الذلّة في الملاكات الفقهية

الذلّة في الملاكات الفقهية

هو تساؤل في غاية الأهمية يحدد منهاج مسير الإنسان المؤمن في التعاطي مع هذا النوع من القضايا؛ القضايا المرتبطة بماء وجهه وكرامته وعزته. لكنها كرامة من نوع آخر غير تلك الكرامة الزائفة في عهد الجاهلية حيث كانوا يتباهون بأحسابهم وأنسابهم وانتمائهم لهذه العشيرة أو تلك القبيلة، فما عاد معيار الشرف هو الانتماء إلى هذه القبيلة أو تلك، وهو وإن كان عزّة إلا أنها عزّة ظاهرية لا تستند إلى كرامة ذاتية لهذا المعتز بعشيرته وقومه... وحينما بزغ فجر الرسالة المحمدية تبدلت كثير من معاير التفاخر والتعالي، وجاءهم النهي من قبل الله (جلَّ وعلا) عن هذا النوع من التفاخر: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}(1)، ليكـون المعيـار حينـها عمـل الإنسان ودرجة إيمانه وتقواه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(2).

لقد وهب الإسلام أتباعه كرامة وعزة بديلة عن تلك العزّة الجاهلية، كرامة لها منشؤها الواقعي، تستند إلى مصدر العزّة والكرامة الواقعية وهو العزيز المتعال (سبحانه وتعالى)، ذلك العزيز الذي ليس في محضره مهانة، ولا في جواره نكرات؛ وذاك ما نقرؤه في المناجاة الشعبانية: «إِلهِي إِنَّ مَنْ تَعَرَّفَ بِكَ غَيْرُ مَجْهُول»(3)، بل كل من ولج حضرته اكتسى أنوار الجلال، وتحلى بألوان العز، وخلع ما سوى الكرامة.

مع سيد الكرامة أبي الأحرار

حينما أحاط العسكر الظالم بحفيد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في أرض كربلاء، وقف الحسين (عليه السلام) شامخا كالجبل الأشم مستقبل الموت كريم النفس عزيز الجناب، زأر فيهم كالأسد المغضب حتى أذعنوا إليه وأنصتوا إلى ما يريد، فخطب فيهم خطبته المعروفة، وقال فيما قال: «ألا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر»، ثم وصل هذا الكلام بشعر فروة بن مسيك المرادي:

فإن نهزم فهزامون قدما

                        وإن نغلب فغير مغلبينا

 

وما إن طبنا جبن ولكن

                        منايانا ودولة آخرينا

 

إذا ما الموت رفع عن أناس

                        كلاكله أناخ بآخرينا

 

فأفنى ذلكم سروات قوم

                        كما أفنى القرون الأولينا

 

فلو خلد الملوك إذا خلدنا

                        ولو بقي الكرام إذا بقينا

 

فقل للشامتين بنا أفيقوا

                        سيلقى الشامتون كما لقينا

 

الإنسان كريم عند الله (سبحانه وتعالى):

على مائدة هذا الكلام الصارم والقاطع لأوهام الإذلال نتعلم من الحسين الشهيد (عليه السلام) معاني الإباء والأنفة، وهي ذات السياق الطبيعي لتكرمة الله (جلَّ وعلا) لبني آدم بشكل عام وللمؤمنين بشكل خاص، ولقد قال الله (سبحانه وتعالى) في محكم كتابه المجيد: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(4).

إن الإنسان كإنسان مكرّم عند الله (سبحانه وتعالى)، فهو مخلوق ذو كمالات متعددة: من أصل وجوده وخلقه على يد خير الخالقين، فلهذا كان مرآة لذلك الجمال {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(5)، ثم كرّمه بالعقل والعلم والخُلق والفطرة والقلب، وأعطاه من كل ما سأل وبغض النظر عن كونه مؤمنا مطيعا أو متمردا {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً}(6) فالعطاء التكويني وتسخير كل هذه الطبيعة والخليقة في خدمة الإنسان بمعزل عن دينه وانتمائه وتقواه، فلذلك كان الظالمون الكفَّارون -جمع كفَّار- محلا لعطاء الله وجوده: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(7) مِن كل هذه الإشارات نجد أن الإنسان هو المخلوق المدلّل لدى هذا الخالق، فما منعه تمرده ولا عصيانه من أن يطلب ما يشاء في هذه الدنيا ضمن القواعد التكوينية التي لا تحرم الكفار، وهذا الطلب المجاب، وتسخير النعم في المضادَّة والمعصية والتمرد هذا هو أعلى درجات الدلال والتكرمة في هذه النشأة، وإلا فليس من حق الكافر العاصي الظالم إلا أن يقصى أو يعذب على سوء أدبه مع ربه.

الكرامة تاج المؤمنين:

أما إذا جئنا إلى المؤمن بهذا الوصف فإنا نجده مكرما فوق تكرمة بني البشر، بل نرى تعاليم الدين تحرّم عليه المذلة، وهذا ما نروم البحث فيه، فهل يحق للإنسان مثلا أن يتصرف كيفما شاء في ماء وجهه؟ ويبذله كيفما أراد؟ أو أنه لا يملك من نفسه هذا الحق؟

الذي تذكره النصوص الدينية هو أن الذلّة محرّمة على المؤمنين؛ فتكون إثما ومعصية يعاقب عليها. ربما تقول: وكيف يجتمع الإعزاز والتكريم من جانب مع العقاب من جانب آخر؟ أقول: لنمثل لذلك بمثال عرفي لا يدركه جيدا إلا العاشقون: ألا ترى المحب حينما يتولّع بحبيبه ربما حاسبه على كل صغيرة وكبيرة خشية عليه، وربما أوقعه في الضيق بنحو أو بآخر كعقاب يتوقى به ما يحذره! كذلك تحريم الذلّة على المؤمن فإن الله لا يرضى له إلا المعزة.

ومن يدرك هذا المعنى؟ هذا المعنى تجده واضحا كالشمس في كلمات سيد الشهداء وأبي الأحرار وأبيِّ الضيم (عليه السلام)، أليس هو القائل: «موت في عزّة خير من حياة في ذلّ»؟

نماذج العزّة في روايات المؤمن:

هناك مجموعة كبيرة من الروايات تتحدث عن كرامة المؤمن وعزّته؛ وأنها من عزّة الله العزيز (سبحانه وتعالى)، وقد اختلفت شؤون ومواضع هذه الروايات، فمنها ما يتكلم عن عنوان الذلّة وتحريجه على المؤمن، ومنها ما يتحدث عن بعض شؤون المؤمن كآداب السفر والصحبة، إلى بقية الشؤون المختلفة التي يتبيّن في ثناياها عدم رضا الشارع المقدس بتوهين المؤمن، وإليك جملة من هذه الروايات:

- عن الأمير (عليه السلام) أنه قال: «لا تصحبن في سفرك من لا يرى لك من الفضل عليه كما ترى له عليك»(8).

- وعن الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إذا صحبت فاصحب نحوك، ولا تصحبن من يكفيك، فإن ذلك مذلّة للمؤمن»(9) وهذه الرواية واضحة في الحث على أن يكون رفيق السفر من نفس المستوى المادي بحيث لا يكون متفضلا على هذا الإنسان المؤمن حينما ينفق عليه.

- الرواية الثالثة تنقل حوارا بين شهاب بن عبد ربه وبين الإمام الصادق (عليه السلام)، يقول: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قد عرفت حالي وسعة يدي وتوسعي على إخواني، فأصحب النفر منهم في طريق مكة فأتوسع عليهم، قال: «لا تفعل يا شهاب، إن بسطت وبسطوا أجحفت بهم، وإن أمسكوا أذللتهم فاصحب نظراءك»(10).

- وروي عن أبي بصير: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يخرج الرجل مع قوم مياسير وهو أقلّهم شيئا فيخرج القوم النفقة ولا يقدر هو أن يخرج مثل ما أخرجوا، فقال: «ما أحب أن يذلّ نفسه، ليَخرج مع من هو مثله»(11).

كتب الله على أوليائه العزّة:

وهنا روايات خاصة حول مسألة العزّة والذلّة، يتبين من خلالها المنع الصريح عن القبول بالذلّة والاستكانة، فما الحياة مع الذلّة إلا موت عمودي كما يعبرون، يقول السيد سليمان الحلي:

وإياك أن تشري الحياة بذلّة

                        هي الموت والموت المريح وجود

 

وغير فقيد من يموت بعزّة

                        وكل فتى بالذلّ عاش فقيد

 

لذاك نضا ثوب الحياة ابن فاطم

                        وخاض عباب الموت وهو فريد

 

نقف مع كلماتهم النورانية (عليهم السلام) وهي خير الكلام، ونقتصر على نقل بعض الروايات: محمد بن أحمد، عن عبد الله بن الصلت، عن يونس، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله عزّ وجلّ فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يذلّ نفسه ألم يرَ قول الله عزّ وجلّ ههنا : {وَلِلَّهِ العزّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} والمؤمن ينبغي له أن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا»(12).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال : «إن الله عزّ وجلّ فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلا أما تسمع قول الله عزّ وجلّ يقول : {وَلِلَّهِ العزّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فالمؤمن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا، ثم قال: إن المؤمن أعز من الجبل إن الجبل يستقل منه بالمعاول والمؤمن لا يستقل  من دينه شيء»(13).

من هذه الروايات وأمثالها نجد الفقهاء يتعاطون مع مسألة العزّة لدى المؤمن بنحو خاص، فكانت هذه المسألة حاضرة في فتاواهم ولها بصمتها الواضحة، يقول ابن سعيد الحلي في (الجامع للشرائع): "ويكره أن يشهد لمخالف خوفاً من إحضاره عند من لا يقبل شهادته، والمؤمن لا يذلّ نفسه"(14)، يعني أن القاضي ربما لا يعترف بشهادته ويعتبره فاسقا لأنه ينتمي إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فلذلك كان احتمال ردّ شهادته مذلّة إليه. وفي ذيل بعض الروايات: «فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا، يعزّه الله بالإيمان والإسلام»(15)

إن مسألة العزّة والذلّة بحسب المعيار الحسيني هي مسألة حياة أو موت، يقول أبو الأحرار (عليه السلام) فيما حكي عنه:

الموت أولى من ركوب العار

                        والعار أولى من دخول النار

 

وقد سارت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) على هذا الفهم وبرزت قضية العزّة في فتاواهم، كما برزت في أدبياتهم وحالاتهم الوجدانية، ولا زلنا مع الروايات في هذا الشأن وألسنتها متقاربة، هناك رواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أيضا تقول: «إن الله تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه»(16).

وقال (عليه السلام) أيضا فيما روي: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قلت: بما يذلّ نفسه؟ قال: يدخل فيما يتعذر منه»(17)، وفي بعض الروايات بتعبير: «يتعرض لما لا يطيق»(18).

الذوق الإمامي في فهم المسألة:

إذا كنا نجد لدى بعض الناس مرونة ومطاطية في مسألة العزّة والذلة فإنا لا نجد هذه الحالة لدى أهل الإيمان، فهم سائرون على معيار واضح وهو معيار الكرامة؛ فلذلك فهم يمانعون من التلون والتقلب وإراقة ماء الوجه بغية تحقيق بعض المطامع الدنيوية، ربما كان أهل الجاهلية أيضا يمتلكون هذه الحالة في أعرافهم ولكنها لا تكون منضبطة الحدود إلا ضمن التعاليم الإسلامية، فالجاهليون وغيرهم لا يخرجون عن حدَّي الإفراط والتفريط، فإما أن يريق كرامته على عتبات الدنيا، وإما أن يتعزز في غير موضع التعزز، وقد بين الدين الحنيف لسالكي سبيله طريق الاعتزاز والكرامة، وأرشدهم إلى الأخذ بسبيل التواضع وخفض الجناح والتذلل لبعض الناس ما دام ذلك في طريق الله (سبحانه وتعالى)، فإن من تواضع لوالديه متذلّلا كما في قول الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}(19) لا يعدّ لدى العرف ذليلا، ولا ينظر إليه على أنه قد وصم نفسه بالعار، بل يرون ذلك من عظمة الإنسان أن يحنو على الضعيف ويتواضع لوالديه، ويجل أهل الكرامة والفضل، وكل ذلك واقع في صراط التذلل لله (جلَّ وعلا)، والتذلل إليه (سبحانه وتعالى) هو عين الاعتزاز وسبب الكرامة.

نجد مسألة العزّة وإباء المذلة حاضرة في فتاوى الفقهاء الأعلام، نذكر منها على سبيل المثال:

- استفتاء في كتاب (صراط النجاة) حول أخذ المال مقابل التصويت يقول في ضمن جوابه: "... هذا إذا لم يكن في أخذ المال وهنا له، وإلا فلا يجوز فإن المؤمن لا يذلّ نفسه، والله العالم"(20).

- وفي كتاب «فقه المغتربين): "لا يجوز للمسلم أن يذلّ نفسه أمام أي إنسان، سواء أكان مسلما أم كافرا، فإذا كان العمل الذي يقوم به المسلم مذلا لنفسه أمام غير المسلم فلا يجوز ممارسة ذلك العمل المذلّ"(21).

تساؤل وإشكال: قد يقول قائل بأن هناك بعض الحالات التي نراها لدى أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، بل حتى عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يتبين من خلالها أنهم رضوا بالذلّ وقبلوا به في بعض الحالات؛ مثلا كان الرسول (صلَّى الله عليه وآله) يتهم بأنه ساحر وكاذب وكان يرمى بالأوساخ والحجارة، وكذلك الأئمة (عليهم السلام) لم يتخلوا عن هذا الطريق مع أنهم كانوا يتعرضون لهذه الأمور المهينة وكانوا يتهمون بالكذب والسحر والشعوذة، فلماذا نفترض دائما أن المؤمن عزيز، بل الصحيح هو أن نقول كما يقول المثل العامي المتداول: (الذلة في وقتها شجاعة) وهذه هي العقلانية بعيدا عن المزايدات!

جواب الإشكال: يمكن التفريق بين نحوين من الذلّة والمهانة:

النحو الأول: ما كان لإرادة الإنسان مدخلية في تحققه، بحيث ينسب هذا الفعل إلى نفس الإنسان وأنه صار شريكا في توهين نفسه. ولا شك في أن هذا النحو من الأفعال مندرج تحت عمومات النهي عن المذلة، فإن للإنسان أن يتجنب هذا الأمر وذلك بإرادته واختياره، ولا أقل من كونه شريكا في هذه الأفعال، لذلك يتوجب عليه أن لا يتسبب إلى إذلال نفسه ولو بالشراكة.

النحو الثاني: ما لم يكن لإرادة الإنسان مدخلية في تحققه، فهو إنما يرجو فعل الصالحات والطاعات ولكن هذا الطريق -طريق الخير- لا يخلو من المتربصين المسيئين، فهو إنما يفعل الصالح من العمل متوخيا الحذر ومتجنبا لمسببات الذلّة قدر الإمكان، ومع هذا لا يسلم من أذى الآخرين. فهذا النحو الثاني لو عرضناه على العرف وجعلنا للناس أن تقيمه فلا شك في أنه لن يندرج في إذلال المؤمن نفسه، كيف؟ وهو يتوخى الحذر ويتجنب المهانة.

من خلال هذا التفريق بين الأفعال نرى أن أفعال الأئمة (عليهم السلام) وسلوك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان موافقا لمقتضى التحريم والمنع، فهم لم يجانبوا هذه التعاليم التي أمروا بها؛ من كون الإنسان عزيزا وأن صراطه الذي فرضه الله (سبحانه وتعالى) هو صراط الكرامة.

وقد ورد عن النبي الأعظم محمد (صلَّى الله عليه وآله) أنه قال: «ومن أقر بالذلّ طائعا فليس منا أهل البيت»(22)، ومن هذا الحديث يمكن لنا أن نستشف هذا التفريق بين النحوين السالفين في كلامنا، وفي رواية أن رجلا شكا إلى الصادق (عليه السلام) جاره، فقال (عليه السلام): «اصبر عليه»، فقال: ينسبني الناس إلى الذلّ! فقال (عليه السلام): «إنما الذليل من ظلم»(23).

وهنا قد يطرأ على الذهن هذا التساؤل: قول الإمام (عليه السلام): «إنما الذليل من ظلم» كأنه جاء بمعيار جديد للذلة، معيار آخر غير ما نعرفه، وهذا ما يوسع دائرة الإشكال، إذ قد يتسبب الإنسان إلى إذلال نفسه، وقد افترضنا هذا الأمر حراما ومنهيا عنه، والحال أن هذا الذليل مظلوم، لأن من قام بإذلاله هو الظالم، وعلى هذا المعيار الجديد الذي ذكره الإمام (عليه السلام) لا يكون هذا الإنسان الذليل قد ارتكب حراما لأنه مظلوم! فلا يكون ذليلا وإنما الذليل من ظلم!!

والجواب على ذلك: في هذه الصورة التي فرضها السائل فإن كلا من المذِّل والمذَّل ظالم، فلا مانع من أن يكونا معا ذليلين، والقرآن الكريم يبين لنا أن من صور الظلم هو أن يظلم الإنسان نفسه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}(24)، فمن يتسبب لنفسه بالمذلّة هو ظالم أيضا، فلذلك فهو ذليل كما فهمه العرف من إلقائه بيده للمذلّة.

وإن خير الكلام هو كلام خير الناس، يقول الحسين الشيهد (عليه السلام): «لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد»(25)، ومن هذه المدرسة تدفّقت ينابيع الكرامة، ونهل هنا كل طلاب الإباء والمعزة، وقد قال الشاعر في ذلك:

دنيا الذليلة نفسه موت

                        وإن منحته خلدا

 

إياك من مرعى الهوان

                        فلست تقطف منه وردا

 

كيف يكون الإنسان عزيزا؟

قد تتعدد الطرائق في محاولة التعرف على منابع العزّة والكرامة، ومختصر كلامنا في هذا الطريق مع الأخذ بكل السبل الظاهرية إلى ذلك؛ أن أكرم طريق إلى الإعزاز والوجاهة هو الاعتزاز بأهل العزّة والانتساب إليهم، وقد ورد في زيارة عاشوراء: «اللهم اجعلني عندك وجيها بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة» جعلنا الله من الوجهاء لديه بالحسين الوجيه وجده وأبيه وأمّه وأخيه والتسعة المعصومين بنيه في الدنيا والآخرة. والحمد لله رب العالمين.

 

* الهوامش:

(1) التكاثر: 1-2.

(2) الحجرات: 13.

(3) المناجاة الشعبانية.

(4) الإسراء: 70.

(5) التغابن: 3.

(6) الإسراء: 20.

(7) إبراهيم: 34.

(8) الكافي: 4: 286، ح5.

(9) ن. م، ح6.

(10) ن. م: 287، ح7.

(11) ن.م، ح8.

(12) الكافي: 5: 64، ح: 6.

(13)  الكافي: 5: 63، ح1.

(14) الجامع للشرائع: 536.

(15) الكافي: 5: 63، ح2.

(16) ن. م، ح3.

(17) ن. م: 64، 5.

(18) ن. م، ح4.

(19) الإسراء: 24

(20) صراط النجاة (تعليق الميرزا التبريزي)- السيد الخوئي: 5: 392.

(21) فقه المغتربين، السيد السيستاني: 177، م239.

(22) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 74: 162، ح181.

(23) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 75: 205، ح46.

(24) فاطر: 32.

(25) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 45: 7.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا