بسم الله الرحمن الرحيم
يتصور الكثير ـ مشتبهاً ـ أن النهضة الحسينية المباركة قامت على أسس سياسية أو عاطفية بحتة فيرميها بالخطأ والاشتباه مندداً بها ومعيباً على الإمام الحسين (ع) خروجه في وجه يزيد لعنه الله(1).
وما نريد أن نبينه هنا أن هذه النهضة المباركة قامت على أسس شرعية في خط التكليف الإلهي الذي لا يوجد حينذاك من هو أعلم به من الحسين سلام الله عليه وأصحابه رضوان الله عليهم ـ هذا التكليف المنبثق من رؤية كونية عقائدية قوية متماسكة، هي عينها العقيدة الإسلامية الحقة، ولا يخفى على القارئ الكريم ما للعقيدة من أثر مباشر وقوي على السلوك الشخصي وكلما كانت هذه العقيدة قوية كان أثرها في السلوك أوضح وأبين.
ونحن إن قلَّبنا النظر في كلمات أصحاب الحسين (ع) نجد البعد العقائدي واضحاً لا لبس فيه فهذا الحر بن يزيد الرياحي رضوان الله عليه يقول: «إني والله أخيِّر نفسي بين الجنة والنار! فو الله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعت وحُرِّقت»(2)، وغيره مثله.
بينما تقف أبيات عمر بن سعد لعنه الله شاهدة على ضعف النفس والتعلق الدنيوي والاضطراب العقائدي:
أأترك ملك الري والري بغيتي أم أرجع مأثومــاً بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب وملك الري قرة عيني(3)
وحال عمر بن سعد لعنه الله هو عينه حال جيش الطغيان الأموي الذي اصطف لمحاربة خير من على الأرض.
وليس المقام مقام بيان لتفاصيل هذا التراجع الخطير عن قيم الإسلام وأسبابه التي تتعدد بتعدد الأشخاص. ولكن نشير إشارة إلى سبب عقائدي مهم له أثره البارز في نفسيات طرفي الواقعة. ألا وهو الاعتقاد بمقام الولاية الشامخ الذي نطقت به الآيات الشريفة كقوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا....}(4). وغيرها من آيات الذكر الحكيم، والذي لم تغفله الأحاديث النبوية الشريفة مؤكدة عليه في مختلف مقاطع الدعوة المحمدية كحديث الثقلين والغدير والسفينة والطائر وغيرها(5).
إن وصية الرسول الأكرم (ص) بالتمسك بحبل العترة المطهرة كان صمام الأمان الذي يحفظ الأمة من الانحراف عن الصراط المستقيم الذي أراده الله لها، وللأسف الشديد فإن بعض الأفراد من الأمة قد أهمله أو فرط به مما أدى لانتكاسات عظمى أصابت الأمة في مقاتل عديدة، ولا تزال حتى يظهر الله قائم آل محمد(عج) روحي لتراب مقدمه الفداء.
ومن أبرز الانتكاسات التي عصفت بالأمة هي واقعة كربلاء وما نتج عنها من استشهاد ريحانة الرسول صلوات الله عليهما والثلة الخيرة معه.
إن خذلان الأمة لقيادتها الإلهية بل انقلابها عليها كان نتيجة لعوامل أهمها عدم معرفتها لهذه القيادة وعدم تقديرها لمكانتها الربانية، مما حدا بها لمواجهتها مع قوى الظلم والطغيان أو السكوت عن نصرتها في أفضل الحالات.
بينما نجد على الطرف الآخر وضوحاً في الرؤية والتزاماً ثابتاً خلف تلك القيادة، هذا الالتزام العقائدي الصلب الذي يجعل التضحية بالنفس والنفيس رخيصة أمام حفظ الولي ومقام الولاية، فهذا زهير بن القين يقول: «والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أُقتل كذا ألف قتلة وأَنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك ومن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك». وقال مسلم بن عوسجة الأسدي: «أنحن نخلي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقك؟!» وقال سعد أو سعيد بن عبد الله الحنفي: «والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله (ص) فيك، والله لو علمت أن أقتل ثم أحيا ثم أحرق حياً ثم أذر، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!»
وليس أوضح في هذا المقام من كلام قاله برير بن خضير الهمداني لعمر بن سعد لعنة الله عليه بعد أن استأذن الإمام الحسين (ع) في وعظة ليلة العاشر وقد دخل عليه ولم يسلم فقال عمر غاضباً: «يا أخا همدان ما منع من السلام عليّ؟! ألست مسلماً أعرف الله ورسوله! وأشهد بشهادة الحق؟!
فقال له برير: لو كنت عرفت الله ورسوله كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول الله تريد قتلهم! وبعد فهذا الفرات يلوح بصفائه،ويلج كأنه بطون الحيّات، تشرب منه كلاب السواد وخنازيرها، وهذا الحسين بن علي وإخوته ونساؤه وأهل بيته يموتون عطشاً؟ وقد حلت بينهم وبين ماء الفرات أن يشربوه! وتزعم أنك تعرف الله ورسوله؟!».
وهنا تتمة للرواية تشير إلى وضوح الحق عند عمر بن سعد لعنه الله وأعراضه عنه نذكرها تتمة للفائدة:
«فأطرق عمر بن سعد ساعة إلى الأرض، ثم رفع رأسه، وقال: والله يا برير إني لأعلم يقيناً أن كل من قاتلهم وغصبهم حقهم هو في نار لا محالة، ولكن يا برير!. أفتشير عليّ أن أترك ولاية الري فتكون لغيري؟! فو الله ما أجد نفسي تجيبني لذلك»(6).
ولكنه خسر الري والدنيا والآخرة وفاز أصحاب الحسين عليه وعليهم السلام بخلود الذكر في الدنيا بالثناء والدعاء وجنان الخلد مع محمد (ص) في الآخرة.
اللهم ارزقنا شفاعة الحسين وأصحاب الحسين (ع) واحشرنا معهم وفي زمرتهم، والسلام على الحسين وأصحاب الحسين..
* الهوامش:
(1) راجع: نظرية النهضة الحسينية، النوري سعيد ميرزا ص: 53 ـ 65.
(2) مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة ج3 وقائع الطريق من مكة إلى كربلاء، الطبسي، محمد جواد ص: 250.
(3) المرجع السابق ج4 الإمام الحسين في كربلاء، المولائي، عزت الله ص: 82.
(4) المائدة : 55.
(5) راجع : الأربعون حديثاً في إثبات إمامة أمير المؤمنين (ع)، الماحوزي، سليمان بن عبد الله.
(6) مع الركب الحسيني ج4 ص: 134 ـ 136.
0 التعليق
ارسال التعليق