التعدّديّة الدِّينية في المنظور الإسلاميّ

التعدّديّة الدِّينية في المنظور الإسلاميّ

الملخّص:

بعد ذكره لأهمية البحث وخطورته تعرض الكاتب -حول التعدديّة الدينيّة- لمعناها، وذكر أنَّ هناك خلطاً أساسياً يتعلق بعدم التفريق بين الدين والشريعة، وأنّ الدين لا يتعدد بعكس الشريعة، وتعرض لثلاث نظريات للتعددية الدينيّة ذاكراً أهم النقوضات عليها، مستنتجاً قبول واحدة منها فقط.

أهميّة البحث

بسم الله الرحمن الرحيم، إنَّ التَّعدُّدية في ذات الدِّين أو في فهم الدِّين مقولةٌ يراد من خلالها تمييع العقائد والأحکام والأخلاق للدِّين الإسلامي الحقِّ، وإضعاف الارتباط الرَّاسخ به کدينٍ يمتلك منظومة متکاملة على المستوی العقدي والقيمي والعلمي، قادرة علی تلبية حاجات الفرد والمجتمع من المهد إلى اللَّحد.
فالدِّين الإسلامي بقرآنه {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت:٤٢) المنزّل على نبيّه-خاتم الأنبياءe- الأکمل الذي لا ينطق عن الهوی، وشريعته السَّماوية السمحاء، هو الدِّين الخاتم الذي تکفَّلت عناية اللهa بحفظه فحريٌ أن يتبَّع ليصنع الإنسانَ في کلِّ أبعاده، ويتسامی به نحو الهدف الذي خلق من أجلِه، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران/85).
من هنا تکمن أهمية التعرُّف علی هذه الأطروحات حتی يترسَّخ ويتأصَّل الارتباطُ بالدِّين الإسلاميّ الحقِّ في العُقول والقُلوب فينعکس علی السُلوك، وأيضاً حتی ترتفع هذه الشُّبهات عن بعض العقول المتزلزلة والقلوب المترددة. نسأل الله سبحانه وتعالی التوفيق لذلك.

تعريف التَّعدُّدية

تعني التَّعدُّدية (Pluralism) لغويّاً الکثرة والتَّنوع، وقد أُطلقت لأوَّل مرَّةٍ في الکنيسة علی من کانوا يشغلون مناصب عديدة.
أوَّل من أدخل مصطلح (البلورالية) في حقل الفلسفة هو (لوتسهLhotse-) في کتابه (ما بعد الطبيعة) وذلك عام 1841م.

المسار التاريخي للتعددية الدِّينية

التَّعدُّدية الدِّينية (Religious Pluralism) من المسائل الكلامية حديثة الظُّهور، وقد جرت مؤخَّراً على الألسن وصدرت حولها كُتب ومقالات مختلفة في بيانها ونقدها.
يتكوَّن عنوان (البيلوراليزم الدِّينيّ) من کلمتين (بيلوراليزم) و(دينيّ) والمراد به "کثرة الأديان وتعددها"؛ فالمقصود من (التَّعدُّدية الدِّينيّة) ما يقابل الوحدانيّة والتَّفرد، أو ما يصطلح عليه (الانحصاريّة في الدِّين) في مقابل (الشُّموليّة).
وعلينا أن نحدِّد أوّلاً مکان ولادة التَّعدُّديّة، وهل المتکلِّمون الغربيون هم أوَّل من أثاروا الموضوع ثمَّ دخل دائرة علم الكلام، أو أنَّ للمسألة جذوراً في الفلسفة الإسلامية والكلام الإسلامي أيضاً، أو کلاهما أثار المسألة دون أن يقتبس أحدهما من الآخر.
وقد نُسب أصلُ الموضوع إلى عدِّة أسماء:
يوحنَّا الدِّمشقيّ: وأنَّه هو مبتکر هذه المسئلة، وقد کتب فيها رسالة.
ويوحنَّا الدِّمشقيّ کان من المسيحيين المقربين للخُلفاء العبَّاسيّين کالمأمون والمعتصم والواثق والمتوکل (مستشار ثقافيّ)، وقد استرعت اهتمامَ الخلفاء به معلوماتُه الباهرة في الطَّب، وهو الذَّي أثار فتنة "قدم القرآن"، و"عدم حدوث کلام الله"، لکي يثبت بـ(قدم کلام الله) قدم المسيح "کلمة الله"، وقد توفي يوحنَّا الدمشقيّ في سامراء عام 248هـ.
ولما کانت رسالته مفقودة فلا يمکن محاکمتها، ومع فرض صحَّة نسبتها له، فربما کان يهدف منها (التَّعايش بين المسلمين والمسيحيّين) في ظلِّ الدَّولة العباسية، ومن الممکن أن يکون هدفه مشابهاً لهدفه في مسألة (خلق القرآن) إذ أراد من خلال قوله: "إنَّ اتِّباع جميع الأديان موجب السعادة" أن يخفِّف من حدَّة تعصُّب المسلمين، وأن يجعل أتباع الأديان الأخری في مستوى المسلمين. هکذا قيل، وکلُّه مجرد حدس.
إخوان الصفا وخلان الوفا: وهم جماعة من فلاسفة المسلمين من أهل القرن الثَّالث الهجريّ والعاشر الميلاديّ بالبصرة، اتَّحدوا على أن يوفِّقوا بين العقائد الإسلاميّة والحقائق الفلسفيّة المعروفة في ذلك العهد، فکتبوا في ذلك خمسين مقالة سموها (تحف إخوان الصفا).
وقد تعرَّض إخوانُ الصَّفا في رسائلهم إلى مسألة التَّعدُّديّة الدِّينيّة، إذ قالوا: "الحقُّ موجودٌ في کلِّ دين، والحقُّ يجري على کلِّ إنسان، ومن الممکن تعرض الشبهة على کلِّ إنسان.. إذا احتملتَ وجود دين أفضل ممَّا أنت عليه فلا تقتنع، والأفضل لك أن تبحث، فمتی وجدتَه فلا تصرُّ علی الدِّين المفضول، وعليك أن تدين بالدِّين الأفضل وتحبَّه".
إنَّ العبارة الأساسية التي تفيد وجود نوع من الحقِّ لجميع الأديان هي قولهم: "ليس الحقُّ منحصراً بدين واحد من بين جميع الأديان، وليست الأديان الأخری لا تمتلك نصيباً من الحقِّ، وإنَّما هناك قيد مشترك بين جميع الأديان السَّماوية".
وهذا الكلام ليس جديداً وإنَّما نادی به الإسلام؛ إذ دعا القرآن الکريم أهلَ الکتاب إلى القدر المشترك، وهو (التوحيد في العبادة): {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل‌عمران/64).
ثمَّ إنَّ کلامَهم السابق يفرض على کلِّ إنسان اتَّباع القانون الأفضل، والسَّعي للتعرُّف عليه، وهذا الكلام يؤکِّد أنَّ هؤلاء من دعاة الانحصارية في الدِّين، وليس التَّعدُّدية الدِّينية.
وقد قيل إنَّ في عام 1950م لم تكن هناك أي إشارة إلى هذه المسألة في السَّاحة الفكرية الإسلامية، ممَّا يؤکد أنَّ (البيلوراليزم) فکرة غربيّة بشکلٍّ کامل، ثمَّ تسلَّلت إلى الفِکر الشَّرقيّ.

التعددية الدينيّة في إيران

إنَّ أوَّل من تناول التَّعدُّدية الدِّينية في إيران هو الدکتور «ميمندي نجاد» في النَّصف الثَّاني من القرن العشرين، واستدلَّ بالآية الكريمة الآتية على نجاة جميع أتباع الدِّيانات السماوية وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة/62)، وبمضمونها في سور أخرى (المائدة 169- الحج 17).
وقد تناول المفسِّرون هذه الآيات وأشاروا تصريحاً أو تلميحاً أنَّ هذا الفهمَ خاطئ، وقد اعتبره أبو الأعلى المودودي کما في کتاب (الإسلام في مواجهة التَّحديات المعاصرة) بأنَّه أکبر افتراءٍ على القرآن الکريم.
ويمکن مراجعة جواب هذه الشُّبهة بشکلٍ تفصيلي في کتاب «مفاهيم القرآن» للشيخ السبحانيّ.
وهناك کتابان سادا الوسط الفکريّ، وهما: 
1. فلسفة الدِّين لـ«جون هيك»وهو مسيحيّ من مواليد 1922م، فيلسوف وأستاذ في فلسفة الدِّين والتَّعدُّدية الدِّينيّة، وهو من انجلترا، تُوفي عام 2012م.
وقد طرح في کتابه مسألة التَّعدُّديّة الدِّينيّة کفهم جديد للکتب السَّماويّة ودافع عنها بقوَّة.
2. صراطهاي مستقيم (السُرط-جمع صراط-المستقيمة) تأليف عبد الکريم سروش، الذَّي تبنَّي رأي جون هيك وأعاد صياغة أفکاره.
وهذا الکتاب لو تجاوزنا محتواه، فإنَّ عنوانه يتعارض مع القرآن الکريم الذي حصر النَّجاة والسعادة بطريق واحد، يقول تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام/153).
عبدالکريم سروش-هو الاسم المستعار لحسين حاجي فرج دبّاغ- من کبار المثقَّفين الإيرانيين المعاصرين من مواليد طهران سنة 1945م، حصل على الدکتوراه في فرع الکيمياء في جامعة لندن، تأثَّر (بجون هيك)، وکان من الأفضل للمؤلف أن لا يسمي کتابَه بهذا الاسم لکي لا يقع في تعارض صريح مع القرآن الکريم.
هذانِ الکتابان، -إضافة إلى الکتب الكلاميّة المترجمة-، وصيرورة الثَّقافة ثقافة إعلاميّة، کلُّ ذلك کان وراء انتشار هذه القضية، وکان السَّبب أيضاً وراء کتابِه (رسائل ومقالات مختلفة) حول الموضوع نفسه.
ويندرج تحت هذا العنوان بحثان رئيسيّان هما:
1. التَّعدُّديّة في فهم الدِّين.
2. التَّعدُّديّة في ذات الدِّين.
والمقصود من التَّعدُّدية في فهم الدِّين، هو الاعتقاد بالاستنتاجات والانطباعات المختلفة عن الدِّين، وبالتعبير المتداول اليوم، «القراءات المتعدّدة للدين» «الهرمونوطيقيا» نظرية تعدد القراءات.
والمقصود من التَّعدُّديّة في ذات الدِّين، هو أنَّ الأديان نفسها تمثل طرقاً مختلفة تفضي إلى الحقيقة الواحدة، أي أنّها في مقام السعادة والصدق والحقّانيّة تقوم بقيادة أتباعها وهدايتهم إلى أمر واحد.
الحديث في المقام عن التَّعدُّدية في ذات الدِّين، ومرجع التَّعدُّدية في الدِّين انما هو تلك الرؤية التي تحاول أن تبين التعدد الموجود في الديانات، فهذه الأديان التي ظهرت في الماضي والحاضر ما هي نسبتها إلى بعضها البعض؟
وما هي نسبتها إلى الواقع والحقيقة؟
وما هي علاقتها بأتباعها؟
وهذا ما سوف نتناوله ضمن هذا البحث بإذن الله تعالی.

الدِّين والشَّريعة:

من المصطلحات التي ينبغي تحديد معانيها أوّلاً (الدِّين) و(الشَّريعة) وما لم يتَّضح مفهومهما الواقعيّ لا نستطيع أن نقرِّر شيئا بشأن «وحدانيّة الدِّين» أو تعدده.
فمن تحدَّث عن «التَّعدُّديّة الدِّينيّة» لم يفرِّق بين الشَّريعة والدِّين، ولم يوضِّح بأيهما يختص الحديث حول الوحدة والکثرة.
لقد اعتبر القرآن الکريم -وهو أوثق وثيقة لتفسير هذين المصطلحين، وهو الکتاب السماويّ الوحيد الذي لم تنله أيدي التحريف في ألفاظه- اعتبر الدِّين واحداً والشَّريعة متعدِّدة، وأکَّد القرآن الکريم أنَّ جوهر الدِّين واحد في جميع العصور، وقد أمر جميع الأنبياء بتبليغه، ولم يُحدِث الأنبياءُ واحداً بعد الآخر أيَّ تغيير أو اختلاف فيه، وظلَّ شامخاً وثابتاً ومحکماً علی مدی العصور ولا يطاله النَّسخ، لهذا لم يرد لفظ الدِّين في القرآن الکريم إلا بصيغة المفرد ولم يرد قط بصيغة الجمع.
فالدِّين واحدٌ ولا يقبل الکثرة، وحقيقته «التَّسليم لله تعالى» صاحب السلطة والحاکمية والخلق والربوبية، وکلُّ أمَّة قد دعيت لهذه الحقيقة، کلٌّ حسب قدرتها واستعدادها.
ويمکننا أن نؤکِّد ذلك من خلال الإمعان في الآيات القرآنية: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه} (سورة يوسف/40).
ووصفت بعض الآيات التوحيد بالدِّين القيم{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(التوبة:35، يوسف:40، الروم:30)، فإذا کان التسليم للحق تعالی ونفي التَّسليم لغيره هو الدِّين القيم، إذاً فيجب أن يبقی بالقوة نفسها في جميع العصور {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَٰلِكَ الدِّين الْقَيِّمُ}(سورة الروم/30) ويتلخَّص الدِّين القيم الثابت بالتوحيد في العبادة.

ما هي الشَّريعة؟

«الشَّريعة»و«الشِّرعة» يقال للطريق الموصل إلى الماء، والقرآن الکريم بعد ما يؤکِّد وحدة الدِّين يشير إلى تعدُّد الشَّرائع ووجود الشَّرائع والمناهج.

والمراد بالشرائع:

التعاليم العلميّة والأخلاقيّة التي تنظِّم علاقات الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة، وتحدِّد مسؤوليّة الإنسان أمام الله والنَّاس.
والسَّبب في اختلاف الشرائع هو الاختلاف في الاستعدادات والقدرات والظروف المختلفة الحاکمة في الناس، لهذا نجد الشئ حلالاً في هذه الشَّريعة وحراماً في شريعة أخری.
وعلی هذا تنسخ الشرائع، لکن النَّسخ لا ينال جميع التعاليم العلمية والأخلاقية للشَّريعة، وإنما ينسخ القسم الملازم لتطور الزَّمان والإمکانات واختلاف الظٌّروف.
وقد صرَّح القرآن الکريم باختلاف الشرائع {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة:47).

الدِّين دين الإسلام فقط:

حصرت بعض الآيات الدِّين في الإسلام قال تعالى: {إِنَّ الدِّين عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ}(آل عمران/19)، والآية ليست ناظرة إلى عصر الرسولe فقط، بل هي حقيقة مستمرّة في جميع العصور؛ فلذا نرى الأنبياء السابقين يبشِّرون بقدوم النبي محمَّدٍe قبل ولادته وبعثته.
فإذا کان الدِّين واحد والشرائع متعددة، فيکون معنى الدِّين هو العقائد التوحيديّة والمعارف الإلهيّة التي دُعي جميع الأنبياء إلى تبليغها، وسيکون محورها التَّسليم لله تعالى وعدم عبادة أو إطاعة غيره.
آية آخری تقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل‌عمران/85).
وهذا الحکم لا يختص أيضاً بعصر الرسولe، وإنّما يسري إلى جميع العصور، فلذا أکَّد القرآن الکريم أنَّ إبراهيمg کان مسلماً {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل‌عمران/67).

القراءات الثلاث للتعدّديّة الدِّينيّة

التَّعدُّديّة الدِّينيّة تحمل تفسيرات وقراءات متعدّدة، وما لم نتناولها واحدة واحدة لا يمکننا أن نحکم لها أو ضدها.

1ـ التَّعدُّديّة الدِّينيّة السلوکيّة:

وتعني أنَّ جميع أتباع الأديان(حسب تعبير المنظّرين) أو الشرائع (في ضوء تعبيرنا)، قادرون على العيش بعضهم إلى البعض الآخر علی أساس المشترکات، وأن يتحمَّل أحدهم الآخر.
ونحن لا ننکر وجود المشترکات بين الشرائع الکبری (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام) کما أنَّ هناك اختلافاً بينها.
إنَّ التَّعدُّدية بهذه القراءة يقبلها العقل والدِّين والشَّريعة، وقد دعا القرآن الکريم أهل الکتاب إلى حياة مسالمة تحت خيمة التَّوحيد، لأنَّه أصلٌ مشترك بين جميع الشرائع السماوية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل‌عمران/64).
والاعتراف بحقوق أهل الکتاب لا يعني الجزم بفوزهم ونجاتهم؛ لأنَّ القضيّة مرتبطة بسلوك اجتماعيّ في الحياة الدِّينيّة حفاظاً علی الکرامة الإنسانيّة، وقد اعترف الفقه الإسلاميّ (الذي يرتکز علی الکتاب والسنّة) بأهل الکتاب ودعا إلى احترام حقوقهم بما لا مزيد عليه، ففي کتب الفقه فصل خاص عن أهل الذمّة وشروطها، وهو يعکس مدى تعاطف الإسلام مع هذه الشرائع الاجتماعيّة.
وهنا نذكر مثالاً: عندما کان الإمام عليg يتجوَّل في شوارع المدينة رأى رجلاً أعمی يستعطي النَّاس، فسأل ما هذا؟ فقيل: رجل نصرانيّ، فأجاب الإمامe: «استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! انفقوا عليه من بيت المال».
وهو الذي قال بأنَّ النَّاس «صنفان إما أخ لك في الدِّين أو نظير لك في الخلق»، لکنّ بعض دعاة التَّعدُّدية الدِّينية يرفضون هذه القراءة، ويعتبرونها خارجة عن الموضوع.

2ـ التَّعدُّديّة الدِّينيّة المخلِّصة:

ومعناها، أنَّ الخلاص والسَّعادة توفرُّها جميع الشرائع في جميع العصور، فيقولون يکفي في سعادة الإنسان أن يؤمن بالله، وأن يلتزم في حياته واحدة من الشرائع وتعاليمها.
فيکفي للإنسان أن يعبد الله، وأن ينتسب لأحد الأديان السماويّة النَّازلة منه تعالى، وأن يعمل بأوامرها، أما شکل هذه الأوامر فلا أهمية له.
ويتبنّى هذه الفکرة کلٌ من جورج جرداق (لبنانيّ) -لديه سلسلة کتب عن الإمام علي‌g توفي عام 2014م- وجبران خليل جبران الکاتب اللبنانيّ المسيحيّ المعروف وآخرون.
في ضوء هذا التَّفسير، ومن خلال المسار التَّاريخيّ للنبوّات، نستطيع أن نناقش هذا التَّفسير الثَّاني للتعدّديّة الدِّينيّة بالتالي:
إنَّ القول بخلود واستمرارية کلِّ شريعة يفضي إلى إلغاء فائدة تشريع الشرائع المتعدّدة، وإرسال الرسل المحوريّين، وسوف لا نجني من ذلك شيئاً سوی التشويش وبثّ الفرقة.
إذا قلنا يکفي في تحقيق السَّعادة اتّباع أيَّة شريعة، فلماذا تحدّد مسؤوليّة کلِّ نبيّ بمجيء النبيّ الآخر.
إذا کانت کلُّ الشرائع خالدة فلا موجب لنسخ الأحکام، ولو بشکل إجماليّ، ولما قال المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(آل عمران/50).
تتوقّف حياة الإنسان في الآخرة على عقيدة صحيحة وعمل صالح، وتحقّقهما موجب للثواب. وهنا نسأل: کيف يمکن للتضادّ في العقيدة أو العمل بحکمين متضادّين أن يضمن الحياة المعنويّة للإنسان؟! وکيف يسعد الإنسان في الدارين بتبنّي التوحيد على جميع الأصعدة مع الإيمان بتثليث الربّ أو تجنّب الخمر والربا مع الإدمان وأكل الربا؟!
لو أعرضنا عن کلِّ ما سبق، فإنَّ واقعيّة السَّعادة التي توفّرها هذه الأديان ستکون مشروطة بعدم تحريفها، فهل هذا الشرط صادق في الشرائع السابقة؟
مع أنَّ الإنجيل سجل لتاريخ حياة المسيح، -وليس الإنجيل الحاليّ کتاب المسيح أو خطاباته- وقد کتبه بعض تلامذته، فکلّ واحد من الأناجيل الأربعة:
انجيل متّی: وجه خطابه لليهود -استشهد بالتوراة.
انجيل مرقس: الرومانيّ.
انجيل لوقا:طبيب يونانيّ -خاطب اليونانيّين.
انجيل يوحنّا: يوحنّا بن زبديّ أحد تلامذة (المسيح اليسوع) الذي لازموه -خاطب المسيحية لتقوية إيمانهم.
ضبط حياة المسيح بشکل خاصّ وذکر صلبه ودفنه وعروجه للسماء.
وکذلك التوراة الحاليّة قُرئت وکُتبت على يد أحد حفّاظ التوراة في زمان نوبخت نصر بعد اختفاء النسخة الأصليّة.
وهذه النسخة الحاليّة تعرّضت بعد مرور سبع مائة سنة للتحريف، واشتملت علی أحکام ونصوص تخالف العقل.

3ـ التَّعدُّديّة الدِّينيّة المعرفيّة:

ومعناها أنّ الدِّين واحد واقعاً، ويعود السَّبب في تعدّده إلى الفهم المختلف للأنبياء الإلهيّين.
وخلاصة هذا التَّفسير: إنَّ هناك حقيقة اسمها الإشراق تمكّن الأنبياء من الاتصال بالوجود وشهود وإدراك الله بدون واسطة.
ويعبِّرون عن هذه العملية بالتجربة الدِّينية غير أنَّ التَّعدُّدية الدِّينية لها علاقة بفهم الأنبياء، وهناك عوامل متعددة لوجود الاختلاف في الفهم بينهم (الثقافة، اللغة، التاريخ، الوضع الجسميّ..).
وبعبارة أخرى: إنَّ اتصال الأنبياء بهذا الموجود المجهول، أو الشعور بالارتکاز مطلقاً إلى موجود متعال حقيقة واحدة ولا تستبطن الکثرة، لکن يحصل الاختلاف عندما يراد التعبير عن هذه الحقيقة وصبّها في قالب لغويّ!
وهذا التَّفسير -ظاهراً- هو المقصود من قبل مؤسسيّ هذه النظريّة من قبيل (جون هيك)، والمنظرّين لها (الفلسفة الدِّينيّة)، والمدافعين عنها من قبيل (عبدالکريم سروش) في کتابه (صراط هاي مستقيم).

نقد هذا التفسير (التَّعدُّديّة الدِّينيّة المعرفيّة):

 1. إذا لم يتمکن أحد من الوصول إلى الحقيقة، وکلّ شخص ينظر إليها بمنظاره الخاصّ، فيجب أن نقول:
إنَّ جميع الشرائع أو الأديان ستکون "طرقاً" غير مستقيمة، ومعارف غير ثابتة، وتفاسير قلقة من شهود الحقيقة، وهو يؤدي إلى التخبط دائماً في بحر الجهل، والتيه في ضلاله إلى يوم يبعثون.
فحينئذ نقول: لا فرق بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام والأديان الأخری مثل البوذيّة والهندوسيّة، بل حتى المذاهب الإلحاديّة مثل الماديّة والواقعيّة الحديثة؛ لأنَّ الجميع يشترکون في رسم صورة خاطئة للوجود، وعليه سيکون الإنسان مخيّراً في اختيار تثليث المسيحيّة أو توحيد الإسلام أو ألوهيّة براهما وبوذا.
وهذا التَّفسير يعکس وجود أزمة فکريّة لدى صاحب هذه النظرية.
 2. لو فرضنا صحة هذه النَّظريّة، فإنَّ التَّعدُّديّة ستختصّ بالتعاليم والمعارف العقائديّة کالتوحيد والتثليث، والجبر والاختيار، والتنزيه والتجسيم، ولا تشمل الأحکام العمليّة والأخلاقيّة.
وبعبارة أخرى: إنَّ النصوص العقائديّة تشتمل على جنبة خبريّة، وتقول الله واحد أو الله ثلاثة... وهکذا بقيّة المسائل العقائديّة الأخری، بينما النُّصوص في التعاليم العملية والأخلاقية إنشائية من قبيل: افعل ولا تفعل مثلاً -صلّ، صُم، لا تشرب الخمر...
فکيف لهذه النُّصوص الإنشائية أن ترتبط بالتجربة الدِّينية للأنبياء فيختلفون في التَّعبير عنها من خلال القوالب اللفظية.
 3. لو افترضنا أنَّ القضايا العقائدية انعکاس لما يفهمه الأنبياء من التجربة الدِّينيّة، فکيف يکون للإشراق والعلاقة بالوجود المطلقة نتائج متناقضة، أحد الأنبياء يدعو للتوحيد والآخر للتثليث؟
يقول أحد دعاة التَّعدُّدية الدِّينية المعرفية وهو عبدالکريم سروش في کتابه صراط هاي مستقيم:
"إنَّ أوَّل من بذر بذور التَّعدُّدية في العالم هو الله، والله هو الذي أرسل أنبياء مختلفين، فتجلَّی لکلِّ واحد بشکل، وأرسل کلَّ واحدٍ إلى مجتمع، وجعل علی کلِّ لسان وذهن تفسيراً خاصاً، وبهذا الشکل أجَّج بوتقة التَّعدُّدية".
إنَّ إحدى مشکلات التَّعدُّديّة الدِّينيّة المعرفيّة هو وجود التناقض في دعوات الأنبياء (لأنهم يعتقدون أنَّ المسيح دعا إلى التثليث)، وطالما اخفقوا في حلِّ هذه الأزمة.
إضافة إلى أنَّ هذا التَّفسير يتنافی مع قولنا بعصمة الأنبياء في تلقّي الوحي وفي تبليغه.
وأيضاً، إنَّ التَّسليم به يلزم منه نقض الغرض في بعثة الأنبياء لهداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النُّور.

الخاتمة:

إنْ كان المراد من التعدديّة الدينيّة هو التعدديّة الدينيّة السلوكية فلا محذور في ذلك ويمكن قبوله، إلا أنَّ هذا المعنى لا يقول به من يروّج لفكرة التعدديّة الدينيّة، بل يقول بالتعدّديّة الدينيّة المخلِّصة أو التعدّديّة الدينيّة المعرفيّة، وهذا لا يمكن قبوله -بهذين التفسيرين للتعدّديّة الدينيّة- لتعارضه مع المسلّمات الدينيّة التي أشرنا إليها ضمن البحث. 
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا