تعددت النظرة والتصور لمفهوم الحماسة في الأوساط الدينية والأوساط الثقافية، فمرة ينظر لها بنظرة ايجابية كما هو واضح في خطابات الإمام الخميني (قده) على سبيل المثال، وتراه يؤكد مرارا على ضرورة بقاء هذه الروح الحماسية في أوساط الشباب، ويركز على عدم التخلي عن هذه الخصلة وهذه الصفة التي امتاز بها الشعب الإيراني أثناء فترة الثورة الإسلامية وأثناء فترة الحرب المفروضة. ولقد كان الإمام رضوان الله تعالى عليه يصر على بقاء هذه الروح حتى بعد انتهاء المواجهة والصراع الذي كان قائم آنذاك.
ونرى الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده) يعتبر إن هذه الصفة من الأمور المهمة جدا في شخصية الإنسان المؤمن، وقد وضح ذلك جليا عندما قام بعض الشباب الغير متدينين بمحاولة تخليص السيد الصدر من الحصار الذي كان قائما آنذاك على منزل الشهيد الصدر(قده).
وفي الجهة المقابلة نرى النظرة السلبية لفكرة الحماسة، حيث إن الكثير من المثقفين والعلماء يعتبرون أن الحماسة هي نوع من الغوغائية وهي نوع من اللاعقلانية، وأن الجهة التي تتحرك بروح حماسية فإنها تعتبر مغامرة، ولا يوجد لديها نصيب من الحكمة والتعقل، إلخ.. من التعابير التي يوصف بها أصحاب الروح الحماسية.
بين هاتين النظريتين يجد الفرد منا نفسه حائرا حول هذه المفردة فيبحث حول جواب عن التساؤل الذي يطرق ذهنه أي النظريتين أصح وأي النظريتين أقرب للقرآن الكريم؟ وهذا ما حاولت جاهدا لاستقراء هذه المفردة في القرآن الكريم ومواردها. في البداية لا بد لنا من معرفة المعنى الحقيقي اللغوي لهذه المفردة وموارد استعمالها لغويا لكي تتحدد لنا البوصلة في بحثنا هذا.
الحماسة لغة:
1_ حمس أغضبه، حمس وأحمس: أغضبه وهيجه لحمس: هاج وغضب لأمر احتمس: هاج.
2_ حمس : اشتد وصلب في الدين أو القتال، شجع فهو حمس.
- تحمس: تشدد وتعاصى.
- الحماسة: الشدة في الأمر والشجاعة.
- الحمبس: الشجاع، الشديد.
- الأحمس: المتشدد الصلب في الدين أو القتال اشتد، الشجاع، حمس الشر؛ اشتد.
- الحماسة : المنع والمحاربة.
- التحمس: التشدد، تحمس الرجل إذا تعاصى: عن أمير المؤمنين(ع): «حمس الوغى استحر الموت» أي اشتد الحر.رجل حمس وحميس وأحمس:شجاع.
-المتحمس: الشديد. الأحمس: المتشدد على نفسه في الدين والخلاصة إن الحماسة بمعنى الشدة في الدين والقتال وأيضا الشجاعة.
بما أننا عرفنا معنى الحماسة وهو الشدة في الدين والقتال والشجاعة فإننا إذا استقرأنا هذه المعاني في القرآن الكريم فإننا نجد أن هناك نوعين من الحماسة النوع الأول هو ما سميته بالحماسة الكاذبة والنوع الثاني ما سميته بالحماسة الصادقة وإن لهذين الصفتين من الحماسة مصاديق كثيرة في القران الكريم ولعل أبرزها ما جاء في قصة بني إسرائيل مع قائدهم طالوت في حربهم مع جالوت حيث قال تعالى:{أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}(1)
فان هذه الآية الكريمة تتحدث عن صنفين من الناس قد ذهبوا لنبيهم يطالبونه بالقتال والحرب ومواجهة الأعداء وابدوا استعدادهم لتحمل كل مصائب ومتاعب الحرب والمواجهة ولكن القرآن الكريم صريح في أن الكثير والأعم الأغلب من هؤلاء قد تولى وتراجع عن موقفه عندما اصطدم بجدار الواقع وصعوبات الجهاد ومتاعبه فان القسم الأكبر منهم مع كونه مستعدا في البداية لكل مخاطر الحرب ومتاعبها وبعد تأكيد نبيهم لهم بالمخاطر إلا أنهم أصروا على المواجهة التي لم يصمدوا فيها وتراجعوا عنها؟ وهذا ما اقصد به الحماسة الكاذبة أي أنهم عندما يعلنون الاستعداد للقتال ويعبرون عن شجاعتهم إلا أنهم عندما يصطدمون بجدار الواقع فإنهم سرعان ما يتراجعون وتتبدد حماستهم وتذهب مع الرياح.
أما بالنسبة إلى الفئة القليلة التي عبر عنها القرآن الكريم بـ {إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} فإنهم مثلوا الحماسة الصادقة، حيث إنهم كالآخرين ابدوا استعدادهم للحرب وتحمل معاناته ومتاعبه إلا أنهم بخلاف الفئة الأغلب حيث إنهم صبروا وثبتوا أمام التحديات التي واجهتهم إلى نهاية المطاف وهذا ما سميته بالحماسة الصادقة. أي الصبر والثبات في المواجهة وتحمل المعاناة والتحديات التي تكون جزاء الحرب والتحدي والمواجهة.
والآن بعد إن اتضح مقصودي من الحماسة الصادقة والحماسة الكاذبة نبحث عن أسباب الحماسة والشجاعة ودوافعها في القرآن الكريم.
- دوافع الحماسة في القران الكريم :-
- سبيل الله:
تشير الآيات الكريمة إلى أن سبيل الله هو أحد أهم دوافع الحماسة عند الإنسان المؤمن بالله تعالى، وسبيل الله يدفع الإنسان للاستعداد للتضحية والموت وخوض غمار الحرب والصعاب وعامل بث روح الشجاعة والقوة والإرادة في الإنسان المؤمن ولذلك عبر اليهود في جوابهم لنبي الله اشموئيل {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو سؤال استنكاري، حيث كيف يمكننا أن نتخلى عن القتال ونتهرب منه وهو في سبيل الله.
وهناك آية أخرى تستنكر على المسلمين عدم القتال في سبيل الله مع أنه من موجبات الحمية والشجاعة والحماسة {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(2)
السبيل هو الطريق الذي فيه سهولة ويستعمل السبيل لكل ما يتوصل به إلى شيء، خيرا كان أو شرا(3).ولذلك استخدم القران الكريم لفظه السبيل في نسبته إليه كقوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)(4)
واستخدمها بلسان النبي(ص) {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}(5) واستخدمها للمؤمنين (سبيل المؤمنين)(6) واستخدمها للمجرمين (ولتستبين سبيل المجرمين)(7) واستخدمها للطاغوت (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت(8)و هناك استخدامات عدة ومتنوعة للفظة السبيل في القرآن الكريم.
فنصل إلى نتيجة وهي أن سبيل الله هو كل ما يتوصل به إلى الله سبحانه وتعالى. وقد استخدم الله سبحانه وتعالى لفظة سبيل الله ولفظة سبلنا حيث ينسب السبيل إلى نفسه لكي لا يتوهم البعض ولا يستقر في الأذهان أن هذه الوظيفة الدينية -الجهاد- المهمة هي لإيجاد السلطة الدنيوية الجافة والمصالح الآنية وتوسعة المملكة الصورية، بل هي لتوسعة الدين التي فيها صلاح الناس في دنياهم وأخرتهم.
- الحفاظ على الدين ومعالمه:
إن من موجبات الحماسة والشجاعة والحمية والقتال هو الحفاظ على الدين ومعالمه من الضياع، ولكي تبقى الشريعة الإلهية هي الحاكمة في الأرض يقول تعالى فلو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من نصره إن الله لقوي عزيز) (9)
-الدفاع عن الأولاد والنساء والمستضعفين:-
إن الله سبحانه وتعالى يستنهض ويهيج كافة المؤمنين ويثير فيهم روح الحماسة والشجاعة والقتال، أما المؤمنون الذين خلصوا الأيمان فليكفهم أن قتالهم هذا علاوة على أنه في سبيل الله، هو في سبيل من استضعفه الكفار من رجالهم ونسائهم وذراريهم فليغاروا عليهم وليتحمسوا. كقوله تعالى: (قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا....)(10)
وقوله تعالى : (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من القرية الظالم أهلها...)(11)
إن الإسلام دين الفطرة، ويحترم الأمور الفطرية في الإنسان، ويحترم كل ما يحترمه ويعظمه كالذراري والنساء والجاه والكرامة ونحو ذلك مما توجبه الفطرة الإنسانية وتلهمه إياه، ولكن هذا الدفاع ربما كان محمودا إذا كان حقا وللحق وربما كان مذموما يستتبع الشقاء وفساد أمور الحياة إذا كان باطلا وعلى الحق.
والإسلام يحفظ من هذا الحكم أصله، وهو ما للفطرة ويبطل تفاصيله أولا ثم يوجهه إلى جهة الله سبحانه وتعالى بصرفه عن كل شيء ثم يعود به إلى موارده الكثيرة فيسبك الجميع في قالب التوحيد والإيمان بالله فيندب الإنسان أن يتعصب لرجاله ونسائه وذراريه ولأرضه ولكل حق بإرجاع الجميع إلى جانب الله فالإسلام يؤكد حكم الفطرة ويهذبه من شوب الأهواء والأماني الفاسدة(12).
-الإخراج من الديار :-
إن الإخراج من الديار عامل مؤثر في تحريك غيرة الإنسان وبث روح الحماسة والشجاعة في القتال ومواجهة الأعداء، يقول الله تعالى {وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا}(13)
ويقول في آية أخرى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله }(14)
يقول علماء التفسير بأن الوصف مشعر بالعلية وهنا القرآن وصفهم بالذين أخرجوا من ديارهم بغير حق وهذا أيضا يعطي إشارة بالارتباط بين القتال والجهاد وبين الإخراج من الديار.
هذه بعض نماذج من محفزات الحماسة وروح القتال في القرآن الكريم وسنستقري فيما يأتي نماذج الحماسة الصادقة في القرآن الكريم وبعض نماذج الحماسة الكاذبة في القرآن الكريم.
وقبل ذلك نقدم بمقدمة:
الصدق والكذب أصلهما في القول، ماضيا كان أو مستقبلا، وعدا كان وغيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول، ولا يكونان في القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، ولذلك قال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}(15)، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}(16)، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}(17).
وقد يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام، كالاستفهام والأمر والدعاء...و الصدق: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا، ومتى ما انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقا تاما، بل إما أن لا يوصف بالصدق، وإما أن يوصف تارة بالصدق،و تارة بالكذب على نظرتين مختلفين، كقول كافر إذا قال من غير اعتقاد: محمد رسول الله، فإن هذا يصح أن يقال: كذب لمخالفة قوله ضميره، وبالوجه الثاني إكذاب الله تعالى المنافقين حيث قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ...}(18)...وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد، نحو صدق ظني وكذب، ويستعملان في أفعال الجوارح، فيقال : صدق في القتال : إذا كان بخلاف ذلك.قال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}(19)، أي حققوا العهد بما أظهروا من أفعالهم، وقوله : {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ}(20)،أي: من صدق بلسانه عن صدق فعله تنبيها أنه لا يكفي الاعتراف بالحق دون تحريه بالفعل، وقوله تعالى : {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ}(21)،فهذا صدق بالفعل وهو التحقق أي : حقق رؤيته وعلى ذلك قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}(22)، أي: حقق ما أورده قولا. بما نحراه فعلا، ويعبر عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا بالصدق،..)(23) إن سورة الأحزاب واضحة في مسألة الصدق والكذب في الحماسة حيث عاهد المسلمون رسول الله(ص) بأن لا يولون الأدبار وأن يصبروا ويثبتوا في خط المواجهة حيث قال تعالى : {وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسُْئولا}(24). فهذا دين الضعفاء الذين لا يثبتون أمام التحديات، أصحاب الحماسة الكاذبة فإنهم يبحثون عن التبريرات لكي يهربوا من ساحة المواجهة، لأن المواجهة قد تكلفهم بعض التضحيات، وتواصل الآيات الكريمة في وصف حال أصحاب الحماسة الكاذبة فتقول {يَحْسَبُونَ الأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} فهذا حال ضعفاء النفوس الكاذبين في حماستهم وعهودهم، أما حال المؤمنين فيقول تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}(25)، ومثال آخر يطرحه القرآن الكريم في قصة طالوت وجالوت وكيف أن بني إسرائيل عندما طلبوا من نبيهم أن يوفر لهم قائدا يحاربون معه ويقاتلون لإرجاع كرامتهم وعزتهم المسلوبة، فأخذ نبيهم منهم المواثيق بأن يقاتلوا إن تطلب منهم الأمر القتال، وأبدوا استعدادهم الكامل للدخول في القتال وأظهروا حماستهم له، وعندما تطلب منهم الموقف المواجهة والصبر والتضحية والثبات بدأوا يبحثون عن تبريرات لعدم خوض المعركة.
كيفية معرفة الحماسة الصادقة من الحماسة الكاذبة:
الامتحان والبلاء هو المقياس الذي وضعه القرآن الكريم لمعرفة الصادق من الكاذب فمنه قوله تعالى: {لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً}اختلف العلماء في تفسير هذه الآية الكريمة فقد ذهب الكثير من المفسرين إلى أن المراد من" الصادقين "هم الأنبياء وأنهم يسألون يوم القيامة عن مدى قيامهم ووفاءهم بعهدهم وميثاقهم من تأدية الرسالة والعمل على وفقها إلا أن هناك رأيا آخر وهو ما نستفيد منه في مقامنا ويذهب له صاحب تفسير الأمثل وهو أنَّ المراد منهم المؤمنون الذين صدّقوا ادّعاءهم بالعمل، وأثبتوا صدقه بترجمته عمليّا، وبتعبير آخر: فإنّهم خرجوا من ساحة الاختبار والامتحان الإلهي مرفوعي الرؤوس.
والشاهد لهذا القول:
أوّلا: إنّ «الصادقين» هنا وضعوا في مقابل الكافرين، فيستفاد هذا المعنى بوضوح من قرينة المقابلة.
ثانيا: نقرأ في الآية(23) من هذه السورة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ثمَّ تقول الآية(24) مباشرة: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}.
ثالثا: عرّفت الآية(15) من سورة الحجرات، والآية(8) من سورة الحشر (الصادقين) جيّدا، ففي آية الحجرات نقرأ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، وتقول آية الحشر: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
وبهذا يتّضح أنّ المراد من الصادقين: هم الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم في ميادين حماية دين اللّه والجهاد والثبات والصمود أمام المشاكل وبذل الأرواح والأموال.
أمّا ما هو المراد من سؤال الصادقين عن صدقهم؟ فيتّضح بملاحظة ما قلناه آنفا أنّ المراد هو: هل يثبتون إخلاص نيّتهم في أعمالهم ويصدقون في ادّعائهم.. في الإنفاق والجهاد والثبات أمام الصعاب والمشاكل، وخاصّة صعوبات ميدان الحرب، أم لا(26)؟
وهناك آيات أُخر تصب في هذا الاتجاه، حيث أن الابتلاء هو لمعرفة الصادقين من الكاذبين (لان حياة الرخاء والسعة والاستقرار تغطي حالة الضعف وتستر نواقص الإنسان وخفاياه الكامنة، وتظهر حين المحنة، وفي ساعة العسرة والشدة والاختبار الصعب، ولذلك يؤكد القرآن أن ادعاء الإيمان والمبدئية، وحمل شعار المسؤولية والإخلاص لله وللمبادئ والشكلية الظاهرية ليس بكاف لتصديق المدعي، ولا يترك الناس على ما هم عليه حتى يختبرهم الله ويعرفهم لأنفسهم وللناس وللآخرين، وكم تساقط أناس في ساحة المحنة وكم هوت شخصيات وكيانات وكبت في ميدان الامتحان وشخصيات كان الناس يعدونها قمما وطلائع وقدوة للآخرين.) فقوله تعالى {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}(27) الآية وبعد آيتين تراه يبين ما هو نوع الفتنة ونوع البلاء والامتحان الذي يمتحن به المؤمنون فيقول: {وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِين} فيشير إلى أن الجهاد والمواجهة والقتال أحد أنواع الاختبار الذي يسقط فيه الكثير ممن يدعي الشجاعة والثبات والشدة في الدين والحماسة. لذلك كانت هذه الامتحانات وهذه الفتن مصفاة لتصفية الصادقين من الكاذبين، بل يمكن القول أن أغلب الآيات التي تتحدث عن البلاء والامتحان والفتنة هي في سياق الجهاد والمواجهة والقتال باعتباره من أوضح وأقوى مصاديق الاختبار والامتحان الذي يكشف عن حقيقة اعتقاد الإنسان وعن سريرته فمنها قوله تعالى {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(28)
ومنها قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(29) وقوله تعالى :{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(30)
وهكذا كان الامتحان في قصة طالوت وجالوت التي لم يختلف الامتحان فيها عن غيره فقد كان امتحانين واختبارين لجنود طالوت، الاختبار الأول هو شرب ماء النهر {فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِه}(31) وقد سقط في هذا الاختبار عدد كبير جدا من جيش طالوت حيث قال تعالى {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُم}والاختبار الثاني هو قرب المواجهة وحين قرعت طبول الحرب وحان وقت القتال وكما يقول المثل (هذا الميدان يا حميدان) قال البقية التي بقت معه{فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِه}(32) وكانت هذه الفئة تمثل الحماسة الكاذبة التي تلاشت وتراجعت عند الامتحان وسقطت، ولكن بقت البقية الثابتة والصابرة الصادقة متوكلة على الله ومستندة إلى قوة إيمانها مع قلة عددها وقالت: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين}(33) وقد نصرهم الله بنصره عندما توكلوا عليه واعتمدوا على قوة الله ونصر الله، فنصرهم نصرا عزيزا {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِين وَقَتَلَ داوُدُ جالُوت}(34) {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه}(35).
* الهوامش:
(1) سورة البقرة: 246.
(2) سورة النساء: 75.
(3) مفردات الراغب الأصفهاني ص 395.
(4) سورة النحل: 125.
(5) سورة يوسف: 108.
(6) سورة النساء: 114.
(7) سورة الانعام: 55.
(8) سورة النساء: 76.
(9) سورة الحج:40.
(10) سورة البقرة: 246.
(11) سورة النساء: 75.
(12) الميزان ج5 صفحة، 420 بتصرف.
(13) سورة البقرة: 246.
(14) سورة الحج: 40.
(15) سورة النساء: 122.
(16) سورة النساء: 87.
(17) سورة مريم: 54.
(18) سورة المنافقون: 1.
(19) سورة الأحزاب: 23.
(20) سورة الأحزاب: 8.
(21) سورة الفتح: 27.
(22) سورة الزمر: 33.
(23) الراغب الأصفهاني 478
(24) سورة الأحزاب: 13_ 15.
(25) سورة الأحزاب: 22_ 23.
(26) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج13، ص: 177.
(27) سورة العنكبوت: 2-3.
(28) سورة البقرة: 155.
(29) سورة آل عمران: 142.
(30) سورة البقرة: 214.
(31) سورة البقرة: 249.
(32) سورة البقرة: 249.
(33) سورة البقرة: 249.
(34) سورة البقرة: 250.
(35) سورة الطلاق: 3.
0 التعليق
ارسال التعليق