الرحمة المجتمعيّة

الرحمة المجتمعيّة

طالما سعى الإسلام من خلال توصياته، وتعاليمه الّتي أنفذها عبر آياته القرآنيّة، وأحاديث أهل بيت العصمة والطّهارة ومن قبله سائر الشّرائع السّماويّة إلى أن ينشئ الفرد والمجتمع الراقيّ الكامل المتكامل المتحلّي بالفضائل، والمتخلّي عن الرّذائل، ومن أبرز ما اهتمّ به أنّه أوصى بضرورة أن يعيش الفرد وبتبعه المجتمع خلق التّراحم والتّعاطف؛ حتّى حصر القرآن الكريم غاية إرسال النّبي الخاتم| في الرّحمة، حيث قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}[1].

وقد تجلّى هذا الخلق الرّفيع حتّى صار من أجلى مظاهر شخصيّة الأنبياء والأولياء والأئمّة الطّاهرينi، وما أحوجنا اليوم كأفراد ومجتمعات إلى أن يتجذّر فينا خلق الرّحمة، بل أن يصير من صلب أعماق وجودنا؛ إذ لا استقرار لمجتمع فاقدٍ للرّحمة، ولا تعايش وتقبّل للآخر إلّا بالتّراحم والتّكافل. ويكفي الرّحمة إعلاء وتقديراً أنّها من الصّفات الّتي أثبتها اللهa لذاته المقدّسة.

من هذا المنطلق أحببتُ تسليط الضّوء على المواطن الّتي تكون مظهراً للرّحمة بشكلٍ آكد وأكثر أهميّة، مستنداً في ذلك إلى الآيات القرآنيّة والرّوايات الشّريفة وسيرة أهل البيتi.

المظهر الأوّل: المجتمع الإنسانيّ 

تُعتبر الرّحمة ركيزة أساسيّة يتقوّم بها المجتمع النّاجح بكلّ أفراده على مختلف توجّهاتهم ومشاربهم، حينما يتحلّى بها مَن هو في أعلى الهرم (الحاكم) إلى أصغر فرد فيه. ولذا كانت من وصايا أمير المؤمنينg في العهد الّذي كتبه لمالك الأشتر    ۤ واليه على مصر حيث قال فيه >وأَشعر قلبك الرَّحمة للرَّعية والمحبّة لهم والّلطف بهم ولا تكوننّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أَكْلهم فإنَّهم صنْفان إما أخٌ لكَ في الدّين وإمَّا  نظيرٌ لكَ في الخَلق<[2]، فهذا أمير المؤمنينg العادل الرّحيم يعهد إلى واليه بأن يتحلّى بصفة الرّحمة وأن تكون هي منطلق التّعاطي مع سائر النّاس بلا فرق بينهم مسلمين كانوا أو غير مسلمين؛ لأنّ ذلك ضمان استقرار المجتمع ورقيّه ونجاحه.

وقد تظافرت النّصوص الشّريفة في الحثّ على أن تكون العلاقة بين المؤمنين أنفسهم قائمة على الرّحمة والعطف والتّعاون فيما بينهم، بل أعطتنا نماذج عمليّة تخلّقت بالرّحمة، فهذا القرآن الكريم يصف نبيّنا الكريم قائلاً: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[3] فما كانت منطلقات أفعاله إلّا الرّحمة والرّأفة، بل وصلت رحمته وشفقته إلى أقصى مراتب الرّحمة حتّى أنّه لشدّة رحمته وشفقته خاطبه الجليل تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[4]، وفي آية أخرى يقول: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[5] -"يقال بَخَعَ نفسَه بَخْعاً، أي قتَلَها غمًّا"[6]- وكأنّ غمّ وتأسّف النّبيe على عدم إيمان قومه كاد أن يقتله. فما هي تلك الرّحمة التي غمرت قلب النّبي الأكرمe؟!! وقد جاء في آية ثالثة: {... فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[7] وهذا نقطة من بحر الرّحمة المحمّدية الّتي تجلّت في مواقف عديدة، حيث عفا عمّن أساء إليه وآذاه من زعماء قريش حين فتْحه لمكّة كما جاء في الرّواية عن الإمام الصّادقg: >... دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أنّ السّيف لا يرفع عنهم فأتى رسول اللهe البيت وأخذ بعضادتي الباب ثمّ قال: (لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده)، ثمّ قال: ما تظنّون وما أنتم قائلون؟ فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً ونظنّ خيراً أخٌ كريم وابن عمّ، قال: فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: {قال تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الراحِمِين}<[8] فحينما تكون الرّحمة يكون العفو والتّسامح والصّفح.

وفي موقف آخر يعطينا التّاريخ نموذجاً يعتبر امتداداً للفيض الرّحماني النّبوي، إذ يروى "أنّ شامياً رأى الإمام الحسنg راكباً، فجعل يلعنه، والحسنg لا يردّ، فلمّا فرغ، أقبل الحسنg فسلّم عليه، وضحك، فقال: >أيّها الشّيخ، أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك, لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً<. فلمّا سمع الرّجل كلامه بكى، ثمّ قال: "أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبُّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم"[9].

وقد تجلّت صفة الرّحمة عند أهل البيتi بأجلى صورها في الإمام الحسينg خصوصاً في أحداث كربلاء وما يتعلّق بها. فمثلاً حينما جاءه الحرّ بن يزيد الرّياحيّ في ألف فارس يطلبون اعتراض طريقه نحو الكوفة وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة ما لحقهم من العطش، فما كان من رحمته وشفقته بهم إلّا أن أمر غلمانه وأهل بيته أن يسقوا القوم عن آخرهم ويرشّفوا الخيل ترشيفاً[10]، فأيّ نوع من الرّحمة هذا الّذي حازه أبو عبدالله الحسينg حتّى صار يعطف على قاتليه؟!!

فهذه بعض نماذج تدعونا لأن تكون أفعالنا وعلاقاتنا مع الآخرين منبثقة من مبدأ الرّحمة والرّأفة، خصوصاً ما إذا كان الآخر مؤمناً فإنّ العطف والرّأفة به والصّفح عن خطئه قد أكّدت عليه النّصوص الشّريفة، فإنّ الالتزام بكلّ ذلك يولّد مجتمعاً صالحاً راقياً متكاملاً متعاوناً، كالمجتمع الّذي كان يصبو إليه الأنبياء والأولياءi.

وقد وصف اللهa المؤمنين قائلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[11] فمن صفات المؤمن أنّه يلين جناحه لأخيه المؤمن، خلو الجفاء والقساوة معه.

وفي آية أخرى تصف النبيّ الأكرمe وأصحابه المؤمنين فتقول: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}[12] فالمؤمن يرفق بالمؤمن ويحنو عليه، وليست الشدّة والغِلظة إلّا للكافرين المعاندين.

ولذا ورد الحثّ في العديد من الرّوايات على كثير من السّلوكيات العمليّة الّتي من شأنها المساهمة في شياع حالة المحبّة والتّراحم بين الآخرين. فمثلاً:

التّهادي: عن السَّكونِي عن أبي عبداللَّهg قال: قال رسول اللَّهe: >تهادوا تَحابُّوا تهادوا فإنَّها تَذهَب بالضّغائن<[13] فالهديّة من شأنها إيجاد المحبّة بين المؤمنين، وإزالة الأحقاد من القلوب إن وجدت.

إظهار المحبّة باللسان: فقد جاء عن رسول الله:e >إذا أحبّ أحدكم صاحبه أو أخاه فليُعْلمه<[14] فإنّ إبراز المحبّة اللسانيّة النّاشئة من مودّة قلبيّة مدعاة لتقوية العلاقة بين المؤمنين.

إفشاء السّلام: روي عن رسول اللهe: >والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتّى تحابّوا، أوَلا أدلّكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم أفشوا السّلام بينكم<[15] فإنّ إلقاء السّلام فيه المقتضيّ للمحبّة و التّراحم.

التّزاور وتذاكر أحاديثهمi: عن الإمام الصّادقg: >تزاوروا فإنّ في زيارتكم إحياءً لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تُعطِّف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم وإن تركتموها ضللتم وهلكتم فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم<[16]‌.

كلّ ذلك وغيره ممّا أشارت إليه الرّوايات لا ينبغي تركه وإغفاله، بل على المؤمنين التّواصي به فهو مصداق لقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[17] هذا التّواصي الّذي يفضي إلى العطّف على الفقير، والشّفقة بالمسكين، والرّحمة باليتيم، فيكون المجتمع في قِمّة التّراحم والتّكافل.

المظهر الثّاني: الأسرة المؤمنة

تعتبر الأسرة مجتمعاً مصغّراً تنبثق منه ثلاث علاقات أساسيّة متبادلة الأطراف: (الزّوجان، الوالدان مع الأبناء، الأبناء فيما بينهم) وأخصّ بالذّكر -بلحاظ الحاجة إلى مبدأ الرّحمة والرّأفة- العلاقتين الأوّليّتين لما لهما من خصوصيّة وأثر على العلاقة الثّالثة بشكل تلقائيّ، وهما العلاقة الزوجيّة، وعلاقة الوالدين بالأبناء.

العلاقة بين الزوجين

أمّا العلاقة الأولى الّتي بين الزّوجين فقد أشار إليها القرآن الكريم قائلاً: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[18]  بغض النّظر عن الخلاف القائم حول كون الجعل في الآية المباركة: جعلاً تشريعيّاً بمعنى أنّ اللهa أراد من الزّوجين أن يحقّقا المودّة والرّحمة، أو جعلاً تكوينيّاً بمعنى أنّ كلّ زوجين بمجرّد إنشاء عقد الزّوجيّة تكون بينهما مقتضيات المودّة والرّحمة إلّا أنّ بعضهم يضيّعها ويحول بموانع دون وجودها، بغضّ النّظر عن كلّ ذلك فإنّه لا ريب في مطلوبيّة المودّة والرّحمة في الحياة الزوجيّة الّتي يراد لها النّجاح، وهذا له عوامل سواء على مستوى الإيجاد للمودّة والرّحمة أو على مستوى الدّيمومة لهما نذكرها تباعاً إلّا أنّه قبل ذلك أشير إلى:

الفارق بين المودّة والمحبّة

 وهو معنى لطيف أشار إليه صاحب تفسير الميزانS في تعبير القرآن الكريم بلفظ المودّة عوضاً عن المحبّة، حيث قال: "المودّة كأنّها الحبّ الظّاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودّة إلى الحبّ كنسبة الخضوع الظّاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الّذي هو نوع تأثّر نفسانيّ عن العظمة والكبرياء"[19] فكما أنّ الخضوع الظّاهري ترجمان للخشوع الباطنيّ القلبيّ، فكذلك هي المودّة العمليّة ترجمان للحبّ الحقيقيّ الباطنيّ القلبيّ. وكأنّ القرآن الكريم لا يريد من الزّوجين أن تكون بينهما حالة الحبّ الجامد المزيّف الّذي يقف عند القلب من دون أيّ أثر عمليّ يُذكر، وإنّما يريد الحالة الأرقى من الحبّ وهي المودّة الّتي تتضمّن سلوكاً عمليّاً يترجم تلك الحالة القلبيّة الباطنيّة، ومن هنا حينما يأتي القرآن ليحدّد أجر رسالة النّبيe فإنّه لا يعبّر بالحبّ وإنّما بالمودّة لذوي القربى {قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[20] أي الحبّ المستتبع للعمل، والاتّباع الحقيقيّ.

والسّؤال المهمّ هنا: ما هي أهمّ العوامل الّتي تساعد على إيجاد وترسيخ حالة المودّة والرّحمة بين الزّوجين؟

1ـ مراعاة الحقوق المتبادلة بين الزّوجين الّتي نصّت عليها الرّوايات الشّريفة: لا سيّما حق الزّوجة الّذي أكّد عليه الإسلام وحثّ كثيراً على مراعاته حتّى روي عن رسول الله:e >ما زال جبرئيل يوصيني بالمرأة، حتى ظننت أنّه لا ينبغي طلاقها إلّا من فاحشة مبيّنة<[21] فتارة نلحظه من:

* الجانب المادّيّ المرتبط بالمعيشة كتوفير الغذاء والسّكن والملبس وسائر ما تحتاج إليه بحسب حالها...إلخ وقد أشبعت الكتب الفقهيّة هذا الجانب بما فيه الكفاية.

* وأخرى نلحظه من جانبه المعنويّ المرتبط بحسن المعاشرة، وهو المهمّ حيث يخفق الكثير فيه ويقع في دائرة التّقصير. ففي الرّواية عن الإمام الصّادقg حينما سئل عن حقّ الزّوجة أجاب: >أن يسدّ جوعها، وأن يستر عورتها، ولا يقبِّح لها وجهاً<[22] فلم يقتصر الإمام على بيان حقّها المادّي فحسب من توفير قوت ولباس، بل أشار إلى البعد المعنويّ المتعلّق بحسن المعاشرة، ومن أفضل ما ذكر في هذا الشّأن ما ورد عن مولانا زين العابدينg في رسالة الحقوق: >...فإنَّ لها حقّ الرّحمة والمؤانسة<[23] فاللطف والرّحمة بها حقٌّ من حقوقها المعنويّة.

وفي المقابل فإنّ حقّ الزّوج لا يقلّ شأناً عن حق الزّوجة إن لم يكن أعظم كما جاء في نفس الرّواية السّابقة عن إمامنا زين العابدينg: >... وإن كان حقّك عليها أغلظ وطاعتك بها ألزم<[24] فمراعاته من قبل الزّوجة يساهم في تعزيز حالة الألفة والرّحمة بين الزّوجين.

2ـ تفعيل مبدأ التّسامح والصّفح: وهو ما يعبّر عنه بسياسة التّغافل عن الأخطاء، بمعنى عدم التّوقف مع كلّ زلّة تصدر من الآخر والتّدقيق في كلّ صغيرة وكبيرة، وإنّما ينبغي أن تسود حالة التّسامح والصّفح، وإلى ذلك أشارت النّصوص الشّريفة: فعن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبداللهg: "ما حقّ المرأة على زوجها الّذي إذا فعله كان محسناً؟ قال: >يشبعها ويكسوها وإن جهلت غفر لها. وقال: كانت امرأة عند أبيg تؤذيه فيغفر لها<"[25] فهذه سيرة أهل البيتi بين يديك في طريقة التّعاطي مع أزواجهم حيث منها تنطلق الرّحمة.

ولو فتّشنا حياتنا اليوميّة لوجدنا الكثير منّا تسوده حالة الانتقاد والوقوف عند مثالب الآخر ممّا يؤدّي إلى حالة النّفور لدى الطّرف الآخر.

3ـ ترسيخ البعد العاطفيّ: والّذي ينطلق من المظهر الخارجيّ لهما المتمثّل بتعابير الوجه الظّاهرة في البشاشة والابتسامة. حيث جاء في الرواية: >البشاشة حبالة المودّة<[26]، وفي أخرى: >البشاشة مخّ المودّة<[27] فلا ينبغي للزّوج المؤمن أن يقابل زوجته بوجه مكفهرّ عبوس، فهي الرّيحانة التي تحتاج إلى العطف والحنان.

 ثمّ تمرّ العاطفة لتصل إلى اللسان والكلام، فإن كانت لغة الخطاب بين الزّوجين مشحونةً بكلمات الحبّ والعشق، فإنّ حياتهما تكاد تخلو من حالة التّأزّم والمشاكل؛ حيث إنّ لغة العاطفة ترطّب الحياة وتجعلها تسير بكلّ طمأنينة واستقرار، ولذا قال رسول اللهe: >قول الرّجل للمرأة: إنّي أحبّك، لا يذهب من قلبها أبداً<[28]، فتترسّخ حالة الودّ والمحبّة بينهما مع إبراز المحبّة عبر اللسان، أمّا ألّا تجد كلمة الحبّ والشّكر لها سبيلاً بينهما فإنّه تسود حياتهما حالة الجفاف والتعطّش، فتكون العاقبة وخيمة سيئة جدّاً، إذ تميل الزّوجة أو الزّوج للأجنبيّ عنهما حينما تكون عنده الكلمات المعسولة العاطفيّة، فيدخل الشّيطان بينهما، فيكون مآل حياتهما البينونة والطّلاق والعياذ بالله.

فحذارِ حذارِ من جفاف البعد العاطفيّ وشحّه، بل ينبغي أن يكون بغزارة واستمرار.

4ـ التّعاون ومساعدة كلٍّ منهما الآخر: فعن رسول الله e: >أيّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيّام، غلّق عنها سبعة أبواب النّار، وفتح لها ثمانية أبواب الجنّة، تدخل من أيّها شاءت<[29] فإنّ إسداء الخدمة للآخر طريق نحو التّكامل والقرب الإلهي مضافاً إلى كونه عاملاً مساعداً في إيجاد مناخ وجوّ الرّحمة والمودّة بين الزّوجين.

علاقة الوالدين بالأبناء

أمّا العلاقة الثّانية فأخصُّ الحديث بتعاطي الوالدين مع الأبناء ولا أتحدّث عن العكس؛ إذ الحديث عن الوالدين عظيم لا يمكن إدراكه وهو من الوضوح بمكان بحيث لا يتنكّر له أحد، وإنّما أشير إلى علاقة الوالدين مع الأبناء في بعدها العاطفيّ، حيث هي مورد ضبابيّة لدى الكثير، إذ قلّما تجد أبوين يغمران أبناءهما بالعطف والرّأفة والحنان بالمعنى الذي سأشير إليه، فأقول: من الخطأ الفادح أن يعتقد الواحد منّا أنّ الابن بحاجة إلى العطف والحنان ما دام في سنيّ عمره الأولى، وأنّه بمجرّد أن يقوى عوده فإنّه من المعيب أن أظهر له كلمات الحبّ أو قبُلات العشق الّتي كانت تغمره في صغره، على أنّه -وللأسف الشّديد- ينعدم كلّ ذلك فيما بينه وبين أبنائه حتّى في سنيّ عمرهم الأولى جهلاً بضرورة الإشباع العاطفيّ لدى الأبناء الّذي يعتبر حاجة ماسّة لا تقلّ أهمّيّة عن حاجة توفير الملبس والمأكل ...إلخ، وإنّ الزّهد فيها يمثل إنذاراً بوقوع آثار وخيمة لا تحمد عقباها وقد تصل -كما في بعض القضايا الواقعيّة- إلى أمراض نفسيّة شديدة، ومن أكبر تلك الآثار السيّئة أنّ الابن حينما يجد الجفاف العاطفيّ تراه يبحث عمّن يحتضنه ويصغي إليه، وحينئذٍ تتلقّفه الأيادي السّاقطة فكراً وخلقاً برأفة ورحمة وكلمات معسولة فلا يجد من نفسه إلّا وقد ارتمى في أحضانها مسلّما نفسه طائعاً إليها. فتصل تلك الأيادي الخبيثة إلى مبتغاها، فتحتضن فلذات أكبادنا لتنشئته كيفما هي تريد بعيداً عن خلق وتعاليم الإسلام المحمديّ الأصيل، واليوم ما أكثر تلك المشاريع المنحرفة الّتي تصرف الأموال الطّائلة والمدعومة من دول الاستكبار، والموجودة بين ظهرانينا.

من هنا نحتاج إلى أن نشير إلى أهميّة البعد العاطفيّ بين الوالدين والأبناء، وأثره في استقرار الحياة الأسريّة وسيرها على وفق المحبّة والتّراحم، فأقول وعلى الله المستعان:

المطالع لروايات أهل البيتi وسيرتهم العمليّة يجد أنّ لغة العطف والحبّ لا يخلو منها تعاطي الواحد منهم مع أبنائه، ممّا يدلّل على ضرورتها واحتياجنا إليها، وإليك بعض ما يشير إلى ذلك:

1ـ تقبيل الأولاد: فقد كان رسول اللهe يكثر من تقبيل الإمام الحسن والحسينh كما ينقل سلمان المحمّديّ: >دخلت على النّبيe وإذا الحسينg على فخذيه وهو يقبّل عينيه ويلثم فاه وهو يقول: أنت سيّد ابن سيّد...<[30]، وفي رواية: "أنّ رسول اللهe كان يقبّل الحسن والحسينh وعنده رجل الأقرع بن حابس جالساً، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول اللهe ثمّ قال: >من لا يَرحم لا يُرحم<"[31]، وأخرى تقول: "جاء رجل إلى النّبيe فقال: ما قبّلتُ صبيّاً لي قطّ، فلمّا ولّى قال رسول اللهe >هذا رجل عندي أنّه من أهل النّار<"[32].

ففي ظلّ ذلك المناخ الّذي عاش فيه رسول اللهe من القسوة والجفاف العاطفيّ سعى جاهداً وبشكل عمليّ إلى ترسيخ مبدأ العطف على الأبناء عبر الإكثار من تقبيل أولاده.

مضافاً إلى سيرتهم العمليّة القائمة على تقبيل الأولاد فإنّ الروايات كثيرة في الحثّ على ذلك أذكر بعضها:

منها >أكثروا من قُبلة أولادكم فإنّ لكم بكلّ قُبلة درجة في الجنّة مسيرة خمسمائة عام<[33]، وجاء عن رسول اللهe: >من قبّل ولده كتب الله له حسنة<[34].

فهل لنا في رسول اللهe أسوة حسنة بأن نغدي ونروح محتضنين مقبّلين لأولادنا أو لا؟!

للأسف هناك بعض الآباء لا يمتلك العاطفة الّتي تجعله ينحني ليقبّل عياله وأطفاله بحجة أنّ الحبّ في القلب ولا داعي لتقبيل الأولاد وإظهار الحبّ لهم!! فأيّ منطق معوجّ هذا وأيّ اقتداء وتأسٍّ برسول اللهe!

2ـ إظهار المحبّة لهم: فقد جاء في الرّواية عن إمامنا الصّادقg >إنّ اللهa لَيرحم الرّجل لشدّة حبّه لولده<[35] فتقول لولدك: أنت حبيبيّ، عزيزيّ، لك المكانة الخاصّة في قلبيّ، فذاك باب للرّحمة الإلهيّة. وتجد ذلك واضحاً جليّاً في لغة خطاب أمير المؤمنين مع ابنه الإمام الحسنh في وصيّته له حيث قال: >وجدتك بعضيّ، بل وجدتك كلّيّ حتّى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابنيّ وكأنّ الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يَعنيني من أمر نفسيّ..<[36]، نعم إظهار المحبّة الشّديدة ينبغي ألّا تخرج الولد عن السّيطرة فتجعله معانداً، فقد يتطلّب الموقف أحياناً حزماً في لين، ولكن يسعى الأب جاهداً إلى أن لا يظهر غضبه إلّا عندما يقتضي الموقف ذلك ووِفقاً للحدود الشّرعيّة.

3ـ إدخال الفرح والسّرور عليهم: فعن رسول اللهe: >من دخل السّوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج وليبدأ بالإناث قبل الذّكور فإنّه من فرّح أنثى فكأنّما أعتق رقبة من وُلد إسماعل ومن أقرّ بعين ابنٍ فكأنّما بكى من خشية الله ومَن بكى من خشية الله أدخله جنّات النّعيم<[37]، فأيّ ثواب عظيم أُعدّ لمن أحسن إلى عياله! إلّا أنّ كثيراً من الآباء يغفل عن ذلك، فما يضرّك عزيزيّ الأب لو دخلت يوماً في الأسبوع إلى المنزل حاملاً الفاكهة والحلوى تؤنس بذلك عيالك؟ أو تستثمر أيّام الأعياد ومناسبات الفرح فتشري لولدك هديّة، ويكفي أن تكون تحت عنوان الهديّة حتّى تؤتي ثمارها ولو كانت متواضعة، وكم يدخل من السّرور على الأولاد إذا كان الأب جليسهم يؤاكلهم يلاعبهم؟!

بعد كلّ هذا فليس بوسع الواحد منّا إلّا أن يتأمّل مع نفسه بلحاظ موقعها في المجتمع عند تعاطيها مع الآخرين، وفي البيت عند تعطيها مع الزّوجة والأولاد فيرى هل هي على وفق تعاليم الإسلام الرّؤوف، وعلى سيرة ونهج نبي الرّحمة العطوف أم أنّها متشبّثة بالخُلق الجاهليّ من مبدأ العنف والجفاف العاطفيّ؟ فمن الضّروريّ أن يتربّى كلّ فرد من الأمّة صغيراً كان أو كبيراً على حبّ النّاس والعطف والشّفقة بهم حتّى ينعم العالم كلّ العالم بالسّعادة والطّمأنينة وتشملهم الرّحمة كما قال إمامنا الكاظمg: >إنّ أهل الأرض لمرحومون ما تحابّوا، وأدّوا الأمانة، وعملوا بالحقّ<[38].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سورة الأنبياء: 107.

[2] نهج البلاغة، ص367. ط. مؤسّسة نهج البلاغة.

[3] سورة التّوبة: 128.

[4] سورة الكهف: 6.

[5] سورة الشعراء: 3.

[6] الجوهريّ، إسماعيل بن حمّاد، كتاب الصّحاح وتاج اللغة وصحاح العربيّة، ج3، ص1183.

[7] سورة فاطر: 8.

[8] المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار(ط ـ بيروت) ، ج21، ص132.

[9] بحار الأنوار، ج43، ص344.

[10] تاريخ الطبري، ج5، ص400. (بتصرّف)

[11] سورة المائدة: 54.

[12] سورة الفتح: 29.

[13] الكلينيّ، الكافيّ (ط - الإسلامية)، ج‌5، ص: 144.

[14] البرقي،ّ المحاسن، ج‌1، ص: 266.

[15] النّوريّ، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج‌8، ص: 362.

[16] الكلينيّ، الكافي (ط-الإسلامية)، ج2، ص186.

[17] سورة البلد: 17.

[18] سورة الروم: 21.

[19] تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج16، ص166.

[20] سورة الشورى: 23.

[21] المجلسيّ، بحار الأنوار، ج100، ص253.

[22] الكلينيّ، الكافيّ (ط-الإسلامية)، ج5، ص511.

[23] النّوريّ، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل، ج11، ص160.

[24] نفس المصدر السّابق.

[25] الكلينيّ، الكافي (ط-الإسلامية)، ج5، ص510.

[26] المجلسيّ، بحار الأنوار، ج66، ص409.

[27] نفس المصدر السّابق، ج71، ص165.

[28] الكلينيّ، الكافيّ (ط-الإسلامية)، ج5، ص569.

[29] ابن أبي جمهور، عواليّ اللئاليّ، ج1، ص270.

[30] المجلسيّ، بحار الأنوار، ج36، ص241

[31] الحرّ العامليّ، وسائل الشّيعة، ج21، ص 485

[32] نفس المصدر السّابق.

[33] نفس المصدر السّابق.

[34] نفس المصدر السّابق.

[35] الصّدوق، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص482.

[36] السّيّد الرّضيّ، نهج البلاغة، ط مؤسسة نهج البلاغة، ص336.

[37] الصّدوق، ثواب الأعمال و عقاب الأعمال، ص201.

[38] النّوريّ، مستدرك الوسائل، ج14، ص7.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا