توطئة:
المعروف -بل الذي لم يعرف فيه خلاف- أنّ الاستطاعة من قيود مشروعيّة حجّة الإسلام، بحيث لو تسكّع بالحجّ فاقد الاستطاعة ثمّ استطاع لزمه الحجّ، ولا يجزيه ما أتى به، وقد أرسله الشيخ (رحمه الله) في الخلاف إرسال المسلّمات، وادّعى عليه الإجماع، وعزى الخلاف في هذه المسألة إلى غيرنا قائلاً: "من لم يجد الزاد والراحلة لا يجب عليه الحجّ، فإن حجّ لم يجزه وعليه الإعادة إذا وجدهما. وقال باقي الفقهاء: أجزأه. دليلنا: إنّ الله تعالى علّق الوجوب على المستطيع، فمن قال: إنّ غير المستطيع إذا حجّ أجزأ عنه إذا كان مستطيعاً فعليه الدلالة، وأيضا عليه إجماع الفرقة.."(1)، ولكن صار أحد الأجلّة (سلّمه الله) على مستوى البحث والفتوى إلى أنّ الاستطاعة قيد في عزيمة حجّ الإسلام، فلا يلزم إلا بها، ولكنّه لو حجّ المتسكّع أجزأه عن حجّة الإسلام(2)، لقرائن قرآنية وروائية، فلنستعرضها مع إبداء الملاحظات عليها تباعاً:
القرائن القرآنية(3):
القرينة الأولى: إطلاق قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}(4)؛ فإنّه ظاهر في مطلوبية الإتيان بالحج إمّا لأخذ الأذان فيه على نحو الطريقية لطلب الحجّ من الناس لا على نحو الموضوعية، أو لأنّ الإتيان غاية للأذان المطلوب، وغاية المطلوب مطلوبة، وحينئذٍ فمقتضى إطلاقها -لا سيما مع مفاد {يَأْتُوكَ رِجَالًا..}الذي هو جمع، وهو ممن خوطب بهذا الخطاب- هو عدم أخذ الاستطاعة في المطلوبية(5).
وفيه أوّلاً: أنّ الآية -وإن كانت تتناول النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) والمسلمين ولو لأنّه (صلَّى الله عليه وآله) قد أَمر بالحجّ حين نزول الآية، وهو كاشفٌ عن كون المسلمين مشمولين بها، فإذا دلّت بإطلاقها على عدم اعتبار الاستطاعة في الوجوب ثبت ذلك في شريعة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)؛ لقيامه بتطبيق الآية على المسلمين- إلا أنّها في مقام بيان أصل مطلوبية الحجّ، فلا إطلاق لها.
وثانياً: لو كان لها إطلاق فإنّ خروج الفريضة بآية الاستطاعة لا يتنافى مع ما كانت الآية بصدد بيانه فعلاً، خصوصاً مع احتمال سبق آية الاستطاعة على آية الأذان زماناً.
وثالثاً: لو فرض أنّ إخراج الحجّ الواجب من تحتها مستهجن، فلا ملازمة بين المشي راجلاً وعدم وجدان الزاد والراحلة؛ إذ لعلّ المشي بداعي المحبوبية.
مضافاً إلى أنّه بناءً على أنّ الاستطاعة في الآية هي العرفية فالقادر على المشي مستطيع، كما ورد في بعض النصوص: «إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين»(6)، فلا تنافي بين مفاد الآية واعتبار الاستطاعة، وإطلاقها مقيّد بآية الاستطاعة.
القرينة الثانية: إطلاق قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ}(7)، بتقريب أنّ مفاده ءاتوا بهما تامَّين؛ فإنّ الآية نزلت في المدينة لفرض العمرة، معتضداً بمفاد الآيات في ذيل الآية.
وفيه أوّلاً: أنّ ظاهر الآية لزوم إتمام الحجّ والعمرة -بعد التلبّس بهما- إلى آخرهما وعدم إنقاصهما واجتزائهما، وذيل الآية: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ...} قرينة عليه، أو أنّ المراد بإتمامهما عدم الإتيان بما يحرم على المحرم أو الأعمّ منهما، ويشهد لكلّ ذلك صحيح ابن أذينة قال: كتبت إلى أبى عبد الله (عليه السلام) مسائل، بعضها مع ابن بكير وبعضها مع أبي العباس، فجاء الجواب بإملائه، سألت..وسألته عن قول الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ}، قال: "يعنى بتمامهما أداؤهما واتّقاء ما يتّقي المحرم فيهما"(8)، وصحيح ابن سنان قال: "إتمامهما أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ"(9)، وما في العيون في باب ما كتبه الرضا (عليه السلام) للمأمون في محض الإسلام وشرايع الدين: «ولا يجوز الإحرام دون الميقات، قال الله (عزَّ وجل): {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ}(10)، وما في الخصال: ولا يجوز الإحرام قبل بلوغ الميقات، ولا يجوز تأخيره عن الميقات إلا لمرض أو تقيّة، وقد قال الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} وتمامها اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ»(11)، ولولا قرينة ذيل الآية وتفسير الإتمام بما روي لقلنا بأنّ ظاهر الآية لزوم الإتيان بالحجّ والعمرة تقرّباً إلى الله وأنّ العباديّة شرط فيهما.
وأما أنّ الآية نزلت لفرض العمرة فلا شاهد عليه، وما قد يتوهّم ذلك منه -وهو صحيح الفضلاء عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحجّ على من استطاع، لأنّ الله (عزَّ وجل) يقول: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ}، وإنما أنزلت العمرة بالمدينة..»(12).- فيرد على الاستدلال به -مضافاً إلى كون الآية مقيّدة بالاستطاعة في نفس هذه الرواية- أنّ الاستشهاد بالآية على وجوب العمرة في كلام الإمام (عليه السلام) أعمّ من دلالة الآية عليه مطابقة، وأنّ وجوب إتمامهما هو وجوب الإتيان بهما -كما هو المدّعى- أو أنّها تستبطن ذلك وأنّ إتمام العمرة فرع أصل وجوبها، أو كما أفاد الشيخ الأعظم (قدِّس سرُّه) من أنّ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يستشهدون كثيراً بآيات لا نفهم دلالتها(13).
وثانياً: لو كانت الآية ظاهرة في وجوب الحجّ -ولو لأنّ مطلوبيّة العمرة والحجّ معاً وردت في أمرٍ واحد، وبما أنّ مطلوبيّة العمرة لا يعتبر فيها الاستطاعة، فكذلك الحجّ؛ لوحدة السياق، والتقييد بالاستطاعة في الرواية جاء قيداً في الوجوب لا في أصل المطلوبيّة- فيأتي على الاستدلال بها الإجابتان الأولى والثانية من الإجابات على الاستدلال بآية الأذان من كونها بصدد بيان أصل مطلوبية الحجّ، فلا إطلاق لها، ومن كونها مقيّدة بآية الاستطاعة وغيرها.
القرينة الثالثة: إنّ آية الاستطاعة مشتملة على مبرزين للطلب: أحدهما: لام الاختصاص في قوله: (ولله) والمفيدة لأصل المطلوبية، وثانيهما: حرف الاستعلاء في قوله: (على الناس) ولو كانت الاستطاعة قيداً في أصل الطلب لم تكن هناك حاجة للتعبير بحرف الاستعلاء، بل كان مؤداها: ولله حجّ البيت ممن استطاع إليه سبيلا، إذن فذكر حرف الاستعلاء وجعل الاستطاعة قيداً لمفاده ظاهر في أخذها قيداً في الإلزام، لا في أصل المشروعية.
وفيه: -مضافاً إلى عدم كون حرف الاستعلاء هنا للطلب، بل لبيان موضوع المطلوبيّة المستفادة من اللام، فالآية على وزان ما لو قلت: عليّ لزيد دينار- إنّ الظاهر كون (من استطاع) بدلاً عن قوله (الناس) لا قيداً في حرف الاستعلاء، ومجرد احتمال ما ذكرناه كافٍ في منع الظهور المدّعى.
القرينة الرابعة: إنّ الظاهر من الاستطاعة في الآية هي استطاعة المسير لا الاستطاعة على أصل الحجّ، وذلك بقرينة التعبير بـ(إليه)، والتعبير بالسبيل الذي هو بمعنى الطريق عرفاً، وحينئذٍ فمقتضى مناسبة الحكم للموضوع كون استطاعة المسير قيداً في وجوب السعي للحجّ، لا قيداً في أصل مطلوبية الحجّ.
وفيه: إنّ ظاهر عنوان السبيل هو القدرة كما إذا قيل: أنفق إن استطعت للإنفاق سبيلاً، فكذلك المقام، لا أنّ المراد به استطاعة المسير فكأنّ الآية تقول: حجّ إذا استطعته، لا أنّها تقول: حجّ إذا استطعت السبيل إليه، ويشهد لإرادة ذلك تفسير {اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} بمن كان صحيحاً في بدنه، مخلّىً سربه، له زاد وراحلة، كما في صحيح هشام بن الحكم(14)، ويؤيّدها ما في رواية أبي الربيع الشامي قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجل): {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} -إلى أن قال- فقيل له: فما السبيل؟ قال: فقال: «السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض، ويبقي بعضاً لقوت عياله، أليس قد فرض الله الزكاة؟ فلم يجعلها إلا على من يملك مائتي درهم»(15)، وكذا ما في عيون الأخبار بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) -في كتابه إلى المأمون- قال: «وحجّ البيت فريضة على من استطاع إليه سبيلا، والسبيل الزاد والراحلة مع الصحّة»(16). والحاصل أنّه لا يراد استطاعة المسير.
قرينة الروايات:
القرينة الخامسة(17): وذلك بالنظر لأمرين:
الأمر الأول: إنّ هناك عدّة نصوص واضحة الدلالة على عدم اعتبار اليسار المالي، وهي طوائف:
الطائفة الأولى: ما دلّ على وجوب الحج على من أطاق المشي من المسلمين، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:...«فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل»(18)، ونحوه صحيح معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل عليه دين، أعليه أن يحج؟ قال: «نعم؛ إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين، ولقد كان من حجّ مع النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) مشاة، ولقد مرّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بكراع الغميم فشكوا إليه الجهد والعناء، فقال: شدّوا أُزُرَكم واستبطنوا، ففعلوا ذلك فذهب عنهم»(19)؛ إذ من البعيد جداً كون حجّ الجميع حجّاً مستحبّاً.
الطائفة الثانية: ما دلّ على أنّ المهانة الناشئة عن عدم اليسار غير مسقطة لوجوب الحجّ، كما في صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام) -في حديث- قال:«...فإن كان دعاه قوم أن يحجّوه فاستحيى فلم يفعل فإنه لا يسعه إلاّ أن يخرج و لو على حمار أجدع أبتر»(20).
الطائفة الثالثة: ما دلّ على وجوب الاستنابة على العاجز بدنياً أو سربياً إذا كان قادراً مالياً على الحجّ، نحو صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) -في حديث- قال: «... وإن كان موسراً وحال بينه وبين الحجّ مرض أو حصر أو أمر يعذره الله فيه فإنّ عليه أن يُحجّ عنه من ماله صرورةً لا مال له»(21).
وحيث إنّ القدرة البدنية شرط في الإلزام جزماً؛ بلحاظ إجزاء الحجّ الحرجي أو حجّ الشيخ العاجز عن حجة الإسلام وإن لم يستنب، فالقدرة المالية كذلك؛ لكون أجزاء الاستطاعة على نسق واحد من حيث الدخل في الحكم.
الطائفة الرابعة: ما دلّ على كفاية القدرة العقلية في تحقّق الاستطاعة، نحو صحيح ذريح المحاربي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحج، أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانياً»(22)؛ فإنّ استثناء خصوص المجحف من الحاجات أو المرض المقعد أو المنع القاهر كاشف عن كفاية القدرة العقلية في تحقّق الاستطاعة.
ولكن يلاحظ على الاستشهاد بهذه الطوائف عدم تماميّة الاستناد إليها لإثبات المدَّعى:
أمَّا الطائفة الأولى: فمفادها اعتبار القدرة على المشي في الإلزام -ولا قائل به- لا في أصل المشروعية.
وقد يقال: إنّ هذه الأخبار مما أعرض عنها المشهور مع كونها بمرأى منهم ومسمع، فتسقط عن الاعتبار؛ فإنّ إعراضهم عن النصوص المذكورة -مع صحّة السند وكثرة العدد وكون الجمع العرفي بينها وبين غيرها سهلاً- يدلّ على خلل في الدلالة أو في جهة الحكم(23).
إلا أنّ من المحتمل أن يكون إعراضهم عنها لجهة اجتهادية محضة وهي تقديم الروايات التي تفسّر الاستطاعة بالزاد والراحلة عليها، مع كون الجمع بين هذه الروايات وبين آحاد من تلكم الأخبار أو مجموعها في غاية الصعوبة؛ فإنّ الجمع بين هذين القبيلين من الروايات عموماً وخصوصاً مطلقاً وإن كان لا بأس به بحسب الصورة إلا أنّه بعد الالتفات إلى منشأ التنافي -وهو ظهور روايات الزاد والراحلة في أنّ للزاد والراحلة خصوصيّةً، كما هو شأن كلّ موضوع يؤخذ معروضاً للحكم- يعود صعباً(24).
وأما الطائفة الثانية : فلأنّ بعضها ناظر لفرض استقرار الحجّ، نحو صحيح معاوية بن عمّار المذكور؛ حيث قال: «فإن كان دعاه قوم أن يحجّوه فاستحيى فلم يفعل فإنه لا يسعه إلاّ أن يخرج ولو على حمار أجدع أبتر» فلا مجال للاستدلال بها على ما هو الدخيل في أصل التعلّق، ومفاد بعضها الآخر عدم مانعية الاستحياء في الاستطاعة البذلية، والاستحياء أعمّ من المهانة، نحو صحيح أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): رجل كان له مال فذهب ثم عرض عليه الحجّ فاستحيى؟ فقال: «من عرض عليه الحجّ فاستحيى ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب فهو ممن يستطيع الحجّ»(25)، ولا يستفاد منها عدم اعتبار اليسار في الاستطاعة المالية، ولو استفيد من الجواب -كما هو الظاهر- أنّ الاستطاعة تتحقّق ببذل الحجّ ولو مع المهانة بأن كان على حمار أجدع أبتر، ولم نحتمل خصوصيّةً للبذل إلا أنّ سبيل هذه الرواية سبيل روايات الطائفة الأولى من جهة عدم القائل بها ولو لتنافيها مع روايات اعتبار الزاد والراحلة كما تقدّم.
وأما الطائفة الثالثة: فيلاحظ على الاستدلال بها أوّلاً: أنّه لا شاهد على إجزاء الحجّ الحرجي أو المتكلّف عن حجّة الإسلام؛ فإنّه لا وجه لرفع الإلزام بقاعدة نفي الحرج مع بقاء أصل الأمر؛ لا لقصور القاعدة كي يقال بورودها مورد الامتنان، بل لعدم قابلية المرفوع -وهو الأمر- في نفسه للتبعيض.
وثانياً: أفاد السيّد الأستاذ (دامت بركاته) مذاكرةً أنّه قد يقال: إنّ دليل اللزوم وإن ارتفع بالقاعدة إلا أنّ أدلّة استحباب الحجّ تتناول من لزمته الاستنابة فلم يستنب وحجّ، فيجزيه عن حجّة الإسلام -بناء على عدم دخل وصف الوجوب في حقيقة حجّة الإسلام بل يكفي كونها عن استطاعة مادّية وسربيّة- بمقتضى إطلاقات تلك الأدلّة لو كانت بصدد البيان من هذه الجهة، فالنتيجة لصالح المستدلّ من عدم اعتبار الاستطاعة بسائر خصوصيّاتها في حجّة الإسلام، لكن يقال: إنّ من المحتمل في حقّ القادر ماليّاً وسربيّاً الذي حجّ مع الكلفة أو الحرج خصوصيّةً، وهي أنّ ما دلّ على أمره بالاستنابة إنما هو في مقام بيان الامتنان عليه برفع الإلزام بالمباشرة، وإلا فأصل الأمر باقٍ، وعليه فيجزىء حجّه عن حجّة الإسلام بلا حاجة للأمر الاستحبابي، ولكنّ هذه الخصوصيّة لا منشأ لها في حقّ غيره، وعلى فرض إجمال الدليل من هذه الجهة، ووصلت النوبة إلى الأصل العملي فحيث إنّ المأمور به يدور بين تكليفه بخصوص الاستنابة أو بالجامع بينها وبين مباشرته للحجّ فتجري البراءة عن خصوصيّة الأوّل، ولو باشر الحجّ غفلةً، ثمّ شكّ في أنّ الأمر شامل له لم تجرِ البراءة عن شمول الأمر له بحيث يلزمه الاستنابة؛ فإنّ ذلك خلاف الامتنان، ولا يجري استصحاب الأمر؛ لكونه من استصحاب الكلّي من القسم الثالث، هذا ولكن الفارق بين القادر مالياً فيجزيه الحجّ الحرجي أو المتكلّف عن حجّة الإسلام وبين غيره قائم، وهو استفادة بقاء الحجّ في العهدة ولو بمباشرة الغير بالنصّ المفقود في حق غير القادر.
وبعبارة أخرى إنّ دخل القدرة البدنية في وجوب المباشرة لا يستلزم تحديد الاستطاعة المالية بذلك، خصوصاً وأنّ موضوع وجوب الاستنابة هو الموسر كما سبقت الرواية في ذلك.
وأما الطائفة الرابعة: فهي أوّلاً: ليست في مقام تحديد الاستطاعة بل في مقام بيان دخالة عدم الحرج في استقرار وجوب الحجّ وكون تركه من الكبائر.
وثانياً: على فرض دلالتها على الاكتفاء بالقدرة العقلية -فغاية الأمر فيها أنّها مطلقة فتقيّد بالنصوص الدالّة على اعتبار اليسار المالي. اللهمّ إلا أن يقال: إنّ حمل المطلق على المقيّد هنا غير عرفيٍّ؛ لأنّ ظاهر صحيح ذريح الحصر، بمعنى أن لا مانع من الوجوب إلا تلك الأمور، وهو مما لا يقبل التقييد.
الأمر الثاني : ثمّة نصوص تدلّ على اعتبار اليسار المالي في ثبوت حجّة الإسلام، وهي على طوائف:
الطائفة الأولى: ما دلّ على أخذ الزاد والراحلة موضوعاً للفريضة:
منها صحيح محمد بن يحيى الخثعمي قال: سأل حفص الكناسي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن قول الله (عزَّ وجل): {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، ما يعني بذلك؟ قال: «من كان صحيحاً في بدنه مخلّى سربه، له زاد وراحلة، فهو ممن يستطيع الحجّ، أو قال: ممن كان له مال، فقال له حفص الكناسي: فإذا كان صحيحاً في بدنه، مخلّى في سربه، له زاد وراحلة، فلم يحجّ، فهو ممن يستطيع الحجّ؟ قال: نعم»(26).
الطائفة الثانية: ما دلّ على أخذ عنوان اليسار كحدٍّ للاستطاعة:
منها رواية عبد الرحيم القصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله حفص الأعور وأنا أسمع عن قول الله (عزَّ وجل): {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}؟ قال: «ذلك القوة في المال واليسار، قال: فإن كانوا موسرين فهم ممن يستطيع؟ قال: نعم..»(27).
الطائفة الثالثة: ما دلّ على أخذ عنوان ما يحجّ به الأعمّ من اليسار:
منها: صحيح محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}؟ قال: «يكون له ما يحجّ به..»(28).
الطائفة الرابعة: ما دلّ على أخذ عنوان أهل الجِدة الذي يلتقي مع عنوان اليسار:
منها: صحيح عليّ بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: «إنّ الله (عزَّ وجل) فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام، وذلك قوله (عزَّ وجل): {ولِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}..»(29).
ومقتضى الجمع العرفي بين هذه الطوائف وبين الطوائف السابقة وعدّة نصوص أخرى -سنوردها إن شاء الله- هو حمل ما دلّ على اعتبار اليسار على اعتباره في الإلزام لا في المشروعية، وذلك لعدّة شواهد:
الأول: إنّ ما دلّ على اعتبار اليسار صريح في اعتباره في الإلزام، وظاهر في اعتباره في أصل التعلّق، وما دلّ على عدم اعتباره نحو: (إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين) صريح في نفي اعتباره في المشروعية، وظاهر في عدم اعتباره في الإلزام، ومقتضى حمل ظاهر كلّ منهما على صريح الآخر هو ما ذكر.
الثاني: إنّ ما دلّ على اعتبار اليسار هو عين مفاد قاعدة رفع الحرج بمقتضى المقابلة بين اليسر والعسر.
الثالث: إنّ هناك مجموعة نصوص تؤيّد الجمع المذكور:
منها: ما يستفاد من النصوص في حجّ العبد إذا أعتق عند أحد الموقفين نحو صحيح معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): مملوك أعتق يوم عرفة؟ قال: «إذا أدرك أحد الموقفين فقد أدرك الحجّ»(30).
وما يستفاد من قاعدة (من أدرك) في حجّ الصبيّ إذا بلغ عند أحد الموقفين، من كفاية تحقّق الشرائط عند أحد الموقفين في إجزاء الحجّ عن حجّة الإسلام، مما يكشف عن عدم دخل استطاعة السير في ثبوت حجّة الإسلام.
ومنها: ما ورد من عدم مانعية الدين عن وجوب الحج كما في صحيح معاوية بن عمّار السابق قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل عليه دين، أعليه أن يحجّ؟ قال: نعم...(31) مما يكشف عن عدم اعتبار اليسار المالي في ثبوت حجّة الإسلام.
ومنها : ما ورد في وجوب الحجّ مرّة واحدة في العمر، نحو صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما كلّف الله العباد إلاّ ما يطيقون، إنما كلّفهم في اليوم والليلة خمس صلوات -إلى أن قال- وكلّفهم حجة واحدة وهم يطيقون أكثر من ذلك»(32)، ونحو رواية الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) قال: «إنما أمروا بحجّة واحدة لا أكثر من ذلك؛ لأنّ الله وضع الفرائض على أدنى القوة، كما قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} -يعني شاة- ليسع القوي والضعيف، وكذلك سائر الفرائض إنما وضعت على أدنى القوم قوةً، فكان من تلك الفرائض الحجّ المفروض واحداً، ثم رغَّب بعد أهل القوة بقدر طاقتهم»(33)؛ فإنّه لا يصحّ تعليل التفضّل والامتنان بالاكتفاء بالحجّة الواحدة مع اعتبار الاستطاعة الشرعية، فصحّة التعليل قرينة على كون المعتبر في أصل المشروعية هو الاستطاعة العقلية فقط؛ ولذلك لما كان المكلّف قادراً عقلاً على أكثر من حجّةٍ صحّ تعليل التفضّل عليه بالاكتفاء بالحجّة الواحدة.
ويلاحظ على ذلك :
أوّلاً: إن حملّ الظاهر على النصّ إنما يتمّ في إطار القرينية عرفاً، بحيث لو جمعا في خطاب واحد لكانا متلائمَين، وهو غير منطبق على المقام؛ لاستحكام التعارض بين ما دلّ على اعتبار الزاد والراحلة مع اليسار، وما دلّ على كفاية القدرة العقلية.
مضافاً إلى أنّ التفكيك في المفاد الواحد بحيث يكون بعضه قرينة على غيره، وبعضه الآخر مورداً لقرينةٍ من جهة غيره إنما يتصّور في المفاد الذي يتصّور انحلاله لعدّة مداليل عرفاً، أما في فرض التفكيك التحليلي لا العرفي فمن المستهجن جعل بعض المدلول قرينة على بعض المدلول الآخر.
وعلى فرض التعارض فيقدمّ ما دلّ على اعتبار اليسار في الاستطاعة المالية؛ لموافقته للكتاب؛ لظهور الآية في نفسها في اعتبار الاستطاعة، أي استطاعة الحج بما هو سفر بمعنى وجدان نفقته زائداً على نفقة العيال المعبّر عنه باليسار.
هذا وروايات اعتبار اليسار بالغةٌ حدّ السنّة القطعية -حيث إنّ روايات كلّ طائفة من الطوائف الثلاث الأولى مستفيضة- فيسقط المخالف عن الاعتبار، ولا تصل النوبة إلى مرجّحات باب التعارض.
وثانياً: إنّ مفاد ما دلّ على اعتبار اليسار مغاير لمفاد قاعدة رفع الحرج؛ إذ المقابل للعسر هو اليسر، لا اليسار، فاليسار ظاهر عرفاً في سعة المال، كما يؤكّد ذلك عطفه على القوة في المال في معتبر عبدالرحيم القصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سأله حفص الأعور وأنا أسمع عن قول الله عزّ وجلّ: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، قال: «ذلك القوة في المال واليسار..»(34).
وثالثاً: إنّ ما دلّ على إجزاء حجّ العبد عن حجّة الإسلام إذا أعتق عند أحد الموقفين لا يدلّ على عدم دخالة اليسار في حجّة الإسلام؛ لعدم الملازمة بين الاكتفاء في شرط العتق أو البلوغ بتوفّره عند أحد الموقفين، والاكتفاء في شرط القدرة المالية بمثل ذلك؛ إذ ليس في مقام البيان من هذه الجهة، وعلى فرض التنزّل فإنّ غايته عدم اعتبار استطاعة المسير إلى الموقفين في ثبوت الحجّ، لا عدم اعتبار اليسار الذي يحتاجه الحاجّ في الموقفين وعند رجوعه إلى مكة لأداء النسك وما يحتاجه لرجوعه إلى وطنه.
ورابعاً: إنّ غاية ما دلّ على عدم مانعية الدين من الحجّ أن الاستطاعة غير متقوّمة بعدم الدين، وهو لا ينفي اعتبار اليسار؛ لإمكان الجمع عرفاً بين ما دلّ على اعتباره وما دلّ على عدم مانعية الدين بحمل الطائفة الثانية على الدين المؤجّل فترة طويلة بحيث لا يتنافى اشتغال الذمة به مع صدق اليسار المالي عرفاً، مع فرض أنّ صرف المال فعلاً في الحجّ لا يؤدّي إلى العجز عن أدائه في ظرفه أو الدين العاجل مع إحراز المدين إبراء الدائن له في ظرفه.
وخامساً: إنّ ما دلّ على تعليل التفضّل بإيجاب الحجّ مرّة واحدة بأنّه مناسب لأدنى القوة لا شاهد فيه على أنّ الدخيل في المشروعية مجرد الاستطاعة العقلية، وذلك لأنّ الاستطاعة الشرعية بمعنى وجدان نفقة الحج عدة مرات أمرٌ ميسور بالنسبة للكثير من الناس، فيصحّ بلحاظه تعليل الاقتصار على المرّة الواحدة بالتفضّل والامتنان.
المحصّلة:
فتحصّل مما تقدّم أنّه لم يتمّ وجه على كون الاستطاعة قيداً في الإلزام.
والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلّى على محمّد وآله، وقد وقع الفراغ من تحرير هذه الكلمات في الرابع عشر من محرّم الحسين السبط من سنة 1436هـ، وأنا أشهد أنّ الجهاد معك -يا أبا عبد الله- جهاد، وأنّ الحقّ معك وإليك، وأنت أهله ومعدنه -كما ورد في الزيارة(35)-.
***
* الهوامش:
*هذا البحث مقتطع من ( بحوث في فقه الحج) تقرير بحث الأستاذ السيّد منير الخبّاز (دامت بركاته)، بقلم الشيخ عبدالهادي اللويم 1: 108- 111، 124- 131، وقد أدخلت عليه جملة من الإضافات والتغييرات فنيّة وعلميّة كالقرينة الثانية مع الإجابة عنها برمّتها.
(1) الخلاف2: 246 (ك الحجّ، م3).
(2) انظر: سند الناسكين للشيخ محمّد سند البحراني: 12 الشرط الرابع: الاستطاعة، 23 م53، 44 م130.
(3) انظر: سند العروة الوثقى (ك الحجّ)، تقرير بحث الشيخ محمّد سند، بقلم السيّد أحمد الماجد والشيخ حسن العصفور1: 102، 103.
(4) سورة الحجّ: 27.
(5) إشارة: إنّ الآية خطاب لإبراهيم (عليه السلام) كما هو ظاهر سياقها، وعدم دخل الاستطاعة في الحجّ الواجب في شريعته لا يستلزم ذلك في شريعتنا، وما ورد في صحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) إنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ، ثمّ أنزل الله عليه {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يحجّ من عامه هذا-الوسائل11: 213 ب2 من أبواب أقسام الحجّ ح4- فمفاده أنّه عندما نزلت هذه الآية أمر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بالحجّ، لا أنّه هو المخاطب بالآية.
نعم إنّ إبراهيم (عليه السلام) قد خاطب في أذانه الناس إلى يوم القيامة، وقد أُمرنا بمتابعته في قوله تعالى: {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}- سورة آل عمران: 67-.
(6) وسائل الشيعة11: 43 ب11 من أبواب وجوب الحجّ ح1.
(7) سورة البقرة: 169.
(8) وسائل الشيعة11: 7، 8 ب1 من أبواب وجوب الحجّ ح2.
(9) وسائل الشيعة12: 466 ب32 من أبواب تروك الإحرام ح6.
(10) وسائل الشيعة11: 320 ب9 من أبواب المواقيت ح4.
(11) وسائل الشيعة11: 233 ب2 من أبواب أقسام الحجّ ح29.
(12) علل الشرائع2: 408 ب144 ح1، الكافي4: 265 باب فرض الحجّ والعمرة ح4، عنهما في وسائل الشيعة11: 9 ب1 من أبواب وجوب الحجّ ح5، الوسائل14: 297 ب1 من أبواب وجوب العمرة ح8.
(13) فرائد الأصول1: 252.
(14) وسائل الشيعة11: 35 ب8 من أبواب وجوب الحجّ ح7.
(15) وسائل الشيعة11: 37 ب9 من أبواب وجوب الحجّ ح1.
(16) وسائل الشيعة11: 34 ب8 من أبواب وجوب الحجّ ح6.
(17) سند العروة الوثقى(ك الحجّ)1: 105- 116.
(18) وسائل الشيعة11: 39، 40 ب10 من أبواب وجوب الحجّ ح1.
(19) وسائل الشيعة11: 43 ب11 من أبواب الحجّ 1.
(20) وسائل الشيعة11: 40 من أبواب وجوب الحجّ ح3.
(21) وسائل الشيعة11: 63 ب24 من أبواب وجوب الحجّ ح2.
(22) وسائل الشيعة11: 29، 30 ب7 من أبواب وجوب الحجّ ح1.
(23) انظر: مستمسك العروة الوثقى10: 70.
(24) انظر: المرتقى إلى الفقه الأرقى (ك الحجّ)1: 55.
(25) وسائل الشيعة11: 42 ب10 من أبواب وجوب الحجّ ح8.
(26) وسائل الشيعة11: 34 ب8 من أبواب وجوب الحجّ ح4.
(27) وسائل الشيعة11: 38 ب9 من أبواب وجوب الحجّ ح3.
(28) وسائل الشيعة11: 33 ب8 من أبواب وجوب الحجّ ح1.
(29) وسائل الشيعة11: 16 ب2 من أبواب وجوب الحجّ ح1.
(30) وسائل الشيعة11: 52 ب17 من أبواب وجوب الحجّ ح2.
(31) وسائل الشيعة11: 43 ب11 من أبواب وجوب الحجّ ح1.
(32) وسائل الشيعة11: 19 ب3 من أبواب وجوب الحجّ ح1.
(33) وسائل الشيعة11: 19، 20 ب3 من أبواب وجوب الحجّ ح2.
(34) وسائل الشيعة11: 38 ب9 من أبواب وجوب الحجّ ح3.
(35) كامل الزيارات: 372 ب79 (الزيارات) ح3 (619).
0 التعليق
ارسال التعليق