يحرم التظليل على المحرم من الرجال
دلّ على حرمة التظليل على الرجال وجوازه للنساء والصبيان جملة روايات، منها:
صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال: «سألته عن المحرم يركب القُبَّة؟ فقال: لا. قلت: فالمرأة المحرمة؟ قال: نعم».
وصحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا بأس بالقُبَّة على النساء والصبيان وهم محرمون».
وصحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا بأس بالظلال للنساء، وقد رخّص فيه للرجال». وحمل على الضرورة.
لا يجوز إلا بضرورة
ودل على عدم جوزاه إلا للضرورة جملة روايات، منها:
ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن المغيرة قال: «قلت لأبي الحسن الأوّل (عليه السلام): أظلل وأنا محرم؟ قال: لا. قلت: أفأظلل وأكفّر؟ قال:لا. قلت: فإن مرضتُ؟ قال: ظلل وكفّر. ثم قال: أما علمت أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: ما من حاج يضحى ملبّيا حتى تغيب الشمس إلا غابت ذنوبه معها».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المحرم يركب في القُبَّة؟ فقال: ما يعجبني ذلك إلا أن يكون مريضاً».
وفي الصحيح عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام): هل يستتر المحرم من الشمس؟ فقال: لا، إلا أن يكون شيخاً كبيراً أو قال: ذا عِلّة».
وفي الصحيح عن سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «سألته عن المحرم، يظلل على نفسه؟ فقال: أمن عِلّة؟ فقلت: يؤذيه حر الشمس وهو محرم. فقال: هي عِلّة، يظلل ويفدى».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن محمّد بن منصور عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «سألته عن الظلال للمحرم. فقال: لا يظلل إلا من عِلّة أو مرض».
وما رواه في الكافي عن عثمان قال: «قلت لأبي الحسن الأوّل (عليه السلام): أنّ علي بن شهاب يشكو رأسه، والبرد شديد، ويريد أن يحرم؟ فقال: إن كان كما زعم فليظلل. وأمّا أنت فاضح لمن أحرمت له».
وما رواه الصدوق في الصحيح عن سعيد الأعرج: «أنّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن المحرم، يستتر من الشمس بعود أو بيده؟
فقال: لا، إلا من عِلّة».
والحكم فيه واضح عند الشيعة زاد الله عزّهم.
وأمّا ما تقدم -في ثاني الأحاديث- مما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المحرم، يركب في القُبَّة؟ فقال: ما يعجبني ذلك إلا أن يكون مريضاً».
فلا يمكن التمسك به؛ لحمل النهي على الكراهة؛ لأنّ (ما يعجبني) وإن انصرف فيها الحكم لعدم الإلزام، إلا أنّه بمعيّة النواهي الكثيرة ينقطع هذا الانصراف ويتعين إليه ظهور آخر، وليس لدينا قاعدة لفظية أو شرعية تنضبط دونها هذه التعابير والأساليب حتى تكون سارية في دلالات وظهورات الألفاظ.
وما عن جميل بن درّاج في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا بأس بالظلال للنساء، وقد رُخّص فيه للرجال».
فإنّه ظاهر في الترخيص مطلقاً، ولم أجد رواية مشابهة لرواية جميل فيها تتمة للخبر حيث يحتمل نقصانه، وهو محتمل جداً، ويحتمل التحريف وأن الصحيح (ولم يرخّص فيه للرجال) ليقابل عدم البأس بالظلال للنساء؛ ولا يكاد المعنى يستقيم إلا بهذا، ويمكن تأييد ما ذكرنا بوقوع الاختلاف في بعض ما رواه الشيخ من نسخته لبعض الكتاب في مواضع أخرى، منها ما رواه في التهذيب بطريقه: «عن سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد عَنِ ابْنِ أبي عُمَيْرٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ درّاج عَنْ أبي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي الرَّجُلِ يَخْرُجُ إِلَى جُدَّةَ فِي الْحَاجَةِ، فَقَالَ: يَدْخُلُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَام»(1)، لكنّه رواه في الاستبصار هكذا: «يَخْرُجُ إِلَى نَجْدٍ فِي الْحَاجَة»، ولم نتحقق من مخطوطات التهذيب والاستبصار، فلعلّ التصحيف وقع من نُسّاخها لا من الشيخ، وأمّا حمله على التقية وهو محتمل -مع اضطراب متنه وما ذكرناه- فبعيد لا يصار إليه في عرض المحتملات الأخر، مع أنّ التقية في مثل التظليل لم تعهد، بل قد وقع فيها الجدال والمناظرة، وعلى أيّ حال فإن صح هذا الخبر هكذا فلا يعارض بالكثرة المروية وبنصٍّ لا لبس فيه في الحرمة.
وأما ما رواه الشيخ بسنده عن موسى بن القاسم عن علي بن جعفر في الصحيح قال: «سألت أخي (عليه السلام): أظلل وأنا محرم؟ فقال: نعم، وعليك الكفارة. قال: فرأيت علياً إذا قدم مكة ينحر بدنة لكفارة الظل».
فلا تدل على الاختيار في التظليل ولا تعارض السابق؛ لما تقدم من مبينات في الأخبار الناهية نهياً تحريمياً، خاصّة ما رواه الصّدوق وغيره: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: قُلْتُ لأبي الْحَسَنِ الأوّل (عليه السلام): أُظَلِّلُ وأَنَا مُحْرِمٌ، قَالَ: لا، قُلْتُ: فَأُظَلِّلُ وأُكَفِّرُ، قَالَ: لا، قُلْتُ: فَإِنْ مَرِضْتُ، قَالَ: ظَلِّلْ وكَفِّرْ».
ولما ذكرنا غير مرة من اضطراب حاصل في متون روايات موسى بن القاسم، ولإجمالها وعدم جواز التمسك بإطلاقها والحال هذه، فالصحيح حملها على الاضطرار، لمعلومية الحكم من النّصوص وللإجمال هنا.
وعليه، فالتظليل من المحرمات على المحرم، ومما يسوغ ارتكابه للنساء والصغار، وكلّ من اضطر وكان عدمه حرجيّاً عليه، سواء كان الاتقاء من الشمس أو البرد أو المطر وشبيهاتها من الأعذار.
وجوب الفدية عن التظليل
ولو اضطر للتظليل فعليه الفداء، دمٌ؛ لجملة من الأخبار، منها:
صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: «سأله رجل عن الظلال للمحرم من أذى مطر أو شمس، وأنا أسمع، فأمره أن يُفدّي شاة ويذبحها بمنى، وقال: نحن إذا أردنا ذلك ظللنا وفدَينا».
وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: «قلت للرضا (عليه السلام): المحرم يظلل على محمله ويُفدّي إذا كانت الشمس والمطر يضرّ به؟ قال: نعم. قلت: كم الفداء؟ قال: شاة».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن الحسن الصفار عن علي بن محمّد قال: «كتبت إليه: المحرم هل يظلل على نفسه إذا آذته الشمس أو المطر، أو كان مريضاً، أم لا؟ فإن ظلل هل يجب عليه الفداء أم لا؟ فكتب: يظلل على نفسه، ويهريق دماً إن شاء الله تعالى».
وفي الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الظل للمحرم من أذى مطر أو شمس.فقال: أرى أن يفديه بشاة يذبحها بمنى».
وأما ما رواه الكليني والصدوق عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: «سألته عن المرأة يضرب عليها الظلال وهي محرمة؟ قال: نعم. قلت: فالرجل يضرب عليه الظلال وهو محرم؟ قال: نعم، إذا كانت به شقيقة، ويتصدق بمد لكل يوم».
وفي نوادر الأشعري -الذي قال فيه الحر -في آخر نسخته منه-: (وبالجملة القرائن على اعتباره كثيرة، وليس فيه ما ينكر ولا ما يخالف الأحاديث المرويّة في الكتب الأربعة ونحوها)- المطبوع، ولا بأس به: «عَنْ أبي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُهُ (عليه السلام) عَنِ الْمَرْأَةِ» وساقه بعينه.
فمخالف لما هو معلوم، غير مشهور، ولا يقاوم الأخبار في كون الفداء شاة أو دماً، مع عدم إمكان الجمع.
والذي أرجّحه فيه أنّ خلطاً وقع في الحديث مع ما بعده من عنوان في كتاب النوادر أو أحد كتب الحسين بن سعيد التي كانت لدى الكليني وجرى عليها النّساخ -وهذا ليس بعزيز الوجود والحدوث- وأنّ آخر معنى الحديث قوله (عليه السلام): (نعم)، فوصل بما بعده، كان حديثاً جديداً مستأنفاً أو عنواناً جديداً، أو أنّه خَلْط من الرّاوي نفسه، فلاحظ من الكتاب الرواية في الباب الرابع عشر والخامس عشر بعده في كفّارة المحرم يحك رأسه وجسده.
تكرار الكفارة بتعدد السبب في النّسك الواحد
ولو تكررت العِلّة -كأن لم تزل- في النّسك الواحد لم تتكرر الكفارة؛ فإنّه سبب واحد تمثل في التظليل له.
ولو تكررت العِلّة، كما لو تظلل للبرد، ثم أصيب في رأسه فتظلل للعِلّة، فالظاهر تكرار الفدية لهما؛ لتعلق الكفارة في الأخبار بالسبب الواحد، ومقتضاه التّعدد للمتعدد.
ولو دخل في إحرام جديد لنسك جديد كان له فدية أخرى، ويدل عليه:
ما رواه الشيخ عن أبي علي بن راشد قال: «قلت له (عليه السلام): جعلت فداك إنّه يشتدّ عليّ كشف الظلال في الإحرام، لأني محرور يشتدّ عليّ حر الشمس؟ فقال: ظلل، وأرق دماّ. فقلت له: دماّ أو دمين؟ قال: للعمرة؟ قلت: إنّا نحرم بالعمرة وندخل مكة فنحلُّ ونحرم بالحج. قال: فأرق دمين».
ورواه في الكافي بلفظ آخر عن أبي علي بن راشد قال: «سألته عن محرم ظلل في عمرته. قال: يجب عليه دم. قال: وإن خرج إلى مكة وظلل وجب عليه أيضاً دمٌ لعمرته، ودم لحجته».
عدم التظليل: إضحاء تحت سماء النّهار خاصّة أو عدم الستر مطلقاً
والتظليل مصدر واضح معروف، وهو اتقاء الشمس بأن يظل المتّقي لها تحت الظل الحادث من الساتر، هذا هو الأصل في استعماله، وقد يتوسع في معناه الاستعمالي للمانع من كل نور أو ما يتقى -كالمطر- فعلاً أو شأناً، والانصراف إلى الثاني بالقرينة، ولم تجر العادة على إطلاقه على التستر ليلاً؛ لندرته استعمالا ووقوعاً في القوافل التي تنزل المتعشى(2) أوّل الليل لتبيت في المنازل ثم تركب نهاراً بارزة تحت السماء والشمس، ولقلة الابتلاء به في المشاعر أيام الحج -بل عدم معلومية وقوعه خارجاً- لكون المشاعر منزلاً للحاج يجوز فيه التظليل لغير السائر، أو لشمول حكم حرمة التظليل لزمان السير السفري بين المشاعر فهو تحت الدليل العام للحرمة كما هو الظاهر، ولهذا لا نجد هذا التردد في الحكم والمعنى في كتب المتقدمين الذين اعتادوا وألفوا القرائن المحيطة بالخطاب.
عرض الأدلة بحسب معنيي التظليل
المعنى الأوّل للتظليل
وفي المعنى الأوّل للتظليل أخبار:
1- منها: ما صح مما رواه الصدوق بسندَيْه والشيخ بسندَيْه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: «قُلْتُ لأبي الْحَسَنِ الأوّل (عليه السلام): أُظَلِّلُ وأَنَا مُحْرِمٌ؟، قَالَ: لا، قُلْتُ: أَفَأُظَلِّلُ وأُكَفِّرُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَإِنْ مَرِضْتُ؟ قَالَ: ظَلِّلْ وكَفِّرْ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) قَالَ: مَا مِنْ حَاجٍّ يَضْحَى مُلَبِّياً حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ إِلا غَابَتْ ذُنُوبُهُ مَعَهَا».
2- ومنها: عَنْهُ عَنِ النَّخَعِيِّ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ وكَانَ إِذَا أَصَابَتْهُ الشَّمْسُ شَقَّ عَلَيْهِ وصُدِّعَ فَيَسْتَتِرُ مِنْهَا، فَقَالَ: هُو أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ تُصِيبَهُ الشَّمْسُ فَلْيَسْتَظِلَّ مِنْهَا».
3- ومنها: عَنْهُ عَنِ ابْنِ جَبَلَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أبي الْحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الْمُحْرِمِ يُظَلِّلُ عَلَيْهِ وهُو مُحْرِمٌ، قَالَ: لا، إِلا مَرِيضٌ أَو مَنْ بِهِ عِلّة والَّذِي لا يُطِيقُ الشَّمْسَ».
4- ومنها: الكليني عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أبيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنِ الظِّلالِ لِلْمُحْرِمِ فَقَالَ: اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ، قُلْتُ: إِنِّي مَحْرُورٌ وإِنَّ الْحَرَّ يَشْتَدُّ عَلَيَّ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ بِذُنُوبِ الْمُحْرِمِينَ».
5- ومنها: ما رواه الشيخ بسنده عن مُوسَى بْنُ الْقَاسِمِ عَنِ ابْنِ جَبَلَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أبي الْحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الْمُحْرِمِ يُظَلِّلُ عَلَيْهِ وهُومُحْرِمٌ؟ قَالَ: لا، إِلا مَرِيضٌ أَو مَنْ بِهِ عِلّة والَّذِي لا يُطِيقُ الشَّمْسَ».
وهي من أوضح التعابير في خصوصية التظليل عن الشمس، لكنّ احتمال ذكر هذا الفرد -الذي لا يطيق الشمس- لكونه أحد الأفراد المقابلة للمريض ومن به عِلّة في غير فرض وجود الشمس وارد، ويمكن دفعه بأن جوابه (عليه السلام) كلي لا يناسبه فرض التخصيص واختلاف الزمان، والسياق دليل عليه، فمن به مرض أو عِلّة والذي لا يطيق الشمس يجتمعان في ظرف واحد له حكم واحد في التظليل، وهو زمان وجود الشمس، كما أنّ الأصل في التظليل ما ذكرنا، مضافاً إلى ما هو العادة في زمان السفر نهاراً.
6- ومنها: ما رواه الكليني والشيخ بسندَيْهما عن أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ عِيسَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُمَرَ عَنْ محمّد بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ (عليه السلام) قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الظِّلالِ لِلْمُحْرِمِ، فَقَالَ: لا يُظَلِّلُ، إِلا مِنْ عِلّة أَو مَرَضٍ».
وأحمد بن محمّد، هو ابن عيسى الأشعري (رحمه الله).
وموسى بن عمر صاحب كتاب، وروى عنه جملة من الثقات صحيحي الحديث، لم يغمز فيه.
ومحمّد بن منصور، الصّيقل حسب الظاهر، لم يترجم، روى عنه موسى بن عمر، ومحمّد بن سنان الزاهريّ، وعلي بن الحكم وجماعة.
المعنى الثاني للتظليل
وفي التوسعة لكل ساتر أو ذي ظل شأناً في غير النهار، يمكن الاستدلال بأخبارٍ:
1- منها: ما رواه الشيخ بسنده عنْ مُوسَى بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْمُحْرِمِ يَرْكَبُ فِي الْكَنِيسَةِ، فَقَالَ: لا، وهُو لِلنِّسَاءِ جَائِزٌ».
والكنيس هو ما يكنس ويختبأ فيه شبيه القُبَّة على الراحلة، والكون فيه أعم من الاضحاء للشمس، يعم الكون في الليل أيضاً.
2- ومنها: عَنْهُ عَنِ ابْنِ أبي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنِ الْحَلَبِيِّ وابْنِ سِنَانٍ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْمُحْرِمِ يَرْكَبُ فِي القُبَّة فَقَالَ: مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ إِلا أَنْ يَكُونَ مَرِيضاً».
وجملة (ما يعجبني) مستعملة غالباً في الحرمة كما يقتضيه التتبع، على حد لفظ الكراهة في الأخبار النّبوية عن العامّة وفي كثير من أخبارنا، لكن احتمال كونها للكراهة وارد دائماً، والقرينة من بقية الأخبار والدلائل هي المعينة للمراد، ومثلها، وأوضح منها صحيحة محمّد بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا (عليه السلام) قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الْمُحْرِمِ يَرْكَبُ القُبَّة؟ فَقَالَ: لا، قُلْتُ: فَالْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ».
3- ومنها: عَنْه محمّد بْنِ يَحْيَى عَنْ محمّد بْنِ أَحْمَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الرَّيَّانِ عَنْ قَاسِمِ بْنِ الصَّيْقَلِ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَشَدَّ تَشْدِيداً فِي الظِّلِّ مِنْ أبي جَعْفَرٍ (عليه السلام)- كَانَ يَأْمُرُ بِقَلْعِ القُبَّة والْحَاجِبَيْنِ إِذَا أَحْرَمَ».
وهي -بمعونة غيرها- لا إشكال في دلالتها على حرمة التظليل للمحرم، وفيها إشعار بالمنع عن الساتر مطلقاً، ويدفعه ما ذكرنا ونذكره في آخر المبحث.
4- ومنها: عنه عن عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى الْكِلأبي قَالَ: «قُلْتُ لأبي الْحَسَنِ الأوّل (عليه السلام) إِنَّ عَلِيَّ بْنَ شِهَابٍ- يَشْكُو رَأْسَهُ والْبَرْدُ شَدِيدٌ ويُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَمَا زَعَمَ فَلْيُظَلِّلْ وأَمَّا أَنْتَ فَاضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ».
وهذه الرواية لولا الأمر فيها بالإضحاء لأمكن الاستدلال بها على المنع عن التستر مطلقاً بالملازمة، وهي كصحيحة عبد الله بن المغيرة السابقة، إلا أن يقال: إن الإضحاء هو مطلق البروز تحت الشمس، وهو مدفوع ببعد ظهوره وعدم عرفية استعماله ولما سيأتي.
5- ومنها: ما رواه الشيخ بِإِسْنَادِهِ عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ الصَّفَّارِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ محمّد قَالَ: «كَتَبْتُ إِلَيْهِ: الْمُحْرِمُ هَلْ يُظَلِّلُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا آذَتْهُ الشَّمْسُ أَو الْمَطَرُ أَو كَانَ مَرِيضاً أَمْ لا، فَإِنْ ظَلَّلَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ أَمْ لا؟ فَكَتَبَ: يُظَلِّلُ عَلَى نَفْسِهِ ويُهَرِيقُ دَماً إِنْ شَاءَ اللَّهُ».
وعلي بن محمّد بن شيرة القاساني ثقة فقيه وكان لأحمد بن محمّد بن عيسى قول فيه.
6- وكذا في الفقيه والتهذيب بسنديهما عن محمّد بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ أَنَّهُ سُئِلَ أَبُوالْحَسَنِ (عليه السلام) وأَنَا أَسْمَعُ: «عَنِ الظِّلِّ لِلْمُحْرِمِ فِي أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَو شَمْسٍ أَو قَالَ مِنْ عِلّة فَأَمَرَ بِفِدَاءِ شَاةٍ يَذْبَحُهَا بِمِنًى، وقَالَ: نَحْنُ إِذَا أَرَدْنَا ذَلِكَ ظَلَّلْنَا وفَدَيْنَا».
7- وكذا في الكافي والتهذيب عن العِدّة عن أحمد بن محمّد عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أبي مَحْمُودٍ قَالَ: «قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام) الْمُحْرِمُ يُظَلِّلُ عَلَى مَحْمِلِهِ ويَفْدِي إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ والْمَطَرُ يَضُرَّانِ بِهِ؟، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: كَمِ الْفِدَاءُ قَالَ: شَاةٌ».
وهذه الثلاث الأخيرة ليس فيها ما يعارض السابقة إلا ما يتوهم من زيادة السؤال عن المطر والعِلّة، ويدفعه ظهورها في كون العلل نهاريّة، بقرينة عدم إهمال الشمس فيها، ويؤيده قلة الغرض من السؤال عن غير عوارض النهار؛ فإنّ القوافل ما كانت تسير إلا نهاراً وتنزل المتعشى عند الغروب فتستظل تحت خيم وبيوتات المنازل على طريق الحاج، وكذا أيام الحج يكون نزولهم في الظلال في عرفة وبقيّة المشاعر، مع استبعاد أن تكون الأخبار شاملة لهذا الفرض النادر، إذ إنّ أكثر الحجاج قادرون على النزل تحت الخيم والستر المضروبة.
فمن الواضح أنّ الطائفة الثانية لا تنافي الأوّلى لتجعل في قبالها، بل يفهم منها -بنفسها أو بقرينة الأوّلى- نفس المفاد، وهو المنع عن التظليل من الشمس والأمر بالإضحاء تحت السماء بما لا يحدث ظلاً، وهذا في النهار خاصّة، إذ ليس في هذه الأخبار قرينة على إرادة الليل أو مطلق الستر لينصرف اللفظ لمطلق الساتر، بل الإضحاء تحت السماء بمعنى البروز، والتعابير بأنّ حج الرجل في رأسه، وذِكْر صفة الحاج من تغير لونه بالشمس، وغياب السؤال عن فرض التضليل عن الليل، كله لا يُنتج إلا معنى واحداً فارداً، وهو أنّ المراد من التضليل هو التستر عن الشمس وسماء النهار خاصّة.
وليس في أخبار المنع عن الكون في القُبَّة والكنيسة ظهور أو إطلاق يمنع من التمسك بأخبار الإضحاء والمنع عن التستر عن الشمس وسماء النّهار؛ بل ما جعلت القُبَّة إلا للتستر عنها، وأيّ شيء يضطر المسافر للتستر منه أقوى من الشمس، وقد ذكرنا أنّ الأصل الاستعمالي في الاستظلال هو التستر عن الشمس، والأخبار فيه كثيرة، ولا أخبار ناصة على ترك التستر مطلقاً أو على تركه ولو عن غير وقت الاضحاء نهاراً.
وبهذا يتبين الاشكال والبعد في قول السيد الفقيه الخوئي قدس الله روحه الزكيّة: "ومن نظر في الروايات يجد بوضوح صحّة ما ذكرناه -أي حرمة التظليل مطلقاً نهاراً وليلاً- فلا مجال للمناقشة أصلًا، فإنّ الروايات واللّغة مطبقة على أنّ المراد بالتظليل التستر عن الشمس وغيرها ولا يختص بالشمس، بل صرّح في الروايات بالمنع عن التظليل عن البرد والمطر، باب 6 من أبواب بقية الكفّارات وباب 64 من أبواب تروك الإحرام وأمّا إطلاق النهي عن الركوب في القُبَّة والكنيسة فلحصول التستر بهما دائماً ولا أقل من الهواء"(3).
وأما ما رواه الكليني عن الْحُسَيْنِ بْنِ محمّد عَنْ مُعَلَّى بْنِ محمّد عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبَانٍ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الْمُحْرِمِ أَيَتَغَطَّى؟ قَالَ: أَمَّا مِنَ الْحَرِّ والْبَرْدِ فَلا».
فهو أجنبي عن محل الكلام، فإنّ النهي فيه إما عن تغطية الرأس للرجل، أو عن التظليل بغطاء، أو مطلق الساتر، والكل محتمل، والأوّل أنسب لحكم التغطية من حكم التظليل والساتر؛ فإنّهما مستعملان في الاتقاء بظل شيء.
وأما الاستدلال بها على حرمة التظليل بمعونة التغطية عن الحر الذي يكون عن الشمس ظاهراً، فليس في محله؛ إذ هو فضلاً عن عدم استقامته مع الغرض من التغطية بل ومن البرد أيضاً، فإنّ تغطية الرأس عن حرارة الشمس هي التي ينصرف إليها؛ لما هو مشاهد من طريقة لبس العرب والأعراب بل غيرهم من أهل البلاد الحارة.
هل يعم التحريم للسائر المستظل بالمحمل؟
وروى الكليني قدس الله سره في الكافي: عن «عِدَّة مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد، عَنْ محمّد بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى الرِّضَا (عليه السلام): هَلْ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَمْشِيَ تَحْتَ ظِلِّ الْمَحْمِلِ؟ فَكَتَبَ: «نَعَمْ». قَالَ: وسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الظِّلالِ لِلْمُحْرِمِ مِنْ أَذى مَطَرٍ أَو شَمْسٍ وأَنَا أَسْمَعُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفْدِيَ شَاةً، ويَذْبَحَهَا بِمِنًى»(4).
وروى الطبرسي في أعلام الورى، قال: «ورَوَى أَبُو زَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ قَالَ: سَأَلَ محمّد بْنُ الْحَسَنِ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) بِمَحْضَرٍ مِنَ الرَّشِيدِ وهُمْ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: لَهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُظَلِّلَ مَحْمِلَهُ؟، فَقَالَ: لا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَعَ الاخْتِيَارِ، فَقَالَ محمّد بْنُ الْحَسَنِ: أَفَيَجُوزُ أَنْ يَمْشِيَ تَحْتَ الظِّلالِ مُخْتَاراً، قَالَ: نَعَمْ، فَتَضَاحَكَ محمّد بْنُ الْحَسَنِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُوالْحَسَنِ (عليه السلام): أَتَعْجَبُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) وتَسْتَهْزِئُ بِهَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَشَفَ ظِلالَهُ فِي إِحْرَامِهِ ومَشَى تَحْتَ الظِّلالِ وهُو مُحْرِمٌ، إِنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى يَا محمّد لا تُقَاسُ، فَمَنْ قَاسَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، فَسَكَتَ محمّد بْنُ الْحَسَنِ ولَمْ يُحِرْ جَوَاباً»(5).
وهو متفرع عن الحكم الأوّلي في وجوب الإضحاء تحت سماء النهار، فهذه تطبيقات ومصاديق لتلك.
فلا يجوز تعمد رفع الساتر للاستظلال، ويجوز المشي في ظل لم يحدثه لهذا الغرض، كما يجوز النزول تحت الساتر، من غير فرق بين أن يكون الساتر غير مستقل عن المحرم كمتاع مرتفع يحمله فيحدث الظل عليه، أو مستقل عنه كظل المحمل.
وعليه فحكم عدم جواز الاستظلال يختص به السائر المتعمد لإحداث الظل، لا من كان تحت ظل سحابة أو محمل أو سيارة أو مشى في ظل غيره من الناس، سواء كان هذا السائر راكباً أو ماشياً.
وبه لا "يخصص إطلاق جملة من الأخبار المتقدمة الدّالة على تحريم التظليل مطلقاً"(6).
وأما ما ذكره البعض من قيد ألا يعلو رأسه ساتراً، لما رواه محمّد بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ لأبي وشَكَا إِلَيْهِ حَرَّ الشَّمْسِ وهُو مُحْرِمٌ وهُو يَتَأَذَّى بِهِ، فَقَالَ: تَرَى أَنْ أَسْتَتِرَ بِطَرَفِ ثَوْبِي، فَقَالَ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يُصِبْكَ رَأْسَكَ»، فهو مخصوص بحكم تغطية الرأس لا الاستظلال.
* الهوامش:
(1) التهذيب 5: 166/ ح78.
(2) وهو الموضع الذي تنزل فيه القوافل عند الغروب فتبات فيه.
(3) المعتمد في شرح المناسك 4: 242.
(4) الكافي (ط. الحديث) 8: 420/ ح5.
(5) إعلام الورى: 309.
(6) الحدائق 15: 484.
0 التعليق
ارسال التعليق