تمهيد:
نحاول التعرض في هذه الوريقات إلى بعض الحقائق والامتيازات التي برز فيها الشيعة الإمامية، فكانت لهم وسام شرف يحق للمفتخر أن يفتخر به، ولكنا قبل الإشارة إلى هذه الحقائق لابد لنا من مدخل حول التشيع، وهو وإن كان سيّالا مألوفا، إلا أن مقتضى البحث الإلماح إليه، ولو اختصارا كمقدمة تصورية حول الشيعة، ومن هم المرادون والمقصودون في هذا البحث؟!
مدخل تصوري للبحث:
أما معنى الشيعة والتشيع، فيمكن أن نشير إليه كأصل لغوي، ومن ثم نشير إلى المقصود منه في الاصطلاح.
الشيعة لغة: القوم الذين يجتمعون على الأمر. وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع. والشيع: الفرق،{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإَِبْرَاهِيم}.
والشيعة أتباع الرجل، وأنصاره، وجمعها: شيع، وأشياع: جمع الجمع. وفي الحديث: القدرية شيعة الدجال؛ أي أولياؤه، وأنصاره. وأصل الشيعة: الفرقة من الناس، ويقع على الواحد والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث بلفظ واحد، ومعنى واحد. وقد غلب هذا الاسم على من يتوالى عليا وأهل بيته (رضوان الله عليهم أجمعين)، حتى صار لهم اسما خاصا، فإذا قيل: فلان من الشيعة، عرف أنه منهم(1).
الشيعة اصطلاحا: أما الشيعة في الاصطلاح واستعمالات الفرق والمذاهب، فلها عدة استعمالات، وإطلاقات، فقد تطلق ويراد منها:
1) الاعتقاد بإمامة أمير المؤمنين بلا فصل؛ لأنه أفضل الصحابة؛ ولأن النبي استخلفه من بعده، والاعتقاد باستمرار الإمامة في أبنائه من فاطمة الزهراء، ولا يحظى أحد غيرهم بهذا الحق.
2) كل من اعتقد بأفضلية علي(عليه السلام) على سائر الصحابة، وعلى الخلفاء الذين سبقوه، مع عدم اعتقاده بالنص على إمامته وولايته بلا فصل. ويطلق هذا الاصطلاح أحيانا على كل من فضل عليا على عثمان.
3) يطلق على كل من يظهر المودة والمحبة لأهل البيت(عليهم السلام)، فقد اتفق المسلمون قاطبة على وجوب محبة أهل البيت(عليهم السلام)، ولم يكنّ أحد -باستثناء النواصب- العداء لهم(2). وفي وجوب محبتهم يقول الشافعي:
إن كان رفضا حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي
ويقول أيضا:
يا آل بيت رسول الله حبكم
فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الشأن أنكم
من لم يصل عليكم لا صلاة له
وقال الزمخشري في هذا المعنى:
كثر الشك والاختلاف وكل
يدعي أنه الصراط السوي
فتمسكت بلا إله إلا الله
وحبي لأحمد وعلي
فاز كلب بحب أصحاب كهف
فكيف أشقى بحب آل النبي؟!
الشيعة في الروايات:
أطلق النبي(صلّى الله عليه وآله) على جماعة لفظ: (شيعة علي)، وعرف بعض الأصحاب في عصر الرسالة بشيعة علي(عليه السلام)، منهم سلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعمار، وهنا روايات ثلاث:
الرواية الأولى: السيوطي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن عباس، قالا: كنا عند النبي(صلّى الله عليه وآله)، فأقبل علي(عليه السلام)، فقال النبي(صلّى الله عليه وآله): «والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة». ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَِاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، فكان أصحاب النبي(صلّى الله عليه وآله) إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية.
الرواية الثانية: وروى السيوطي عن ابن مردويه: أن عليا قال: قال لي رسول الله(صلّى الله عليه وآله): (ألم تسمع قول الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَِاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}؟! أنت أنت وشيعتك، وموعدي موعدكم الحوض، إذا جاءت الأمم للحساب، تُدعون غرّا محجلين»(3).
الرواية الثالثة: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي(صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فأقبل علي، فقال النبي(صلى الله عليه[وآله] وسلم): «والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»(4).
معنى خاص للشيعة: (الشيعة هم الحسن، والحسين):
نقل بعض العلماء أن بعض الروايات تجعل الشيعة هم الحسن والحسين، ونحن إذا راجعنا الرواية المروية عن مولانا الرضا(عليه السلام) في كتاب الاحتجاج، وأنه احتجب فترة عن شيعته، ثم أذن لهم..إلخ، نرى مثل هذا المعنى من الإشارة إلى أن الشيعة هم الحسن والحسين(عليهما السلام)، ومن سار على هداهما، فقد جاء في الرواية: قدم جماعة، فاستأذنوا على الرضا(عليه السلام)، وقالوا: نحن من شيعة علي، فمنعهم أياما، ثم لما دخلوا قال لهم: «ويحكم، إنما شيعة أمير المؤمنين الحسن، والحسين، وسلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعمار، ومحمد بن أبي بكر، الذين لم يخالفوا شيئا من أوامره»(5). ونحن إذا ما أرجعنا التشيع إلى معناه اللغوي، وقلنا بأنه: الاتباع، والموالاة، فلا شك في أن اتباع الإمامين الحسنين(عليهما السلام) لأبيهما(عليه السلام) وجدهما(صلّى الله عليه وآله) ليس كمثله اتباع، فبهذا يكون تشيعهما لهذا الحق ليس كمثله تشيع، وإلا فإن معنى التشيع هو ما تقدم من الاتباع في اللغة، ومن كونه إشارة إلى تلك الفرقة المعتقدة بعلي(عليه السلام) بأحد أنحاء الاعتقاد، في الاصطلاح.
وخلاصة القول، ومراد الكلام أن التشيع في عرف المذاهب صارت له غلبة في تعريف من يوالي عليا(عليه السلام)، ويقول بإمامته، وأحقيته، ويتبع ما جاء فيه، وفي الأئمة من بعده(عليهم السلام)، فإن الغالب في تبادر الناس من لفظ التشيع هو الشيعة الاثنا عشرية الإمامية الجعفرية، وإن كان لفظ التشيع يطلق ويراد به بعض الفرق الأخرى، التي وقفت على بعض الأئمة(عليهم السلام)، فلم تقل بالأئمة الاثني عشر كلهم، إلا أنه في الغالب تحتاج مع ذلك إلى القرينة الخاصة على تعيين هذه الفرقة المرادة، وأما مع التجرد عن القرينة فإن المتبادر الفعلي في يومنا من لفظة التشيع هو المذهب الجعفري.
الشيعة وحقائق الهدى:
مهما حاولت الأطراف المختلفة أن تحجب نور التشيع وشعاعه، إلا أنه يبقى الأشد نفاذا، والأكثر تمردا على حُجُب الفتن والتشويه، فلست تجد مذهبا محاربا كما هو مذهب التشيع، وكأنه ورث الخصومة التي اشتكى منها رسول الله(صلّى الله عليه وآله) منذ أن أعلن الدعوة الإسلامية، بل الأمر كذلك، فقد رضي بأن يتخندق مع الرسول الأكرم(صلّى الله عليه وآله) في ذلك الخندق الواحد، خندق المظلومية، والصبر، والرحمة، والهداية، والعطاء؛ ليقف معه يوم القيامة موقف الاختصام إلى الله(سبحانه وتعالى)، فمنذ عصر الرسالة وإلى يومنا، مرورا بالحقب السوداء في تاريخ الإسلام، سيما عصر الأمويين، والعباسيين، الذين كانوا يسيرون على مشروع واضح المعالم في إبادة ذرية الرسول(صلّى الله عليه وآله)، والانتقام من أبناء الزهراء(عليها السلام)، فإن الشيعة كانوا - ولا زالوا - يواجهون بحرب الوجود، عبر القوة العسكرية، وتجنيد المفتين المبيحين لدماء الشيعة، وشبكات وعصابات الإعلام غير النزيهة، وكُتّاب التاريخ المسترزقين على بلاط الجور، مع كل هذه الجهود، والتي تجد مثالها الأبرز في العصر العباسي، حيث كان التاريخ يدون تحت رقابة السلطات المعادية للرسول وآله(صلّى الله عليه وآله)، فإن التشيع لا زال يحتفظ بوهجه وتألقه، وهنا لا ندعو إلى اتخاذ التشيع عقيدة بقوة السيف، ولم يعهد العالم والتاريخ تودّداً ورحمة كما هي عند الشيعة، فليس منهجهم الإقناع بالسيوف، بل ندعي أن لدينا ما يفي لكل باحث منصف ينشد الحقيقة، ولا ندعو إلى أكثر من الاستماع، وهذه من أبرز مميزات الشيعة، أنهم يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، وإن أكثر ويلات الأمة الإسلامية تنبع من الاستنكاف، ومن وضع الأصابع في الآذان، ومع هذا فليس بحثنا هنا بحث استدلال، ولا تصحيح، أو تخطئة، ولذلك محله الخاص، يسعى له من يجد للإنصاف أهمية في وجدانه.
عقائد الشيعة قائمة على الدليل:
إن عقائد الشيعة قائمة على الدليل، فهم قد تعبدوا بالدليل، وبالحق أينما وجد، ولهذا لم يأبوا عن قبول الإمامة، والتي هي وصية رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، فصارت أحاديث الرسول(صلّى الله عليه وآله) - والأئمة(عليهم السلام) - مصدر معرفة كبير، يتميز به الشيعة عن غيرهم، فعقائدهم غنية، مليئة بالمحتوى، فعلى هذا لم يحتج الشيعة إلى التخبط في الاجتهاد عن طريق العمل بالرأي، والاستحسان، والإفتاء على خلاف الدليل بعنوان الاجتهاد، فإن لفظ: (الاجتهاد) وإن تم تداوله عند الشيعة، إلا أنه لا يعني ذلك الاجتهاد بمعنى الإدلاء بالآراء الشخصية في دين الله، بل بمعنى بذل الوسع في معرفة مراد النصوص الشرعية، ففرق شاسع في المقام بين اجتهاد الشيعة وبين العمل بالطرق غير العلمية في رفد الجمهور معرفيا، وهذا المعنى لا يراه إلا المنصف، الذي يروم الإبصار، ودونك انبهار الشيخ سليم البشري بالطاقة العلمية والفكرية الهائلة التي تتبناها مدرسة التشيع في نقاشه للسيد شرف الدين(رحمه الله).
علاقة الشيعة بالحكومات:
إن علاقة الشيعة بالحكومات الظالمة من ضمن المميزات والفروق عن بقية الطوائف، فبينما تبرر بعض الفرق أعمال الظلمة، وتعتبرهم أولي الأمر – تبعا لسطحية وخواء العقيدة، وآليات التوصل للمعرفة-، يفسر الشيعة أولي الأمر بتفسير آخر، كما في رواية جابر التي يكشف فيها الرسول(صلّى الله عليه وآله) عن أسماء أولي الأمر، ومن هذه الناحية فإن الشيعة لم يشتركوا في جريرة دعم الظلم، ولم يشكلوا – كما عند بعض الفرق- أعمدة وقواعد لدعم الأنظمة الجائرة عبر منظومتهم الفكرية، ورؤيتهم الفقهية، والعقائدية، وتاريخهم السياسي في التعاطي مع الظالم، ولهذا أجاز الشيعة الخروج على الظالم، بل اعتبروه من أوجب الواجبات، ولكن وفق ضوابط خاصة.
علاقة الشيعة بالعلماء:
وهي من ضمن أهم المميزات، فبينما ترى في بعض المذاهب عالم الدين لا يكون مورد حاجة إلا في عقد الزواج، والصلاة على الأموات، ووعظ السلطان، ترى العلماء عند الشيعة مورد اعتماد في كل صغيرة وكبيرة، باعتبار تصديهم لتنظيم سير المجتمع، وباعتبار بيانهم لأحكام الشريعة، وهذا ما يسمى بالتقليد عند الشيعة، وهو من أعظم النعم التي تشكل هذا النسيج الاجتماعي المترابط، وهو صورة مصغرة لعلاقة الرسول(صلّى الله عليه وآله)، والأئمة(عليه السلام)، بل قد تأخذ هذه العلاقة درجة من الإفراط في بعض الأحيان، وذلك عبر الصراع في الخطوط والتيارات.
والخلاصة في هذا المقام أن هناك علاقة فريدة بين القاعدة والجمهور، وبين العلماء عند الشيعة، بينما تجد عزلة واضحة للعلماء غير الشيعة عن قاعدتهم وجمهورهم، بل لا تجد في بعض الأحيان ما يستهوي الجمهور لدى العلماء من غير الشيعة على غرار ما هو موجود لدى الطائفة الشيعية، وكل كلامنا لا يعدو التوصيف الإجمالي الذي يبرز تميزا خاصا عند الشيعة في هذه الجوانب، فلا ننفي وجود مقدار من هذه المواصفات عند غير الشيعة بشكل مطلق، بل ولسنا في مقام بيان نسبة هذا المقدار الموجود، وإنما نهدف إلى رؤية الواقع الإسلامي من خلال إطاره الجامع، والذي يتألق فيه مذهب آل الرسول(صلّى الله عليه وآله) نحو تألق خاص.
الثورات عند المذاهب الإسلامية:
بناءً على ما تقدم، فإن الثورات عند الشيعة على خلافها عند غيرهم، ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعض كلمات للشهيد المطهري(رحمه الله) حول السيد جمال الدين، إذ يقول: إن جمال الدين الأفغاني -وتبعا لمعرفته بالمجتمعات، وماهياتها، من خلال سفراته الكثيرة، وتبعا لمعرفته بالمجتمع الشيعي، والمجتمع السني- فإنه أدرك التفاوت بين العلماء الشيعة، وبين العلماء السنة، فكان لا يرى المؤسسة الدينية السنية مؤسسة مستقلة، لها قدرتها الخاصة في مقابل الاستبداد، والاستعمار، بل يراها مؤسسة مرتبطة بالحكومات، فهي على مدى قرون تعرّف الحكومات للمجتمع السني تحت عنوان: (أولي الأمر)، ولهذا لم يذهب في المجتمعات السنية إلى العلماء، بل ذهب مباشرة للشعوب، أما علماء الشيعة فليسوا كذلك، والمؤسسة الدينية الشيعية مؤسسة مستقلة، ولها قدرة شعبية، وهي دائما مع الشعب، وفي قبال الحكومات الظالمة، ولهذا فالسيد جمال الدين أول ما ذهب في المجتمعات الشيعية، ذهب إلى العلماء، وأخذ يطرح عليهم مشروعه، فهم قادرون على تحريك الناس(6).
استقلال المؤسسة الدينية الشيعية ماديا:
وتبعا لما تقدم من علاقة الناس بالعلماء الشيعة، واعتقادهم بوجوب التقليد، ولزوم أداء الخمس في أموالهم، فهم يؤدونها للفقهاء بكل اطمئنان، وراحة بال، وفي هذه النقطة أمران مهمان:
الأمر الأول: إن لهذا الصخب الهائل في مسائل الخمس عند الشيعة -والذي لا تجده عند غيرهم- دوره المهم في اقتصاد الشيعة، والحوزة العلمية، واستقلاليتها، ولهذا تراها أجرأ من غيرها في اتخاذ القرارات، وأكثر مصادمة لقوانين الجور، والظلم، بينما ترى غيرهم موظفين لدى الحكومات، يتقاضون رواتبهم من قبلها في كثير من الأحيان، ولهذا لا يأمن من المعارضين في مثل هذه الحالة من أن تتبدل مواقفهم جراء تبعيتهم المالية للحكومات، وهذا ما شكل داعيا لدى الحكومات لكسر هذه الحالة من الاستقلالية المالية، وفرض معادلة أخرى تفرض التبعية المالية للحكومات في كل صغيرة وكبيرة من الشؤون الدينية، فهي وإن كانت تكلف خزينة الدولة إلا أنها تأمل في كسر هذه القاعدة والمعادلة المتمثلة في استقلال المؤسسة الدينية عند الشيعة.
وإن لهذه الاستقلالية آثارها الخطيرة والمحرجة للحكومات، وشاهده المعاصر هو صرف حزب الله في لبنان للمبالغ الطائلة لإعادة إعمار القرى المهدمة، وتعويض الناس والضحايا، على غرار ما فعله السيد الإمام الخميني(رحمه الله) من قبل، حيث صرف الرواتب لموظفي شركة النفط في إيران لما أضربوا عن العمل، وأصدر الشاه قرارا بعدم صرف رواتبهم، وأنه سيستبدلهم بعمال إسرائيليين، أو أجانب، حينها أفتى الإمام الخميني(قدس سرّه) بهدر دم هؤلاء الأجانب إذا جاؤوا إيران، وعوض العمال من الحقوق الشرعية، وهذا ما يحلو للبعض تسميته: (دولة داخل دولة).
والأمر الثاني: إن الجدير بالذكر أن منشأ هذه الاستقلالية المالية هو الثقة المتبادلة، والتدين عند كل من العلماء والمقلدين، فالناس لا يرون في مراجعهم أنهم أصحاب بذخ وترف، بل يرونهم أناسا يخدمون الدين، مستعدين لتقديم دمائهم تضحية في سبيل الدين، وطالما عوملوا بقسوة من قبل الحكومات الظالمة، فأدخلوا السجون، وعذبوا في سبيل هذا المبدأ، فالجمهور الشيعي بذلك يدرك التمايز بين هؤلاء العلماء، وبين المدعين، ويبقى لذلك حضور العلماء في وجدان الجمهور بنحو أكيد، وهذا بدوره يؤثر على القاعدة الشيعية، فتراها أكثر تدينا والتزاما بالأحكام الشرعية من غيرها، وأكثر خوفا في قضية امتثال أحكام الشرع، ولهذا فإن حالة الاستفتاء والمراجعة للفقهاء لمعرفة الحكم الشرعي لم تصل لدى فرقة من الفرق ما وصلت له عند الشيعة الإمامية بحسب الظاهر.
كل هذه الثقة المتبادلة بين العلماء وبين الجمهور الشيعي، لا تجد لها نظيرا عند من جعل الخط الأساس لعلاقته بالحكومات هو التبعية والولاء، فأولئك أقرب للموظفين لدى الحكومات منهم للعلماء، وهذا ما يفقد قواعدهم تلك الثقة فيهم، وهو بدوره يؤثر على تدين القاعدة والجمهور، وتقبلها للأحكام الشرعية من هؤلاء العلماء، سيما إذا ما اقتضت السياسة في بعض الأحيان أن يُحرّمَ هذا العالم - أو ذاك - الدعاء للمسلمين في حربهم لمثل إسرائيل، أو أن يكون لهذا العالم موقف مؤيد لنزع الحجاب عن رؤوس المسلمات، أو أن يصافح هذا العالم ذلك الجزار الصهيوني، وعلى هذا المنوال.
الروابط الاجتماعية لدى الشيعة:
إن للترابط الاجتماعي عند الشيعة نكهته الخاصة، وإن لذلك عدة عوامل، منها ما لدى الشيعة من فكر، وعقائد، وشعائر جماعية، - وسنذكرها تحت عنوان خاص- كلها تفرض عليهم نوعا من التلاقي، وتدعوهم للتكاتف، ويكفي في ذلك التأمل في حقوق المؤمن على أخيه المؤمن التي جاءت في الروايات؛ كالتعبير بأن يدخل الأخ يده في جيب أخيه، ويأخذ حاجته، وكقول الله(سبحانه وتعالى): {إِنمَّا المؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، فهذا الحس الديني البارز عند الشيعة من أهم العوامل المؤثرة في هذا الترابط الاجتماعي.
تناولت بعض الدراسات هذه الحالة من الترابط الاجتماعي عند الشيعة في دولة كالبحرين، حيث إن الملاحظ هو وجود العديد من الصناديق الخيرية لدى الشيعة، والتي لها دور فاعل في حياة الناس الاجتماعية، على خلافه عند السنة، وهذا ما يعتبره بعضهم تحديا من التحديات التي تحتاج لعلاج، وحلحلة، فتذكر هذه الدراسة أن لدى الشيعة 71% من إجمالي الصناديق الخيرية، بينما لدى السنة 29% منها، مما يعتبر -بحسبهم- خللا في توزيع الصناديق الخيرية(7)، وكأن الصناديق نشأت وولدت في أحضان الدولة، وعلى حساب الميزانية العامة، لا أنها وليدة لهذا الحس الاجتماعي الفريد! حيث تميز الشيعة في هذه البقعة -كغيرها- بإحساس الناس بحاجة إخوانهم.
ولعل هناك عاملا مساعدا في تقوية الروابط الاجتماعية لدى الشيعة في كثير من البلدان، وهو الوضع المادي الضاغط، حيث إن الفقر والمعاناة الناشئة من الحاجة إلى الإسكان، إضافة إلى ارتفاع النسبة السكانية، كل ذلك تسبب في خلق حالة أكثر من التلاقي، وقضاء الناس لمعظم أوقاتهم إلى جنب بعضهم البعض، ولعل إدراك بعض الحكومات لهذه الظاهرة -حيث ينشط الشيعة في إقامة الفعاليات الدينية والسياسية- جعلها تحاصر الشيعة في رزقهم، وفرض نظام عمل الفترات الإضافية، وبذلك يتم عزل الشيعة قدر المستطاع عن مجتمعاتهم، وعن الانخراط في برامج الإصلاح والتطوير.
الشعائر الأولى بلا منازع:
الشعائر ذات المحتوى العالي من أهم مميزات الشيعة عن غيرهم، ولا نرى تفسيرا لذلك إلا لتولد الشيعة من صميم الدين، ومعرفتهم بأصوله، وتذوقهم لحلاوة شعائره شعيرة شعيرة، فأنت ترى موسما واحدا يشترك فيه الشيعة مع غيرهم في هذه الشعائر، ويمتاز عنهم بعدة من المواسم الأخرى.
والموسم المشترك هو موسم الحج، وهو على اشتراكه مختلف لدى الشيعة عما لدى غيرهم، فهو عند الشيعة يحمل بصمة الرسالة، ويقف على معالم النبوة معلما من بعد معلم، ويرى آثار الإمامة منطبعة على مناسكه منسكا من بعد منسك، ولأهل الحج حنينهم وشوقهم الخاص، ولذة لا يحيط بها الوصف، فالحج عند الشيعة مليء بالأدعية، والأوراد المأثورة عن أهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام)، ومليء بالمواقف الآخذة بالألباب، والأبصار، والمليئة بالشعور، والذكريات، والخشوع، والخضوع، والتذلل، فما أجمل موقف عرفات ودعاء الحسين(عليه السلام)، وتذكر الناس له رافعا كفيه، ودموعه تجري على خديه، وهو يدعو: (إلهي، أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرا في فقري؟! إلهي، أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولا في جهلي؟!...)، فمثل هذه المواقف الممتزجة بالتاريخ، والحاضر، والمستقبل، والآملة في رحمة الله، لا تجدها عند غيرهم.
وأما المواسم التي يتميز بها الشيعة عن غيرهم فهي مثل موسم محرم الحرام، وشهر رمضان الكريم، وهما اللذان يمثلان ذروة التلاقي الاجتماعي، والتفاعل المجتمعي لدى الشيعة، وذروة النشاط الديني، والمعرفي، والعاطفي، فمحرم الحرام مزيج من المعرفة، والتبليغ، والدعوة إلى الله، وتناول قضايا الأمة، ولا تجد منبرا دائما كمنبر الشيعة، والذي ألفه الصغير والكبير من أبناء الشيعة، فالعالم الشيعي بأسره يأنس بالشيخ الوائلي، وهو يسمع نغمته الخاصة، والتي ساهمت في صياغة أكثر من جيل على المستوى الروحي، والعلمي، والعاطفي، فهل يوجد مثل هذه الحالة من التواصل مع مصادر الذكر والمعرفة لدى غير الشيعة؟! وهل يوجد مثل شهر محرم الحرام عند غيرهم؟!
وأما شهر رمضان فهو يعكس جنبة أخرى من التواصل، والتزاور، وصلة الأرحام، وقراءة القرآن، وارتياد المآتم، والندوات، وفعاليات التبليغ، والتعليم.
ومن مواسم الشيعة العظيمة تلك المواسم الممتدة على طول السنة الهجرية، بدءا بشهر محرم الحرام، وعودا إليه، مرورا بليالي القدر، والنصف من شهري شعبان ورمضان، حتى أمسيا عيدين لدى من جاور الشيعة من فرق المسلمين، ومواليد الأئمة(عليه السلام)، وعيدي الفطر والأضحى، والعيد الأكبر بصخبه، وزينته، وبهجته، وسروره، عيد الغدير الأغر، وكذلك المبعث النبوي الشريف، والوفيات، وليالي العبادة، والذكر، فهل يوجد لدى غير الشعية كتاب ككتاب مفاتيح الجنان، والذي يرتبط به كل بيت شيعي؛ ليكون برنامجا له على مدار السنة؟!
وأما محتوى أدعية الشيعة فهو فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق، فلا ترى صاحب شعور وقلب قد استمع لها إلا وتفتحت لذلك أساريره، وجرت عبراته، وهنا يقف المحتوى الروحي والبلاغي لأدعية أهل البيت(عليهم السلام) موقف المتحدي، فمن المستحيل أن ترى دعاء كأدعيتهم لدى خلق من خلق الله، أيا كان، ولدى أي فرقة، أو طائفة، أو مذهب، أو دين، بأي اسم تسمى، ويكفيك أن ترى حالات غير الشيعة الكثيرة، والمتكثرة، والتي تسير بذكرها الركبان، من الدهشة عند سماعهم لأدعية أهل البيت(عليهم السلام) في مثل الحج، والعمرة.
كل هذا ناهيك عن الإحياءات الجماعية في المناسبات عند الشيعة، والتي لا ترى نظيرا لها، فالحج والعمرة فيهما النصيب الواسع للشيعة، ويكفيك أن تسمع الحَرَم الحرام يشدو بأركانه بدعاء الفرج للحجة(عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، مع كل وسائل التضييق على الشيعة، وبعد ذلك عرّج على مشاهد الأئمة(عليهم السلام)؛ لترى كيف يعج الشيعة حول ضريح الإمام الحسين، وغيره من الأئمة(عليهم السلام)، فهي ليست شعارات جوفاء، أو جافة، وإنما هي غيث من العبادة، والطاعة، والشوق، والعاطفة، ينصب على أودية القلوب بقدرها.
الشيعي هو الإنسان بمعنى الكلمة:
إن تعامل الشيعة الإنساني مع بني البشر يشكل اعتقادا راسخا، فليس تكتيكا أو مصلحة عابرة، بل هو تعليم ديني ثابت، تجده في مثل أقوال الأئمة(عليهم السلام)، حيث أمر الأمير(عليه السلام) مالكا الأشتر(رضي الله عنه) بأن ينظر إلى كل رعيته نظر الأب الحنون، فقال فيهم: «فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق»(8).
إن من أبرز الأمثلة لهذه الإنسانية هي تعامل الشيعة مع الأسرى، وهم الذين أخذوا درسهم من علي(عليه السلام) لما قتله ابن ملجم، فأمر الحسن والحسين(عليهما السلام) بأن يحسنا معاملة هذا الأسير، وكان يطعمه من طعامه، وهو الذي كان يعلم مسبقا بتدبير ابن ملجم لهذا الاغتيال، بناءً على هذه التربية الدينية التي تلقاها الشيعة من أهل البيت(عليهم السلام)، وهم من علموهم أن الإسلام قيد الفتك(9)، وأن المؤمن لا يغدر، ولا يفجر، ولا يفعل ما يشين، لذلك ترى ذروة التعامل الإنساني مع أسرى الشيعة؛ فمثلا تجد الإمام الخميني(قدس سرّه) حينما اعتقل شبابُ جامعة طهران الجواسيسَ الأمريكان أمر بإطلاق سراح النساء اللواتي لم يتورطن في الجرائم، وأطلق السود، ثم بعد ذلك أطلق جميع الأسرى في صفقة سياسية، فلا مجال للانتقام والتشفي في عقيدة الشيعة، فإن كان غرض إنساني فهو، وهذا عين ما حصل مع رئيس الجمهورية الحالي في إيران، فبينما تشاهد مشاهد قطع الرؤوس عند غير الشيعة من غير تفريق بين كون الضحية شيعيا، مسلما، كافرا، سياسيا، إعلاميا، وترى دمعات الأسرى، وذويهم، وتسمع بكاءهم فزعين من هذا التعامل الذي صدم ضمير الإنسانية، عبر بثه لجرائم حز الرؤوس على الشاشات، ترى التعامل الإنساني عند مثل الرئيس نجاد حينما أرجع الأسرى البحارة البريطانيين معززين مكرمين، وجعل هذا الإفراج عنهم هدية للشعب البريطاني، ولسنا في مقام الدعاية والترويج لهذا الرئيس أو ذاك، وإنما نشير إلى هذه الثقافة، وكونها وليدة لمثل هذه التعاليم الدينية التي تستحق التأمل والوقوف عليها، ودونك تعامل حزب الله مع أسراه، بل وتعامله حتى مع العملاء، والذين جنبهم كل مظاهر الإهانة، والتوهين، والحال أن غيره لو ظفر بهم على مثل هذه الحالة لما اكتفى بقتلهم، وليس في كلامنا إسقاط على فرقة ما، سنية كانت أو غير سنية، فلا يحمل كلامنا إلا على ظاهره من الإشادة بالثقافة الشيعية الراقية.
السبّاقون في تحريم الدماء:
وتبعا لما تقدم ترى هذه المفارقة، فبينما يكفَّرُ الشيعةُ، ويقتلون على الهوية، ولا زالوا يقتلون، ومنذ سنوات، ولا ترى ردة فعل كافية لدى علماء الفرق الإسلامية لإيقاف هذه الانتهاكات، وسفك هذه الدماء المحرمة، ترى علماء الشيعة - وبمجرد صدور بعض ردات الفعل والقتل على الجانب الآخر - يصدرون فتاواهم بحرمة ذلك، ويمكنك أن تراجع في ذلك فتاوى السيد السيستاني(حفظه الله)، والتي تدعو إلى عدم التعرض حتى للمسيحيين، والصابئة، وغيرهم، فقد صدر من جهته: (..أما سمعتم أن أمير المؤمنين عليا(عليه السلام) بلغه أن امرأة غير مسلمة تعرض لها بعض من يدعون الإسلام، وأرادوا انتزاع حليها، فقال(عليه السلام): «لو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا»)(10).
فبينما ترى أمثال الشيخ القرضاوي يصور -وبكل انفعال- حال السنة بالمجازر، ويناشد المراجع لإيقاف نزيف الدم كما يعبر، ويكف عن هذه الضجة حينما تتوقف المواجهة من الطرف الشيعي بفعل الحكمة البالغة، والحرص لدى علمائه.
مع ذلك فأنت لا تسمع مع كل ما يتعرض له الشيعة من قتل، وتشريد، واعتداء، وهم الذين كانوا -ولا زالوا- يقتلون على الهوية في كل يوم، لا تسمع من علماء الشيعة إلا دعوات ضبط النفس، ولا تسمع إلا اللغة المخاطبة لهم بلسان الوطنية، والحفظ عن الانزلاق في منزلقات الطائفية، فهل يقدّرُ هذا التحمل والتفاني الشيعي في حق الدين، والوطن، والمصالح العامة؟! وهل يؤمل من علماء السنة أن يوقفوا هذه التجاوزات التي هي على مرأى ومسمع منهم؟! أم لا زلنا لا ننتظر سوى الفتاوى المحرمة للدعاء للشيعة، والتي تكفرهم، وتعتبرهم أسوأ من اليهود، والنصارى؟!
فتوى الشيخ شلتوت:
ونحن لا ننسب هذا التكفير والإساءة لكل علماء السنة، فواضح للعيان تلك الشخصيات المنصفة، وصاحبة المواقف النزيهة، الدينية، والوطنية، والسياسية، ومن ضمن المواقف الدينية والتاريخية المشكورة: الاعتراف الذي صدر من قبل شيخ الجامع الأزهر بمذهب أهل البيت(عليه السلام) على أنه مذهب إسلامي، وليس أتباعه كفارا؛ حيث جاء في الفتوى: «إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة»(11).
الشيعة والدعوة للوحدة:
تميزت الشيعة بقوة دعواتها وبادراتها للوحدة الإسلامية بنحو مدهش، قل نظيره، ومع أنّا لا ننكر الجهود المبذولة من الطرفين، إلا أن عمق دعوات الشيعة، وطابعها البعيد النظر، وتواصلها المستمر، وعملها الدؤوب على هذه الفكرة، هو ما يميزها عن دعوات الوحدة عند غيرهم، فأنت تجد لدى الشيعة استثمارا للمناسبات التي قد تعتبر محطات اختلاف ولو جزئيا، كتاريخ مولد النبي(صلّى الله عليه وآله) عند الشيعة، وتاريخه عند السنة؛ لتصير إلى مناسبات التقاء، ووحدة مستمرة، وطويلة الأمد، وهو أسبوع الوحدة الإسلامية الذي دعا إليه الإمام الخميني(قدس سرّه)، واستمرت هذه الدعوات، والمؤتمرات، والمؤسسات بعد دعوة الإمام الخميني، وتميز عام 1428هـ.ق بدعوة كبيرة من قبل المجلس الإسلامي العلمائي في البحرين بقيادة سماحة العلامة الشيخ عيسى أحمد قاسم(حفظه الله) للوحدة، فكان شعار ذلك العام: «نحو وحدة وطنية وإسلامية جامعة»، زامن ذلك إعلان سماحة آية الله العظمى السيد القائد الخامنئي(حفظه الله) في إيران باعتبار العام الهجري الشمسي المزامن عاما للوحدة الوطنية، والانسجام الإسلامي كذلك.
الشيعة وقضية فلسطين:
ومع أن المتصل المباشر بقضية فلسطين هم السنة، إلا أن أكبر دعوة تحرك شوارع كل العالم الإسلامي وقوفا مع القضية الفلسطينية - وإلى اليوم - هي دعوة الإمام الخميني(قدس سرّه) لاعتبار آخر جمعة من كل شهر رمضان يوم القدس العالمي.
أما دعوات غيره من العلماء الماضين والمعاصرين فكثيرة، ومتجسدة في فتاواهم، وتذكر في هذا المجال فتاوى وبيانات مثل سماحة المرجع الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(رحمه الله)، ومنها قوله: (فيا أيها العرب، ويا أيها المسلمون، بل يا أيها البشر، ويا أيها الناس، أصبح الجهاد في سبيل فلسطين واجبا على كل إنسان، لا على العرب والمسلمين فقط)(12).
وأما السيد محسن الحكيم(قدس سرّه) -وهو من كبار المراجع-، فقد أفتى بأن التطوع بسلك العمل الفدائي، والانخراط فيه من أجل إنقاذ القدس الشريفة من أفضل الأعمال، بل هو من أهم الواجبات الدينية إذا كان جاريا على الموازين اللازمة عن قيادة حكيمة، وكان بحيث لا يلزم منه ضرر على المسلمين أعظم من الإضرار بالعدو المجرم(13). وكذلك ما جاء في رسالته للمؤتمر الإسلامي للقدس.
وأما السيد الشهيد الصدر(قدس سرّه) فقد ذكر في كلامه حول التسوية مع إسرائيل: (إن من يقبل الصلح مع إسرائيل فقد خرج من الإسلام)(14).
وفي مقابل هذه الفتوى وفتاوى الشرفاء، تجد فتاوى مثل الشيخ ابن باز الذي جوز الصلح مع إسرائيل، وذلك في تصريحه لمجلة الحياة اللندنية، في عددها الصادر في 22/12/1994م، حيث قال: (تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى ولي الأمر مصلحة في ذلك)، وتجد كذلك فتاوى تحرم العمليات الاستشهادية، وتعتبرها قتلا للنفس، وهي فتوى عثمان الخميس في موقعه (المنهج)، تحت ركن الفتاوى بعنوان: (انتحار أم استشهاد؟)(15).
فمواقف فقهاء الشيعة المشرفة معروفة وواضحة، ويمكن مراجعة مواقع الفقهاء الإلكترونية؛ لمعرفة هذه الفتاوى في حق القضية الفلسطينية، لا سيما موقع السيد القائد والسيد السيستاني، وغيرهما من مراجع الشيعة، أعلا الله كلمتهم.
الحرب الإعلامية ضد الشيعة:
اتخذت الحرب الإعلامية ضد الشيعة عدة أشكال، منها ما بات قديما متعفنا، ككثير من التهم التي كانت تلقن لأطفال غير الشيعة؛ ليشبّوا على بغضهم، وعداوتهم؛ كل ذلك تحسسا من أهل بيت الرسول(صلّى الله عليه وآله)، الذين يدّعون الأحقية بخلافة رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، وعداوة ونصبا لهم(عليهم السلام)، فكانت التهم سابقا من قبيل الافتراء على الشيعة بمجموعة من الافتراءات التي لا يقبلها عاقل، فكانوا يقولون:
1) بأن للشيعة ذيلا، ولم ير أحد حتى هذا اليوم ذلك الذيل، مع وجود كل وسائل التنصت، وشبكات الاتصال، والتقنية الحديثة.
2) ومن ضمن الإشاعات التي كانت تصطنع على الشيعة في السعودية أن الشيعة - وقبل تناولهم للطعام - يقومون بالبصق فيه، وعلى هذا المنوال يعتقد التكفيريون بأن مصافحة الشيعي تبطل الوضوء.
3) أو مثل ما يروجه التكفيريون من أكاذيب لا تورع فيها؛ بأن الشيعة في حال طوافهم حول الكعبة المشرفة يقومون بتلطيخها بالعذرة (الغائط) من غير أن يعلم بهم أحد!
4) وكما كان حزب البعث يتحدث في صحفه عن شيعة الجنوب في العراق ويتهمهم بالمعايب الأخلاقية، بل بالفاحشة، والانحراف الجنسي(16)، كذلك تقوم زمرة التكفيريين في بعض البلدان بذلك، وبشكل رسمي، فتطبع كتيبا يتهم الشيعة بمثل هذه التهم الجنسية تحت عدة عناوين؛ كإعارة الفروج، وغير ذلك(17)، وتمزجها مزجا شديدا بالأكاذيب، والافتراءات التي تطعن عقائد الشيعة الثابتة، والتي أحلها رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، كزواج المتعة الذي يعتقد الشيعة بكونه زواجا شرعيا، له شروطه، وقيوده الشرعية، وعقده الشرعي، وتعتقد بحليته وفقا لقاعدة: (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة)، وأن البدعة هي بدعة تحريمه على يد الخليفة الثاني، حيث يقر قائلا: (متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما، وأضرب فيهما)(18)، فترى مثل هؤلاء الكتاب المدفوعي الأجر لا يتورعون عن تشويه الدين، وبصورة خرقاء، لا يقبلها متابع للوضع، فتتهم إيران بتصدير مائة ألف امرأة للعراق؛ لغرض المتعة؛ حتى تزداد كثافة الشيعة السكانية(19).
5) ولم تقتصر هذه التهم والمحاربة الإعلامية ضد الشيعة على الافتراءات والأكاذيب العادية، بل سرت حتى إلى الفتاوى الشرعية، ولا عجب في ذلك في مذاهب ابتعدت عن تعاليم رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، والتي تطفح بها كتب المسلمين، بما فيها صحيح البخاري من حظر التكفير: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر. فقد باء به أحدهما)(20)، فاعتمدت هذه المذاهب على الاستحسان، والأهواء في جعل الأحكام، وبما يتناسب مع مقاييس الحكام، فلهذا تجد هذه الضغائن قد تحولت إلى فتاوى شرعية، تقول ببطلان الوضوء حينما يمس الشخص آخر شيعيا، وهم مع هذا ومع جهدهم في شراء الشيعة بالمال لا يعتقدون بأن الشيعي يترك مذهبه، ويتهمونه - وإن غيّره ـ ولا يثقون به.
6) وأما تهمة عدم الوطنية، والولاء والانتماء للخارج، فهي من أبرز التهم الحديثة ضد الشيعة، ومما يجعل هذه التهمة مترسخة في ذهنية الأنظمة:
أ- تلك العقائد الناصعة للشيعة، والتي ترفض الظلم بكل وضوح، ولا تجامل في ذلك على حساب المبدأ، ولا تعتبر الشرعية للحكومات الظالمة، ولا تراها ولية أمرها، بخلافه عند علماء السنة ممن يلزم باتباع الحكومات الجائرة تحت مسمى (ولاة الأمر)، وتجنبا للهرج والمرج، وما ماثل. فالشيعي لا يعتقد بالصلاة خلف البر والفاجر، فكيف يوالي الفاسق والظالم، ويوليه على رقاب الناس؟!
ب- والأمر الآخر الذي يدعو هذه الأنظمة لاتهام الشيعة بالولاء لخارج الأوطان هو أن الشيعة لم يحصروا الاجتهاد في مذاهب أربعة، قيدت الناس، وفصلت المجتمع عن العلماء لعهد طويل، ثم إذا انفتح باب الاجتهاد، انفتح على استحياء، وبإذن وإشارة من الحكام في كثير من الأحيان وفي عدة من المواقع، فالشيعة تزخر مؤسستهم الدينية بعدد من العلماء، والمراجع، وهم يعتقدون بالتقليد في كل كبيرة وصغيرة؛ باعتباره الطريق لمعرفة أحكام الحياة اليومية، فالحكومات الظالمة ترى في هذا التقليد والرجوع للفقهاء في استعلام أحكام الشريعة خروجا عن الوطنية، وولاء للخارج، ولهذا - وسواء اعتقد الحكام بعدم ولاء الشيعة لهم، أم لم يعتقدوا بذلك- إلا أن هذا الأمر يشكل هاجسا لديهم،يوشك أن ينفض عروشهم، ويلقي بهم من عليها، فهو كابوس يلاحقهم في يقظتهم، ونومهم، وإذا عرفنا كونه كابوسا لم نتعجب من الفلتات وزلات اللسان التي تظهر عند كبار القوم، كأمثال الرئيس المصري، حينما اتهم الشيعة بعدم الولاء للوطن، مرورا بغيره من الحثالة والسفلة، ممن امتهنوا تسقيط الشيعة ومحاربتهم، وقد أرسل مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني(حفظه الله) للرئيس مبارك رسالة أنّبه فيها على هذا التصريح الذي أدلى به على قناة العربية، واعتبره طعنا في وطنية عشرات الملايين من أبناء المنطقة، وذكره بحقائق للتاريخ القريب والمعاصر في معظم الدول، ودور الشيعة في ا لجهاد، والتصدي للمحتلين(21).
وبعد كل هذه الافتراءات والأكاذيب ضد الشيعة، تبقى الحقيقة المعاشة ناصعة مشرقة كالشمس في رابعة النهار، وهذا ما شكل هاجسا عبر عنه مثل الشيخ القرضاوي في لقاءاته على شاشات التلفاز بمثل: (إيقاف التبشير)، ولعمري!! أي تبشير ذاك سوى سلوك الشيعة الحضاري، ومقاومتهم الباسلة لإسرائيل، حتى أصبحت صور السيد حسن نصر الله ترفع في الأزهر الشريف على ما يتناقل؟!
والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) لسان العرب، ج7، ص258.
(2) دروس في الشيعة والتشيع، علي الرباني الگلپيگاني، ص21-24، بتصرف.
(3) نفس المصدر، ص24- 25.
(4) شيعيان افغانستان، ص205.
(5) بحار الأنوار، ج22، ص330، ح39، يرويه عن الاحتجاج.
(6) مجموعه آثار، ج24، ص31-32.
(7) البحرين الخيار الديمقراطي وآليات الإقصاء، مركز الخليج للتنمية الديمقراطية، ص189.
(8) تحف العقول، الحراني، ص127.
(9) الكافي، الكليني، ج7، ص375، ح16.
(10) النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني(حفظه الله)، حامد الخفاف، ص156.
(11) المراجعات، السيد عبد الحسين شرف الدين(قدّس سرّه)، ص475- 476.
(12) المرجعية الشيعية والقضية الفلسطينية، محمد عبد الجليل، ص87.
(13) نفس المصدر، ص99.
(14) نفس المصدر، ص108.
(15) نفس المصدر، ص108- 109، هامش: 1.
(16) هذه التهم المتقدمة ذكرت في كتاب: (شيعيان عرب مسلمانان فراموش شده)، گراهام ای فولر، ورند رحيم فرانکه، ص56.
(17) الشيعة في البحرين من أين أتوا؟ خرافة السكان الأصليين، هيئة الدفاع عن عروبة وتاريخ البحرين، ص12.
(18) كنز العمال، المتقي الهندي، ج16، ص521، ح45722.
(19) الشيعة في البحرين من أين أتوا؟ خرافة السكان الأصليين، هيئة الدفاع عن عروبة وتاريخ البحرين، ص7-8.
(20) صحيح البخاري، البخاري، ج7، ص97.
(21) النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني(حفظه الله)، حامد الخفاف، 147.
0 التعليق
ارسال التعليق