التربية الدينية في ضوء الدراسات النفسية

التربية الدينية في ضوء الدراسات النفسية

کما يعلم قارئي الکريم أن التربية والتعليم يعتبران من أهم المسؤوليات البشرية وأکثرها قيمة، وقد بعث أشرف بني الإنسان وهم الأنبياء وأوصياؤهم لتحقيق هذا المأرب فَسَقَوا على مر التاريخ براعم سعادة بني الإنسان وفلاحهم من هذين الينبوعين الفيّاضين.

ولکن... لماذا ياترى تحدد تحقيق هذه السعادة باتباع المناهج الإلهية وعجز الإنسان عن وضع التعاليم المناسبة التي يحتاج إليها؟

إنه موضوع تکمن فيه أمور يلقي بحثنا المتواضع هنا الأضواء من زاوية معيّنة على أحدها، حيث عثر في ثناياه على رمز حل الکثير من المعضلات التي يواجهها التعليم والتوجيه الديني في وقتنا الراهن.

تترکز مقومات حياة الإنسان وأي من الکائنات الحية الأخرى على التحويل والتطور، وتتواصل هذه التحولات الکمية والنوعية «النمو والنضج».

ونعني بالجانب الکمي منها: التحولات الجسمية، وبالجانب النوعي: التغييرات الطارئة على الأصعدة المعرفية (مثل: الإدراك، التفکير وحل القضايا) أو الإجتماعية (مثل: العلاقات مع الآخرين) أو العاطفية (من قبيل: المشاعر والاتجاهات).

وبما أن الله هو خالق الإنسان ويعرف جميع خصائصه وسماته على اختلافها، الخفية منها والظاهرية، ويدرك منحى ومراحل نموه ونضجه بحذافير تفاصيلها، فإن أفضل المناهج التربوية وأکثرها شُمولية بُعثت وقدمت إلينا من قِبله.

وهنا أود إلفات ذهن قارئي النبيه إلى ملاحظة هامة: هي أن النجاح في وضع أي منهج تعليمي أو تربوي صحيح منوط بمدى اطلاع المبادر إلى مثل هذه الخطوة على خصائص نمو مخاطبيه ونضجهم.

إن من أهوال الهفوات التي يتعرض لها التعليم والتوجيه الديني في مجتمعنا للأسف هو إهمال مقولة علم نفس التلاميذ التي تلوح الکثير من الروايات الإسلامية إلى اهتمام وجهاء ديننا منذ القدم بها وتنبيههم الآخرين أيضاً إلى أهميتها.

وعلى الصعيد العلمي تجري في الوقت الحالي أبحاث واسعة النطاق لتأطير التعليم الديني بإطار الثوابت النفسية، حيث تشير التحقيقات الراهنة والأبحاث الجارية في المدارس إلى تدني التوجيه الديني على المستوى المطلوب بل قد يستجلب نتائج عکسية أحياناً، فلماذا يتخبط مجتمعنا اليوم في متاهات فساد ثلة کبيرة من جيل شبابنا وابتعادهم عن جادة الإيمان؟

ما هو سبب عدم حظوة الحصص الدينية في مدارسنا بالمکانه اللائقة بها؟

ولِم يعجز الإسلام الذي تعرضه هذه الحصص عن حل مشاکل التلاميذ؟

أين تکمن العلة فيما يواجهه المعلمون من صعاب في تدريس التعليمات الدينية، وإلى هذا المستوى، وإلى هذا الحد؟

ولماذا يشهد التوجه الإسلامي في مجتمعناتنا تخلفاً قياساً إلى التوجيه الذي تحظى به بقية الأديان في غيره من المجتمعات؟

هناك استفسارات کثيرة من هذا القبيل يتعين على علماء الدين والاساتذه الکرام الإجابة عليها، والتي من خلالها يمکننا الإشارة إلى انعدام الوعي التام بخصائص التلاميذ ومميزاتهم النفسية.

أفرزت أبحاث کثيرة أجريت في البلدان الأخرى خلال العقود الأخيرة تحولات جمة في مجال التوجيه الديني کما تم نشر کتب ومقالات تحقيقية عديدة حول هذا الموضوع تدل کلها على اهتمام المجتمعات العلمية في العالم بهذا الموضوع الحساس والهام.

وتعنى کتابتي هنا- بما تتيحه لي إمکاناتي البسيطة بعد مطالعتي واستفادتي مما قيل وکتب من قبل اساتذتي الکبار- بفترة الطفولة، أي الفترة ما بين الخامسة والثانية عشرة من العمر باعتبارها مرحلة متمايزة وحساسة.

جاء في کتاب وسائل الشيعة(1) حديث يشير فيه الإمام الصادق(ع) إلى أن المرء يفوز بالصلاح والفلاح إن تم توجيهه منذ الطفولة، ولاخير فيه في غير تلك الحالة، وتنوه الروايات إلى رسوخ واستمرار نتائج التربية والتعلم فيما لو تم في مرحلة الطفولة، وفي غير هذه الحالات لايمکن عقد الآمال على التعليم الجاري عن الکبر کما في الحديث: «التعلم في الصغر کالنقش في الحجر».

إن هذه الأهمية القصوي لفترة الطفولة من حياة الإنسان أدت إلى تناولها بالدراسة والتقصي الدقيق في مختلف العلوم من خلال أبحاث حددت التوقعات المعقولة من الطفل في کل سنة من هذه المرحلة، ومن شأنها أن تأخذ بيد الآباء والمربين لتوجيه الاطفال نحو النمو والنضج الطبيعي السوي.

إن الرواد الدينيين ومحبي العنصر الإنساني الراغبين في توجيه أي شعب نحو حياة سوية هانئة تتسم بهدوء حقيقي ينبهونهم دوماً إلى ضرورة الإهتمام بتربية الأطفال ويقدمون لهم الوصايا اللازمة في هذا الصدد، وقد جاء عن النبي الکريم (ص) والأئمة الأطهار(ع) روايات وأحاديث ثمينة تدل على أهمية هذه المرحلة من وجهة نظر التنشئة الإسلامية.

يقول أمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب(ع) : «من لم يعلم في الصغر لم يتقدم في الکبر»(2).

إن مؤلفي الکتب الدينية والمسؤولين في حقل التربية والتعليم للأطفال والناشئة لن يکون أي نجاح يستحق الذکر حليفاً لهم في مضمار التعليم الديني دون الإلمام بثوابت علم النفس.

يحاول موضوع هذا البحث البسيط الإجابة على استفسارين هامين هما:

1- ما هي المراحل التي يجتازها الطفل في مسيرة نمو ونضج ادراکه الديني، وماهي خصائصها؟

2- بالنظر إلى خصائص هذه المراحل ومستوى إدراك الطفل للمفاهيم الدينية کيف يتعين تدريس هذه المفاهيم وتوجيه الطفل بشکل صحيح نحوها؟

وقبل الرد على الإستفسارين يستحسن الإشارة إلى مراحل النمو والنضج، إذ تم تقسيم مسيرة نمو الإنسان وفقاً لبعض الدراسات الجارية إلى المراحل الست التالية:

1- فترة الطفولة (الولادة والرضاعة) : منذ الولادة وحتى الشهر الثامن عشر.

2- فترة الطفولة المبکرة: (منذ السنتين وحتى نهاية السنة الرابعة).

3- فترة الطفولة الوسطى: (منذ نهاية السنة الرابعة وحتى السنة السابعة).

4- فترة الطفولة المتأخرة: (منذ نهاية السنة السابعة وحتى السنة الثانية عشرة).

5- فترة المراهقة: (منذ نهاية السنة الثانية عشرة وحتى السنة السادسة عشرة).

6- فترة الشباب: (منذ نهاية السنة السادسة عشرة وحتى العشرين من العمر).

يتمحور موضوع البحث في هذه الأسطر المتواضعة حول الفترتين الأخيرتين من الطفولة، ولاسيما فترة الطفولة المتأخرة، أي: مرحلة الدراسة الإبتدائية:

لما کان الهدف من معرفة الطفل في هذه المرحلة من النمو والنضج هو التمهيد لعرض القضايا المتعلقة بالتوجيه والتعليم الديني ارتأينا أن نتطرق في هذا المجال- بشکل مختصر- إلى أحد جوانب نمو الطفل في مرحلة الطفولة المتأخرة (7- 12) وأن نؤکد بشکل خاص على المجال الأکثر ارتباطاً مع التوجيه الديني في مرحلة الإبتدائية.

أ- النمو الجسمي:

ساد بيننا منذ القدم المثل القائل: «العقل السليم في الجسم السليم»

ولهذا يعتبر نظام التربية والتعليم الحديث القائم على أساس علم النفس الحديث الإهتمام بجسم الطفل من أهم واجبات المعلمين والمرشدين، مبرهناً على ذلك بأنه ينبغي علينا أن لانغفل قط عن الإهتمام بالنمو الجسمي للإنسان لما لنمط نموه الجسمي من تأثير کبير في تحديد نموه في بقية المجالات.

يتحدد نمط النمو الحرکي في السنوات الثلاث الأولى من مرحلة الإبتدائية غالباً بمؤثرات بيئة الأطفال، فالطفل يتجه عادة نحو النشاطات التي يجد في ذاته الإستعداد لها أو تسنح له الفرصة الکافية لإنجازها ويثاب عليها، ولهذا يؤکد علماء النفس على المرشدين من علماء دين أو معلمين في المدارس الإبتدائية بضرورة بذل الدقة الکافية عند انتخاب نوع التمارين وتنوعها بما يضمن تلبية احتياجاتهم العاطفية والعقلية والفکرية والإجتماعية.

ويحظى اللعب کالسفرات الترفيهية بأهمية قصوى في سياق النمو والنضج الجسمي للتلاميذ وتلبية احتياجاتهم المتنوعة، ولايعود ذلك لدوره في تنمية عضلات جسمه فقط بل لکونه أسلوباً ينشّط قواهم الفکرية ويعلمهم السلوکيات الإجتماعية ونمط التعامل مع الآخرين.

ومن أهم الأمور الکامنة في اللعب هو تطور الطفل أخلاقياً أثناء ممارسته، لأنه يستوحي من اللعب ضرورة رعاية الإلتزامات الخلقية عند الإنضمام إلى مجموعة ما، وإن تجاهله لهذا الموضوع يجعله منبوذاً من قِبَلهم.

والطفل في هذه المرحلة يميل إلى الألعاب ذات الطابع الحرکي الزائد ليبدي سرعته وقدرته ومهارته ويشبع رغبته في التنافس، إنه قادر على التحکّم بعضلاته وحرکاته، وفي هذا الصدد يمکننا أن نخلص إلى أن المعلم إن تمکن من إضفاء طابع اللعب على نمط تدريسه فإنه سينجح في إنجاز مهمته وتعليم التلاميذ المولعين باللعب والنشاطات العملية بشکل أسرع، وبالنظر لأهمية اللعب في هذا المجال يعتبره أغلبية العلماء أساس التدريس، وأن هذا الإجراء أهم نجاح يحرزه المعلمون في هذه المرحلة.

ب- النمو اللغوي:

يمثل عدد المفردات المستخدمة طول العبارات، وصحة الکلام، ونمط التعبير عن الأفکار مؤشرات على مدى النمو اللغوي لدى الأطفال، ومن المسلم به أن عدد المفردات التي ينبغي أن يعرفها الطفل في السنوات المختلفة من هذه المرحلة ترتبط بذکائه وبيئته التعليمية، ويزداد بتقدم العمر.

ومما يجدر تنبه المربين والمؤلفين إليه هو أن استخدام أية لفظة من قبل التلميذ لايعني بالضرورة استيعابه لمعناها بل قد يجهل مؤداها تماماً أو أنه يستوحي منها معنىً لايتطابق مع مفهومها لدى المعلم مما يجعل تعليم المدرکات في مختلف المراحل ولاسيّما ما يتعلق منها بالألفاظ والمصطلحات الدينية أمراً صعباً ومنها الإيمان، التقوى، الإحسان، الإيثار، المعاد ومصطلحات کثيرة أخرى.

ومن أساليب الکشف عن مدى فهم التلاميذ للمعاني وإزالة الغموض عن أفکارهم هو أن نطلب منهم استخدام الکلمات في مکانها الصحيح.

ومما يجب مراعاته أيضاً هو استخدام کلمات ترتبط بحياة التلاميذ العادية في النصوص؛ أي أن تعلم اللغة العصرية أهم من تعلم لغة عدة قرون ماضية.

ج- النضج العقلي:

ومجمل الحديث فيه کما عند علماء النفس: أن المواهب العقلية- وهي مجموعة العمليات المعنوية أو الباطنية- للأطفال تتطور في أغلبية جوانبها بسرعة أکبر من سرعة تطور قابلياته الجسمية التي سنتطرق هنا بإختصار إلى بعض جوانبها المتنوعة:

1- نمو ونضج المدرکات الحسّية:

عند تعرض أحد الأعضاء الحسّية إلى الإستثارة بفعل عامل خارجي ينتقل الايعاز عن طريق الأعصاب إلى النخاع الشوکي فيثير هنالك انعکاساً يدعى «الشعور»، وتسمى عملية تحليل وتفسير هذا الشعور في المخ «الإدراك».

ومن الخصائص الحسية لدى الأطفال هي خلطهم بين الخيال والواقع، فقد يؤکد الطفل بأنه يسمع صوتاً ما ويکون ذلك من صنع خياله، إذاً علينا التحرز من اتهامه بالکذب في مثل هذه المواقف.

ويمثل التنبه إلى الواقع من مهام الإدراك الحسي، ولهذا لابد للمربين أن يجهدوا لإنماء حواس التلاميذ وتنمية ادراکهم الحسي في محاولة لتقريبهم من الواقع وتصحيح مدرکاتهم.

2- تطور المفاهيم:

يتمکن الطفل من التعرف على مفاهيم الکلمات والأشياء عن طريق إعادة الإختبار، والإرتباط المباشر مع البيئة الطبيعية والإجتماعية والتفاعل معهما وربط مفرداتهما، أي التقدم من المفاهيم التجريبية الحسية إلى المفاهيم الرمزية للأشياء فيتمکن من معرفة أسمائها وخصائصها دون مشاهدتها أمام عينيه، کالعدل، الفضلية، الخير، و.. و.

3- تطور نحو دقة الترکيز:

تشهد قابلية الطفل على الترکيز نمواً وتطوراً تدريجياً يواکب تطور قابليته لضبط عملياته العقلية.

بناء على هذا يتعين على مؤلفي الکتب الدراسية الإبتدائية ولاسيما مؤلفي کتب مادة الدين وکذلك المعلمين التعرف على ميول التلاميذ في مرحلة الإبتدائية للإستناد إلى هذه الميول إبان العمل على تطويرهم وتربيتهم، والتعرّف على ميل الأطفال إلى ما يحفزهم على الحرکة ويبثهم الحيوية والنشاط أو يثير أجهزتهم الحسية، ولابد للمعلم الرکون إلى هذه الرغبة وعدم تجاهل دور الإثارة الحسية في عملية التدريس، ومثل هذا الأمر يؤدي إلى عدم تقيد المعلم بأجواء الصف بل لجوئه إلى الأمثلة الواقعية في الحياة وإطلاع التلاميذ عليها، أو الإفادة مما يسنح له حمله إلى الصف من صور وخرائط ونماذج وحيوانات و.. و.

إلى ماهنالك من تطور في المواهب العقلية الأخرى للأطفال، کتطور الذاکرة وتطور الذکاء وتطور الإستدلال.

من هنا يلزم الإستفادة من مرحلة الإبتدائية التي يطلق عليها في الروايات الإسلامية «مرحلة العبادة والطاعة» حيث انها تعتبر- کما في علم النفس- أفضل برهة زمنية لتطبيق المناهج التعليمية والتربوية، فالطفل في الصف الأول الإبتدائي يکمن أحر المشاعر إزاء معلمه، ورغم خفوت هذه المحبة نسبيّاً جراء تغير المعلمين في السنوات التالية إلا أنه ما يلبث يحب معلمه مادام الطفل يخضع بسهولة لأبويه، ومعلمه يحسن استثمار هذه المواقف وإرشاد الطفل مع توخي الدقة نحو الأهداف التربوية المنشودة، ولهذا يقال: «إن التعلم مثلما هو أمر عقلي وفکري فإنه عاطفي أيضاً»(3).

يولع التلميذ في هذه السنين بالنشاط والحرکة، فيکون في سن العاشرة أو في سن الحادية عشرة من المرحلة الإبتدائية أکثر جدية وحيوية من تلاميذ الصفوف الثلاثة الأولى، ويبدون نضجاً وبراعة متزايدة في العمل لرغبتهم في الإبداع وفي حل مشاکلهم بأنفسهم، ويخطو بعض الأطفال في هذه المرحلة خطوات بعيدة نحو ما يحظى بها الإنسان في مرحلة البلوغ من الحرية والتحرر دون أن تزول رغبتهم في الحظوة بامتيازات مرحلة الطفولة، ولهذا تتراوح سلوکياتهم بين سلوکيات الأطفال والراشدين.

لهذا ينبغي للمعلم أو للمرشد الديني أن لايغفل عن دور عاطفة المودة لدى الأطفال لإثارة تعلقهم بالتعاليم الدينية والشخصيات الدينية البارزة، وکذلك عن دور عاطفة الغضب في إثارة نفورهم من أعداء الدين والقيم المضادة للعقائد الدينية.

کما ينبغي الإلتفات إلى دور الغريزة الفطرية، فمن أبرز الخصائص الإنسانية التي يمکن الإستمداد منها في التوجيه والتعليم الديني هي وجود الغريزة الفطرية لدى الإنسان، حيث يولد الطفل حاملاً معه مقومات الکثير من سلوکياته، فالطفل طبق وجهة النظرة الإسلامية يعتبر مشحوناً بدوافع الإيمان بالدين وقضاياه الأساسية مثل الإيمان بالله، وهذا ما يشار إليه في قوله تعالى: {فَأقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَتَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لاتَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيمُ وَلَکِنَّ أکثَرَ النَّاسِ لايعلَمُونَ}(4).

إذاً، اهتمام الطفل بالدين وحبه لله لا يعتبران أموراً مكتسبة، بل غريزية كامنة في أعماق وجوده، وتظهر وتزدهر في مرحلة ما بعد البلوغ، ونظام التربية والتعليم معني في الحقيقة بالإبقاء على هذه الرغبات، وسيكون في غنى عن حمل الطفل على الإيمان بوجود الله، بل واجبه يتمثل في الإبقاء على هذا الإيمان الفطري بالله والعمل على ازدهاره.

ولتحقيق هذه الغاية يكفي إغناء وجوده تماماً من هذا الحب العاطفي بعرض آثار الرحمة الربانية وكذلك النعم الإلهية التي يحظى بها المؤمنون في‏الجنة بعد الموت، وبإثارة مواقفه القلبية والعقلية الطيبة إزاء هذه الآثار والنعم بمايشيد في كيانه صرح إيمانه الراسخ في‏المستقبل، وفي هذا الصدد أشار الإمام الباقر(ع) في حديث له إلى أن الله تعالى أوحى إلى النبي موسى(ع) أن ينثر حبه في قلب الناس ويحبّبهم إليه أيضاً، قائلاً: «أحببني وحبّبني إلى خلقي» فتساءل موسى(ع) كيف يكون له ذلك؟ أي: «يا ربّ إنّك لتعلم أنه ليس أحدٌ أحبّ إليّ منك، فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه: فذكّرهم نعمتي وآلائي فإنهم لايذكرون منّي إلاخيراً...»(5) أي: أوحي إليه أن يذكرهم بنعم الله فبذلك يضمن تحقيق ما أمر به.

وفي حديث آخر قال الله  لداود(ع): «أحبني وحبّبني إلى خلقي، قال: يارب نعم أنا اُحبك، فكيف اُحببك إلى خلقك؟ قال: اذكر أياديّ عندهم، فإنك إذا ذكرت ذلك لهم أحبّوني»(6).

وإلى جانب هذا الإجراء لابد أن نوظف القصص والحكايات والنماذج المتوفرة في‏البيئة المحيطة بالأطفال لإثارة نفورهم من الكفر وأعداء الدين، فوجوب تحقق التولي والتبري معاً ينساق في‏مجري مبدأ إسلامي واحد، وفي هذا المجال يجدر بنا أن نذكر أن الحديث المباشر عن العقوبات الإلهية لايأتي بنتائج إيجابية، بل يجب تعريف العقاب والعذاب باعتبارهما نتيجة حتمية لما يصدر عن الطالحين والكفار من أعمال مستهجنة ليتنبه الطفل أيضاً بشكل غير مباشر إلى عاقبة ارتكاب الرذائل، أما حول النعم الإلهية فإنه يحسن عند الخوض فيها توجيه الكلام مباشرة إلى الطفل نفسه(7).

وبشكل عام قد وصلنا إلى نتيجة مفادها بأن سعادة الشخص أوشقاءه في‏الحياة إنما يتأتيان غالباً من نمط عواطفه وانفعالاته؛ ولهذا يستحوذ ذوو الأطفال ومرشدوهم على دور حاسم في هذا السياق. وختاماً نشير إلى عدة تطبيقات تربوية ضرورية يجب مراعتها في هذا المضمار:

1- أن نمنح الطفل الفرصة للإعراب عن انعكاساته الإنفعالية ونتجنب صده عن ذلك، بل نعينه على حل مشاكله.

2- إثارة روح السرور والبهجة لدى الأطفال ليتمكنوا من التطلع إلى الحياة بنظرة بهيجة تعتبر بحد ذاتها عاملاً هاماً في‏التخفيف عن المشاكل والصعاب.

3- الإمتناع عن زج الأطفال في‏أعمال ونشاطات يعجز عن أدائها لأنه إجراء يسلبهم الثقة بالنفس ويؤول بالتالي إلى شعورهم بالنقص والدونية.

4- أن لايحاول الأبوان والمرشدون إشعارهم بالعجز وتدني قابلياتهم لأنهم سوف ينتهون تلقائياً وبالتدريج إلى مستوى مواهبهم وقابلياتهم.

5- ينبغي الإستغناء عن مؤاخذة الطفل وتعرضه للنقد وکذلك النصح المباشر لأنهما لايثمران فوائد تذکر، بل يفضل اللجوء إلى الحکايات الأخلاقية والإجتماعية من أجل توعية الفرد بشکل غير مباشر، بشأن وظائفه وواجباته.

6- يتسبب التهديد في شعور الطفل بالضيق وتشوش باله، وأقل أضراره هو إثار الخوف لديه.

ويتلخص لنا مما تقدم:

أن التنشئة الروحية والإيمانية للأطفال تعتبر من المهام الواجبة على عاتق الأبوين على مر الحياة، والإسلام يولي أدب الأبناء وتربيتهم قيمة أکبر من تلبية احتياجاتهم الجسمية:

قال الإمام علي(ع): «خير ما ورّث الآباء الأبناء الأدب»(8).

وقال رسول الله (ص): «أکرموا أولادکم وأحسنوا آدابهم يغفر لکم»(9).

وفي سياق إيضاح هذا الواجب الهام قال الإمام السجاد(ع) أيضاً: «وأما حق ولدك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عمّا وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربّه عز وجل، والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه»(10).

بناء على هذا يتوجب على الأبوين وکذلك المعلمين الذين يتولون مهمة مماثلة للأبوين بالنسبة لتلاميذهم أن يستوعبوا مسؤوليتهم الشرعية فيبذلوا غاية جديتهم وسعيهم لتنمية روح الإيمان والأخلاق لدى الأبناء، فقضية تعليم وتربية الطفل تمثل أحد القضايا الهامة سواء من وجهة نظر الدين أو العلم(11).

وأخيراً أسأل المولى عزّ وجلّ أن ينفعنا بما تقدم، وأن يوفق الکتاب المؤمنين للمساهمة في إثراء هذه التجربة- التي دعت إليها المجلة الموفقة-  لتنميتها، وأن يتقبل هذا القليل بأحسن القبول، ويجعله ذخراً لنا، يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والحمد الله رب العالمين.

 

* الهوامش:

(1) وسائل الشيعة: 15: 193.

(2) نقلا عن كتاب: «الشاب من وجهة نظر العقل والمشاعر» للعلامة الشيخ الفلسفي(قده)، ج: 2، بتصرف.

(3) علم نفس النمو، ص248.

(4) الروم: 30.

(5)  ميزان الحكمة: 2، ح: 3168 بتصرف توضيحي.

(6)  ميزان الحكمة: 2، ح: 3169، وقد نقلت هذه الرواية بتصرف بسيط وهي واردة عن الرسول(ص).

(7) تعليم المفاهيم الدينية، للدكتور ناصر باهنر بتصرف.

(8) ميزان الحكمة: 1، ح: 321.

(9) ميزان الحكمة: 1، ح: 395.

(10) مكارم الأخلاق، 232.

(11) استقيت هذا بتصرف من كتاب: «تعليم المفاهيم الدينية» للدكتور باهنر.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا