الشيخ الجمري (ره) رجل الكلمة والموقف

الشيخ الجمري (ره) رجل الكلمة والموقف

 

في أول زيارة لنا للشيخ الجمري(ره) بعد مرضه عندما كان يرقد في مستشفى مدينة الأمير سلطان بن عبد العزيز للخدمات الإنسانية في الرياض، كنا كلنا اشتياق لذلك الرجل التاريخي بكل معنى الكلمة،كنا في الطريق إليه نتذكره وهو يطل علينا من تلك الشرفة ويحيي الجماهير الغفيرة التي جاءت لتعلن وقوفها معه هو وأصحاب المبادرة آنذاك، وبعد خمس ساعات قضيناها في الطريق إليه وصلنا إلى المستشفى الذي يرقد فيه الشيخ الجمري. استقبلنا الحارس بقوله: إلى الشيخ الجمري طبعاً؟ أجبناه بنعم. فقال: في المكان الفلاني. ووصف لنا المكان الذي يرقد فيه الشيخ، فذهبنا مسرعين نتسابق لرؤية الأب الحنون الذي فارقنا وترك فراغاً كبيراً في الساحة، ولكن عندما وصلنا إلى باب الغرفة التي يرقد فيها الشيخ لم يجرؤ أحدٌ منا على طرق الباب وبدأ كلٌّ منا يطلب من الآخر أن يتقدم هو لذلك، وبينما نحن كذلك خرج صادق ـ ابن الشيخ الجمري ـ وقال لنا: تفضلوا. فدخلنا بخطى حياءٍ وخجلٍ ممتزجٍ بشوقٍ لا يسعه هذا الكون.

دخلنا وكنا نظن أن الشيخ الجمري موجودٌ في الغرفة، ولكن تبين لنا أنه لم يكن هناك وإنما كان في غرفة العلاج الطبيعي، فانتظرناه إلى أن يأتي من غرفة العلاج. وبعد ما يقارب الثلث ساعة تقريباً من الانتظار فتح الباب، وإذا بكرسي متحرك يدخل من الباب، لم نكن نتوقع من الجالس على هذا الكرسي ولم نكن نعرف حالة الشيخ الصحية قبل أن نذهب إليه؛ لذلك سبب لنا هذا الجالس على الكرسي صدمةً كبيرةً مما دفع بعضنا إلى أن يجهش بالبكاء بينما البعض الآخر يبكي بدون صوت محاولةً منه لتخفيف الألم والمعاناة عن الشيخ وأهله.

حينها تقدم ابنه صادق بالكرسي الذي كان يدفعه وتوقف أمامنا. كلٌّ منا كان يريد أن يتكلم، يريد أن يعبر عن مشاعره، ولكن العَبرة والدموع كانت تخنقنا فلم نستطع الكلام، وبعد لحظاتٍ كسر أحد أصحابي هذا الصمت وقال ـ وهو يبكي بصوتٍ مرتفع نسبياً ـ : يا شيخ متى تعود لنا؟ نحن في أمَسِّ الحاجة إليك. متى تعود للبحرين؟ لأبنائك؟ لشعبك؟ ولم يستطع صاحبي أن يكمل حديثه وواصل بكاءه. وفي هذه اللحظات حصل ما لم نكن نتوقع حصوله، حيث إن الشيخ الجمري آنذاك كان نحيفاً جداً ووجنتاه قد ذهبتا وعيناه تبدو وكأنها غائرةٌ، ظننا أنه لا يستطيع الكلام وإذا به يفاجئنا بقوله: أريد أن أعود للبحرين لكي أدافع عن المظلومين ولكي أساهم في إخراج المعتقلين من السجون وإلى لم الشمل والوفاق الوطني ولكي أواصل مسيرة العمل الإسلامي. إلى هنا انتهى كلام الشيخ الذي هو الآخر أجهش بالبكاء.

بالنسبة لي أستطيع أن أعتبر أن هذه الكلمات التي أطلقها الشيخ الأب الجمري وهو في حالته هذه بالوصية التي يوصي بها كل محبيه وكل الذين يدعون أنهم يسيرون على نهجه وعلى خطاه. وعندما نقرأ أو نسمع ما قاله الشيخ يمكننا أن نتذكر مواقفه المؤيدة والداعمة لما قال. وإذا أردنا أن نلخص وصية الشيخ الجمري أو أمنيته فنستطيع أن نجعلها في خمس نقاط، وأظن أن هناك أمور لم يستطع الشيخ الجمري البوح بها بسبب بكائه.

النقاط هي كالآتي:

1- الدفاع عن المظلومين.

2- المساهمة في إخراج المعتقلين من السجون.

3- لمّ الشمل.

4- الوفاق الوطني.

5- مواصلة مسيرة العمل الإسلامي.

إن الشيخ الجمري رجل كلمةٍ وموقفٍ، فهو عندما نطق بهذه الأمور لم ينطقها اعتباطاً، بل لأنه كان يعيشها همّاً في حياته العملية؛ لذلك خرجت منه هذه الكلمات، وتدعيماً لما أقول فإني أذكر بعض المواقف للشيخ الجمري والتي تجسد ما قاله في وصيته.

1-الدفاع عن المظلومين:

لقدكان دفاعه(ره) عن المظلومين قديماً جداً، ولم يكن في فترة التسعينيات فحسب فقد كان منذ صغره وهو يهتم بالقضايا السياسية التي تمس بشكل مباشر قضايا المظلومين والمستضعفين(1)، واستمر هذا الاهتمام حتى دعاه أبناء منطقته في عام (1973م) إلى أن يعود ليرشح نفسه في الانتخابات النيابية وذلك لمواصلة هذا الطريق الذي اختاره لنفسه، فقد كان كل همِّه أن يخدم الناس وكان آخر شيء يفكر فيه هو نفسه.(2) وقد تجلى ذلك بوضوح في فترة التسعينات و الانتفاضة المباركة، فقد ضحى(ره) بكل ما لديه، فقد اعتقل ابنه الأكبر وقاموا بمساومته بأن اترك الناس وقضاياهم ونفرج عن ابنك وزوج ابنتك ولكنه كان يرفض ذلك،وكان السبب الرئيسي في فصله من القضاء هو اهتمامه بقضايا الناس وطرح مظلوميتهم، وقد تم اعتقاله في بداية الانتفاضة وتم تقديم الإغراءات المالية له لكي يتخلى عن الناس، وحوصر واعتقل ثم حوصر مرة ثانية واعتقل واعتقلت ابنته وزوجة ابنه، وتمَّ تهجير أبنائه وسحب البعثات الدراسية عنهم والمضايقة له ولعائلته ولكل من له صلة به لكي يتخلى عن المظلومين من الناس، ولكنه رفض ذلك، بل لم يقتصر دفاعه عن المظلومين من أبناء البحرين فحسب، بل كان يدافع عن كل المظلومين في العالم، فقد كان اهتمامه كبيراً بقضية فلسطين التي كان يسميها بالقضية الأم(3)، وكان يدافع عن شعب لبنان وشعب العراق وكل شعوب العالم المستضعفة.

2- المساهمة في إخراج المعتقلين من السجون:

لا يخفى على أحد دور الشيخ الجمري في إخراج المعتقلين من السجون، فهو من اليوم الأول الذي حصلت فيه الاعتقالات كان دائماً في مقدمة المطالبين بالإفراج عن المعتقلين بدءاً من اعتقال الشيخ علي سلمان وانتهاءً إلى بقية المعتقلين. يذكر الأستاذ عبد الوهاب في مقالته (تجربتي مع الجمري): (وقد قررنا استناداً إلى الاستراتيجية أن نشكل مجموعةً لزيارة وزارة الداخلية والاحتجاج على الاعتقال، وكان ذهابنا في يوم الأحد الذي يصادف اجتماع مجلس الوزراء، وكانت المجموعة بقيادة الشيخ الجمري وكانت تتألف من ثمانية أشخاص ضمت فضيلة الأستاذ حسن مشيمع وفضيلة الشيخ حسن سلطان وعبد الوهاب حسين وآخرين من ضمنهم مشايخ اقترحهم سماحة الشيخ الجمري(ره)... وبعد الإجراءات المعتادة عند بوابة القلعة سمح لنا بالدخول وأخِذنا إلى مكتب سعادة وزير الداخلية وقابلنا هناك الضباط في المكتب وأخبرناهم بالغاية من حضورنا إلى الوزارة، وأخبرونا بأن سعادة الوزير في اجتماع مجلس الوزراء، وطلبنا منهم الاتصال به وإخباره بحضورنا والغاية التي جئنا من أجلها وأننا نرفض الخروج قبل الإفراج عن فضيلة الشيخ علي سلمان، وحدثت مشادات كلامية أعتقد أنها هي الأولى من نوعها في ذلك المكتب، ثم طُلِبَ منا الذهاب إلى مركز الخميس وسوف نحصل هناك على الجواب من المسؤولين فيه، وأصر بعض أفراد المجموعة على عدم الخروج قبل الحصول على جواب محدد بشأن الإفراج عن فضيلة الشيخ علي سلمان... فسألوا الأفرادَ الأكثرَ إصراراً عن أسمائهم ومكان سكناهم ومكان عملهم وكانت تأتيهم الإجابات بتلقائية وبدون تردد، إلا أن بعض المشايخ ـ خاصةً الذين كانوا من خارج الفريق ـ لم يكن لهم نفس العزم، وكانوا يرون الاستجابة والذهاب إلى مركز الخميس، فقبلنا الخروج وقبل أن نصل إلى مركز الخميس وصلنا الخبر السعيد بأن فضيلة الشيخ علي سلمان قد أفرج عنه).

وتنقل حادثةٌ أخرى حصلت في فترة التسعينات، وهي أن الشيخ الجمري كانت له مشاركة في منطقة النعيم فهجمت قوات الشغب على المأتم الذي يشارك فيه الشيخ الجمري وأطلقت غازات مسيل الدموع مما سبب الاختناق للحاضرين، فنقل بعض الشباب الشيخ الجمري لأحد المنازل القريبة من المأتم وحدثت اشتباكات بين الناس وقوات الشغب وتم اعتقال عدد من الشباب، وعندما أراد الشباب إخراج الشيخ الجمري من المنطقة رفض الشيخ ذلك وأجرى اتصالات مع المسؤولين في الدولة وقال لهم: لا أخرج من النعيم إلا بعد الإفراج عن المعتقلين. وفعلاً بعد عدة اتصالات تم الإفراج عن المعتقلين وخرج الشيخ الجمري بعدها من منطقة النعيم.

ولقد كان من أهم مطالبه في فترة المبادرة هو الإفراج عن المعتقلين، وكان هذا مطلبه أيضاً عندما بدأت السلطة بالحوار معه بشأن موضوع التصويت على الميثاق.

3- لم الشمل:

لقد كان يؤرق الشيخ الجمري الاختلافات والفرقة بين الناس، لذلك كانت حركته في اتجاه الإصلاح بين المختلفين على جميع الأصعدة بدءاً من الخلافات الزوجية مروراً بالخلافات في القرى على إدارات المآتم والحسينيات وما شابه، ودوره في حل الخلافات في قريتي السنابس والهملة وغيرهما لا ينساه أهالي تلك المناطق، بل لا ينساه كل أبناء الشعب. ورغم اختلافه الكبير مع الشيخ سليمان المدني حول عدالة القضية وضرورة المطالب إلا أن الشيخ الجمري كان سباقاً إلى أن يلمَّ الشمل بعد خصام وتشنجات حصلت بين الطرفين، وذلك بدعوته للشيخ سليمان لزيارة منزله ثم رد إليه الزيارة في منزله لاحقاً، حصل ذلك رغم الانتقادات اللاذعة التي حصل عليها الشيخ الجمري من قِبَل بعض الأطراف التي كانت رافضةً لمثل هذا التقارب، ولكن الشيخ الجمري لم يعتن بهذه الانتقادات وكانت نظرته دائماً للمستقبل، حيث لو أن الشيخين رحلا عن الدنيا ولم يحصل هذا اللقاء لاستمر ذلك الخلاف بين أتباع الشيخين إلى ما لا يعلم نهايته إلا الله.

4- الوفاق الوطني:

لقد كانت مسألة الوفاق الوطني من الأمور المهمة والحساسة بالنسبة إلى الشيخ(ره)؛ لذلك تجد أكثر المشاريع التي يشارك فيها يكون الحس الوطني واضحاً فيها، فعندما كانت العريضة النخبوية في عام(1992م) تلاحظ أن هناك مشاركةً من قِبَل جميع الأطراف في البحرين، بل حتى الذين لم يشاركوا في العريضة تمَّ عرضها عليهم وتمَّ شرحها وشرح مطالبها إليهم، ولكن البعض قد اعتذر عن المشاركة في هذه العريضة لأسباب خاصة بهم، ولكن مع ذلك تلاحظ أن هذه العريضة قد جمعت الكثير من الأطياف في مشروع واحد.

جاءت من بعد العريضة النخبوية بعامين العريضة الشعبية، والتي حملت ـ هي الأخرى ـ نفس المطالب ونفذت إلى أكثر الأطياف في البحرين، وكانت تسعى لمشاركة جميع الأطياف كمشروع وطني جامع.

إن قبول فكرة المبادرة وإعطاء فرصة للحوار مع الحكومة التي لم تتوانَ في سفك الدماء وهتك الأعراض لهو دليلٌ كبيرٌ على أن أصحاب المبادرة ـ ومن بينهم الشيخ الجمري(ره) ـ كان همهم أن يكون هناك وفاق وطني بين الجميع حكومةً وشعباً بكل أطيافه وفئاته.

إن زيارة الشيخ الجمري التاريخية لجمعية الإصلاح لهي خطوةٌ واضحةٌ وجريئةٌ إلى لمِّ الشمل ورصّ الصف الوطني، ولكي يبعث الطمأنينة للإخوة السنة في البلد بعد فترة من التضليل الإعلامي الذي مارسته السلطة آنذاك وادعاءاتها الكاذبة بأن الانتفاضة هي شيعيةٌ فقط، وهي مدعومةٌ من الخارج، وأن مطلب القائمين عليها هو الحكم وغيرها من الأضاليل. فكانت هذه الزيارة رسالة حب وإخاء، وهي التي بذرت بذرةً جميلةً كان بإمكاننا أن نجنيَ ثمارها يانعةً لو أننا واصلنا الطريق مع الإخوة المعتدلين من الإخوة السنة.

وإن إسهامات الشيخ(ره) كثيرةٌ في مسألة رصّ الصف الوطني والسعي للتقارب بين الإخوة في الوطن، ولو أردنا إحصاءها لاحتجنا إلى الكثير من الوقت والجهد.

5- مواصلة مسيرة العمل الإسلامي:

إذا أردنا أن نتحدث عن مسيرة الشيخ(ره) في العمل الإسلامي فإننا نحتاج لكتب نعددها، ولكن نحن هنا نعطي إضاءاتٍ وإطلالاتٍ سريعةً على بعض مساهماته في العمل الإسلامي.

ـ إن من الأمور المهمة التي قام بها الشيخ هو تأسيسه لحوزة الإمام زين العابدين(ع) المعروفة بـ (حوزة الجمري)، فلا يخفى على أحدٍ ما تقدمه الحوزة من عطاء من خلال بناء طلبة العلوم الدينية بالفكر الإسلامي الأصيل من خلال إيجاد مدرسين كفوئين.

ـ مساهمة الشيخ في تأسيس جمعية التوعية الإسلامية، ومن ثم العمل فيها بجد ونشاط وتوليه منصب نائب للرئيس لمدة ما يقارب الست سنوات، وبعد إغلاق الجمعية من قبل السلطات كان ينتهز أي فرصة للمطالبة بإعادة فتحها من جديد لتواصل عملها في التبليغ ونشر الفكر الإسلامي الأصيل.

ـ المشاركة في إلقاء المحاضرات الدينية والاستفادة من المنبر الحسيني ومشاركته في إلقاء المحاضرات عبر الإذاعة وذلك لنشر الثقافة الإسلامية وإيصال صوت الدعوة إلى الله عبر كل القنوات المتاحة، وكان(ره) يدعم مؤسسات التعليم الديني في بعض قرى البحرين.

هذا هو الشيخ الراحل الجمري رجل عطاءٍ وبذلٍ، ورجل إخلاصٍ وجهادٍ، رجل إيمانٍ وتقوى، رجل كلمةٍ وموقفٍ. أفنى كل حياته في خدمة الدين والمذهب والدفاع عن الناس، ولم يتوقف لحظةً واحدةً عن خدمة دينه ووطنه، إلا أن المرض حال دون مواصلته الطريق ودون أن يلبي أمنيته، وجاء قضاء الله المحتوم ليطوي صفحةً من كتاب العطاء والجهاد والإيمان والرسالية، كتاب رجل حفر اسمه في قلوب عشاقه ومحبيه، وفي قلوب السائرين على دربه.

 

 * الهوامش:

(1) اقرأ المقابلة مع زوجة الشيخ أم جميل.

(2) نفس المصدر.

(3) راجع خطب الجمعة له.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا