المفهوم الإسلامي:
عند إبراز أي معنى أو فكرة فإنه يتم عن طريقين: إبرازه كمفهوم ذهني أو مصداق خارجي، و(المناطقة) يعرفون المفهوم بأنه: المعنى الموجود في الذهن، أي تصور الشيء وإدراكه، تقول (فهم زيد الشيء) أي علم بالشيء فهو معلوم.(1)
ومرادنا هنا ليس المفهوم المنطقي وتقسيماته، بل نسلط الضوء على المفهوم في بعده (العقيدي) والذي (هو يعبر عن الحقيقة الذهنية التي تتلألأ في مصداقها الحقيقي في الخارج) بحيث تكون حاضرة في كل المسارات، المسار الفكري و التربوي و الاجتماعي.. وتتحرك في كل أبعاد العقيدة والمبدأ.
المفاهيم تختزل مجموعة من المصاديق و الأبعاد والأطر تحت (عنوان جامع)، و أي منطلق فكري يريد أن يتحرك في الواقع فإنه يصيغ أو يوظّف المفهوم حسب مساره ومبتناه.
ونحن حينما ننزل إلى ساحة الحياة نرى الكثير من التجاذبات والصراعات والتدافعات هنا وهناك ليس على مستوى العراك العملي بقدر ما هي عراك (عقيدي) تحكمه خلفيات ذات تجذر فكري ونفسي..
حتى جبهات الصراع بين الحق والباطل قبل أن تكون جبهة (قتل وقتال) هي جبهة قائمة على أسس حددها المفهوم القرآني بكل وضوح وهو أن تكون: {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(2).
والإسلام لا يريد من إعطاء المفهوم تصور ذهني بسيط، بل المفهوم الإسلامي (يريد أن نستحضر المفهوم بإيمان راسخ ونبض متحرك بحيث تجسد المعنى الرباني في الحياة).
عن الإمام الرضا (ع): (الإيمان عقد بالقلب، ولفظ باللسان، وعمل بالجوارح)(3).
بينما كانت رحى الحرب دائرة في معركة الجمل، وأمير المؤمنين(ع) منهمك في إعداد المقاتلين وإذا بإعرابي ينهض واقفاً ويقول بصوت عال: (يا أمير المؤمنين أتقول أن الله واحد؟؟!) نظر المقاتلين المنهمكين في الإعداد للقتال وقد إشتاطهم الغضب جميعاً من تصرف الرجل وعدم تقديره لظروف الوضع القائم، وارتفعت الأصوات بالاعتراض عليه..
لما رأى أمير المؤمنين (ع) ذلك الأعرابي وسط وابل من الاعتراض و التهجم، تداركه بعبارة ذات (عظة بالغة) حيث قال: (دعوه، فإن الذي يريده الإعرابي، هو الذي نريده من القوم) عبارة في غاية الأهمية.. بعد ذلك أدار الإمام (ع) وجهه نحو الأعرابي وأجاب عن سؤاله...(4)، وعن النبي (ص): (لولا ذكر الله، لم يؤمر بالقتال) ففلسفة القتال في سبيل الله غايتها الله و العقيدة واستحضار المعنى الذي أرادته السماء..
تحديد المفهوم الإسلامي:
إذاً أي مفهوم يتحرك في الواقع وفي المسارات الفكرية والروحية والاجتماعية والسياسية ما لم ينطلق من خلفية عقائدية راسخة وحدود شرعية متقنة ونبض خالص من الشوائب.. فإن هذا المفهوم يتحرك في متاهات الإضلال ومسارات الزيف وخط الانحراف.
في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (ص) حيث قال:
(يحمل هذا الدين في قرن عدول ينفون عنه:
ــ تأويل المبطلين
ــ وتحريف الغالين
ــ وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد)(5)
فالمفهوم الإسلامي يواجه في حركته ـ وهو صياغة الواقع وفق الإرادة الربانية ــ ثلاث جبهات فكرية تتلبس المفهوم الإسلامي، فجبهة تأول في الدين حسب ما يمليه هواها ويتكيف مع مصلحتها، و أخرى تحرفه عن مساره الرباني الأصيل، وتمارس عملية الانتحال والتزيف على العقول، بالشبهات و البدع فيهدم الدين من خلالهم، عن الإمام علي (ع): (ما هدم الدين مثل البدع).(6)
إذا المسألة خطيرة جداً تتحتاج إلى (النفر) الذين يفقهون دين الله والذين لا يأخذونه إلا عن ورع وإجتهاد، ولا يمكن لأحد أن يحدد مفاهيم السماء ويقيم حجج الله على عباده أو يتطفل بالتحدث بإسم الدين إلا من خولهم حجة الله على أرضه (عج) في الرواية عنه.. وهم الفقهاء العدول و العلماء الربانين، فالمسألة بكل بساطة خاضعة لتشخيص الطبيب، فهو أعلم بالدواء وزمانه وحدوده ومقداره، وكل من يخطئ في أخذ الجرعة حسب وصف الطبيب فهو يحتمل تبعات عدم الإطاعة.
فالقرآن الكريم بدون التمسك بالعترة الهادية (ع) الذي (كلامكم نور وأمركم رشد ووصيتكم التقوى) لا يكون منطلقه الفكري صافي خالص مطابق لإرادة السماء بل يكون عليه وبالاً ويكون فهمه ضيقاً ساذجاً..
والمتفحص على مدى التاريخ يجد بأن المفهوم الإسلامي الأصيل واجه هذه الجبهات الفكرية الثلاث وهي:(التحريف، الانتحال والتأويل)وهي مستمرة إلى يومنا هذا.. وهي أخطر من الجبهات العسكرية.
وأصحاب هذه الجبهة المضادة هم هؤلاء (النفر) الذي يحدد الإمام علي بن محمد الهادي (ع) أدوارهم في عصر الغيبية، فيقول: ((لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (ع) من العلماء:
الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا أرتد عن دين الله)).(7)
إذاً الأدوار واضحة والمسألة صعبة وهي أمانة الدين وحراسة الإسلام وأن نكون الأدلاء عليه، فلا مجال للتباهي والإستطالة والمراء في الأخذ عن دين الله.
الإمام الخميني.. وأنموذج تأصيل المفهوم:
هناك جزء من حركة الإمام (قده) كان له الأثر البالغ في استحضار المفهوم العقائدي على مسرح الحياة، فهو (قده) بدء الصراع وهو يستحضر المفهوم القرآني بكل وضوح (المستضعفين ــ المستكبرين)
(الولاء ــ البراءة) وفي كل الميادين يضع للأمة المفهوم الأصيل للموقف والذكرى مثلاً مولد الرسول الأكرم (ص) (أسبوع الوحدة الإسلامية) مولد الصديقة فاطمة الزهراء(ع) (يوم المرأة المسلمة).... يوم ميلاد الحجة (عج) (يوم المستضعفين).. وهكذا حرك المفاهيم في المناسبات والمواقف، بحيث تعيش الأمة في ظلال العقيدة وترى أجواء الإيمان وتساهم في صياغة واقعها..
لذا علينا أن نستحضر المعاني السامية والمفاهيم الأصيلة من أجل تأصيل واقعنا في مسارات العقيدة والمبدأ، خصوصاً ونحن (نعيش حرب الأفكار والعقول) لا (حرب السيوف) فحسب. فحركة الاستكبار قائمة على عقول الشيطنة وتوظيف الأفكار والمفاهيم في مساراتنا التعليمية وعبر مشاريع الإفساد في كل الأبعاد، بحيث يرفع مفاهيم حقوق الإنسان ويتستر بها، سالباً بذلك عقول شبابنا.
وبذلك ــ يتحرك الاستكبار العالمي ــ في حركته على مسارين:
ــ المسار العسكري ــ عبر الغدة السرطانية (إسرائيل)
ــ المسار الثقافي (العقيدي) عبر التحلل الخلقي بواسطة أجهزة الإعلام وأنظمة التعليم وأروقة السياسة والاقتصاد..
الأمة كما ترى أمام (أخطبوط) يلف جميع مسارات التحرك من أجل ترسيخ العقيدة وإعلاء كلمة الله، وكلا المسارين لا يمكن لنا مواجهته إلا عبر جهادين (الجهاد الأصغر والأكبر).. ولا يمكن ذلك إلا عبر التمسك بالأمر الصعب وهو (الولاية للفقيه) لمواجهة وإفشال مخطط الشيطان الأكبر.
ــ يذكر الشهيد الصدر (قده) في ضمن أهداف المرجعية الصالحة بضرورة (إيجاد تيار فكري واسع في الأمة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية، من قبيل المفهوم الأساسي الذي يؤكد بأن الإسلام نظام كامل شامل لشتى جوانب الحياة، و اتخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز المفاهيم)(8).
*الهوامش:
1ــ مذكرة المنطق، الفضلي: 54.
2 ــ التوبة: 40.
3 ــ ميزان الحكمة 1: 191.
4 ــ مباني المعرفة، ري شهري:20.
5 ــ ميزان الحكمة 3: 2557.
6 ــ ميزان الحكمة 1: 236.
7 ــ ميزان الحكمة 3: 2087.
8 ــ شهيد الأمة 1: 264.
0 التعليق
ارسال التعليق