الحداثة الدينية... نظرة من الداخل

الحداثة الدينية... نظرة من الداخل

مقدمة

اقتحمتْ موجةٌ من الأفكار المستوردة الساحةَ الثقافيةَ الإسلامية، تحت ذريعة التجديد والتنوير والتطوير، وهي أفكار وُلِدَت من رحم الثقافة الغربية، ورضعت من مناهجها وآلياتها، وترعرعت في أحضان حضارتها المزيفة، التي هي في أغلب مفرداتها وليدة نظريات بشرية هدفها إشباع غرائز المواطن الغربي، وهي ليست مبنيةً على أسسٍ سماويةٍ وعقائديةٍ ربانية. وقد جرفت تلك السيولُ من الأفكار منازلَ بعضِ العقول وهدمت متبنياتها ومبانيها، فأحالتها إلى كومة من الركام الفكري، بحيث أصبح إثمها أكبر من نفعها، حيث إن العلم الذي لا يستتبع الإيمان هو الحجاب الأكبر، وأن العلم الذي يجعل من بستان العقل والقلب والروح كالصحراء القاحلة هو في واقعه أشدُّ خطورة من الجهل.

وفي هذه الكلمات المتواضعة سوف أتناول بعض تلك الأفكار والأطروحات بالنقد -والذي أرجو له أن يكون علميا وموضوعيا- وسوف أبدأ بعون الله(سبحانه وتعالى) بالمنظومة الفكرية للحداثة من حيث المفهوم والآليات والأهداف والرجالات.

الحداثة.. نظرة تاريخية

الحداثة مذهب فكري غربي، يضرب بجذوره إلى ما يسمى بعصر التنوير الأوروبي، والذي بدأ يتبلور جلياً في القرن التاسع عشر الميلادي، وهي -أي الحداثة- إفراز نتج عن حالة التصادم وعدم الوئام بين الاكتشافات العلمية من جهة وبين مقررات الكنيسة من جهة أخرى، كما حصل بالنسبة لغاليليو الذي كتب كتابا في عقائد بطليموس، وبعدها دعاه البابا إلى روما وأبلغه أنَّ اعتقاده بدوران الأرض حول الشمس شرك، وأجبره بأن يجثو على ركبتيه وأن يطلب المغفرة، وقيل أنَّ غاليليو نفذ ما طلب منه البابا، ولكنَّه كتب بإصبعه على الأرض بعد خروجه: "رغم كل هذا، الأرض تدور حول الشمس".

وبعد توالي هذه الأحداث وتكررها، ظهر صراع بين تيارين، التيار الديني المتمثل في سطوة الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة، والتيار العلمي الحداثي، وعلى أثر هذا الصراع برز الدين والعلم على أنهما خصمان لدودان، ونقيضان لا يجتمعان.

ومن نافذة قوانين نيوتن الميكانيكية، نظر الحداثيون إلى أن الطبيعة هي لغز مقفل لا يفك إلا من خلال فهم القوانين الطبيعية، وبعد أن تعرفوا على بعض الظواهر الطبيعية من خلال تلك القوانين التي كان ينسبها المتدينون إلى القدرة الإلهية، انحسر الحسُّ الديني عند الحداثيين في تلك الفترة، حتى أن بعض علماء الطبيعة -من النصارى- قد بدأت قناعتهم تتغير وتؤول إلى عدم الحاجة إلى الرب، أو أن الرب قد أوكل أموره إلى تلك القوانين، وهذه هي بداية مرحلة التحول والعدول عن الإله في العصور الوسطى الأوروبية إلى الحداثة الملحدة التي تنكر وجود الإله من خلال نظرة بعض روَّادِها، فنشأت الحداثة في جوٍّ من العزلة عن الدين والتنكر له.

الحداثة.. نظرة معاصرة

الحداثة من حيث اللفظ ضاربة الجذور، ومتأصلة في التراث اللغوي، فالحديث هو نقيض القديم(1) أما من حيث المضمون، فهي من المفاهيم التي كثر الجدل فيها، فبعضٌ يراها كفتاة متبرجة سافرة أخفت قبح وجهها خلف مساحيق الزينة والتجميل، فجاءت إلى عاشق الثقافة والمعرفة، كمعشوقة جميلة، وغلقت أبواب المعرفة الأصيلة الناصعة ونوافذها، وقالت له هيت لك، فقال لها معاذ الله، وبعضٌ يراها كبصيص نور تألق في سماءٍ مظلمةٍ لم تر الشمس المشرقة فيها ولا القمر المنير ردحا من الزمن، فهي ما بين خسوف وكسوف، لا فرق بين ليلها ونهارها. وبين هاتين الرؤيتين تتأرجح بقية الرؤى.

فالحداثة في منظور الكثير من الحداثيين الماديين تعني سيادة العقل، وسيادة العقل من أهم الأسس لفلسفة التنوير، فعليه تكون العلمانية من أبرز ثمار الحداثة، وهي أيضاً تعني التعارض مع كل ما هو تقليدي وموروث، وهي تعني التغيير المستمر الذي يؤدي إلى أزمات داخل المجتمعات، فبالتالي تجدُ نفسَها مضطرةً إلى مراجعة القديم على أساس العقلانية، والعقلانية هي التي تؤدي إلى الحداثة وليس العكس، وهذا ما حدث تاريخيا في أوروبا، فالرؤية الحداثية تعتقد بأن الحقائق تستمد قيمتها من كونها نتاجا للعقل البشري المتغير، فتأتي حينئذ حرية الاختيار للقيم والأساليب، وأن اللغة هي قوة ضخمة من قوى الفكر المتخلف التراكمي، فلذا يجب أن تُستبدَلَ بلغةٍ حداثيةٍ، واللغة الحداثية تمثل اللغة النقيض لتلك اللغة الموروثة(2).

رموز الحداثة

للحداثة رموز ورجالات، وأبرز رموز الحداثة من الغربيين شارل بودلير، وهو أديب فرنسي، وأيضا الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير، ومالاراميه، وهو شاعر فرنسي، ويُعدُّ من رموز المذهب الرمزي، والأديب الروسي المعروف مايكوفوسكي، الذي نادى بنبذ الماضي برمته والاندفاع نحو المستقبل. ومن أبرز رموزها في البلاد العربية علي أحمد سعيد، وهو نصراني سوري، ويُعدُّ المروجَ الأول لمذهب الحداثة في البلاد العربية(3)، والمغربي محمد عابد الجابري، والجزائري الأصل الذي يعيش في فرنسا محمد أركون، والأخير يمثل الشخصية الأكثر بروزا في مذهب الحداثة عند أغلب رواد الحداثة من المثقفين العرب.

من هو أركون؟

ولد محمد أركون عام 1928 في الجزائر من أصل بربري، وهو مفكر علماني يقيم في باريس، أتمَّ دراساته الجامعية في جامعة السوربون في باريس، وفي عام 1968 عُيِّن كأستاذ لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في السوربون. ويطلق أركون على هذا الحقل المعرفي الذي يعمل فيه اسم الإسلاميات التطبيقية، ومراده من هذه التسمية هو دراسة الإسلام في مراحله التاريخية المختلفة من خلال تطبيق المنهج الغربي في العلوم الإنسانية الحديثة ومصطلحاته، وإسقاطهما -أي المنهج والمصطلحات- على الإسلام، أي أنه يستهدف نقد العقل الإسلامي وتفكيكه على وفق المنهجية المعرفية الغربية.

وينظر البعض لأركون وأطروحاته على أنها أفكار حداثية يراد منها صياغة إسلام جديد بمنهجيات ومصطلحات غربية، فأطلق ذلك البعض عليه مصطلح المشروع الأركوني، بينما ينظر البعض الآخر لهذا المشروع على أنه تهديد لمبادئ الإسلام ورؤيته الكونية -وهو الحق- حيث إن هذا المشروع، ليس فقط لا يلتقي مع تعاليم الإسلام، بل يتباين ويتعارض مع العديد من الثوابت الإسلامية.

ومن أهم الأفكار التي ينادي بها أركون هي العلمانية، وهو يزعم بأنها موجودة في النصوص القرآنية وفي تجربة المدينة المنورة، وأيضاً هو ينادي بالمنهج التفكيكي للنص الديني -أي تفريغه من المحتوى المقدس- والدعوة إلى قراءته بطريقة المعرفة الحديثة، والابتعاد عن التقديس اللاهوتي له، وهو ينفي وجود الإسلام الصحيح، ويقول بأن المذاهب المختلفة هي بعيدة عن الدين لأنها عبارة عن إفرازات نتجت عن إيديولوجية مغايرة للدين. وبإمكان الباحث أن يرجع إلى بعض كتبه حتى يلمس تلك الأفكار ومثيلاتها عن كثب(4).

وينظر أركون إلى النصِّ القرآني على أنه نصٌّ تشكَّل تاريخيا ضمن شروط معينة كغيره من النصوص التي يحفل بها الموروث الفكري للحضارة الإسلامية، وهو ما يعني نزع القداسة عنه باعتباره النص الإلهي الذي يمتلك الخصوصية، وذلك بإخضاعه للنقد التفكيكي والقراءة الحفرية عن طريق توظيف كل المناهج الممكنة من أجل فرض قراءة تاريخية(5)، ويقول في موضع آخر: ((ويمكنني أن أقول بأن المقدس الذي نعيـش عليــه أو معــه اليـوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام، ولا حتى بالمقدس الذي كان سائداً أيام النبي))(6)، ويقول أيضا في كتابه "تاريخية الفكر الإسلامي": ((ينبغي أولا إعادة كتابة قصة تشكُّلِ هذا النص (أي القرآن) بشكل جديد كلياً، أي نقد القصة الرسمية للتشكيل التي رسَّخها التراث المنقول نقداً جذرياً، هذا يتطلب منا الرجوع إلى كل الوثائق التاريخية التي أتيح لها أن تصلنا سواء كانت ذات أصل شيعي أم خارجي أم سني. هكذا نتجنب كلَّ حذفٍ تيولوجي لطرف ضد آخر، المهم عندئذ هو التأكد من صحة الوثائق المستخدمة. بعدها نواجه ليس مسألة إعادة قراءة هذه الوثائق فحسب، وإنما أيضاً محاولة البحث عن وثائق أخــرى ممكنة الوجـود كـوثائق البحـر الميت))(7).

ومن الملاحظ أن الحداثيين -ومن ضمنهم بعض المثقفين العرب- ينتقدون الثقافة الإسلامية بغير لغتها ومنهجيتها واصطلاحاتها، وهم بعيدون عن فقه اللغة وعلم البيان الذي يحدد مدلولات الألفاظ، وأيضا علم أصول الفقه، وهم يجهلون نتاج علماء الإسلام في أغلب المواضيع التي يخوضون فيها، بقدر علمهم ومعرفتهم بنتاج علماء الغرب، ويجعلون من الحداثة الغربية المرجع والأم من حيث المنهج والمصطلحات في نقدهم للمعارف الإسلامية، وأيضا نراهم -وعلى رأسهم أركون- يصورون علماء الإسلام والمراجع العظام على أنهم لا يفهمون من الدين شيئا، ويركزون على إسقاط مكانتهم وموقعهم العلمي والمعنوي، حتى تتبلور مقولة (إسلام بلا علماء)، والتي هي مساوقة لمقولة (مستشفى بلا أطباء)، فها هو أركون يطرح نقده الحاد والصارم للفكر الديني والتراث الإسلامي بالطريقة السجالية المعهودة في الغرب(8)، فهو يريد أن يستنسخ ما حصل في أوروبا، لتبرير عقدة اللاهوية واللاإنتماء التي يعيشها هو وأضرابه، فلهذا نراهم يرسخون حالة التصادم بين الدين والعلم، وأن التيار الديني هو العائق الأكبر في طريق الاكتشافات العلمية والمعرفية، كما حصل في أوروبا، ولم يلتفتوا -بقصد أو دون قصد- أن المسيحية المحرَّفة والمشوَّهة التابعة لمصالح أرباب الكنيسة هي ليست كالإسلام الأصيل الذي يؤخذ من مداركه المقررة من قبل علماء مختصين وأمناء، والإنجيل المحرَّف ليس كالقرآن الكريم، والحوزة ليست كالكنيسة التي فرضت الإرهاب الفكري، ونائب الإمام (الفقيه) ليس كالبابا في العصور المظلمة، فليس هناك حالة تصادم بين الدين والعلم، كما حصل في أوروبا، بل هناك حالة من الوئام والتناغم بينهما.

العلمانية الملحدة

والعلمانية التي يطرحها أركون هي في حقيقتها مذهب يعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها، كل ذلك بمعزل عن أوامر الدين ونواهيه، وقد بدأت في أوروبا وصار لها وجود سياسي مع ميلاد الثورة الفرنسية عام 1789م، وقد عمَّت أوروبا في القرن التاسع عشر الميلادي -أي أنَّ مهد ومنشأ العلمانية هو أوروبا- وأصل العلمانية كلمة إنجليزية هي ((secularism)) وتعني اللادينية واللاغيبيَّة واللامقدَّس والدنيوية، بمعنى أن الأخلاق والقيم والسياسة والاجتماع والقانون وغيرها، يجب أن لا تكون مبنية على أسس وثوابت دينية، ونجد أن دائرة المعارف البريطانية حينما تتحدث عن العلمانية تقول: ((هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحيـاة الدنيا وحدها. ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر. ومـن أجـل مـقاومة هـذه الرغـبة طـفقت الـ((Secularism)) تعرض نفسها من خلال تنمية النـزعة الإنسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية البشرية، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة. وظل الاتجاه إلى الـ ((Secularism)) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية))(9).

وحاول البعض التدليس والتلاعب في مفهوم العلمانية ومدلولها، بحيث نسج لها هالة علمية، لكي تحظى بمقبولية أكثر في الأوساط والمجتمعات، وقال بأن المراد من العلمانية هو الحرص على العلم التجريبي والاهتمام به، ولكن حينما نرجع إلى البيئة التي نشأت وترعرعت فيها هذه الكلمة يتبين لنا عدم صحة هذا الزعم، إذن العلمانية ترمي إلى عزل الدين عن الدولة والحكم، وعزله أيضا عن الناس، وجعله حبيسا في ضمير الفرد، بحيث لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه، كطقوس روتينية فارغة من المحتوى، أي أن العلمانية تترك للناس حرية التدين بالمعنى الفردي الإعتقادي، ولا تريد لهذا التدين أن يتبلور ويترجم في الأمور الحياتية.

ويُعرِّف البعضُ العلمانيةَ بأنها نزعة استقلالية بشرية بنيت على الانسلاخ عن سيطرة المفاهيم الدينية المتسلطة على الإنسان، هذا الانسلاخ الذي جاء كردة فعل للفكر الكَنَسَي الذي اضطهد العلماء وأهل العلم والرأي المخالف، وربما يكون للعلمانية في المجتمع الأوروبي ما يبررها، وذلك نظراً لطبيعة الديانة النصرانية ومبادئها الأساسية التي تقوم على الفصل بين الدين والدنيا (دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر)، إضافة للصراع الذي نشأ بين الكنيسة من جهة والاكتشافات العلمية وأصحابها من جهة أخرى.

وأول من طرح هذا المصطلح في الساحة الثقافية العربية هو إلياس بقطور، وهو نصراني من لبنان. ومن أشهر دعاة العلمانية في العالم العربي والإسلامي: طه حسين وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد ومصطفى كمال أتاتورك وغيرهم.

والعلماني قد يؤمن بوجود إله، لكنه يعتقد بعدم وجود علاقة بين الدين وبين حياة الإنسان، ويعتبر القيم الروحية والأخلاقية التي تنادي بها الأديان، هي قيم سلبية نسبية يجب أن تتطور أو تلغى، ويطالب العلماني بعدم تدخل الدين في الأمور السياسية، وأنه يجب تطبيق الشرائع والأنظمة الوضعية، كالقانون الفرنسي في الحكم، وأن الدين للعبادة الفردية فقط، ولا يمتُّ بصلةٍ في شؤون الحياة وتنظيمها، ويطالب أيضا بأن يكون العقل البشري صاحب القرار وليس الدين، ويعتبر بعض العلمانيين أن مجرد ذكر اسم الله(سبحانه وتعالى) في البحث العلمي يعتبر إفسادا للروح العلمية، ومبررا لإسقاط النتائج العلمية، واعتبارها ليست ذات قيمة علمية.

هي إذن دعوة لإقامة الحياة على ضوء العلم الوضعي والعقل، ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين، أما نظرة الإسلام للعلمانية على وفق المفهوم المتقدم فواضحة، ألا وهي الرفض وعدم القبول.

المنهج التفكيكي

أما المنهج التفكيكي ((deconstruction)) الذي انتهجه أركون، فهو يعرف في العربية بالتفكيك أو التقويض أو التدمير، وهو مصطلح فرنسي الأصل، والتقويض أو التهديم، هو ما يسعى إليه هذا المنهج في قراءة النص -حسب تعريف واحدة من ممارسيه المعروفين- وهي الناقدة الأميركية باربرا جونسن، فهي تنفي أولا أن يكون معنى العبارة هو التخريب النصي المتعمد أو التدمير -ربما لما في ذلك من دلالة عدوانية- ولكنَّها تعود لتقبل دلالة التدمير على أساس أن ثمة ما يمكن أن تدمره هذه القراءة، وهو ليس النص، وإنما دعوى أن نمطا دلاليا واحدا يهيمن هيمنة لا لبس فيها على حساب نمط آخر، أي أن المراد من التفكيك بحسب وجهة نظرها هو تفكيك النص من أجل إعادة البناء، أو تفكيكه بغرض تقويض الميتافيزيقية والكشف عن تناقضاته -كما يعبر بعض رواد الحداثة-.

ومن هنا تأتي أهمية الوقوف على ثقافة المصطلح، حيث إن مدلول المصطلح عندهم، ربما يختلف عن مدلوله عندنا، وأيضا لا بد من الوقوف على مسألة الثابت والمتغير، فليس ككل نص يخضع لممارسة منهج التفكيك.

إن الحداثة وغيرها من المنظومات الفكرية الغربية التي انبثقت في القرون الوسطى، إنما كانت وليدة الصراع الذي نشأ بين التيار الديني الكنسي، والتيار العلمي، فتبلورت على إثر ذلك فكرة أن الدين لا يلتقي مع العلم، بعبارة أخرى، إن قرارات الكنيسة التعسفية وإرهابها الفكري هما السبب في تقهقر الاكتشافات العلمية، وبالفعل فقد مارست الكنيسة الإرهاب والسجن وحتى الإعدام، كما حصل للعالم سرفيتوس في عام 1533م، وجورداتلو برونو في عام1600 م، مما رسخ في النفوس أن الدين -الذي تمثله الكنيسة آنذاك- لا يلتقي مع العلم والاكتشافات العلمية.

هذا بالنسبة للديانة المسيحية المحرفة وأرباب الكنائس. ولكن -بمقتضى الإنصاف والموضوعية- لا يمكننا تعميم هذه الحالة وإسقاطها على الدين الإسلامي وعلمائه، فالإسلام حثَّ على تحصيل العلم إلى حد بعيد، ولم تقع معارضة بين الدين والعلم الحقيقي في الدين الإسلامي، كما حصل ذلك بين الكنيسة والعلماء الكونيين في القرون الوسطى، والتي أدَّتْ إلى الشنق والنفي والسجن، فالإسلام لا يتعارض مع العلم الصحيح القائم على الأسس العلمية السليمة، وهو في الوقت ذاته يندد بالتخرُّصات والظنون الباطلة التي تسمى عند روادها بالعلم(10).

هناك بعضٌ آخر ينظر للحداثة على أنها حركة فكرية، صبيانية المضمون، وعبثية في شكلها الفني، وتمثل نزعة الشر والفساد في عداء مستمر للماضي والقديم، وهي إفراز طبيعي لعزل الدين عن الدولة في المجتمع الأوروبي، ولظهور الشك والقلق في حياة الناس، مما جعل للمخدرات والجنس دورهما الكبير. وبعضٌ يرى بأنها لذة التجديد الدائم، انطلاقا من حالة التمرد على الماضي والقديم، على ضوء المنهج الغربي والأدوات الغربية.

ومن جميل ما يذكر في هذا المقام نظرة سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي في كتابه القيم [الجسور الثلاثة] في إشارة للبيت والمدرسة والمسجد، كقنوات من خلالها نصل إلى القيم السماوية والربانية. يُعرِّف الكاتبُ الوراثةَ الحضارية على أنها (انتقال القيم والأفكار والرؤى والأعراف والأخلاق من جيل إلى جيل)، ومن الواضح أنَّ لهذه الوراثة قوانين وأسس تسير عليها، مثلها مثل الوراثة في الإنسان والحيوان والنبات، بعدها يتعرض إلى ثنائية الحداثة والقديم، أو الاتصال والانفصال، ويقول: (لقد حاول الاستكبار وعملاؤه، في العالم الإسلامي، من الحكام والمفكرين، أن يصوروا هذا الصراع على أنه صراع بين القدم والحداثة. لكن الحقيقة شي‏ء آخر، فلم يكن الصراع على القديم والجديد، وإنما كان الصراع على الانقطاع والاتصال، لقد كان الاستكبار العالمي يعمل لقطع هذه الأمة عن ماضيها وجذورها التاريخية، ولنسف الجسور التي تربط حاضر الأمة بماضيها، وكان المخلصون الواعون، من أبناء الأمة، يدركون عمق هذه المؤامرة ويحرصون على أن يبقى حاضرنا مرتبطا بماضينا وتراثنا وجذورنا في التاريخ، وكان هذا الصراع قائما في كل مكان، في المدرسة، وفي الجامعة، وفي الشارع، وفي الفن، وفي الأدب، وفي المصطلحات، وفي الأعراف، وفي اللغة، وفي الخط، وفي الشعر، وفي المعاشرة، وفي الأسرة، وفي طريقة التفكير، وفي لغة التخاطب، وفي أشياء كثيرة أخرى في حياتنا)(11)، ويُعبِّر الكاتبُ عن هذه الرغبة لنسف تلك الجسور الموصلة لتلك القيم والمبادئ، تحت ذريعة أسماء ومسميات براقة بأنها نوع من التخريب الحضاري.

ولا يخفى ما للمصطلح من أهمية كبرى في إيصال المضامين الفكرية والثقافية المختلفة، فالمصطلح هو اللفظ الذي يضعه أهل عرف أو اختصاص معيَّن ليدل على معنى معيَّن يتبادر إلى الذهن عند إطلاق ذلك اللفظ، وهو في حقيقته يمثل الوعاء الذي يحوي بين طياته المضمون العقائدي والحضاري، والمحتوى الفكري والثقافي، والبعد التاريخي المرتبط بالمنشأ والهدف.

ربما يقول البعضُ لأول وهلة (لا مشاحَّة في الألفاظ والمصطلحات)، ولكن قد يقال، بأن هذه المقولة ليست صحيحة على إطلاقها وعمومها، حيث إننا لا نستطيع أن نفصل المصطلح عن محتواه العقائدي والفكري والتاريخي وربما السياسي في كل الأحوال، نعم، ربما تكون تلك المقولة صحيحة في الموارد التي تكون فيها الألفاظ المتعددة ذات مضمون ومحتوى واحد، وهو ما يعبر عنه بالترادف، والذي هو عبارة عن اشتراك الألفاظ المتعددة في معنى واحد، من قبيل أسد، سبع، ليث، غضنفر، وغيرها من الألفاظ، فهذه الألفاظ ومثيلاتها لا تصحح المشاحات والمنازعة فيها، أما الألفاظ والمصطلحات التي ترتبط بخلفيات فكرية معينة وأبعاد تاريخية لها منشؤها وبيئتها وأهدافها، فيحق لنا أن نتأمل فيها ونقف عندها، فمن الممكن أن يأخذ المصطلح الواحد في حضارة واحدة أكثر من مدلول، وذلك بحسب اللحاظات المختلفة التي يلحظ المصطلح من خلالها، مثلا، مصطلح [السنة] في النطاق الإسلامي، عند اللغوي لها معنى، وعند عالم الحديث لها معنى آخر، وعند عالم الفرق والمذاهب لها معنى آخر أيضا، وهكذا الحال في مصطلحات أخرى.

فإذا كان هذا هو شأن المصطلح الواحد في حضارة واحدة، فكيف يكون الأمر مع تعدد الحضارات والخلفيات الثقافية والفكرية، وربما تباينها. على سبيل المثال، الدين في تعريف الحضارة الغربية هو رافد من روافد الثقافة البشرية العامة التي تعتمد على الغيب في تأكيد وظيفته القيمية بين الناس، وهو ملحق بالأساطير والخرافات، وفي أحسن الأحوال بالعادات والتقاليد، فهو لذلك قليل التأثير في حياة العنصر الغربي، بل أجنبي ومعزول عنها، أما في المنظور الإسلامي، فالدين هو الإطار المعرفي الحاكم للوجود الإنساني على الأرض بجميع خصائصه ومكوناته، ولجميع فعالياته ونشاطاته، فهو المصدر والأساس لتلك الفعاليات، على مستوى الأفراد والجماعات.

الحداثة الدينية والاجتهاد

هناك الكثير من المصطلحات التي تتباين في محتواها مع بعضها البعض، وفي واقعنا الثقافي المعاش أيضا تَطرُق أسماعَنا بين الفينة والأخرى مصطلحاتٌ تتباين في محتواها ومضمونها مع الأطر الدينية، إلا أنها تزيت بالزيِّ الديني، فأصبحت -أو يراد لها أن تصبح- البديل المستنسخ عن بعض المصطلحات الدينية التي تمتلك الصفاء والنقاء والوضوح، ومن بين تلك المصطلحات، ألا وهو مصطلح ((الحداثة الدينية))، الذي يراد له -عند البعض- أن يكون بديلا عن مصطلح الاجتهاد في عرف الفقهاء، والذي هو عبارة عن استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقررة بشروط معينة.

الحداثة الدينية -بحسب كلمات بعض روادها- هي عبارة عن عملية إعادة صياغة الرؤية الموروثة لتنتج رؤية حداثية، وهي فتح إمكانات الشيء على كل الوجوه، وجعل الأمر جديدا المرة تلو المرة، وتأتي حتمية الحداثة الدينية في منظورهم، وذلك للحد من عملقة الدين والقيم. وقد ظلت الحداثة الدينية في الكثير من الأحيان تستجدي وتتوسل بالخلفيات الأصلية للحداثة الغربية، بحيث وقعت أسيرة التبعية الغربية في كل مكوناته لتلك المنظومة، وحينئذ أصبحت الحداثة الدينية في الإطار الثقافي حداثة مشوهة، تتركب من نصفين غير متجانسين، النصف الأول هو مقولات الحداثة الغربية بكل تجلياتها، والنصف الآخر هو المقولات التجديدية -غير المنضبطة- التي تطرح في الساحة الثقافية الإسلامية المعاصرة على ضوء ما يسمى بعلم الكلام الجديد.

فالحداثة الدينية على ضوء هذه الرؤية، هي حداثة تلفيقية لا تمتلك الرؤية النظرية العلمية الواضحة والمنسجمة على مستوى المنهج والأدوات، ويعاني روادها من أزمة الانبهار بالنتاج الغربي، وإن كان في دائرة اللاشعور، وبالنسبة لمقومات الحداثة الدينية فهي رفض الأطر الإيديولوجية، والتفكيك الدائم، وهوَس التجديد، ورفض اليقينيات والمسلمات والثوابت، أو محاولة القفز عليها بكلمات ضبابية عائمة، كل ذلك من شأنه أن يؤدي إلى حالة التناقض في النتائج، حيث أنَّ الكثير من تلك المقومات يصطدم مع الكثير من الثوابت الفكرية في المنظور الإسلامي.

إن (أسلمة) بعض المصطلحات -إن صح التعبير- وصبغها بصبغة إسلامية، ليس كفيلا بأن ينزع الخلفيات الفكرية المسبقة عن ذات المصطلح ومكوناته، مثلا، البعض ينادي بالديمقراطية الإسلامية، ويحاول إيجاد حالة من التناغم والوئام بين الديمقراطية والإسلام على مستوى المضمون والمحتوى، على الرغم من التباين بين الأطروحتين من حيث المضمون الفكري والامتداد التاريخي، نعم هناك من يتوسل بتلك الأسماء والمسميات كوسيلة لا ترتبط بالمضمون، بل باعتبارها أساليب ممكنة وأقل سوءاً.

ورواد النمط الأول -جلهم إن لم نقل كلهم- ليسوا من أهل التخصص في الشؤون الإسلامية، فلذا كثيراً ما نرى حالة التخبط في نتاجاتهم الفكرية ذات الطابع الإسلامي العميق، ربما لأنَّ أغلبَ أصحابها يعيشون الخلل في فهم وتفسير مقولة "باب الاجتهاد مفتوح"، حيث أنهم يرون أن هذا الباب مفتوح على مصراعيه، لكل من هبَّ ودب، بمعنى أن وظيفة كل إنسان أن يكون مجتهدا في الدين، من دون ضوابط أو شروط، فإن أخطأ فله أجر واحد، وإن أصاب فله أجران، وقد غفلوا عن حقيقة الاجتهاد في تلك المقولة، حيث إن الاجتهاد ينقسم إلى قسمين:

الأول: الاجتهاد العام، وهو منهج عام لإعمال النظر وتفعيل القوة العاقلة، وقد عرَّف اللهُ العقلَ بهذا.

الثاني: الاجتهاد الخاص، وهو الذي يصدق على شريحة من المجتهدين (الفقهاء) المتخصصين في الشأن الفقهي وأصوله، والشريعة بشكل عام، لتنظيم سلوكيات الإنسان الدينية والعبادية.

وعلى هذا الأساس نرى الشارعَ حريصاً كلَّ الحرص على هذا الجانب، بحيث لا يرضى بالخوض في أمور الدين من دون معرفة، ولا يرضى بالتساهل في ذلك، علما بأن الطبيب والمهندس والأستاذ وحتى-طالب العلم- وغيرهم، ممن لم يصل إلى مرتبة الفقاهة، يعتبرون من العوام بالمعنى الاصطلاحي الفقهي، كما أن الفقيه بالمعنى الاصطلاحي أيضا يعتبر من العوام في غير تخصصه، وهذا التقسيم لا يقدح في شخصية الدكتور أو المهندس أو الأستاذ أو غيرهم من مختلف التخصصات، فهم محترمون في تخصصاتهم، أما إذا تجاوز هؤلاء المحترمون في تخصصهم محيط دائرة تخصصاتهم، فحينها يستحقون المذمة والملامة من قبل العقلاء، فكما أن الطبيب والجراح المتخصص لا يقبل من الفقيه والمجتهد (بالمعنى الخاص) وغير المتخصص في ذلك الفن، أن يزاحمه في غرفة العمليات، أيضا من الجدير لذلك المختص في الجراحة أن لا يزاحم الفقيه في تخصصه، واحترام تخصص الآخرين مبدأ يقرُّهُ العقلاء.

ومصطلح ((الحداثة الدينية)) الذي ينادي به أربابُه وروادُه، هو على مستوى المحتوى والمضمون والآليات يتباين مع المحتوى الإسلامي -إن كان ذلك المصطلح يمثل حالة الامتداد الفكري والثقافي والتاريخي للحداثة الغربية-، أما إذا كان المقصود من مصطلح الحداثة الدينية هو المعنى اللغوي، أي التجديد- على فرض تجريد هذا المصطلح من خلفياته الثقافية الغربية- فإما أن يكون هذا التجديد وبذل الجهد على ضوء منهج وآليات أقرَّها أهلُ الاختصاص [أي الفقهاء]، فيكون هذا المصطلح بمعنى (الاجتهاد الخاص)، فحينها نقول [لا مشاحَّة في الألفاظ والمصطلحات]، وإما إن يكون هذا التجديد وبذل الجهد على ضوء منهجٍ وآلياتٍ ورجالات يرفضها أهل الاختصاص [أي الفقهاء]، فهو -أي التجديد- إما أن يرجع إلى المضمون والمحتوى والآليات الغربية -وقد تقدم الحديث عنه- وإما أن يكون على ضوء منهج تلفيقي أو اختراعي أو ابتداعي، ولكنه في النتيجة يلتقي مع المنهج الغربي من حيث الابتعاد عن المنهج الصحيح والأدوات الصحيحة، فيؤول حكمه كسابقه.

ختاماً: يحق لنا أن نتساءل: لماذا الإصرار على مصطلح (الحداثة الدينية)؟ وما هو مبرراته؟

مع الالتفات إلى أن ذلك المصطلح يسبح في بحر متلاطم لا شطآن فيه، حيث أن المصطلح في بعض الأحيان يقوم بعملية تمييع المحتوى الحقيقي للفكرة وصرفها عن مدلولها.

والحمد لله رب العالمين.

 

 * الهوامش:

(1) الكافي: ج1 ص35.

(2) الكافي: ج1 ص35.

(3) الكافي: ج1 ص35.

(4) الكافي: ج1 ص35.

(5) الكافي: ج1 ص35.

(6) الكافي: ج1 ص35.

(7) الكافي: ج1 ص35.

(8) الكافي: ج1 ص35.

(9) الكافي: ج1 ص35.

(10) الكافي: ج1 ص35.

(11) الكافي: ج1 ص35.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا