قال الله تبار وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا))(1).
التوبة في اللغة:
عرّف الراغب الأصفهاني في كتابه (المفردات في غريب القرآن) التوبة بأنها: ترك الذنب على أجمل الوجوه. وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لم أفعل أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت، وأسأت، وقد أقلعت. لا رابع لذلك. وهذا الأخير هو التوبة.
والتوبة في الشرع :
ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة. فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة إلى الله.
يقال لباذل التوبة، ولقابل التوبة بالتائب، فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده. والعبد الكثير التوبة يسمى بالتوّاب ـ وذلك بأن يترك في كل وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركاً لجميعها. ويوصف الله تعالى بالتواّب لكثرة قبوله توبة العباد حالا بعد حال(2).
بوابة الرحمة:
ولا يخفى على ذوي البصائر أن التوبة هي شعبة من الفضل الإلهي العظيم، وباب من أبواب رحمة الرب الرحيم التي فتحها لعباده. ولو كان الباب مغلقاً لم يكن لأحد فلاح لأن طبيعة البشر مجبولة على الخطأ والمعصية والاشتباه بنحو لا ينجو واحد من البشر من الابتلاء بأنواع الآثام في أعمال جوارحه وجوانحه إلاّ من عصم الله.
وبناءاً على ذلك فقد جعل الله ـ الحكيم الرحيم ـ التوبة دواء للآلام المعنوية، وعلاجاً للأمراض القلبية، ومطهراً للأوساخ، ليطهر الإنسان بعد الابتلاء بالذنب ببركة التوبة ويكون من أهل النجاة. فالسعيد من عرف أهمية هذا الباب واستفاد منه وشكر هذه النعمة الإلهية، والشقي من كان باب الرحمة هذا حجة عليه، فهو يقف يوم القيامة عند الحساب والسؤال عن أعماله فكلما أراد أن يعتذر قائلاً: الهي كنت جاهلاً لا علم لي، كنت أسير الشهوة والغضب، غلبني هواي، وعجزت عن مقاومة وساوس الشيطان، يقال له في رد كل الأعذار: ألم أفتح لك باب التوبة؟ هل كَلَّفْتُكَ بما لا تطيق؟ هل أخذتك بشدة؟ هل وضعت للتوبة شرائط صعبة وخارج قدرتك؟
كيف أتوب؟
فإذا كنّا نريد أن نتوب، فإن كان ما فرطنا فيه من حقوق الله مثل ما لو تركنا الصلاة والصوم والزكاة والحج فيجب علينا قضاؤها، وإن كان من حقوق الناس، فإن كان حقاً مالياً أعدناه لصاحبه إن كان حيا، وللورثة إن كان ميتا، وإن كنا لا نعرف صاحبه، ففي هذه الحالة نرجع إلى الحاكم الشرعي، لأنها تعد من المظالم، وإن كان الحق عَرضاً وجب عليه تحصيل رضا الطرف الآخر، وإن كان الحق قصاصاً سلَّم نفسه، فأما أن يقتص منه أو تؤخذ الدية منه أو يعفو عنه صاحب الحق، وإن كان الحق حداً كالقذف وجب عليه أن يسلّم نفسه، ليقام عليه الحد أو يعفو عنه صاحب الحق، أما الذنوب التي فرضَ فيها الحدَّ مثل الزنا، فإنه لا يجب عليه أن يقرَّ على نفسه أمام الحاكم الشرعي ليجري عليه الحد، وإنما يكفي منه الندم على الذنب، والعزم على تركه في المستقبل، والاستغفار منه، حاله في ذلك حال الكبائر التي لم يثبت فيها حد شرعي كاستماع الغناء والموسيقي، وظاهر الآيات والروايات أنه يجب بعد الندم الاستغفار، وهو أن يطلب العفو والمغفرة من الله.
روي أن قائلاً عند أمير المؤمنين قال: استغفر الله.
فقال له(ع) : ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟
إن الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، الثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً، الثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة، الرابع: أن تعمد الى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد باللحم، وينشأ بينهما لحم جديد، السادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية(3).
روايات في التوبة
ثم أن هناك روايات كثيرة ذكرت في التوبة مثلاً:
عن أمير المؤمنين(ع) (التوبة تطهّر القلوب، وتغسل الذنوب)(4). وعنه أيضاً (حسن التوبة يمحو الحوبة)(5).
وعن الإمام الرضا(ع) (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)(6).
وأيضاً جاء في تفسير الصافي ـ سورة آل عمران ـ أن معاذ بن جبل دخل على رسول الله (ص) باكياً، فسلّم فردّ عليه، ثم قال: ما يبكيك يا معاذ فقال: يا رسول الله إن بالباب شاباً طري الجسد، نقي اللون، حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك، فقال النبي (ص): أدخل علىَّ الشاب يا معاذ، فأدخله عليه فسلّم عليه فَرَدَّ (ص) السلام ثم قال: ما يبكيك يا شاب؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً إن أخذني الله عزّ وجل ببعضها أدخلني النار ولا أراني إلا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً!!
فقال رسول الله (ص): هل أشركت بالله شيئاً؟
قال: أعوذ بالله أن أشرك بربي شيئاً!
قال: أقتلت النفس التي حرَّم الله؟
قال: لا.
فقال النبي (ص): يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي.
قال الشاب: فإنها أعظم من الجبال الرواسي.
فقال النبي (ص): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق.
قال: فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق.
فقال النبي(ص): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي.
قال: فأنها أعظم من ذلك.
قال: فنظر النبي(ص) كهيئة الغضبان ثم قال: ويحك يا شاب، ذنوبك أعظم أم ربك؟ فخرَّ الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان الله ربّي، ماشئ أعظم من ربي، ربي أعظم يا نبي الله من كل عظيم،
فقال النبي(ص): فهل يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم؟
قال الشاب: لا والله يا رسول الله، ثم سكت الشاب فقال النبي(ص) ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟
قال بلى أخبرك، أني كنت أنبش القبور سبع سنين أخرج الأموات وأنز الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلما حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنَّ عليهم الليل أتيت قبرها فنبشته ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها، وتركتها متجردة على شفير قبرها ومضيت منصرفاً.
فأتاني الشيطان فأقبل يزيَّنها إليَّ ويقول: أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويل لك من ديان يوم الدين، يوم يوقفني وإياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى ونزعتني من حفرتي، وسلبتني أكفاني وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النار..
فما أظن أني أشم ريح الجنة أبداً، ماتَرَى لي يا رسول الله؟
فقال النبي(ص) تنَّح عني يا فاسق، إني أخاف أن أحترق بنارك فما أقربك من النار، ثم لم يزل(ص) يقول ويشير إليه حتى أمعن من بين يديه، فذهب فأتى المدينة فتزود منها ثم أتى بعض جبالها فتعبد فيها ولبس مسحاً وغلَّ يديه جميعاً إلى عنقه ونادى: يا رب هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول، يا رب أنت الذي تعرفني، وصَدَر مني ما تعلم سيدي، يا رب إني أصبحت من النادمين، وأتيت نبيك تائباً فطردني وزادني خوفاً فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيبّ رجائي، سيدي، لا تبطل دعائي ولا تؤيسني من رحمتك، فلم يزل يقول ذلك أربعين يوماً وليلة تبكي له السباع والوحوش.
فلما تمَّت له أربعون يوماً وليلة رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم ما فعلت في حاجتي؟ إن كنت استجبت دعائي، وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيك، وأن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي فعجِّل بنار تحرقني أو عقوبة في الدنيا تهلكني، وخلّصني من فضيحة يوم القيامة.
فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه(ص) (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله)(7) يقول عزّ وجل: أتاك عبدي يا محّمد تائباً فطردته فأين يذهب، وإلى من يقصد ومن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري، ثم قال عزّ وجل (ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعملون، أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونِعَم أجر العالمين)(8) فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) خرج وهو يتلوها ويتبسم فقال لأصحابه: من يدلني على ذلك الشاب التائب.
فقال معاذ: يا رسول الله بلغنا أنه في موضع كذا وكذا فمضى رسول الله (ص) بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل فصعدوا إليه يطلبون الشاب فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه، وقد اسودَّ وجهه وتساقطت أشفار عينه من البكاء وهو يقول: سيدي قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا تريد بي، أفي النار تحرقني أو في جوارك تسكنني، اللهم انك قد أكثرت الإحسان إلى وأنعمت عليَّ، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري إلى الجنة تزفنّي أم إلى النار تسوقني؟ اللهم إن خطيئتي أعظم من السماوات والأرض، ومن كرسيك الواسع وعرشك العظيم، فليت شعري تغفر خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة؟
فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثوا التراب على رأسه، وقد أحاطت به السباع، وصفَّت فوقه الطير وهم يبكون لبكائه، فدنا رسول الله(ص) فأطلق يديه من عنقه ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بهلول أبشر فأنك عتيق النار.
ثم قال لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول، ثم تلا عليه ما أنزل الله عزّوجل فيه وبشَّره بالجنة(9).
* الهوامش:
(1) سورة التحريم: الآية 8.
(2) الراغب الأصفهاني (المفردات في غريب القرآن).
(3) الذنوب الكبيرة الجزء الثاني القسم الأول ـ التوبة.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.
(6) المصدر السابق.
(7) آل عمران، الآية 135
(8) آل عمران، الآية 136.
(9) القصة: تفسير الصافي ـ سورة آل عمران.
0 التعليق
ارسال التعليق