القارئ للعنوان للوهلة الأولى يتصور أن هذا الموضوع بعيد عن الواقع الذي نعيشه، بينما لو دقق قليلاً وتأمل ولو للحظات لتبين له خلاف ما يتصور، لأننا نعيش التقية في كثير من جوانب حياتنا، في الجانب العقيدي، والفقهي، والسياسي، والاجتماعي..الخ من جوانب الحياة.
ومع العلم بأن هذا المصطلح - التقية - هو مصطلح قرآني أشارت إليه بعض الآيات من القرآن الكريم، وتجد الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) غنية بهذا المصطلح القرآني، تفسر معناه وتبين ضرورته، وذلك بسبب ظروف القهر التي عاشها أهل البيت (ع) وأتباعهم، لذلك اخترت هذا العنوان، وهذا الموضوع لتتضح لنا بعض معالمه.
التقية لغة:
(الوقاية، حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، ويقال وقيت الشيء أقيته وقاية ووقاء..)(1).
التقية في الاصطلاح:
هي التلفظ أو العمل بما لا تؤمن به للحفاظ على النفس، أو على الخط، أو على المذهب الذي تنتمي إليه.
وقد عرف الشيخ المفيد التقية بقوله: (التقية: كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا، وفرض ذلك إذا علم بالضرورة، أو قوي في الظن، فمتى لم يعلم ضرراً بإظهار الحق ولا قوي في الظن ذلك، لم يجب فرض التقية)(2).
أولا: مشروعية التقية بالدليل القرآني:
تحدث القرآن الكريم عن التقية بقوله: {لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوْنِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفَسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ}(3)، وقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}(4)، وقوله مادحاً لموقف مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}(5).
لقد نصت هذه الآيات على التقية وبينت معناها، وذلك لأن الإيمان ثلاثة أركان:
1- اعتقاد بالقلب
2- تلفظ باللسان
3- عمل بالجوارح(6)
وحيث أن الشريعة الإسلامية هي شريعة متكاملة فهي تحدد الموقف للمكلف في حالته الطبيعية، وتحدد له أيضاً الموقف في الحالات الاستثنائية.
فتكلمت الآية عن الموقف في الوضع الطبيعي، وهو عدم اتخاذ الكافرين أولياء من قبل المؤمنين، وتكلمت عن الموقف في حالة الاستثناء، وهو أن هناك رخصة من قِبَلِ الشارع للمؤمن في الركنين الثاني والثالث بالنسبة للإيمان، ألا وهما التلفظ باللسان، والعمل بالجوارح، ولم تتنازل الشريعة عن الركن الأساس وهو الاعتقاد القلبي، وهذا الركن بطبعه خفي لا يظهر للآخر الكافر، أو الآخر الظالم الذي يمارس البطش والقتل والتنكيل تجاه الإنسان المؤمن وقد توقفت الرخصة على الحرج الشديد أو الموت، وقد وسعها بعض العلماء ومنهم الإمام الخميني(قده) حيث أجازوها مداراةً بشرط أن لا يهدم الدين ولا يضعف.
وقد تكلمت الآية الثانية عن حادثة حصلت في زمن النبي (ص) عندما تعرض عمار بن ياسر وبعض الصحابة إلى التعذيب والأذى اضطر إلى الاستجابة لأعداء الله والنطق بما أرادوا من الثناء على آلهتهم، وذكر الرسو (ص) بالسوء، فجاء وذكر ما حدث له للرسول (ص) فأقره الرسول (ص) على فعله وقال له: فإن عادوا فعد.
ثانيا : مشروعية التقية بالدليل الروائي:
لقد تحدث الرسول الأكرم (ص) عن التقية، وأقرها للمكره والمضطر بشكل واضح وصريح كما في حادثة عمار بن ياسر، وكما في حديث الرفع المشهور بين المسلمين جميعا، فقد روي عن الرسول (ص) قوله: (رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة)(7).
وقد روي عن الإمام الباقر (ع): (التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به)(8).
وقد روي عن الإمام الصادق (ع): (المؤمن مجاهد، لأنه يجاهد أعداء الله عز وجل في دولة الباطل بالتقية، وفي دولة الحق بالسيف)(9).
ما هي أقسام التقية؟
تنقسم التقية إلى قسمين:
التقية على أساس الخوف:
وينقسم هذا القسم إلى ثلاثة أقسام:
1- خوف الضرر على النفس، أو الجاه والمال.
2- خوف الضرر على المؤمنين.
3- خوف الضرر على كيان الإسلام.
التقية على أساس المداراة (10):
يتضح من هذا التصنيف أن الهدف من التقية ليس دائماً حفظ النفس والمال والجاه، والأمن من الضرر والخطر، بل يمكن اعتبار الهدف الأهم منها هو حفظ المذهب والحيلولة دون انهياره، وهذا ما تناوله الإمام الخميني(قده) بقوله: (يظهر في كثير من الروايات أن التقية التي بالغ الأئمة (ع) في شأنها هي هذه التقية، فنفس إخفاء الحق في دولة الباطل واجب، وتكون المصلحة فيه جهات سياسية دينية، ولو لا التقية لآل المذهب إلى الزوال والانقراض)(11).
وقد يكون الهدف من التقية أحياناً حفظ وحدة المسلمين وتأليف قلوبهم، وقلع جذور الحقد والبغض والعداء. بالطبع إنما يحصل هذا الهدف حين لا يكون التعبير عن الفكر والعقيدة والدفاع عنه أكثر أهمية.
ما هو حكم التقية؟
يتغير الحكم ويختلف باختلاف الظروف، حيث أن هناك ثلاثة أحكام للتقية، وكل حكم يختلف باختلاف الظرف. فمثال على ذلك:
الرخصة:
قضية عمار بن ياسر التي سبق وذكرناها حيث قال الله تعالى في كتابه عن هذه الحادثة: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}(12).
روي أن(مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من المسلمين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله (ص)، فقال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضاً، فخلاه، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله (ص)، فقال: فما تقول فيَّ؟ فقال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه الأول فقتله، فبلغ ذلك رسول الله (ص) فقال: أمَّا الأول فقد أخذ برخصة الله، وأمَّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له)(13).
سئل الإمام الصادق (ع) (عن رجلين من أهل الكوفة أخذا، فقيل لهما: ابرءا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فبرأ واحد وأبى الآخر فخلي سبيل الذي برئ وقتل الآخر. قال (ع): أمَّا الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأمَّا الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة).
التكليف:
تكون التقية تكليفاً؛ أي واجباً إذا كان في عدم الأخذ بها ضرر على المذهب؛ أي إذا كان موقف التحدي يؤدي إلى إبادة الخط والفكر والمنهج الذي تنتمي إليه بحيث ينعكس الموقف الشخصي على الجماعة والخط بأكمله، فهنا يجب على المكلف أن يأخذ بالتقية للأخذ بالمصلحة الإسلامية العليا، كما حدث ذلك في العصر العباسي الذي كان يعمل على اضطهاد أهل البيت (ع) وأتباعهم بالشكل بحيث أنهم إذا عرفوا انتماء أحد الأشخاص إلى مذهب أهل البيت(ع) قتلوه وقتلوا كل من له صلة به، فكان موقف أئمة أهل البيت (ع) لحفظ التشيع يوصون بالتقية، ويؤكدون عليها لدرجة أن الإمام الباقر (ع) قال: (التقية من ديني ودين آبائي)، وقال الإمام الصادق (ع): (إن التقية ترس المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له)(14).
وذلك لحفظ الخط الإسلامي الأصيل المتمثل في خط أهل البيت (ع).
وقد يكون حكم التقية عدم الجواز أو الحرمة، وذلك حين يكون في اتخاذ موقف التقية إضرار بالدين أو المذهب، أو أدَّى ذلك إلى سفك الدم كما يظهر ذلك في قول الإمام الصادق (ع): (إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت الدم فلا تقية)(15).
وكما قال الإمام الخميني (قده):
(منها بعض المحرمات والواجبات التي في نظر الشارع والمتشرعة في غاية الأهمية مثل هدم الكعبة والمشاهد المشرفة...، ومثل الرد على الإسلام والقرآن...، ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقية، أو تركه لبعض الواجبات ممن يعد موهنا للمذهب وهاتكا لحرمته...، وأولى من ذلك كله في عدم جواز التقية فيه ما لو كان أصل من أصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال أو الهدم والتغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق...)(16).
لذلك لابد من الدقة في دراسة الظروف المحيطة بالموقف الذي يتخذه الفرد لكي لا يترك واجباً، ولا يفعل محرماً ظناً منه أنه يخدم الدين أو المذهب.
بعض الشبهات على التقية:
- هل التقية إسقاط للموقف واستسلام للطرف المقابل؟
الجواب هو: لا، حيث أن التقية هي الاحتفاظ بالموقف في نفس الإنسان، ولكن لا يظهره إلى العدو الذي قد يقضي عليك في مرحلة الضعف التي تعيشها حتى تحين الفرصة لإظهار الموقف الحقيقي.
أمَّا الاستسلام فهو انصهار في الآخر وإذعان للطرف المقابل، وتنازل عن المبادئ المعتقد بها.
- التقية ليست نفاقاً:
التقية ليست نفاقاً كما يتهمنا البعض، حيث أن التقية كتمان للإيمان وإظهار ما يخالفه، والنفاق إظهار للإيمان وكتم للكفر.
وحتى أن القرآن امتدح مؤمن آل فرعون في القرآن: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}(17)، فلو كان كتمانه للإيمان صفة سيئة أو كانت نفاقاً لما وصفه القرآن بأنه مؤمن.
- إن التقية إنما شرعت في مقابل الكافرين بينما الشيعة يستخدمونها تجاه المسلمين أيضاً، ولذلك فلا شرعية للتقية عند الشيعة.
إن الدليل على جواز التقية هو القرآن الكريم حيث صرح في الآية 28 من سورة آل عمران بقوله:
{لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وُإِلَى اللهِ المْصِيرُ}، وآية: 106 من سورة النحل بقوله: { مَنْ كَفَرَ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}. هاتان الآيتان هما الدليل على جواز التقية فإن الآيتين وردتا في التقية من المشرك، إلا أن المقرر لدى علماء الأصول أن خصوص المورد لا يخصص الوارد، والمقرر لدى علماء التفسير أيضاً أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فينبغي أن يتضح أن القرآن في هاتين الآيتين هل يراعي حال المسلم أم أنه يراعي حال المشرك؟ فإن كانت التقية ناظرة إلى المشرك فإنه لا يجوز التقية إلا منه دون المسلم، وإن كان القرآن يراعي حال المسلم، وجاءت الآية بداعي الحفاظ عليه، ثبت لدينا جواز التقية من كل ظالم وإن كان مسلماً.
والمعنى الثاني هو الظاهر من القرآن الكريم، فإن التقية ناظرة إلى حال المسلم لحمايته وصيانته من الخطر، والحفاظ عليه من الأعداء، وهذا السبب موجود في التقية من المسلم كوجوده في التقية من المشرك.
* الهوامش:
(1)روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 183.
(2)الشيخ المفيد/ شرح عقائد الصدوق: 241.
(3)سورة آل عمران، الآية 28.
(4)سورة النحل، الآية 106.
(5)سورة غافر، الآية 28.
(6)عن الرسول الأكرم(ص) :(الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان) ميزان الحكمة:1: 251، وعن الإمام الرضا (ع): (الإيمان عقد بالقلب، ولفظ باللسان، وعمل بالجوارح) ميزان الحكمة: 1: 252.
(7)للشيخ الصدوق- كتاب الخصال: 455 (رفع عن أمتي تسعة أشياء).
(8)ميزان الحكمة: 11: 4852.
(9)المصدر نفسه: 4851.
(10)دراسات في الفكر السياسي عند الإمام الخميني(قده)- مجموعة من الباحثين: 233، 234.
(11)الرسائل/ الإمام الخميني(قده)- قاعدة التقية: 158.
(12)سورة النحل، الآية 106
(13)ميزان الحكمة: 11: 4853.
(14)المصدر نفسه: 4850.
(15)المصدر نفسه: 4854.
(16)الإمام الخميني(قده)، الرسائل: 177- 178.
(17)سورة غافر، الآية 28.
0 التعليق
ارسال التعليق