عند الحديث عن صفة أو فضيلة معينة في شخص من الأشخاص ونسبة هذه الصفة لهذه الشخصية أو تلك فإنّ هذه الصفة تضفي نوعاً من الشرف والرتبة والفضيلة للمنسوب إليه فيكون صاحب هذه الصفة ذا شرف وكرامة وهذا شيء طبيعي لكنه من الغريب حدوث عكس ذلك! أعني: أن تتشرف الصفة والفضيلة بسبب الشخصية المنسوبة إليها فهو على خلاف المألوف، وسرعان ما يزول هذا العجب والدهشة عندما تعرف أنّ هذه الشخصية هي شخصية الأمير علي بن أبي طالب عليه صلوات المصلين وأما الصفة التي تشرفت به فهي صفة الزهد.
فما هو الزهد في اللغة والاصطلاح؟ وما هو السبب أو الدافع للزهد؟ وماذا قال علي (عليه السلام) في الزهد؟ وما هي فوائد وثمرات الزهد؟ وما هي موانع الزهد؟
لقد تجسّد الزهد في حياته وسلوكه (عليه السلام) فحينما نقرأ حياته نجد ذلك واضحاً جلياً فعن ابن عباس قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟،فقلت: لا قيمة لها، فقال (عليه السلام): لهي أحب إليَّ من إمرتكم إلا أقيم بها حقاً أو أدفع بها باطلاً(1). نريد أن نقف على كلماته في نهج البلاغة كي ننهل منه مفهوم الزهد ونجعله قدوة ونطبقه في سلوكنا وحياتنا اليومية.
مفهوم الزهد في اللغة كما ذهب جملة من أصحاب معاجم اللغة هو الترك والإعراض والرغبة عن الشيء واحتقاره، وخلاف الزهد في الشيء الرغبة في الشيء. والجمع زهاد، ومادته (زهد) من باب شرف وفرح وضرب(2)، وأما الزهد في الاصطلاح: هو أن لا يريد الدنيا بقلبه ويتركها بجوارحه إلا بقدر ضرورة بدنه، وبعبارة أخرى: هو الإعراض عن متاع الدنيا وطيّباتها من الأموال والمناصب وسائر ما يزول بالموت(3)، وأما الزهد في القرآن الكريم فعن علي (عليه السلام): «إنّ الزهد بين كلمتين {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} من لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد استكمل الزهد بطرفيه»(4)، فلا يحرص كل الحرص على الأمور الدنيوية لأنّها زائلة بل يتركها مهما أمكن له ذلك فيأخذ منها مقدار ما يعيش وبما أنّ الدنيا دار فناء فلا يطول أمله وبهذا المضمون جاء عن الأمير (عليه السلام): «...أيّها الناس! الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والورع عند المحارم»(5). ما يستفاد من الرواية أنّ الزهد ليس هو عدم الحصول على شيء ولا رفض نعم الدنيا بل هوعدم التعلق بالدنيا والتشبث بمغرياتها والانشغال بالنعم دون المنعم، فعن الصادق (عليه السلام): «ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا تحريم الحلال بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله (عزَّ وجل)»(6).
فلا يجزع جزع الحريصين إذا أصيب بمصيبة أو خسر شيئاً ولا يفرح فرح المنتصرين إذا أعطي نعمة، فهو يأسِر الدنيا أو نِعَم الدنيا لا أنّه أسير للدنيا ونعمها فكأنّما الإمام (عليه السلام) يردّ توهماً هو أنّ الزهد إضاعة المال وتحريم ما أحل الله فجاء الإمام (عليه السلام) ليبيّن معنى الزهد الحقيقي وأنّ ما في يد الإنسان يزول ويذهب وأما ما عند الله فهو باق.
وهنا تجدر الإشارة إلى وجود الفرق بين الزهد والتصوّف فمعنى الزهد يتحقق بمجرد الإعراض عن الدنيا ومتاعها وأما التصوف فقد أخذ في مفهومه مجاهدة النفس وترويضها، والزهد ثمرة من ثمرات التصوف وليس التصوف من الشعائر والعقائد الدينية.
أسباب الزهد:
ما يدفع الإنسان الى أن يزهد في الدنيا وما فيها كثير، فأكتفي بذكر بعض منها:
1- التمسك بالدائم، فالإنسان العاقل يتمسك بالشيء الدائم والباقي لا الشيء الفاني والزائل، لذلك يقيم للدنيا وزناً.
2- الاستقرار والطمأنينة، الإنسان دائماً يطلب الاستقرار والطمأنينة طلباً حثيثاً وهذان يحصلان بالزهد فلا يحرص على شيء من هذه الحياة الدنيا.
3- قلّة مدّة الحساب يوم المحشر، لأنّ هذه الحياة الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها حساب وفي الشبهات عتاب فبمقدار رفع الإنسان يده عن مغريات الدنيا يقل حسابه ولا يطول وقوفه يوم القيامة، فعن الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن الزهد فقال: «الذي يترك حلالها مخافة حسابه ويترك حرامها مخافة عقابه»(7).
4- مواساة الفقراء بسطاء العيش من الناس، فعندما سئل علي (عليه السلام) عن سبب زهده على الرغم من كونه حاكماً، فأجاب: إنّ الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم بالقوام كيل يتَبَيَّغَ -يهيج به الألم فيهلكه- بالفقير فقره(8).
كلمات الأمير (عليه السلام) في الزهد:
- قوله: «ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»(9). إنّ علياً (عليه السلام) يشبّه الدنيا بالشيء الحقير حيث لا أحد يتسابق، بل يطلب الشيء الحقير فهي عنده ليست بشيء فلا يرى منصباً ولا جاهاً ولا كرسياً ولا شيئاً له قيمة، إنّ من يزهد في الدنيا فهو ينظر إلى الآخرة هكذا.
- ومن كلامه (عليه السلام): «والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك؟ فقلت له: أغرب عنّي، فعند الصباح يحمد القوم السرى»(10)، الأمير استخدم هنا مثلاً عند العرب وهو (عند الصباح يحمد القوم السرى) وهو مثل يضرب لمن يحتمل المشقّة عاجلاً ليصل إلى الراحة آجلا، فهو (عليه السلام) يتحمّل قساوة العيش وشدّته ليصل إلى الآخرة سالماً، فأقلّ ما فيها يكفيه.
-ومن كلامه (عليه السلام): «وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى؟»(11). وهنا لا ينفي وجود النعيم؛ نعم يوجد نعيم لكنه غير دائم وزائل ولم ينف اللّذة لكنه يصفها بالفناء وعدم البقاء فإذا كان هذا وصفها فعلام التمسّك بها؟
-وأخيراً من كلامه (عليه السلام) وهو يخاطب الدنيا: «إليك عنّي يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك وأفلت من حبائلك واجتنبت الذهاب من مداحضك»(12).
ينقل عن الأحنف بن قيس قال: «دخلت على علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقت إفطاره إذ دعا بجراب مختوم فيه سويق الشعير، فقلت: يا أمير المؤمنين لم أعهدك بخيلا فكيف ختمت على هذا الشعير؟، فقال: لم أختمه ولكن خفت أن يلينه الحسن والحسين بسمن أو زيت، قلت: هما حرام عليك؟ فقال: لا، ولكن يجب على الأئمة أن يتغذوا بغذاء ضعفاء الناس وأفقرهم ليراهم الغني فيزداد شكراً وتواضعاً لله (سبحانه وتعالى)»(13). فها هو الأمير (عليه السلام) يعلّمنا بأنّه ليس كلّ شيء مباح نمارسه.
يحدثنا المؤرخون عن لباسه أنّه كان كرباساً خشناً غليظاً رخيصاً لا يتجاوز ثمنه ثلاثة دراهم وكان يرقعّه عند الحاجة، هكذا كان لباسه (عليه السلام).
وأما موقفه مع قصر الأمارة المعروف حينما تشرفت الخلافة به، جاؤوا به إلى القصر باعتباره حاكماً فقال لهم (عليه السلام): «جنبونيه إنّه قصر الخبال...»، فمن يقدر على زهد كهذا !! فما أعظمك يا أمير المؤمنين وأعظم زهدك!!
مراحل الزهد
قُسّم الزهد إلى ثلاث مراحل:
الأولى: وهي السفلى، أن يزهد الإنسان في الدنيا وهو لها مشته، وقلبه إليها مائل، ونفسه إليها ملتفتة، ولكنه يجاهدها ويكفها.
الثانية: أن يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إيّاها بالإضافة إلى الآخرة المرغوب فيها، كالذي يترك درهما لأجل درهمين فإنّه لا يشق عليه ذلك، وهو يظن بنفسه أنّه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه.
الثالثة: وهي العليا، أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده إذ لا يرى أنّه ترك شيئاً، حيث عَرَف أنّ الدنيا لا شيء، فيكون كمن ترك نواة وأخذ جوهرة، فلا يرى ذلك معاوضة، وهذا كمال ومثله الزهد. ومثله مثل من منعه من باب الملك كلب على بابه فألقى إليه لقمة خبز فشغله بنفسه ودخل الباب ونال القرب عند الملك حتى نفذ أمره في جميع مملكته، أفترى لنفسه يداً عند الملك بلقمة خبز ألقاها إلى الكلب في مقابلة ما ناله؟!، فالشيطان كلب على باب الله يمنع الناس من الدخول والدنيا كلقمة خبز يأكلها، فلذّتها حال المضغ وتنقضي على القرب بالابتلاع، ثم يبقى ثفلة -ما يترسب في أسفل الشيء من كدره- في المعدة، ثم ينتهي إلى النتن والقذر ويحتاج إلى إخراج الثفل، فمن يتركها لينال قرب الملك كيف يلتفت إليها؟
ثمرات الزهد
إنّ للزهد ثمرات وفوائد منها:
1- نيل الزاهد المحبّة من الله (سبحانه وتعالى) ومن الناس، ومن نال ذلك فقد عاش سعيداً، ففي الرواية: «ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد عمّا في أيدي الناس يحبك الناس»(14).
2- إثبات العلم والحكمة، فعن النبي (صلَّى الله عليه وآله): «إذا رأيتم العبد قد أعطي صمتاً وزهداً في الدنيا فاقربوا منه فإنّه يلَقَّى الحكمة» وعنه (صلَّى الله عليه وآله): «من أراد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا»(15).
3- الأمن يوم الحساب يوم لا ظل إلا ظله، فعن النبي (صلَّى الله عليه وآله): أنّه «قال الله تعالى ليلة الإسراء: يا أحمد... هل تعرف ما للزاهدين عندي في الآخرة؟، فقال: لا يا ربّ، قال: يبعث الخلق ويناقشون بالحساب وهم في ذلك آمنون...»(16).
موانع الزهد
من أبرز موانع الزهد:
1- إيثار الدنيا على الآخرة، فمن آثر الدنيا على الآخرة يبتليه الله بأحد ثلاث كما في الحديث عن النبي (صلَّى الله عليه وآله): «من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله بثلاث: همٌّ لا يفارق قلبه أبداً، وفقرٌ لا يستغني معه أبداً، وحِرْصٌ لا يشبع معه أبداً»(17).
2- طول الأمل واتّباع الهوى، ففي الحديث الشريف: «إنّما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى وطول الأمل».
إنّ هذه موانع تحجب الإنسان عن الزهد ورقي روحه فيظلّ متمسّكاً بهواه خالداً للأرض لأنّه عظّم الدنيا فكبرت في عينه حتى آثرها على الآخرة فيبتلى بهمّ وفقر وشقاوة.
ماذا قالوا في زهد علي (عليه السلام)؟
ابن أبي الحديد المعتزلي: "وأما في الدنيا فهو سيد الزهاد وبدل الأبدال وإليه تشد الرحال، ما شبع من طعام قط، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً"(18)، و كان يقول: "لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان"، وهو الذي طلّق الدنيا ثلاثاً، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام.
وعن عمرو بن عبد العزيز: ما علمنا أنّ أحداً كان في هذه الأمّة بعد النبي (صلَّى الله عليه وآله) أزهد من علي بن أبي طالب (عليه السلام).
حريّ بالإنسان المؤمن أن يقتدي بأمير المؤمنين (عليه السلام) ويرفض هذه الدنية الفانية ويتمسّك بالآخرة الباقية.
اللّهم اجعل محيانا محيا محمد وآل محمد ومماتنا ممات محمد وآل محمد ولا تفرّق بيننا وبين محمد وآله طرفة عين أبداً.
***
* الهوامش:
(1) نهج البلاغة، خطبة 33.
(2) معجم الطراز الأول، ج5 ص406.
(3) جامع السعادات، الطبعة الأولى (ط الأميرة) ص315.
(4) الأخلاق للسيد عبدالله شبر الباب السادس في الزهد.
(5) النهج خطبة 79.
(6) الأخلاق، ص291.
(7) نفس المصدر ص292.
(8) شرح ابن أبي الحديد،ج11 ص35- 36.
(9) النهج خطبة 3.
(10) النهج خطبة 160.
(11) النهج خطبة 224.
(12) النهج كتاب 45.
(13) التذكرة لابن الجوزي الباب الخامس.
(14) مرآة الكمال، باب الزهد ج2 ص310.
(15) الأخلاق، الباب السادس في الزهد.
(16) مرآة الكمال باب الزهد ج2 ص311.
(17) الأخلاق، ص291.
(18) شرح ابن أبي الحديد، ج1 ص26.
0 التعليق
ارسال التعليق