الديمقراطية من منظور إسلامي قراءة في خطب آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله)

الديمقراطية من منظور إسلامي  قراءة في خطب آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله)

مقدمة

الديمقراطية سلاح ذو حدين، وهي من حيث المعنى والمفهوم عائمة ضبابية، ومن حيث التجربة والواقع متلونة متفاوتة، وضبابية المفهوم وتفاوت التجربة سببهما بشرية المصطلح منشئاً وممارسةً، فالديمقراطية مصطلح يوناني مؤلف من لفظين (ديموس) ومعناه الشعب و(كراتس) ومعناه سيادة، فمـعـنى المصـطـلـح إذاً سـيـادة الشـعب أو حكـم الشعب،

والديمقراطية نظام سياسي اجتماعي تكون فيه السيادة لجميع المواطنين ويوفر لهم المشاركة الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة، والديمقراطية كنظام سياسي تقوم على حكم الشعب لنفسه مباشرة أو بواسطة ممثلين منتخبين بحرية كاملة(1).

وهي تفرق بين ثلاث وظائف سياسية للدولة الديمقراطية، الوظيفة التشريعية ويقصد بها وضع القوانين، والوظيفة التنفيذية ويقصد بها ضمان سير العمل في الدولة على أساس هذه القوانين، والوظيفة القضائية ويقصد بها الفصل في المنازعات على أساس القوانين الصادرة من الهيئة التشريعية كالمجلس النيابي واللوائح الصادرة من الهيئة التنفيذية(2).

والمقصود بسيادة الشعب في تعبير الديمقراطيين هو أن الشعب يمثل السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة، وهو مركز إصدار القوانين والتشريعات، وتتصف السيادة بعدة أمور:

- القطعية، أي أنّها هي الشرعية العليا ولا حدود لسلطتها في سنّ قوانين الدولة.

- العمومية، الشاملة لجميع الأفراد والمنظمات داخل حدود الدولة.

- الدائمية، بحيث يستمر مفعول السيادة.

- اللا تجزيئية، لأن السيادة تتضمن عدم المشاركة والتقسيم، فلا يمكن أن يكون هناك أكثر من سيادة واحدة(3).

فالحكم الديمقراطي بمقتضى تعريف الديمقراطيين له يلاحظ عليه أمران أساسيان :

الأمر الأول: استبعاده حق الله (عزّ وجلّ) الذي له الحكم كلّه، وبأمره تأتي سلطة كل من له سلطة من بعده، وبسبب هذا يكون الحكم الديمقراطي مبايناً للحكم الإسلامي من حيث البعد المنهجي؛ لأن الحكم الإسلامي قائم على أن الأصل في الحكم إنما هو لله (عزّ وجلّ) وحده، بينما الحكم الديمقراطي يرى سيادة وحاكمية البشر بالأصالة.

الأمر الثاني: عدم إقرار الحكم الديمقراطي بأحكام الشرع ووجوب تنفيذها أولاً، وهي الأحكام الشاملة لأحكام الكتاب الكريم والسنة المطهرة. واستنباطات الفقهاء والمجتهدين المتخصصين الجامعين لشروط الاستنباط.

قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا}(4).

وبسبب هذا أيضاً يكون الحكم الديمقراطي مبايناً للحكم الإسلامي، فالحكم الإسلامي يفرض أولاً العمل بكل حكم شرعي ثابت بدليل قطعي، أو بدليل ظني اعتبره الدليل القطعي، بينما الحكم الديمقراطي يحكم ابتداءاً بما شرعه البشر، ويجانب حكم الله (عزّ وجلّ).

وفي ما يلي نسلط الضوء على مصطلح الديمقراطية من خلال استقراء مجموعة من خطب وكلمات سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (دام ظله).

الديمقراطية منهج أو وسلية

يرى سماحة الشيخ بأن الديمقراطية لا تمثل في حقيقتها منهجاً أصيلاً للحكم، لأن الحاكمية الأصيلة لله (عزّ وجلّ) وحده، فليس من الصحيح أن تكون الديمقراطية بنفسها غاية، بل هي مجرد وسيلة قد تكون موصلة إلى المنهج الأصيل والحاكمية الحقيقية لله (عزّ وجلّ)، والشعب ليس له سيادة تشريعية استقلالية، فسيادة الشعب منبثقة من إيمانه بالله (عزّ وجلّ)، وبشريعته السمحاء، أما إذا كان الشعب بلا قيم وبلا إيمان فهو يرسخ حكم الجاهلية لا حكم الله (عزّ وجلّ).

منهج الله (عزّ وجلّ) لا منهج الديمقراطية

مشكلات الأرض يحلها المنهج العليم، والجهاز الصالح المؤمن به، والتربية على القيم. والمنهج العليم الدقيق الأمين هو منهج الله (عزّ وجلّ)، والجهاز الصالح المؤمن به لا يكون إلا من إعداده، والتربية على القيم لا تكون إلا من صنعه وفي ضوء ركائزه(5).

الديمقراطية وسيلة وليست غاية

إن الديمقراطية نفسها لا تحل المشكلة وإنما يحلّها ما قد تعتمده من منهج إلهي صحيح، وهي طريق فحسب للتمكين لهذا المنهج ولحكومة من صنعه(6).

شعب بلا قيم وفرد بلا قيم

كثيراً ما نتحدث عن حكم الشعب أو الفرد، وحكم الشعب بلا قيم لا ينقذ، وحكم الفرد بلا قيم لا ينقذ. حكم الفرد الاستبدادي كارثة، وحكم الشعب بلا قيم لا ينقذ، إذ أن شعبا بلا قيم هو مجموعة حيوانات عدوانية مفترسة كاسرة متغالبة، وسافلة ساقطة، فلا تفكروا في ديمقراطية تنقذكم ولا غيرها، حيث يخرُّ سقف القيم أو يهبط كثيراً(7).

الديمقراطية الجاهلية

لو انصبَّ خيار على منهج جاهلي فستركّز الديمقراطية الجاهلية. والمجتمع الجاهلي لا يختار غير منهج جاهلي، وإذا كان الشعب المؤمن الواعي لا يختار إلا حكومة مؤمنة عادلة، فإن الشعب الفاسق لا يختار إلا حكومة من جنسه، والشعب المؤمن إذا أمكن استغفاله كان جسراً لحكومة تكفر بالعدالة وتحارب القيم. الديمقراطية بلا وعي وبلا تماسك وبلا إيمان وبلا فهم موضوعي كارثة(8).

حاكمية الخالق أو حاكمية المخلوق

يرى سماحة الشيخ بأن للديمقراطية عدة أسس، وأساسها الأول الحرية المطلقة، وهي التي تعطي للشعب حق التشريع بالأصالة ومن دون وصاية أحد عليه، وتعطيه حق اختيار نظامه وإن كان علمانياً، وحق اختيار قيادته وحكومته وإن كانت فاسدة، ويفرق سماحته بين الحرية في ظل الإرادة التكوينية والحرية في ظل الإرادة التشريعية، فالإنسان حر في ظل الإرادة التكوينية، فله أن يفعل وله أن يترك، أما بعد أن يؤمن بالشريعة الإلهية، فهو ليس حراً في اختياره ما يتنافى مع تلك الشريعة، بل لا بد أن يأتمر بما أمره الله (عزّ وجلّ)، وينتهي عما نهاه الله (عزّ وجلّ). نعم، هو حرٌّ في الإرادة التشريعية أيضا ولكن في إطار المباحات، دون فعل المحرمات أو ترك الواجبات.

وعليه، فالإنسان -فرداً كان أو شعباً- لا يمتلك حق التشريع الاستقلالي، وليس له -بعد إيمانه بالله (عزّ وجلّ) وبشريعته- أن يختار عن تلك الشريعة بدلاً. بل الحاكمية كل الحاكمية لله (عزّ وجلّ).

 الحرية المطلقة أسُّ الديمقراطية

من مساحات الديمقراطية:

1. التشريع: فالتشريع تعتبره الديمقراطية مسرحاً لها، ومساحة من مساحاتها فتُعطي للشعب أن يشرّع، وللأمة أن تشرّع لنفسها من دون أيّ وصاية من خارج الكون المادي أو من داخله، من داخل دائرة الإنسان أو من خارج دائرة الإنسان.

2. اختيار النظام: أن يكون جمهورياً، أن يكون ملكياً، أن تكون الملكية مطلقة، أن تكون الملكية دستورية، أن يكون النظام دينياً، أن يكون النظام علمانياً، هذا كلّه شأن من شؤون الشعب والأمة، فهي التي تختار نظامها وتحدد منهج حياتها بالكامل.

3. اختيار القيادة: -كرئيس الجمهورية أو الملك مثلا- واختيار الحكومة، وفصل هذه القيادة، وهذه الحكومة حق من حقوق الشعب في الديمقراطية.

وهنا نسأل ما هو منطلق الديمقراطية أو أساسها الأول؟ نحن قد نؤمن بالديمقراطية عملياً(9) بلحاظات موضوعية معيّنة، ولكن هذا لا يعني أن نحتضنها دينا، وأن لا نناقشها فكرا، وأن لا نحاسبها منطلقا ونتيجة.

منطلق الديمقراطية وأساسها الأول هو الحرية المطلقة، وأن الإنسان حرّ لا قيد على اختياره ولا تصرّفه، وهذه الحرية لا بد لها من خلفية.

الخلفية الأولى: هذه الخلفية يمكن أن تكون هي إنكار الربوبية حيث لا يكون إله قد خلق الكون والإنسان، فهنا واضح جداً أن الإنسان يكون سيد نفسه، وليس لأي جهة من الجهات سلطة عليه.

الخلفية الثانية: أن يكون هناك خالق، ولكن هذا الخالق نقلّص حقّه، ونحدّ صلاحياته، ولا نعطيه حاكمية على ما خلق في المساحة التي نستطيع أن نحدّ حقه فيها، وهي المساحة التي وهب لنا فيها القدرة على الاختيار.

الخلفية الثالثة: أن نقول بأن الله خالق، وله الحق في أن يتدخل في حياتنا؛ في التشريع، في الحكومة، في أي شيء، ولكن جاء منه تفويض للإنسان بأن تصرّف كيفما تشاء.

الخلفية الرابعة: أن نقول بأن الله (عزّ وجلّ) لم يرسل رسلا، ولم ينزل كتبا، فنحمل هذا على أن لنا الحرية التامة في التصرّف في شؤوننا الخاصة وفي الشأن العام. وهذا لون من التفويض بلغة سلبية يقابل اللون الأول من التفويض الذي يأتي بلغة إيجابية(10).

الحرية بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية

نحن بما أننا مسلمون معتقدون تماماً من منطلق توحيدنا، بأن شيئاً في هذا الكون لا يمكن أن يحدث بلا إذن تكويني من الله، بمعنى أن قدرةً وقوة وعلما وحكمة يحتاجها الكون في تسييره لا توجد من مصدر آخر غير مصدر الله (سبحانه وتعالى).

قيام السموات، استمرار الأرض، استمرار الحياة كل ذلك بمدد من الله (سبحانه وتعالى) عن طريق الخلق المستمر، عن طريق تدفق الفيض الإلهي المستمر، عن طريق تنزّل الوجود، عن طريق تنزل الحياة على ما في الوجود وعلى ما في الحياة. هذا الفعل من الله نسميه فعلاً تكوينياً.

مرة يريد منك الله أن تصلي بالإرادة التكوينية فيثبّتك في المحراب، يُطلق لسانك قهراً عليك، يُسجدك، يُركعك، يجعلك تأتي بكل الأذكار قهراً عليك وبلا إرادة، هذه صلاة منك كتبها الله عليك بالإرادة التكوينية قهراً جبراً.

ومرة يقول لك صلِّ، أعطاك قوة الصلاة، وأعطاك قوة عدم الصلاة، أعطاك إرادة أن تصلي وإرادة أن لا تصلي، وقال لك صلِّ، هذا هو التشريع.

فهناك إرادتان، ولا شك أن إرادة الله التكوينية لا يتخلف عنها متخلف، هذه الإرادة التكوينية ثابتة بلا إشكال عند كل متديِّن.

والإرادة التشريعية عبّرت عنها الأوامر والنواهي التي نزلت بها الكتب وجاءت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين(11).

الحرية التكوينية

ونسأل الآن: هل نحن مجبورون مقهورون بالإرادة التكوينية على الأخذ بمنهج معيّن؟ طبعا لا، نحن مختارون، كل الناس يستطيعون أن يختاروا هذا المنهج أو ذاك المنهج، هذه الحكومة أو تلك الحكومة، هذا النظام أو ذاك النظام، فنحن أحرار بالإرادة التكوينية، يعني لسنا مقهورين من الله، لسنا مجبورين من الله على سلوك درب معين، لكن بعد أن أسلمنا، وآمنا بالله ورسله وكتبه هل نحن أحرار من ناحية تشريعية؟ لا. يعني هل جوّز لنا الله (عزّ وجلّ) أن نطيعه أو نعصيه بلا فرق؟ وقال لنا أطعتم أو عصيتم فلا عقاب ولا ثواب؟ وأنا أساوي بين مطيعكم وعاصيكم؟ هذا تخيير تشريعي(12).

الحرية التشريعية في المباحات

في المباحات لك أن تشرب ما في هذا الوعاء أو لا تشرب، ولك أن تشرب الماء في هذه اللحظة إذا كانت حياتك لا تتوقف على شربه ولا يضر بك عدم الشرب ضرراً بالغاً غير مسموح به في الشريعة، فأنت في هذا المورد لك أن تشرب، ولك أن لا تشرب بالإرادة التكوينية، وكذلك لك أن تشرب أو لا تشرب بالإرادة التشريعية، فأنت مخيّر، ومسموح لك من ناحية التشريع بالشرب وعدمه(13).

لا حرية تشريعية في فعل المحرمات أو ترك الواجبات

لكن هل تأتي شريعة الله ورسل الله أمام قتل النفس المحترمة البريئة، فتقول لك: مباح لك أن تفعل، وسواء قتلت أو لم تقتل فموقف الله منك سواء؟ طبعاً هذا ليس موجوداً.

نقول: نحن مريدون بالإرادة التكوينية يعني نستطيع، ونملك القدرة بين أن نطيع ونعصي، بين أن نأخذ بمنهج الله أو لا نأخذ به، بين أن نأخذ بهذا الطريق أو بذاك الطريق، هذا من ناحية تكوينية.

ولكن من ناحية تشريعية قد حدد الله لنا منهجاً وطريقاً وسلوكاً وحكومة أيضاً. فنحن نعتبر أنفسنا مخاطبين من الله (سبحانه وتعالى) بخطاب يُلزمنا ويطوق رقابنا(14).

الإسلاميون والديمقراطية

يرى سماحة الشيخ بأن الديمقراطية من القضايا الفوقية التي تحتاج إلى بنية تحتية ترتكز عليها، فهي ليست مسألة تأصيلية بل هي بنفسها تحتاج إلى تأصيل، ويقسّم(الشيخ) الإسلاميين إلى قسمين من حيث التعاطي مع الديمقراطية، من يرفضها -وله مبرراته- ومن يقبلها -كوسيلة لا كمنهج- ويرى بأنه ليس للمسلمين الخيار في اختيار النظام غير الإسلامي، بل هم ملزمون من حيث الإرادة التشريعية باختيار النظام الإسلامي، وإن كانوا من حيث الإرادة التكوينية مختارين. وبعدها يطرح إشكالية قبول التصويت في بعض الظروف، ويمثل بالتصويت الذي دعا إليه الإمام الخميني (قدّس سرّه) على أصل النظام الإسلامي، ويعالج هذه الإشكالية التي يثيرها البعض. ويطرح مثالاً آخر في الساحة العراقية يتعلق بدعوة سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني (دام ظله) في المشاركة في الانتخابات، ويعالجها.

ويرى سماحته بأننا نعيش في ظروف ثانوية، وليست ظروفاً عادية. والحكم الشرعي قد يأخذ صيغة أخرى في ظل الظرف الاستثنائي دون صورته في الظرف العادي.

حاجة الديمقراطية إلى البنية التحتية

هناك قضايا أساس تنبني عليها كل الحياة، وهناك قضايا فوقية تحتاج إلى بنية تحتية لتقوم عليها. الديمقراطية من القضايا الثانية وليست من القضايا الأولى.

فالديمقراطية تحتاج إلى تأصيل لا أنها هي التأصيل. والتأصيل الغربي للديمقراطية غير وارد عند الإسلاميين.

والإمامة قضية من القضايا الفوقية، والشورى قضية من القضايا الفوقية، وليستا من القضايا التحتية التي تتأسس عليها بنية الحياة.

القضية الأم التي تتأسس عليها بنية الحياة، وتقوم عليها مثل قضية الإمامة والشورى هي قضية التوحيد.

الديمقراطية بمعناها الغربي لا نجد لها تأصيلا في الإسلام وإنما تأصيلها يتنافى مع التأصيل الإسلامي تماماً، لكن هذا لا يعني أن الإسلاميين يعادون الديمقراطية بكل معانيها(15).

الإسلاميون على قسمين

الإسلاميون اليوم قسمان؛ قسم يرفض الديمقراطية رفضاً تاماً ويلجأ إلى خيار القوّة، ولا يختار على السيف الديمقراطية، ووراء ذلك خلفيّة من واقع موضوعي عاشه أولئك الإسلاميون، رأوا ظلماً لا يكف، واستهتاراً بالإسلام لا يفتر، وتكالباً على محاربة الدين، وعدم إصغاءٍ للكلمة، واستكباراً فاحشاً على الله (سبحانه وتعالى) في الأرض، وانضم إلى ذلك ما انضم إليه، فصاروا من وراء ذلك كلّه لا يختارون غير السيف.

لا نصحح موقفهم، ولكن أقول: إسهام جهة الاستكبار وجهة الظلم في ذلك ربما كان أكبر.

القسم الآخر من الإسلاميين لا يرى الديمقراطية ديناً، ولا مجسدةً للحق دائماً، ولا كاشفة عن الواقع، لكنّه يراها آليّة لحسم النزاع في الشأن العام، فهذا القسم يأخذ بالديمقراطية ويلتزم بنتيجتها ويقدمها على العنف.

القسم الأول يئس، والقسم الثاني لا زال يجرّب.

وستكثر حركات العنف والإرهاب كلّما تفاقم الظلم، وكلّما أُهمل شأن الكلمة، وأُحبط الناس بالنسبة لفاعلية النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمطالبة السلمية الهادئة، هذا ليس في بقعة من الأرض وإنما في كل الأرض.

إذا اشتدّ الضغط ولم تنفع وسائل السلم فكثيرون هم الذين سيلجأون إلى العنف، إلى القوة، وربما قادتهم القوة إلى العنف غير المبرّر وغير الصحيح(16).

اختيار النظام غير الإسلامي

حينما نتحدث عن اختيار النظام السياسي، ونظام الحكم ونقول: هل للمجتمع أن يختار نظامه السياسي، وهل له أن يختار السلطة في نظر الإسلام أو ليس له ذلك؟ فلنسأل: هل نحن مخيّرون بين الإسلام وغيره؟

من ناحية تكوينية نحن مخيّرون، يعني أنت تمتلك قدرة على أن تختار الإسلام وعندك الإرادة الكافية لأن تختار الإسلام على غيره، أو تختار غيره عليه. الكلّ منّا يمتلك إرادة كافية موهوبة من الله (سبحانه وتعالى) لأن يُقدّم الإسلام على غيره في حياته أو أن يُقدّم غيره عليه.

أما التخيير التشريعي: يعني هل هناك تشريع في الإسلام يُخيّر الإنسان بين الإسلام وغيره؟ لا، الإسلام من ناحية تشريعية يقول لا دين إلا الإسلام، ولا أطروحة إلا الإسلام.

من أراد أن يطيع الله فليس أمامه إلا أن يأخذ بالإسلام. فلا تخيير من ناحية تشريعية وإنما التخيير من ناحية تكوينية.

وإذا كان للإسلام طرح سياسي، فهذا الطرح السياسي ليس محلاً للتخيير، وإنما الإنسان لا يقبل منه الإسلام إلا أن يأخذ بنظامه السياسي في حالة الاختيار.

وعن اختيار السلطة: إذا وُجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وطرح نفسه حاكماً فليس لأحد من المسلمين أن يتخلّف عن قبول حاكميته. يستطيعون أن يمتنعوا عن حاكميّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولا يتعاونون معه على مستوى الإرادة التكوينية، أما من ناحية تشريعية فليس لهم أن يتخلّفوا عن حاكميته (صلّى الله عليه وآله) ودعمها.

وإذا وُجد المعصوم عدا النبي (صلّى الله عليه وآله)، وطرح نفسه حاكماً فليس لأحد من المسلمين أن يتخلّف عنه وإنما على الجميع مبايعته.

هم من ناحية إرادية تكوينية يستطيعون أن يمتنعوا عن مبايعة المعصوم، ويستطيعون محاربته، لكن إذا أرادوا أن يكونوا مؤمنين، مطيعين لله (سبحانه وتعالى)، فليس أمامهم إلا أن يبايعوه (عليه السلام).

وإذا قلنا بأن الفقيه خليفة المعصوم في غيابه من ناحية الدور السياسي، ودور الحاكمية، فإنه إذا طرح نفسه حاكماً، وجب على المسلمين أن يبايعوه، وهم يستطيعون أن يمتنعوا عن مبايعته، ويستطيعون محاربته من ناحية تكوينية، أما على المستوى التشريعي فإن الإسلام لا يسمح لهم بالتخلّف عن هذه البيعة.

فإذاً، المسلمون لا يتمتعون من الناحية التشريعيَّة، والصلاحية الدينيَّة بأن يقبلوا الحكم الإسلامي أو لا يقبلوه، وإنما عليهم قبوله، ليس لهم أن يتخيّروا بين نظام سياسي إسلامي، وبين نظام سياسي علماني مثلاً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شخص الحاكم عند حضور المعصوم (عليه السلام)، أو وضعه عند غيابه، فعند حضور المعصوم يكون متعيناً، وفي حال غيابه تكون أوصاف الحاكم مأخوذة من الشريعة.

نعم إذا وُجد أكثر من فقيه كفء للمنصب ورشحوا أنفسهم لملئه، فإن لهم أن يتخيروا بين هؤلاء الفقهاء ويبايعوا من يرونه أنه الأصلح، وهذه البيعة إما أن تأتي على مستوى أهل المشورة، أو تأتي على مستوى الأمة بكاملها(17).

الإسلاميون وإشكالية التصويت

كيف نوائم بين حكم الله بالإسلام وبين التصويت على قبول أطروحته في الحكم؟

الله (عزّ وجلّ) يوجب الأخذ بالإسلام، ولا يرخّص في الأخذ بغيره، فكيف يحقّ لنا، وفي مجتمع مسلم، أن نصوّت على قبول الأطروحة الإسلامية في المجال السياسي وعدم قبولها؟ في حين إن هذا التصويت إنما يجري في الحالة الاستثنائية؟

‌الأمر يدور بين فتنة طاحنة في المجتمع الإسلامي، وبين التصويت على الأطروحة الإسلامية في المجال السياسي. وحين يكون الأمر كذلك فإن القاعدة لا تجيز ارتكاب الخسائر إلا للضرورة، فإذا انفتح سبيلان لتحكيم الإسلام؛ سبيل التصويت والانتخاب، وسبيل المواجهة العسكرية الدموية، وكانت النتيجة أكيدة في كل منهما، أو كانت متوقعة على حدّ واحد، فإن أسلوب التصويت هو المتعيّن من بين الأسلوبين، لما يمثّله أسلوب المواجهة الدموية من خسائر فادحة لاضرورة لها.

‌والإسلاميون في البلاد الإسلامية، ولحدّ الآن، وفي ضوء أكثر من تجربة عملية، لهم أن يثقوا بأن النتائج في صالح الإسلام عند طرح المسألة للتصويت.

فالإسلاميون واثقون بأن المجتمع الإسلامي سيصوّت للإسلام لو أُعطي الخيار بين الإسلام وغيره، وقد أثبتت التجربة الإيرانية ذلك وبصورة سافرة وقوية لا يُجادل فيها.

‌وفي هذا التصويت إسقاط لحجة الآخرين الذين قد يرمون أي حكومة إسلامية تأتي عن غير طريق الانتخاب بالديكتاتورية والاستبدادية. ونحن لا نقدّر إعلام الآخرين من هذه الناحية إلا لما له من أثر سيء على المسلمين أنفسهم.

‌ثم إن الحكم ليس هو الغرض للإسلاميين، الغرض هو الحفاظ على أصل الإسلام، وعلى نقائه وصفائه، واحتضان الناس له، وبقاء الأُّمة الإسلامية متماسكة. وحين تتعرض وحدة المسلمين للتفتّت، فإن الحرب غير مختارة إلا أن تحكم ضرورة بالغة بذلك لا يمكن الحفاظ على المصلحة الإسلامية بمقتضاها من غير المواجهة العسكرية، وفي أي فرض آخر يمكن الحفاظ على المصلحة الإسلامية العليا من غير تعريض الأمة الإسلامية إلى التفتيت لا يمكن الإقدام على تفتيتها.

‌وشيء آخر هو أن الحكومة الرسالية الإلهية لها دوران؛ دور إيجاد أوضاع دنيوية إيجابية مستقرة، فمن دور الحكومة الإسلامية أن تتقدم بدنيا الناس، بصناعتهم، بزراعتهم، باقتصادهم، بسياستهم، والدور الأهم هو صناعة الإنسان؛ صناعة الإنسان الراقي، صناعة الإنسان الرسالي. والدور الثاني يحتاج إلى موقف اختياري من الناس.

تربية الناس، وتكميلهم، وأخذهم على مسار الرسالة الإسلامية ليُصنعوا عظماء يحتاج إلى استجابتهم لتلك التربية؛ فالموافقة التي تُؤخذ على الإسلام أو على الحكومة الإسلامية تنفع في هذا المجال كثيراً، حيث إن الناس سيستجيبون إلى التربية الإسلامية وإلى المنهج الإسلامي الذي يستهدف صناعتهم، وتخريجهم نماذج فذّة، ومجتمعاً إنسانياً راقياً، ومنارة مشعة في الأرض، عندما يكونون قد اختاروا ذلك المنهج بملء حريتهم(18).

الإمام الخميني (قدّس سرّه) والتصويت على النظام الإسلامي

هناك ظرف عادي، وظرف ثانوي، ونحن في ظروف ثانوية، وليست ظروفاً عادية. والحكم الشرعي قد يأخذ صيغة أخرى في ظل الظرف الاستثنائي دون صورته في الظرف العادي، ونحن نقبل في هذا العصر قضايا التصويت على أصل النظام السياسي، وعلى تشخيص السلطة، ومن يكون الحاكم. فحتى لو كان الطرح هو التخيير بين الإسلام وغيره، أو كان الطرح بين فقيه وبين غير فقيه ممّن لا يصلح في نظرنا للحكم من ناحية شرعيّة فنحن نقول للانتخابات نعم.

السيد الخميني (قدّس سرّه) بعد أن قاد الثورة وأسقط الشاه كان حاكما من ناحية فعليَّة، واحتضنت قيادته وحاكميته قلوب الملايين، وكان يمكن له أن يفرض أي نظام سياسي على إيران، إلا أنه طرح النظام السياسي وقضية اختيار الإسلام وعدم اختياره نظاماً سياسياَّ للتصويت. من أين كان للسيد الإمام أن يطرح القضية للتصويت؟

كان عند السيد الإمام اطمئنان كامل بأن خيار الشعب الإيراني وفي ظل تلك الظروف الخاصة لن يعدو الإسلام، ولن يقدّم الإيرانيون على الإسلام شيئاً، وإذا اختاروا الإسلام التفوا حوله، ودافعوا عنه، وأعطوا أنفسهم له ذلك لأنه خيارهم.

اطمئنان السيد الإمام أن الشعب الإيراني لن يقدّم على الإسلام أمراً آخر، كان خلفية من الخلفيات التي تجعله يطرح القضية للتصويت(19).

آية الله العظمى السيد السيستاني (دام ظله) وقضية الانتخابات

سماحة السيد السيستاني اليوم يطرح قضية الانتخابات، ويدعو الشعب العراقي إليها، ويوجب على الشعب العراقي أن يخرج إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بصوتهم للحكومة المنتخبة.

في ظروف كظروف اليوم، وفي القضية العراقية، المواقف ثلاثة:

إما التخلّي عن المسألة السياسية من قبل السيد السيستاني (حفظه الله) والحوزة العلمية، والتخلّي عن المسألة السياسية وترك الأمور تتسيّب بدرجة أكبر، وتتجه في الاتجاه الآخر المعاكس للإسلام بدرجة فاحشة أمرٌ غير جائز.

خيار آخر، القيام بالسيف، وحدوث مواجهة بين الشعب العراقي وبين أمريكا، وهذا جائز جداً بل واجب إذا لم يكن بديل لطرد العدو الكافر.

وهذا أمر موضوعي تدخل فيه الخبرة العملية، ويُدلي فيه المختصون برأيهم، ولكل جماعة أن تدرس الواقع في ضوء محصّلة معلوماتها وخبراتها، وتنتهي إلى رأي في الموضوع.

ما انتهى إليه رأي السيد السيستاني (حفظه الله) والحوزة العلميَّة المباركة هو أن هناك طريقين، طريق السيف، وطريق الانتخاب، وطريق الانتخاب يُقدّم على طريق السيف حتى لو كانت مسافته أطول بشيء ما.

الانتخابات أقل خسائر، وإذا كانت الانتخابات قد تحدث فيها مغالطات، ويمكن أن يفشل الغرض من تحقيق واقع إسلامي بدرجة ما، فإن الصراع الدموي لا يسلم أيضا من المغامرة، وأنه ليس مضمون النتائج.

هناك حرص من المرجعيّة في العالم الإسلامي ومن العلماء على الحفاظ على تماسك المجتمع الإسلامي. والصراع الذي يمكن أن يجرّ إلى صراع داخلي بين المسلمين صراع مستبعد في نظر المرجعية الفقهية(20).

ثم إن نجاح أي حكم قائم على رضا الشعب والأمة، وقد رأينا أمير المؤمنين (عليه السلام) يعتذر عن قبول الحكم بعد وفاة عثمان، وقد يكون من منطلقات ذلك الامتناع هو عدم ملاءمة الظروف الموضوعية لنجاح الأطروحة الإسلامية، أمير المؤمنين (عليه السلام) معصوم، وقيادته ناجحة بالكامل، لكن الصف النخبوي الذي يؤمن بالإسلام وبالأطروحة الإسلامية، ويصبر على الأطروحة الإسلامية ويعطي لها كل شيء لم يكن بالدرجة الكافية.

والإسلام لا يريد حكماً شكلياً. الإسلام يريد حكماً حقيقياً، يريد أن يصنع نفوساً، يريد أن يصنع عقولاً، يريد أن يخلق واقعاً إسلامياً ولا يريد أن يحكم حكماً شكلياً فحسب(21).

تنوع القائمة الموحدة

بمَ نفسر تنوع القائمة الموحَّدة عند سماحة السيد السيستاني حتى يكون فيها الصابئ، ويكون فيها العلماني، ويكون فيها أصناف من الناس غير الإسلاميين؟

إنه تكيف مع الظروف في حدود مقررات المصلحة الإسلامية، هناك تكيف مع الظروف في الإسلام، ولكن بحيث يكون هذا التكيف محكوماً لمقتضى المصلحة الإسلامية. وفيما اختاره سماحة السيد حرص على سلامة المجتمع ووحدته. وفي موقفه ردٌّ على مزايدات الغرب باسم الديمقراطية والتعددية لكن بما يأذن به الإسلام في ظل العنوان الثانوي(22).

الانتخابات شعار مستمر

هل شعار الانتخابات عند الإسلاميين وصوليٌ وموقّت وسيُقابل بإدارة الظهر بعد تحقيق المطلب السياسي؟ أقول: لا.

شعار الانتخابات يمكن أن يستمر عند الإسلاميين، وأنهم لا يتخلّون عن هذا الشعار، وعن قضية الانتخابات حتى لو تحقق الحكم لهم، لأنهم ليسوا الأضعف في الساحة الإسلامية وإنما هم الأقوى، وهم الأكثر وثوقاً من حصول أغلبية الأصوات. وإذا كان هذا حالهم قبل تسلّم السلطة، وقبل أن يتولوا تربية المجتمع تربية إيمانية مشعة فكيف إذا حكموا، واستطاعوا أن يسهموا إسهاما كبيرا في صياغة المجتمع صياغة إسلامية؟ إن المجتمع بعد ذلك لن يختار على الإسلام شيئاً. فلا داعي لأن يتخلى الإسلاميون عن شعار الانتخابات بعد أن يتسلموا الحكم في أي بلد يقوم فيها الحكم على ما يسمى بالديمقراطية(23).

حكومة الفقيه دستورية وليست استبدادية

حكومة الفقيه، من وصفها أنها انتخابية، أنها تأتي عن طريق البيعة، واختيار الناس، ورضاهم، وهذا الانتخاب لا يكون إلا ضمن الشروط التي افترضها الإسلام في الحاكم.

وحكومة الفقيه دستورية، وليست استبدادية، حكومة الفقيه ليست من حكومة العادل المستبد، إنها من حكومة العادل الخاضع للدستور، ودستور الفقيه الإسلام الذي لا يتعداه -إذا كان عادلاً- قيد شعرة، وهي مستندة في تمشية الأمور، وإدارة شؤون الدولة إلى خبرته الشخصية منضمةً إلى خبرة أهل الخبرة من أهل الاختصاصات المختلفة(24).

موقف سماحة الشيخ من الديمقراطية

بالنسبة لعبد الله هذا المتكلّم، فالنظر ومنذ السبعينات وإلى الآن وسيبقى -فيما أرى- ثابتاً في مسألة الديمقراطية: لا نرضى الإرهاب، نرفض العنف، نقدِّم الكلمة على القوّة، نختار الديمقراطية على المصادمات، نرى الديمقراطية في صالحنا، ونخاف جداً من أن تزوير الديمقراطية والاستغفال بشعار الديمقراطية والكذب على الديمقراطية ينتهي بالناس إلى العنف والمصادمة.

موقفنا مع الديمقراطية، ونتحدّى الآخرين في أن يأخذوا بالديمقراطية، وأن يصبروا على نتائجها. نعم نتحدّى كل الآخرين في القبول بنتائج ديمقراطية حقيقية في الشارع البحريني وفي أي شارع إسلامي آخر، والشارع في بلدان المسلمين اليوم إسلامي.

نعم، نقبل بالديمقراطية، ونبقى عليها، لا لأننا نقدسها، وإنما لأننا نجد أنفسنا دائماً في ربح من خلال إعمال الديمقراطية. فنحن مع الخيار الديمقراطي، ونتحدّى الآخرين في القبول به، والصدق معه، والصبر على نتائجه(25).

انتظار المهدوية وانتظار الديمقراطية

لقد ضاقت الأرض بما رحبت على بلايين المستضعفين في هذا العالم، وغامت واسودّت أجواء الحياة في نَاظِرَيَ النّاس، ذلك أن الأرض صارت محكومة لقيم المادة بعيداً عن قيم الروح والإيمان وخطّ الله (عزّ وجلّ)، وحلَّت عبادةُ الطاغوت بالحديد والنار، والترغيب والترهيب، والتجويع والاتخام محلَّ عبادة الله (عزّ وجلّ) في المساحة الأكبر من أوضاع الحياة وعند شرائح واسعة منتشرة في المجتمعات.

وغياب القيم المعنوية، وحكم الطاغوت من نتيجته الحتمية التي لا بد منها أن تتأزم أوضاع الحياة وتثقل على النفوس وتتجاوز بسوئها قدرة التحمّل عند غالبية النّاس.

والإنسانية اليوم في غالب أبنائها تحت الضغط الهائل غير المُحتَمل الذي تواجههم به أوضاع الحياة بين يأس قاتل، وتمرّد مقموع، وتطلع موهوم.

إنه التطلّع إلى الخلاص على يد الديمقراطية الغربية المزعومة المكذوبة في منشئها، المهزوزة الفاشلة في نفسها.

الديمقراطية التي لم تُخرِّج إلا حكومات طاغوتية قاسية تعيث في العالم فساداً، وتجري على يدها أنهارٌ من دماء الشعوب، وتسرق لقمة الجياع من سكّان الأرض لشهوة جمع المال وتكديسه، وتتلذذ ببكاء الثكالى، وتضوّر المحرومين، إنما هي ديمقراطية زائفة كاذبة.

والديمقراطية التي لا تقوم على المنظومة الفكرية والمبادئ الخلقية الإلهية وحقّ الله (عزّ وجلّ) ورقابته لا يمكن أن تنتج العدل وتقيم الحق، وتنتصر لإنسانية الإنسان وتعرف له كرامته في مجال السياسة أو غيرها؛ ومتى كان للشوك أن ينبت العنب، ومتى كان لمن انفصل عن الله سبحانه أن يتنزّل على النّاس بالرحمة؟!

الديمقراطية عاجزة عن أن تصنع ضميراً طاهراً، وتجذّر في نفس الإنسان قيماً عالية، وتبعث روح عدل وإحسان وتضحية وإيثار ورحمة ورأفة، وكل ذلك تحتاجه حياة العدل والإخاء والمودة والاستقرار. وبدونه لا تستقيم الحياة على الخط.

الديمقراطية حتّى في منشئها إنما هي احتراب مال الشركات التجارية العملاقة، ومكر وخداع غير شريف، ووسائل كثيرة قذرة على السلطة، ويدخل في ذلك الكذب والدّس والتآمر والتشهير بظلم، والدعاوى العريضة الفارغة والمهاترات، وبيع الشعوب، وإثارة الحروب، وتقوم على الهيمنة الإعلامية على أكبر قدر ممكن من الرأي العام، لا على التنافس العلمي والعملي بين البرامج السياسية المتواجهة. هذا شأن الديمقراطية، وأمّا عن النظام الفردي الأرضي فهو أسقط من ساقط، وأفظع من فظيع.

والديمقراطية وهي هاجرة محرقة يلجأ إليها الناس من نار الدكتاتورية الفردية الطاغية.

عالَمُنا في ظلّ النظام الفردي وكذلك ما يُدّعى أنه ديمقراطي كذباً، عالمان: عاَلمٌ من المستكبرين الطغاة المتبذخين، وعاَلمٌ من المستضعفين المنهوكين الجوعى المسحوقين، وكل منهما مضغوط ومسحوق لمشاعر الصراع، ومستعبد لأوضاعه، ولا يعرف قيمة الإنسانية التي ينتمي إليها، ولا يعرف طعم لذةٍ حقيقية في الحياة التي يعيشها.

وقلّة من النّاس هي التي تعرف هدفها ومنهجها وقيمتها وتشعر بلذة دورها الرسالي، وخطّها الذي آمنت به مصيبةً للواقع، منشدّة إلى الحقّ الجلي، وإن كان ذلك وسط متاعب جمّة ومعاناة مستمرة مما تلقي به الأوضاع المزرية المرهقة لحياة صنعها الاستكبار في الأرض بعيداً عن النهج الإلهي الحق من ظلال سوداء ثقيلة يطال عذابُها كلَّ إنسان.

والتطلع إلى الخلاص تطلّع مشروع مبرّر تُدفع إليه البلايين من الناس دفعا قويّاً بضغط الظروف المأساوية التي يولدها الانحراف والظلم على المستوى الإنساني والمعيشي على حدّ سواء.

أما التطلع إلى الديمقراطية منقذاً، فهو من تمسّك الغريق بالطحلب، والزبد الذي يذهب جفاء.

وإذا كان التطلّع هو تطلّعٌ إلى إنقاذ الحق من الباطل، والعدل من الظلم، والرحمة من القسوة، والإحسان من العدوان، والصدق من الكذب، فهذا التطلّع في روحه ولبّه وعمقه وحقيقته إنما هو تطلّع ليوم الظهور؛ يوم الإسلام الصادق، والإمام الموعود (عليه السلام).

فتطلّع البلايين للخلاص الذي إنما يدفع إليه حسب الواقع بُعد المسيرة البشرية عن الله، والانحدار عن خطّ دين الحق، وإقصاء القيادة الربانية الرشيدة والتي يمثّل المعصوم (عليه السلام) النموذج الأعلى لها عن موقع الصدارة، إنما هو تطلّع إلى الإسلام المضيّع، وقيادته المغيّبة.

ولو وصل الإسلام بصورته الحقيقية إلى البلايين، وتعرفت على معالم القيادة الإلهية وواقعها، لكان انتظار الناس على مستوى العالم وبصورة صريحة وبصوت مرتفع للإسلام لا للديمقراطية، وللقائم (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لا لزعامات الأرض المصطنعة، والتي لا تلتقيه على خطّه الصاعد القويم.

ولهذا لا تجد جاهلية القرن عدوّاً لها كالإسلام، ولا تجد أثقل عليها من الحديث عن القائم (عليه السلام) ومقتضياته، وهي لا تبذل جهوداً مضادة على جميع مستوياتها وفي العالم كلّه كما تبذل في مواجهة الإسلام وتشويهه والكذب عليه، ومحاولة تزييفه ومسخه، ومزجه بالرديء الساقط، وإسقاطِ رموزه وقياداته، والتقوّل عليها وتغييبها، ولا تترك شيئاً في الوسع إلا وبذلته للحيلولة بين الصورة الحقيقية للإسلام وقياداته، وبين جماهير الأمة المسلمة فضلاً عن جماهير العالم.

وهنا تكبر مسؤولية الرساليين فيما يتعلق بتبليغ الإسلام ونشره وتوصيله وعرضه على العقول والأفئدة، بما هو عليه من حُسْنٍ وصدق وأصالة وإخلاص وكفاءة وشمولية وعلم وروعة وتخطيط ودقة منهجة ورحمة ورأفة(26).

خلاصة الكلام في مسألة الديمقراطية

●الدين رؤية كونية ومنهجة وتنظيم عام لكل مساحة الحياة، وله طَرْحُهُ الخاصُّ في المسألة السياسية الذي يختلف عن الدكتاتورية وعن الديمقراطية بمفهومها الغربي.

●من الديمقراطية أن يُترك للشعوب أن تختار نمط حياتها ونظامها السياسي وإن اختارت الإسلام أو غيره، الأمر الذي تتنكر له ديمقراطية أمريكا وأوروبا، ولا يمكن أن تلتزم به عملياً، وتقف في وجهه بكل قوة وصرامة وعنف وظلم واستبداد وعنجهية إذا جاء خيار الشعوب الإسلامية خياراً إسلامياً.

●ليس أمام الشعوب الإسلامية من ناحية عملية إلا أن ترحب بديمقراطية تعطيها الخيار الحر، وعليها من جهة أخرى أن تستجيب لأمر ربها باختيار الإسلام لا غيره، وأن لا تقبل الديمقراطية المشروطة بالنمط الغربي، وبقيمومة أمريكية أو أوربية، فبحسب الواقع أفضل طريق متاح للتغيير الآن هو الديمقراطية، وبحسب الواجب الشرعي لا خيار لمسلم في أن يختار على الإسلام شيئاً آخر.

●والديمقراطية شعار تستعمله أمريكا وأوربا غطاءً لإقامة واقع حضاري بديل عن الإسلام في بلاد المسلمين.

●والوعي الشبابي سلاح فاعل في إبطال اللعبة، وإفشال المخطط الأجنبي الماكر. والوعي لا يأتي من فراغ، ولا من حالة حماس مجرَّدة، ولا التحاق نشط بالنشاط الإسلامي يفتقد الرؤية المركّزة والدرجة الكافية من الدراسة. الوعي يحتاج إلى فهم جيد لقيمة الإسلام وضرورته، وأصالته، وقدرته على الإنقاذ والتحرير وتوفير متطلبات الحياة العادلة الهانئة السعيدة، والتزامه بتحقيق كرامة الإنسان وحفظ مصلحته المستقبلية.

وهذا يحتاج إلى قراءة وإمعان ودرس وتدارس وحوارات ومطارحات، ويحتاج إلى معاهد وكليات وحوزات كفوءة، وذات تخصصات كافية. وعلى العلماء والمؤسسات الإسلامية مسؤولية ثقيلة بالغة في هذا المجال كله(27).

 

* الهوامش:

(1) المصطلحات السياسية الشائعة، فهد عبدالله المالكي، صفحة 115.

(2) القاموس السياسي، وضع أحمد عطية، صفحة 548.

(3) موسوعة السياسة، عبدالوهاب الكيالي، 3 / 356.

(4) سورة الأحزاب، الآية 36.

(5) خطبة الجمعة (125) 23 جمادى الثاني 1424هـ 22 أغسطس 2003م.

(6) خطبة الجمعة (125) 23 جمادى الثاني 1424هـ 22 أغسطس 2003م.

(7) خطبة الجمعة (125) 23 جمادى الثاني 1424هـ 22 أغسطس 2003م.

(8) خطبة الجمعة (125) 23 جمادى الثاني 1424هـ 22 أغسطس 2003م.

(9) أي من حيث الممارسة لا من حيث المنهج.

(10) خطبة الجمعة (140)14ذو الحجة 1424هـ 6 فبراير 2004م.

(11) خطبة الجمعة (140)14ذو الحجة 1424هـ 6 فبراير 2004م.

(12) خطبة الجمعة (140)14ذو الحجة 1424هـ 6 فبراير 2004م.

(13) خطبة الجمعة (140)14ذو الحجة 1424هـ 6 فبراير 2004م.

(14) خطبة الجمعة (140)14ذو الحجة 1424هـ 6 فبراير 2004م.

(15) خطبة الجمعة (182) 3 ذو الحجة 1425هـ 4 يناير 2005م.

(16) خطبة الجمعة (296) 26رجب 1428هـ 10 أغسطس 2007م.

(17) خطبة الجمعة (182) 3 ذو الحجة 1425هـ 4 يناير 2005م.

(18) خطبة الجمعة (183) 10 ذو الحجة 1425هـ 21 يناير 2005م.

(19) خطبة الجمعة (182) 3 ذو الحجة 1425هـ 4 يناير 2005م.

(20) قال سماحة الشيخ في خطبة الجمعة (183) 10 ذو الحجة 1425هـ 21 يناير 2005م:

"سماحة السيد آية الله العظمى السيستاني ينادي ويوجب على المسلمين أن ينتصروا لدينهم، ماذا يقول؟ يقول هناك محاولتان للانتصار للإسلام، طريقان للانتصار للإسلام، تجريد السيف، وما يُدّعى من الديمقراطية، وتحكيم صناديق الاقتراع.

نحن نختار تحكيم صناديق الاقتراع في الانتصار للإسلام، نقدّم هذا الأسلوب السلمي على أسلوب المواجهة الدموية، فهو يوجب على المسلمين العراقيين أن يخرجوا كبيرهم وصغيرهم، ومن استطاع من مرضاهم وسقمائهم إلى صناديق الاقتراع نصرة للإسلام، والصوت عنده أغلى من الذهب في هذه المسألة، القول للإسلام نعم، القول للإسلاميين نعم، ترشيح انتخاب حكومة تختار الإسلام على غيره ولو جزئيا مسألة واجبة على العراقيين، ويطالبهم السيد السيستاني بهذا الأمر مطالبتهم بالصلاة والصوم والحج إن لم يزد على ذلك، لأن في المسألة مصير الإسلام.

فهو يوجب على المسلمين أن ينصروا دينهم عن طريق صناديق الاقتراع بدل أسلوب العنف ما أمكن. وإنه يوجب التصويت للأطروحة المرضية لله، وللأشخاص المرضيين لله".

(21) خطبة الجمعة (182) 3 ذو الحجة 1425هـ 4 يناير 2005م.

(22) خطبة الجمعة (183) 10 ذو الحجة 1425هـ 21 يناير 2005م.

(23) خطبة الجمعة (183) 10 ذو الحجة 1425هـ 21 يناير 2005م.

(24) خطبة الجمعة (183) 10 ذو الحجة 1425هـ 21 يناير 2005م.

(25) خطبة الجمعة (296) 26رجب 1428هـ 10 أغسطس 2007م.

(26) خطبة الجمعة (338) 13 شعبان 1429هـ - 15 أغسطس 2008م.

(27) خطبة الجمعة (199) 4 ربيع الثاني 1426هـ 13 مايو 2005م


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا