بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين..
ليس من عادة الناس المجاهرة بعناد الحق حتى ولو كانوا على خلافه، وهذا هو درس إبليس اللعين حينما تصدى لغواية الناس، فقد سلك مسلك التزيين والإغواء.. ولكنك كثيراً ما ترى وتسمع التوجيهات العملية والنظرية للسـلوكيات المجانبة للحق، وبهذا يتضـح أن الخلل في غالبية
الأحيان ليس نابعا عن الجهل بالحق أو الجهل بطرق الوصول إليه.. نعم كثيراً ما يكون الإنسان عاميا أو أميا أو جاهلا بالحق وحيثياته في هذا الحقل أو ذاك، ولكنه مع هذا يدرك أنه لو أراد الحق لعرفه ولوصل إليه.
السجود وإطلالة الحق
ورد في الآية الشريفة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(1)، وبعد أن عرفنا الطريقة الشيطانية في الإضلال فلا بد لنا أن نعرف الطريقة الإلهية لتقبل الحق؟ فإنا كلما أقدمنا على معصية أو شبهة زينها الشيطان في أعيننا، وبارك لنا حرصنا على الحق! فكيف السبيل وهذا اللعين كامن في الطريق؟ وقبيله يترصدون بأنفاسنا؟ وقد سلطه الله منا على ما لم يسلطنا منه عليه، وأجراه مجرى الدم في العروق..
تشير الآية الشريفة إلى إذعان الخلائق كلهم بالحق، كل الخلائق أجمعين لا يملكون أمام الحق إلا الخضوع والتسليم والسجود، لأن الحق آخذ بالألباب، ومهيمن على كل شيء.. فأنت ترى -والله يذكرك بما ترى عسى أن تتذكر وتذعن بأن الله حقيق بأن تسجد له في الساجدين- السماء ساجدة لله، والأرض ساجدة لله، وكذلك القمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، فليس في وسعها إلا الخضوع والتواضع في محضره*، وهو خضوع تكويني تخضع من خلاله وتسجد وتمرغ كبريائها إن كان لها كبرياء، وعلى هذا السياق جاءت الآيات التي تبين بأن كل شيء يسبح لله كتسبيح الرعد والملائكة.. والآيات التي تتحدث حول السجود {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}(2)، فكل سجود في عالم التكوين والخلق فلا يكون إلا لله)، وعلى هذا المنوال كل تسبيح وكل تهليل وكل تكبير وكل حمد، فهو به) ومنه وإليه، وعلى هذا فما من حمد يحمده حامد لأمر محمود إلا وهو لله) حقيقة، هذا هو القسم الأول من السجود، وهو السجود في مقام التكوين والخلق.
وأما القسم الآخر فهو ما نجده في الآية الشريفة حينما تتحدث حول الإنسان، ونعني به السجود في مقام التشريع، وهو المقام الموكل إلى اختيار الإنسان، وهي ميزة وبلاء اختص بهما الإنسان، ميزة على بقية المخلوقات التي ليس لها في محضر الله أي اختيار، وإنما هي مجبولة على الطاعة، بينما الإنسان فهو مختار متكامل بإرادته وقصده ولذلك لو اختار الطاعة لكان أعلى المخلوقات فضيلة ومقاما، وأما كونها بلاء فهو من باب أن هذا الإنسان لو اختار المعصية فمآله أسوء من كل المخلوقات.
حينما تتحدث الآية الشريفة عن الإنسان تقول عاطفة على سجود جميع الخلق لله: {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}، فهنا قسمان: قسم من الناس يسجدون لله، ويتواضعون في محضره، ويعلمون أنه هو الحق، وأن الحق أولى بالاتباع، وأما القسم الثاني فليس كذلك بدليل أنه يستحق العذاب(3).
هذه هي ضريبة الاختيار والامتياز على بقية المخلوقات، وما يؤسف له هو أن كثيرا من الناس لا يمتلكون تلك الإرادة على الإذعان إلى الحق وإن عرفوه! تجد آثار ذلك في حالات احتضارهم، وفي سلمهم وحربهم، وعند مغريات ومناصب الدنيا، وعند الأنا المهلكة، ولا حول لنا ولا قوة في كل ذلك إلا بالله.. والنتيجة هي الأسف والندامة، ولعله لذلك يتمنى بعض بني الإنسان أن يكون شيئا من تلك المخلوقات غير العاقلة أو شيئا من الجمادات: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً}(4).
لماذا خُلق الإنسان ضعيفا؟
قد يسأل سائل ويقول بأن هذه الإرادة الضعيفة التي تسبب له سوء المصير إنما هي من عند الله، فلماذا يعاقبه الله على ضعفه وقد خلقه ضعيفا؟
والجواب على ذلك بأن مقتضى كون الإنسان مخلوقا هو أن يكون ضعيفا، فهل الضعف إلا الفاقة والاحتياج! وبما أنه مخلوق فهو محتاج في أصل وجوده فضلا عن بقية كمالاته، وهو محتاج إلى خالقه ومكمّله، فلا يصح إذن السؤال: لماذا خُلق الإنسان ضعيفا، فإنه ما دام مخلوقا فهو ضعيف لا أن الله سلبه شيئا من قوته أو جار عليه فأصبح ضعيفا، وإنما ذاته هي ذات الضعف والاحتياج.
وأما سوء المصير فهو خاضع لعمل الإنسان وتقصيره، فإن بإمكانه أن يعمل بعض الأعمال الكفيلة بإزالة الضعف عن نفسه، ولكنه حينما يقصر ولا يقدم على ذلك فهو إنما ينال جزاء عمله بكامل اختياره، بمعنى واضح: لا يمكن للإنسان أن يعترض على الله أو يدينه حينما يقدم على المعصية معتذرا بعدم معرفة الحق، فيقال له: هلا تعلمت! أو بعدم القدرة على اختيار الحق أمام إغراء الباطل، فيقال له: هلا قويت إرادتك واختيارك، وهكذا.
الحق صعب مستصعب
جاء في خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) خطبها بصفين: «أما بعد فقد جعل الله لي عليكم حقا بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف»(5).. إن حال الناس حينما يراد منهم أن يصفوا الحق هو حال اليسر، بإمكان مثلي وأمثالي أن نؤلف ونكتب حول الحق، وترى غالب الناس حاضرين خطباء يخطبون في تعريف الحق والحض عليه، فهو أوسع الأشياء في التواصف، ولكن الحال يضيق عند تطبيق الحق على النفس والانتصاف للآخرين منها، فهو أضيق الأشياء حال التناصف.
هذا الحق الصعب المستصعب كيف لنا أن نقبل به؟ وكيف لنفوسنا أن تذعن له؟! من الواضح أن معرفة الحق لوحدها لا تكفي، وإلا فما هو الفارق بين الحر بن يزيد الرياحي وبين عمر بن سعد؟ أليس الحر هو ذلك الفارس المهيب القوي العزيز في قومه؟ وهو مع هذه الموقعية اختار أن ينكس رأسه إلى الأرض خضوعاً إلى الحسين (عليه السلام) وأقبل إليه خالعاً عنه ثوب العز الظاهري، ثم أليس عمر بن سعد هو العالم بالجنة والنار والثواب والعقاب؟ وبأن الله لديه ما تشتهيه النفس وتطيب بنيله؟ وهو القائل بيانا لتردده وكشفاً عن معرفته أو احتماله لكل ذلك:
فوالله ما أدري وأني لحائر
أفكر في أمري على خطرين
أأترك ملك الري والري منيتي
أم أرجع مأثوما بقتل حسين
حسين ابن عمي والحوادث جمة
لعمري ولي في الري قرة عين
ألا إنما الدنيا بخير معجل
فما عاقل باع الوجود بدين
وأن إله العرش يغفر زلتي
ولو كنت فيها أظلم الثقلين
يقولون إن الله خالق جنة
ونار وتعذيب وغل يدين
فإن صدقوا فيما يقولون أنني
أتوب إلى الرحمان من سنتين
وإن كذبوا فزنا بدنيا عظيمة
وملك عقيم دائم الحجلين
مع ذلك اختار عمر بن سعد الشقاء الأبدي والإعراض عن الحق، فلو كانت معرفة الحق كافية لما آل إلى تلك العاقبة.. كثيرا ما نرى الحق ولكننا نضعف حال التطبيق، فتحصل أنه لا بد لنا من الوقوف على الطريق المؤدي إلى اتباع الحق، لا إلى مجرد معرفة الحق، فمن يعرف الحق كثير، ومن يتبع الحق قليل.
نصائح هامة لتطويع النفس
الهداية من عند الله:
الأمر الأول الذي ينبغي لطالب الحق أن يعرفه، هو أن النفس ما لم تصدق أن الهادي هو الله) فأمامها عقبة كأداء تحول بينها وبين قبول الحق، عقبة الغرور والاعتداد بالقدرة الذهنية والذكاء والعجب بالحالة النفسية وما تقطعه النفس من مراحل الترويض الظاهرية.. القرآن الكريم في بعض آياته ينبه النبي (صلَّى الله عليه وآله) إلى أن الهداية ليست من عندك! وهو رسول الله محمد (صلَّى الله عليه وآله) لا أي شخص: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(6)، ليس أمام طالب الحق إلا التوسل باسم الهادي والإذعان بأنه هو الهادي لا غير.
السير على الضابطة العلمية:
طالب الحق حينما يصل إلى الحق فإن بإمكانه أن يبقى على الحق لأحد أمرين: إما لأنه هو الحق ولأن مراده ومطلوبه هو الحق، وإما محبة فيه بعد الوصول إليه منفصلا عن ضابطة الحق، وفي هذا النحو الثاني خطورة كبيرة، وهو منزلق كبير قد تزل عنده الأقدام عند أي اختلال في موقف هذا المتعصب من أجله؛ وهذا هو ما يعبر عنه بلسان: (حب الشيء يعمي ويصم)، وأما المحبة في الله وفي الحق وطلبا للحق وسيرا على هذه الضابطة واستذكارا لها آنا بعد آن فهي كفيلة بالبقاء على الحق، فهو حق تابع للمعيار والضابطة العلمية التي يعلمنا إياها أهل الحق (عليهم السلام)، وقد ورد في الزيارة الجامعة: «اللهم إني لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمد وأهل بيته الأخيار، الأئمة الأبرار لجعلتهم شفعائي، فبحقهم الذي أوجبت لهم عليك أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقهم..» وفي عقيدتنا نرى أن هذا المقطع من الدعاء من باب فرض المحال، ولكنها الطريقة الإلهية في بيان المعيار، فإن الله) لا يستنكف في كتابه أن يضرب لنا الأمثال، ويتنزل في مناقشة الضابطة العلمية إلى التطبيق على الأمور المستحيلة، يقول تعالى في بعض آيات كتابه المجيد بعد أن يبين أن كلام النبي (صلَّى الله عليه وآله) إنما هو وحي، وأنه (صلَّى الله عليه وآله) لا يأتي به من قبل نفسه، يقول) موضحا للضابطة العلمية: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}(7)، وقد روت بعض الكتب العامية أن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.. وعلى فرض ثبوت هذا الحديث فلا استنكاف عن قبول مفاده وإدراجه في فرض المحال، وقد قيل بأنه (صلَّى الله عليه وآله) حينما قال ذلك بدى التأثر على محياه الشريف.
الترفق في درجات الحق:
إن من أهم القضايا تربوياً هو مداراة النفس والأخذ بيدها ترفقا، وليس من الصحيح أن يدعي مدع قبوله للحق دفعة واحدة، فإن الجبال اعتذرت عن حمل الحق: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}(8)، وإن الجبال لتزول حينما يتجلى الحق لها مذعنة أنها أضعف من أن تتحمل هذا المقام: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً}(9)، وقد ورد في الرواية المروية عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبَتّ الذي لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى»(10)، والراكب المنبت هو المقطوع الذي عطبت دابته أو نفقت.
التواضع إلى الحق:
وهنا عود إلى ما افتتحنا به البحث.. السجود، التواضع، التخضع، هذه هي علامات الطريق القاصد إلى الحق، لا بد لطالب الحق أن يلتمس الهداية والحق من الله)، فلا هادي إلا الله، ولا هداية إلا بالطلب، وهو الذي لا يرد طالبا ولا تزيده كثرة العطاء إلا جودا وكرما، والطالب قد يكون طالبا في عالم التكوين، فلهذا كان التكوين خاضعا لقانون الإتقان والحكمة وهما مظهران بارزان كاشفان عن الحق، وقد يكون طالب الحق طالبا له في مقام التشريع، وهو لا ينال إلا بالتواضع والسجود إلى الله والاستمداد منه بأن يجعل النفس طيعة سهلة التقبل لما تصل إلى أنه هو الحق.
وتربية النفس على قبول الحق تبدأ بالصغار من القضايا والأمور، فإن روض الإنسان نفسه فيها كان أهلا لقبول الحق حينما يفقد معه كل مال وكل جاه وكل عز دنيوي، أو حينما يترتب عليه كل ضرر ونقص وأذية دنيوية، وفي الرواية عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «يَا هِشَامُ إِنَّ لُقْمَانَ قَالَ لابْنِه تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أَعْقَلَ النَّاسِ وإِنَّ الْكَيِّسَ لَدَى الْحَقِّ يَسِيرٌ»(11).
العلم بثواب الحق:
من علم أن لحبس النفس على الحق أجراً عظيماً، وتقصى ثواب أعماله، واطلع على حيثيات كل درجة من درجات الحق وما أعده الله لمن تبعها من ثواب وعطاء، من اطلع على كل ذلك كانت نفسه أكثر إقبالاً على الحق، ولن يجد تلك الصعوبة التي يكابدها غيره في قبول الحق، وإنما يكون الحق لديه كماء زلال لا تقر نفسه إلا بشربه، فكل من يقبل بالحق فله فضيلة القبول، ولكن العناء والهناء هو الفارق، فواحد يلجئ نفسه إلجاء، وآخر ينال غاية مراده في القبول بالحق.. ومن تواضع إلى الحق رفعه.
هذا وإن كاتب هذه السطور ممن هم حاضرون عند التواصف، ولا حول لهم عند التناصف، جعلنا الله ممن يقبل الحق أينما كان، والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) الحج: 18.
(2) الرعد: 15.
(3) نعم كل الناس في مقام خلقهم وتكوينهم إنما تنبض عروقهم تسبيحاً وطلباً وإحقاقاً وتواضعاً للحق، ولولا الحق لاختل النظام وكان الفطور والخلل وعدم الانسجام في منظومة الخليقة، وأما في مقام توطين النفس على الإذعان بأمر الحق امتثالا للتشريع وصدورا عن الأمر التشريعي فهذا هو موطن الإرادة والاختيار.
(4) النبأ: 40.
(5) البحار، ج27، ص251.
(6) القصص: 56.
(7) الحاقة: 44-45.
(8) الأحزاب: 72.
(9) الأعراف: 143.
(10) الكافي، ج2، ص86.
(11) الكافي، ج1، ص16.
0 التعليق
ارسال التعليق