.

(8) خطبة الجمعة (469) 17 شوال 1432هـ - 16 سبتمبر 2011م.

(9) خطبة الجمعة (473) 15 ذو القعدة 1432هـ  - 14 أكتوبر 2011م.

(10) المصدر السابق.

(11) المصدر السابق.

(12) خطبة الجمعة (438) 7 ربيع الأول 1432هـ - 11 فبراير 2011م.

(13) المصدر السابق.

(14) خطبة الجمعة (468)  10شوال 1432هـ - 9 سبتمبر 2011م.

(15) خطبة الجمعة (484) 5 صفر 1433هـ - 30 ديسمبر 2011م.

(16) خطبة الجمعة (476)  7ذو الحجة 1432هـ - 4 نوفمبر 2011م.

(17) خطبة الجمعة (474) 22 ذو القعدة 1432هـ - 21 أكتوبر 2011م.

(18) خطبة الجمعة (483) 27 محرم 1433هـ  - 23 ديسمبر 2011م.

(19) خطبة الجمعة (482) 21 محرم 1433هـ - 16 ديسمبر 2011م.

(20) خطبة الجمعة (473) 15 ذو القعدة 1432هـ - 14 اكتوبر 2011م.

(21) خطبة الجمعة (482) 21 محرم 1433هـ - 16 ديسمبر 2011م.

(22) خطبة الجمعة (485)  12صفر 1433هـ - 6 يناير 2012م.

(23) خطبة الجمعة (474) 22 ذو القعدة 1432هـ - 21 أكتوبر 2011م.

(24) خطبة الجمعة (475) 29 ذو القعدة 1432هـ - 28 أكتوبر 2011م.

(25) خطبة الجمعة (474) 22 ذو القعدة 1432هـ - 21 أكتوبر 2011م.

(26) خطبة الجمعة (469)  17شوال 1432هـ - 16 سبتمبر 2011م.

(27) خطبة الجمعة (470)  24شوال 1432هـ - 23 سبتمبر 2011م.

(28) يشير سماحته إلى رفض الجامعة العربية لمقابلة وفد المعارضة البحرينية، ورفض استلام رسالة الوفد المعارض.

(29) خطبة الجمعة (477)  14ذو الحجة 1432هـ - 11 نوفمبر 2011م.

(30) خطبة الجمعة (469) 17 شوال 1432هـ - 16 سبتمبر 2011م.

(31) خطبة الجمعة (477) 14 ذو الحجة 1432هـ - 11 نوفمبر 2011م.

(32) المصدر السابق.

(33) خطبة الجمعة (472) 8 ذو القعدة 1432هـ - 7 أكتوبر سبتمبر 2011م.

(34) خطبة الجمعة (475) 29 ذو القعدة 1432هـ - 28 أكتوبر 2011م.

(35) خطبة الجمعة (486) 19 صفر 1433هـ - 13 يناير 2012م.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا