الشعار وعاء الفكرة:
الشعار هو عنوان يحمل الفكرة في خطها العريض، وهو في حقيقته يعبر عن ممارسة تغذي الجانب الشعوري والوجداني من ناحية، والجانب العقلي والمفاهيمي من ناحية أخرى، فتنعكس تلك الإيحاءات العاطفية والفكرية المنبعثة من الشعار على سلوك الإنسان في واقعه الخارجي، سواء في الاتجاه الإيجابي أم السلبي، تبعاً لما يتضمنه ذلك الشعار من إيحاءات إيجابية أو سلبية.
فالإستشهادي الذي يمتلك إرادة الشهادة، حينما يقتحم الموت باختياره الواعي، ويطأ التردد والجبن بقدم الثبات والشجاعة في مواجهة الطغاة والمردة وهو يرتل شعار التكبير ـ بألحانه الملكوتية ـ بشفتين باسمتين وقلب مطمئن، هو في واقعه صناعة الشعار وفلسفة التكبير.(1) والشعار تارة يكون قولاً من الأقوال، كما في البسملة والتكبير، وتارة يكون فعلاً من الأفعال، كما في الصلاة والحج(2).
مقومات الشعار الإسلامي:
والفكرة سواء في الشعار القولي أم الفعلي، هي بمثابة الجنين في رحم الأم، فلابد لها من أرضية وبيئة صالحة لنموها وخروجها من رحم الشعار، وذلك لا يتأتى إلاّ بتوفر مقومات البقاء في مكونات الشعار ذاته، ومن تلك المقومات:
أولاً: ربانية الشعار ومبدئيته: وذلك من خلال وجود حالة التناغم والانسجام التام بين الشعار في منطلقاته وحركته وأهدافه، وبين التكاليف الإلهية والمضامين العقائدية والمعطيات الأخلاقية الربّانية، فالشعار الذي يحيد قيد أنملة عن الحكم الشرعي والامتداد العقائدي والأخلاقي، هو شعار شيطاني يباين الشعار الرباني في جذوره الفكرية، ومن هنا تأتي لا بدية تعزيز الوعي الإسلامي الأصيل في قلوب وعقول وسلوك حملة الشعارات، لكي تتحرك تلك الكلمات والحروف والمواقف في الواقع المعاش وتؤتي أكلها وثمارها بما يتناسب مع حاكمية الله سبحانه وتعالى وخلافة الإنسان وعبوديته.
ثانياً: واقعية الشعار: وهو أن تُلحظ طبيعة الشعار وإمكانية تطبيق مفرداته، وقدرة الإنسان على الاستجابة والامتثال، حيث أن المثالية السلبية المتمثلة في عدم الوئام بين الجانبين النظري والتطبيقي، سوف تساهم وبشكل سريع في حتمية فشل الشعار. وليس معنى ذلك أن يتقزّم الإنسان أمام عملقة الواقع المزيّف بكل أخطائه وانحرافاته وسلبياته، ويتخلى عن دينه حفاظا على دنياه، ويساهم في خلق واقع الذل والهوان، بل «الواقعية هي أن لا يفصل طلب مصلحة الرسالة في بناء الموقف وإطلاق الكلمة عن دراسة الواقع وملابساته ومضاداته وملاءماته، وكيفية التخلص من ضغوطاته، وما تأذن به الرسالة من الاستجابة لـه من هذا الواقع مع الاضطرار وما لا تأذن، وما يتيسر من الآليات وما لا يتيسر، وما يمكن أن يؤجل على مستوى المعالجة وما لا يمكن أن يؤجل، وما يمكن فعله وما لا يمكن أن يفعل»(3).
ثالثا: وضوح الشعار: حيث أن عنصر الضبابية في الشعار وعدم وضوحه في المنطلقات والوسائل والغايات، وأيضاً في المفردات والكلمات، مدعاة لاستغلال المستغلين، كما هو الحال في شعار الحرية، فإن غموض الخطوط التفصيلية لهذا الشعار في العقلية الإسلامية، مكّنت الآخرين من طرح وسائل مشبوهة لتحقيق أهدافها ومصالحها الذاتية، إضافة إلى أن عنصر الوضوح في مكونات الشعار يعزز من عملية إقناع الآخرين بالشعار.
رابعاً: عنصر الثبات في أهداف الشعار: الهدف الإستراتيجي الثابت والدائم عنصر أساسي لبقاء الشعار واستمراريته وتأثيره، نعم، ربما يتوسل بالشعارات التكتيكية المتغيرة والمؤقتة، لتهيئة الأرضية المناسبة والبيئة الصالحة لطرح الشعار الإستراتيجي الثابت، بحيث يلتقي ذلك الشعار المتغير مع الشعار الثابت في الأسلوب بما لا يتنافى مع محتواه المقدس، بل يكون امتداداً لـه.
خامساً: شمولية أهداف الشعار: التحرك في الأطر الضيقة من منطلقات حزبية وفئوية أفرزتها التخاصمات والانقسامات البغيضة والمجنونة، يتنافى مع البعد الاجتماعي للشعار، ألا وهو تأكيد علاقات المحبة بين أفراد الجماعة الواحدة، وتعزيز روح التكامل والتكافل بينها... هذه بعض مقومات الشعار...
بطبيعة الحال، فإنه صمام الأمان لهذه المقومات وغيرها هو عبارة عن الاعتقاد الواعي بمكونات الشعار والتفاعل معها، والتفاني من أجل تحقيق أهداف الشعار، والصدق والإخلاص والتحرك الجاد خلف القيادة الشرعية.
الشعار في ملحمة كربلاء:
على كل حال، هناك عدة طرق لمعرفة ماهية وحقيقة أية نهضة وثورة، فإما أن نتعرف على تلك النهضة من خلال التعرف على قادتها ورجالاتها والجماعات التي تتبناها، أو عن طريقه معرفة جذورها وعللها، أو عن طريقه التعرف على أهدافها، وأيضاً، من الممكن أن نتعرف على تلك النهضة والثورة عن طريقه دراسة الشعارات التي أعطتها القدرة والحيوية والاندفاع(4).
وملحمة كربلاء هي أم الثورات وملهمتها، كيف لا تكون كذلك والإمام الحسين (ع) قائدها، والعباس وحبيب وزهير وبرير رجالاتها.
واجتثاث جذور الظلم وجذورها، ورضا الله سبحانه وتعالى وتحقيق حاكميته غايتها، فكيف لا تكون كذلك!؟
وإذا قرأنا واقعة الطف من خلال كلمات الإمام الحسين (ع) وشعاراته التي أطلقها في ملحمة كربلاء، حينها سندرك بأننا نقف أمام ثورة خالدة بخلود مفجرها.
فهذا شعار الإصلاح وشعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذان أطلقهما الإمام الحسين (ع) في وصيته إلى أخيه محمد بن الحنفية (رض)، حيث قال (ع): «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب»(5). وأيضاً شعار مقاومة الظالمين الذي أطلقه (ع) حينما خطب في أصحابه وأصحاب الحر بالبيصة، حيث قال (ع): «أيها الناس. إن رسول الله (ص) قال: من رأى منكم سلطانا جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (ص)، يعمل في عباده بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير»(6).
ففي هذه الشعارات وغيرها من الشعارات التي أطلقها الإمام الحسين (ع) في ملحمة كربلاء الخالدة، نلمس عنصر ربانية الشعار من خلال المحافظة على دين الله وشرعه والدعوة إلى طاعته «ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن... الخ»، ونلمس أيضاً واقعية الشعار من خلال التحرك لتحقيق مصلحة الرسالة ودين النبي الأعظم (ص)، ودراسة الواقع وكيفية التخلص من ضغوطاته وعدم الاستسلام لـه «من رأى منكم سلطانا جائراً... الخ... فلم يغير عليه بفعل ولا قول... الخ»، ونلمس وضوح الشعار وعدم ضبابيته «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»، ونلمس أيضاً عنصر الثبات في أهدافه وعدم التراجع، حيث قال (ع) لأخيه محمد بن الحنفية: «يا أخي لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية»(7)، ونلمس أيضاً عنصر الشمولية وعدم الفئوية كما في خطبته لأصحابه وأصحاب الحر، وأيضاً حينما قال (ع) لمن حال بينه وبين رحله من الأعداء وكان فيهم شمر بن ذي الجوشن: «ويلكم إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحراراً»(8).
هكذا هي كربلاء، شمس مشرقة في قلوب عاشقي الحرية، ومنار تنير لهم الدروب، فحري بنا أن نستضيء من بصيص نور شعارات كربلاء.
والحمد لله رب العالمين
* الهوامش:
(1) فلسفة الاستشهاد، ناصر حسن ص:20.
(2) تفسير سورة الحمد، السيد محمد باقر الحكيم ص: 180.
(3) خطبة الجمعة لسماحة الشيخ عيسى أحمد قاسم (176) 13 شوال 1425 هـ.
(4) الحركات الإسلامية، مطهري ص: 103.
(5) مقتل الحسين (ع)، المقرم ص: 139.
(6) تاريخ الطبري، الطبري ج:4 ص: 304.
(7) مقتل الحسين (ع)، المقرم ص: 134.
(8) تاريخ الطبري، الطبري ج:4 ص: 344.
0 التعليق
ارسال التعليق