الفصل الثاني: دور الارتكازات العقلائية في عملية الإستنباط
ويتضمّن مباحث:
الأول: إثبات الارتكازات العقلائية للدليل الشرعي الكلّي.
الثاني: دور الارتكازات العقلائية في فهم النصوص الشرعية.
الثالث: دور الارتكازات في تحديد الأفراد الإعتبارية للعناوين.
الرابع: دليلية الارتكاز بكلا قسميه لمباحث الألفاظ.
دور الارتكازات العقلائية في عملية الإستنباط
قد اتضح أن للارتكازات دورين مهمّين هما:
1- الكشف عن الدليل الشرعي الكلي.
2- الرجوع إليها في تبيين المفاهيم وفهم ظواهر الأدلة.
وسيأتي بيانهما هنا:
المبحث الأول: إثبات الارتكازات العقلائية للحكم الشرعي الكلي
مرّ وأشرنا إلى وقوع الخلاف بين الأعلام وأنّ الإمضاء الشرعي هل هو منصبّ على النكتة الارتكازية أو على نفس السلوك الخارجي، وقد ذهب إلى كلٍ من القولين جمع من الأعلام، فمنهم من اختار كون الممضى هو النكتة كالسيد محسن الحكيم في المستمسك(1)، ومنهم من ذهب إلى كون الممضى هو العمل الخارجي بقدره كالشيخ الأصفهاني والسيد الخوئي(2).
دليل إمضاء النكتة الارتكازية:
وقد ذهب الشهيد الصدر (قدِّس سرُّه) إلى أنّ الممضى هو النكتة لا السيرة، وقد بيّن وجه ذلك بقوله: "لأنّ المعصوم له مقام التشريع وإبلاغ أحكام الله سبحانه وتعالى وتصحيح وتغيير ما ارتكز عند الناس من شرائع غير صحيحة، ومثل هذا المقام أوسع مدلولاً من مجرد كونه ناهياً للمنكر الخارجي وآمراً بالمعروف بل يدلّ بحسب ظهوره الحالي على أنّه ناظر إلى النكات التشريعية الكبروية نفياً أو إثباتاً، فيكون لسكوته وعدم ردعه ظهور في إمضاء النكتة العقلائية للسيرة"(3).
بل ونقض على مَن قال بأنّ الممضى هو السيرة والسلوك الخارجي فقط بأنّ هذا لا ينفع إلا في موارد قليلة، بمعنى أنّنا مع ما ذكرنا من وجوه متعددة لبيان كيفية إثبات معاصرة السيرة للمعصومين (عليهم السلام) إلا أنّ هذه الوجوه لا تنفع إلا في عدد قليل من السير؛ سبب ذلك يتّضح بمعرفة كيفية نشوء وتكوّن الارتكازات العقلائية في المجتمعات البشرية فهي تتأثر بالعوامل الفكرية والإجتماعية والسياسية والاقتصادية -كما مرّ-، وهذا ما يجعل الاطمئنان بها بعيداً جداً، خصوصاً الأمور المعاملية والقوانين الإجتماعية لأنّها تتأثر أكثر بالعوامل المختلفة بتطّور الزمن، فلا يمكن إذن العمل بالسيرة بهذا العرض العريض، إذن ما هو الحل؟
يجيب (قدِّس سرُّه) بقوله: "هذا ما يمكن الوصول إليه في كثيرٍ من المجالات -من خلال قاعدة «لا ضرر» وأمثالها- بعد أن نرجعها إلى أنّها بصدد إمضاء ملاك ونكتة الارتكازات العقلائية، هذا مضافاً إلى أنّ البناء العقلائي قائم على أصالة الثبات وعدم النقل"(4).
وقد يفهم من الميرزا النائيني ذلك أيضاً فقد ذكر عند الحديث حول (طريقة العقلاء) أي السيرة العقلائية ما لازمه ذلك حيث قال: "لا يبعد الحاجة إلى الإمضاء في باب المعاملات لأنّها من الأمور الإعتبارية التي تتوقف صحتها على اعتبارها... وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع كالمعاملة المعروفة في هذا الزمان بـ«البيمة».."(5) فتمثيله بأمرٍ مستحدث والإمضاء منصب على غيره في ذاك الزمان يكشف أن الممضى هو النكتة لا نفس السلوك والفعل الخارجي، إلا أن يكون ممن يقول بأن المعاملات لا تحتاج إلى إمضاء.
ماذا يترتّب على إمضاء النكتة لا السيرة؟
أولاً: حيث إن الممضى ليس هو العمل الصامت الذي لا يدلّ على أكثر من الجواز، بل الممضى هو النكتة، أي المفهوم العقلائي المرتكز عنه فقد يثبت به حكم تكليفي أو حكم وضعي.
ثانياً: إن الإمضاء لا يختص بالسلوك الخارجي أو بالعمل المباشر فيه عقلائياً في عصر المعصوم (عليه السلام)، ففيما إذا كانت النكتة أوسع من حدود السلوك الفعلي كان الظاهر من حال المعصوم امضاءها كبروياً وعلى امتدادها(6).
نموذج وتطبيق:
استدل السيد الشهيد (قدِّس سرُّه) في بحث «فقه البنوك» على صحة مالكية الجهة أو الشيء غير الواعي كالدولة بالارتكاز العقلائي وشبهه ويقول: "إنّ الارتكاز العقلائي وشبهه يساعد على ثبوت ملكية الجهة أو الشيء غير الواعي، ويكفي عدم الردع من قبل الشارع في ثبوت إمضاء أصل النكتة المرتكزة، فنسري الإمضاء إلى المصاديق المستجدّة غير الموجودة في زمن الشارع"(7) وغيره من الأمثلة والتطبيقات الكثيرة.
ضابط تسرية النكتة للأفراد المستجدة:
وقد أبرز السيد الشهيد (قدِّس سرُّه) نكتتين توجبان توسعة مفاد الدليل لكي يشمل بعض المصاديق التي ثبتت في أزمنة متأخّرة عن عصر النص هما:
النكتة الأولى: إننا لا بد أن نرى أن الشارع عندما أمضى ذلك الارتكاز العقلائي المعاصر له، هل كان بصدد إمضاء ما هو في حدود المعمول به خارجاً وقام التعارف عليه، أم كان الإمضاء أوسع من مقدار الجري العملي لذلك الارتكاز؟
فإن قلنا: إن الإمضاء كان بالنحو الثاني فالميزان حينئذٍ ليس هو التفات العرف المعاصر للشارع إلى أن هذا الفرد الحادث بعد عصر النص مصداق لذلك الارتكاز، وإنما المعيار تصديقه بفردية الفرد وإن كان غير ملتفت إليه بالفعل. ولمّا كان المفروض أن المستعمِل لهذا اللفظ -أي الشارع- نظره مطابق لنظر العرف في مقام الاستعمال فلازمه أن يصدّق بفردية هذا الفرد، فيشمله إطلاق خطابه.
من هنا يتّضح أن النكتة العقلائية إذا كانت عامة غير مستجدّة بل موجودة منذ عصر التشريع، لكنها لم تكن متجلية إلا في أفراد محدودة بسبب ضيق الحياة وقتئذ، وأدّى بعد تطور الحياة إلى أن تستجدّ أفراد أُخر لو التفت إليها أولئك العقلاء لحكموا بانطباق تلك النكتة عليها، فمثل ذلك يشمله إطلاق الدليل بلا إشكال. وهذا ما نصطلح عليه بأن الإمضاء منصبّ على تلك النكتة العقلائية التي هي أساس العمل الخارجي للعقلاء وملاكه في نظرهم.
ومن الواضح أننا في مثل هذه الموارد لا نحتاج إلى التطبيق الفعلي والالتفات التفصيلي لكل الأفراد التي تشملها تلك النكتة العقلائية، من قبيل: ما لو فرضنا أن السيرة العقلائية كانت قائمة على سببية الحيازة للتملّك، وكان المقدار المعمول به فيها خارجاً هو الحيازة بما يتناسب مع الإمكانات والوسائل المتاحة في ذلك الزمان كالإغتراف والإحتطاب ونحوهما، لكن بعد تطوّر الحياة بحسب إمكاناتها العلمية استجدّت مصاديق جديدة كحيازة الطاقة الكهربائية مثلاً فإنّه يمكن أن يقال إنها مشمولة لنكتة المالكية بالحيازة الثابتة في عصر التشريع...
النكتة الثانية: إذا كانت نكتة الارتكاز في نظر الفقيه في أي عصر تقتضي نفي الحكم لكونه ضررياً وشككنا في أنّ هذه النكتة كانت موجودة في عصر التشريع أم لا؛ فهذا معناه: أن الخطاب الموجود في هذا العصر ظاهر في الشمول لمثل هذا الفرد لكن نشك في أن هذا الظهور هل هو حادث أو كان موجوداً في عصر صدور الخطاب أيضاً؟
هنا تجري أصالة الثبات في الظهور على ما اصطلح عليه السيد الشهيد، أو أصالة عدم النقل كما هو المتعارف في كلمات المشهور من علمائنا، فإنّه كلما وُجد ظهور في لفظ شك في تأخّره وتقدّمه يبنى على أنّه كان موجوداً من أوّل الأمر، وهذه هي سيرة علمائنا الفقهية على مرّ التاريخ فإنّهم كانوا يستدلون بمثل قاعدة «لا ضرر» حسب ارتكازاتهم التي يعيشونها في مقام استنباط الأحكام من هذه القاعدة.
وعلى أساس هاتين النكتتين تترتب آثار مهمّة على هذه القاعدة وأمثالها في مقام الاستنباط..(8).
الضابط بصياغة أخرى:
وقد ذكر هنا بعض تلامذة السيد عند تعليقه على رأي استاذه في عمومية تسرية النكتة إلى الأفراد المستجدة النكتة الأولى آنفة الذكر بعبارة أخرى مع بعض الإضافات حيث قال: "إنّ التمسّك بإمضاء ارتكاز عقلائيّ في زمن المعصوم لإثبات الحكم على مصداق جديد في زمننا للكبرى المرتكزة إنّما يعقل فيما إذا كان لدينا حكم مرتكز ولهذا الحكم موضوع كان يتمثّل في بعض مصاديقه في زمن المعصوم ثمّ تمثّل في زمننا في مصداق جديد، وكان هذا المصداق مصداقاً حقيقيّاً وتكوينيّاً لذاك الموضوع وإن لم يوجد مثله في ذاك الزمان... لأنّه كامن في الحكم الذي كان ثابتاً وقتئذ لدى العقلاء، وكان الضيق في المصداق الخارجيّ لا في الارتكاز.
أمـّا إذا افترضنا أنّه لم يوجد مصداق حقيقيّ جديد لذاك الموضوع، ولكن العقلاء توسّعوا في الحكم إمـّا بمعنى مجرّد التوسّع في نفس الحكم أو بمعنى إيجاد فرد اعتباريّ لذاك الموضوع فهنا لا يمكن إسراء الحكم الممضى عمّا كان في زمن المعصوم إلى المورد.
مثاله: ما لو فرضنا أنّ العقلاء حكموا أخيراً بأنّ من أشعل مصباحاً واتّسع نوره على أجسام كانت من المباحات الأصليّة فقد ملك تلك الأجسام، وذلك إمـّا بمعنى مجرّد توسيع لنطاق التملّك، أو بمعنى فرض وقوع أشعّة المصباح على جسم من الأجسام مصداقاً من مصاديق الحيازة جعلا واعتباراً. فهذا لا يكفي لإثبات حكم الحيازة وهو المملّكيّة على هذا المورد. أمـّا في فرض مجرّد توسيع الحكم فالأمر واضح، لأنّ هذا حكم جديد للعقلاء لم يكن مستبطناً في الارتكاز السابق. وأمـّا في فرض جعل انتشار النور حيازة بالاعتبار فلأنّ روح الاعتبار ـ إذا اُريد له أن يكون أمراً مفيداً عقلائيّاً ـ إنّما هو توسيع الحكم، فهذا أيضاً يعني الحكم الجديد للعقلاء غير المستبطن في الارتكاز السابق.
نعم، لو فرضنا فرضاً غير واقع أنّ المملّكيّة التي كانت حكماً ارتكازيّاً للعقلاء -مثلا- لم يكن موضوعها عبارة عن الحيازة الحقيقيّة بل كان موضوعها عبارة عمّا يشمل الحيازة الاعتباريّة بالنسبة لكلّ زمان بحسب ذلك الزمان فعندئذ سيكون اعتبار انتشار النور على الأجسام حيازةً لها خلقاً لمصداق حقيقيّ وتكوينيّ لموضوع الحكم الارتكازيّ، فيثبت الحكم هنا لأنّه رجوع إلى القسم الأوّل"(9).
دليل حجية الارتكازات العقلائية:
يكشف الارتكاز عن الحكم الشرعي الكلي عبر طي مرحلتين:
1- إثبات معاصرة نكتة الارتكاز للنبي (صلّى الله عليه وآله) أو الأئمة (عليهم السلام) وقد مرّ ذكر طُرُقها.
۲- استلزام ذلك لجعل الشارع الحكم على طبق تلك النكتة حين نحرز عدم ردعها، وهذا يمكن استكشافه بواسطة ضم قضيتين شرطيتين:
الأولى: إنّه لو لم يكن الشارع قد أمضى هذا الارتكاز لردع عنها.
والثانية: إنّه لو ردع عنها لوصل ذلك إلينا. وبما أنّ التالي في الشرطية الثانية باطل، إذن فالمقدّم فيها الّذي هو التالي في الشرطية الأولى باطل، وبه يبطل المقدّم في الشرطية الأولى فيثبت الإمضاء.
ولا يكفي عدم إحراز الردع بل لابد من إحراز عدم الردع، وقد ذهب الشيخ الاصفهاني (رحمه الله) في حاشيته على الكفاية إلى أنّ حجية السيرة لا تحتاج إلى إحراز عدم الردع بل يكفي في حجيتها إلى عدم إحراز الردع يعني يكفي عدم الدليل ولا حاجة إلى إثبات دليل على العدم(10)، إلا أن السيد الشهيد لم يقبل مسلك الأصفهاني وردّ عليه بشكل مسهبٍ نعرض عن نقله، إلى أن ذكر أدلة مسلكه ومفادها بإيجاز:
الدليل الأول: من خلال الدلالة العقلية وهي استحالة نقض الغرض، وهي: أن المعصوم لا يمكن أن يتخلّف عن أداء رسالته من تبليغ الرسالة وبيان أحكامها، ولذلك عدم ردعه يعني نقض غرضه خصوصاً في السير والارتكازات التي تشكل خطراً على أغراضه.
الدليل الثاني: من خلال الظهور الحالي السياقي، وهو: أن المعصوم مكلف بتبليغ الشريعة وتبيين أحكامها، إلا أنّ هذا الظهور ينبغي أن يكون قطعياً يحصل اليقين بمطابقته للواقع وإلا احتيج إلى إثبات كبرى حجية الظهور بما فيها هذا الظهور لكي يُستدل به.
وأما إثبات عدم كفاية «عدم إحراز الدليل»؛ إذ عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود بل الحاجة إلى إثبات عدم الدليل واقعاً أي إحراز عدم الدليل فبالاستعانة بنظرية السيد الشهيد في تراكم حساب الاحتمالات وبيانه في النقاط التالية:
1- إنّ عدم وصول الردع إثباتاً يكشف عن عدمه ثبوتاً.
2- وجه الملازمة: هي أنّ الردع عن كل سيرة بحسبها أي أنّه يتحدد حجمه بمقدار أهميتها وترسّخها.
3- إنّ هذا النوع من الردع لا بد فيه من تكرر يتناسب وتفشي المردوع وموجباً لكثرة السؤال وكثرة الجواب.
4- إن هذا الردع مما تتوفر فيه حينئذٍ دواعي النقل من خلال الروايات عن المعصوم (عليه السلام).
5- من البعيد جداً بحساب الاحتمال أن يختفي كل ذلك عنّا رغم توفر الدواعي على نقله لكونه قضية تأسيسية(11). إذن، من خلال هذه المقدمة نصل إلى النتيجة التالية وهي: إحراز عدم الدليل وليس فقط عدم إحراز الدليل.
المبحث الثاني: دور الارتكازات العقلائية في فهم النصوص الشرعية
تلعب الارتكازات دوراً مهماً وخطيراً في تحديد مداليل النصوص وتبيين مفاهيمها لتنقيح صغريات الأدلة الشرعية؛ إذ الشارع قد أوكل إليها هذه المهمة؛ لأنّها تمثّل ضوابط وأسس لقواعد المحاورة العرفية التي بُنيت عليها نصوصه، وقد رفض السيد الشهيد تدّخل الفهم الفلسفي فيما أُوكل فهمه إليها، وذلك في بحث الحوالة حين تحدث عن أنحاء التصرف المعاملي للدين ذكر في النحو الرابع وهو (تغيير المدين مع انحفاظ الدائن والمال) أنه يتوقف على رضا المحول إليه قال (قدِّس سرُّه): "وهذا لا إشكال فيه وإن كان بحسب الفهم الفلسفي يرى أن الدين يتغيّر بسبب تحويله من ذمة إلى أخرى؛ لأن الاعتبار لا ينقل والذمة أمر اعتباري -إلى أن قال- إلا أنّ هذا فهم فلسفي لا فقهي، والكلام في الثاني دون الأول؛ فإنّه لا اعتبار بالفهم الفلسفي في الأمور الارتكازية العقلائية؛ فإن العقلاء يرون أن المكان قد تغيّر دون أيما تغيير في الدين"(12) وسأذكر هنا دورها المهم وبعض تطبيقاتها ضمن عناوين أربعة:
الارتكازات العقلائية قرائن متّصلة:
المشهور عند الأصوليين أنّ انعقاد الظهور يتوقف على عدم القرينة المتصلة، وأمّا المنفصلة فينعقد معها الظهور إلا أنّها -القرينة المنفصلة- ترفع حجيته.
وقد ذهب السيد الشهيد (قدِّس سرُّه) إلى أنّ الارتكازات العقلائية مخصصات لبّيةٌ وتلعب نفس الدور الذي تلعبه القرائن المتصلة فتؤثّر في فهم النص وتمنع ظهوره بحاق لفظه يقول (قدِّس سرُّه): "إن الارتكاز العقلائي -بقطع النظر عن الإستدلال بالسيرة العقلائية بما هي سيرة عقلائية- يغدو أساساً لتكوّن ظهور في الأدلة اللفظية، على النحو الذي بيناه مراراً في الفقه؛ حيث قلنا: إنّ كثيراً من الظهورات في الأدلة اللفظية إنما هو حصيلة الارتكازات الإجتماعية لا الأوضاع اللغوية القاموسية، فهذه الارتكازات الموجودة عند العقلاء... توجب انعقاد ظهور في الدليل نفسه... فيكون هذا الارتكاز العقلائي بمثابة القرينة المتصلة"(13).
ويقول من جهة أخرى (قدِّس سرُّه) مبيّناً تأثير الارتكازات في فهم النص وإن كانت ارتكازات محتملة غَفَل -كما هو الغالب- الراوي عن نقلها: "لو احتملنا قرينة متصلة لا يكون للراوي نظر إليها في مقام النقل فلا يمكن نفيها بشهادته كما هو الحال في القرائن اللبية المرتكزة في الأذهان بنحو تكون كالمتصل، فإن الراوي ليس في مقام نقل المرتكزات العامة المعايشة في عصره والتي لا يلتفت إليها تفصيلاً غالباً كما هو واضح"(14).
مناسبات الحكم والموضوع ارتكازات عقلائية وعرفية:
ما يُعرف في كلمات الأصوليين بـ (مناسبات الحكم والموضوع) هو قسم مهم من أقسام الارتكازات العقلائية والعرفية المؤثّرة في فهم النص تأثيراً ملحوظاً، فلها دور في تحديد سعة الحكم وضيقه.
فإنّ مناسبات الحكم والموضوع إمّا أن تستوجب توسيع دائرة الحكم أو تضييق دائرته؛ لأنّ الأحكام مجعولة على موضوعاتها أو متعلقاتها تارة بشكل مطلق وأخرى بشكل مقيّد -أي مجعولة على حيثية من حيثياتهما- والقيود إمّا أن يصرّح بها أو لا؛ وعدم التصريح يكون اعتماداً على ارتكاز ثابت في أذهان أهل المحاورة والعرف؛ "حيث إنّ الحكم له مناسبات ومناطات مرتكزة في الذهن العرفي، بسببها ينسبق إلى ذهن الإنسان عند سماع الدليل التخصيص تارة والتعميم أخرى، وهذه الانسباقات حجة؛ لأنّها تشكّل ظهوراً للدليل"(15)، وقد صرّح السيد الشهيد بهذه الحقيقة أيضاً عندما كان بصدد الثناء على كتاب (فقه الإمام الصادق -عليه السلام-) للشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله) وأنّه تميّز بـ(الفهم الاجتماعي للنص) يقول (قدِّس سرُّه): "ومناسبات الحكم والموضوع هذه هي في الواقع تعبير آخر عن ذهنية موحّدة، وارتكاز تشريعي عامّ على ضوئه يحكم الفقيه بأن الشيء الذي يناسب أن يكون موضوعاً للتملّك بالحيازة أو للمتنجس بالماء المتنجس أوسع نطاقاً من الأشياء المنصوص عليها في الصيغة اللفظية، وهذا ما نعنيه بالفهم الاجتماعي للنص، وهكذا نعرف أنّ الفهم الاجتماعي للنصّ على ضوء ارتكاز عام يشترك فيه الأفراد نتيجة لخبرة عامّة وذوق موحّد، وهو لذلك يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنصّ"(16)، فهو وإن عبّر بـ"ارتكاز تشريعي" إلا أنّه يفهم من مجموع عبارته بأمثلتها وذيلها أنّ مقصوده هو الأعم من الارتكاز العقلائي العرفي والارتكاز المتشرعي، وهو في الأول أوضح.
وذكر دليل حجية الإتكال على الارتكازات ومناسبات الحكم والموضوع بقوله: "أمّا المبرر للإعتماد على الارتكاز الإجتماعي في فهم النص فهو نفس مبدأ حجية الظهور؛ لأنّ الارتكاز يُكسب النص ظهوراً في المعنى الذي يتّفق معه، وهذا الظهور حجة لدى العقلاء كالظهور اللغوي؛ لأنّ المتكلّم بوصفه فرداً لغويّاً يفهم كلامه فهماً لغوياً، وبوصفه فرداً اجتماعياً يفهم كلامه فهماً اجتماعياً، وقد أمضى الشارع هذه الطريقة في الفهم"(17).
كيفية ووجه دلالة الارتكاز المنقّح لصغرى الدليل الشرعي:
إن الاستعانة بالارتكاز لتشخيص وتنقيح صغريات الأحكام الشرعية يتم بملاحظة التالي:
أولاً: (إعمال المناسبات العرفية والعقلائية في فهم الأدلة الشرعية) فإنّ المرتكزات العرفية والبناءات العقلائية تتدخل في كثيرٍ من الأحيان في تكوين الظهور واقتناصه من الدليل.
ثانياً: إنّ هذا الإعمال إعمال على القاعدة فلا يحتاج إلى دليل على حجيته؛ لأنّه حينئذٍ قرينة على تنقيح كيفية دلالة الدليل ليس إلا.
ثالثاً: إذا أحرزنا ثبوت هذا الارتكاز في عصرنا واحتملنا ثبوته في عصر صدور النص فهذا كاف في قرينية الارتكاز على الدليل لدخوله تحت أصالة الثبات في اللغة وأصالة عدم النقل(18).
موارد تطبيق الارتكازات لفهم الأدلة:
وظّف السيد الشهيد (قدِّس سرُّه) الارتكازات العقلائية كثيراً في فهم واستظهار مداليل النصوص الشرعية، وأكثرها في كتابه (شرح العروة الوثقى) ويليه تقريرات بحوثه المتناثرة في طيات الكتب والأبحاث والدوريات نذكر بعضها هنا:
المورد الأول:
نفى الشهيد في بحث الماء المطلق والمضاف في بحث الآية: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ}(19) الموضوعية للتنزيل في مطهرية الماء ببركة الارتكاز حيث قال: "وبعد التردد بين الموضوعية والطريقية يمكن تعيين الطريقية بمناسبات الحكم والموضوع المركوزة في الذهن العرفي، فإنّ المرتكز بمناسبات الحكم والموضوع العرفية: أن موضوع المطهرية العرفية طبيعي الماء، وأنّ الإنزال من السماء ليس له دخل في المطهرية العرفية إلا بوصفه طريقاً لإيجاد ذات المطهر الذي هو الماء. وهذا الارتكاز بنفسه يكون قرينةً لبيةً ومنشأً لظهور الآية في كونه مأخوذاً على نحو الطريقية الصرفة إلى وجود ذات الماء، وبذلك ينعقد للآية الكريمة ظهور في مطهرية طبيعي الماء"(20).
وعين هذا التطبيق للإرتكاز أجراه (قدِّس سرُّه) في بحث الأخذ من الماء الذي استقى منه الكلب: "والظهور الأولي لأخذ القيد وإن كان يقتضي دخله بنحو الموضوعية ولكن يرفع اليد عن هذا الظهور في المقام بقرينة الارتكاز المبني على مناسبات الحكم والموضوع المركوزة في الذهن العرفي... فارتكازية عدم دخل الإستقاء بعنوانه تكون قرينة على رفع اليد عن الظهور الأولي للقيد في الموضوعية وحمله على الطريقية"(21).
المورد الثاني:
الارتكاز كموسّع أو مضيّق لمدلول الدليل كما هو الحال بالنسبة إلى طائفة من الروايات وهي الدالة على اعتصام الماء وأنّه لا ينفعل إلا بالتغيّر كصحيح حريز: «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب» يقول السيد الشهيد (قدِّس سرُّه): "فإذا لم تكن هذه الطائفة حجة في إثبات الاعتصام للماء القليل لا تكون حجة في إثبات الطهارة الذاتية له، إلا إذا ضمّ إلى ذلك ارتكازية عدم دخل القلة والكثرة في أصل النجاسة الذاتية"(22).
المورد الثالث:
يتطرق (قدِّس سرُّه) في بحث الماء المضاف لقاعدة لطالما أكّد عليها وهي تدخل الارتكاز في مدلول الدليل: "فالدليل وإن لم يكن له إطلاق -لو خلي وحده- ولكن ينعقد له الإطلاق بضمّ القرائن الارتكازية المتصلة... لا بمعنى أننا ندّعي القطع بالملاكات الشرعية وأن الحكم الشرعي ليس منوطاً بتلك الخصوصية واقعاً، وإنما ندّعي أن ارتكازية عدم دخل هذه الخصوصية في النظر العرفي -بحسب ما يفهمه العرف من مناسبات الحكم والموضوع- تكون منشأ لظهور الدليل في إلغائها وكونها مجرّد مورد، مع تعلّق الحكم بالجامع المحفوظ... وبذلك نتمسّك بالاطلاق"(23).
المورد الرابع:
في باب الحوالة ذكر السيد الشهيد تعريفين لكلٍّ من العهدة والذمة وذكر (قدِّس سرُّه) أنهما مأخوذان من الارتكاز العقلائي حيث قال: "وهذا التعريف المزبور لكل من الذمة والعهدة كأنه مأخوذ من ارتكازات العقلاء..."(24) وإن لم يقبل التعريفين من جهة عدم إبراز النكتة الحقيقية الفارقة بينهما ولذلك قام بإبرازها.
المورد الخامس:
قد استدلّ -كذلك في باب الحوالة- السيد الشهيد بـ(الارتكاز العقلائي) على ردّ شبهة أوردت على النظرية الأولى للوفاء بالدين مفادها بأنّ هناك أصلاً موضوعياً وهو أن المدين إذا أراد أن يطبّق المال الذي هو في ذمته على المال الخارجي ويوفي به للدائن فيجب على الدائن قبول ذلك؛ لأنّ الدائن لا يستحق إلا الجامع، وهو لا ينطبق إلا على الفرد الخارجي؛ لأنّه إن قلنا بإمكان انطباقه على الفرد الذمي صار للمدين الحق بإجبار الدائن على قبول الحوالة، والحال ليس كذلك بعد تسليمنا بأن للدائن المطالبة بالفرد الخارجي.
قال (قدِّس سرُّه) في رد هذه الشبهة: "إن الارتكاز العقلائي يساعد على أن الدائن حيث إنه يملك مالاً رمزياً في ذمة المدين بما هو استطراق إلى الواقع -وهو المال الخارجي- فيكون له على المدين حق أن يوصل المدين المال المملوك في ذمته إلى الواقع، ومن هنا شرع الدائن حق المطالبة بالفرد الخارجي..."(25).
المورد السادس:
ذكر السيد الحائري رأي أستاذه الشهيد (قدِّس سرُّه) في بحث العقود قائلاً: وأمّا رأي أستاذنا الشهيد (قدِّس سرُّه) فإنّه أيضاً جعل المنشأ لملكيّة الإنسان لأمواله المنفصلة عنه بحسب الارتكازات العقلائيّة أحد أمرين: الحيازة أو العلاج، إلاّ أنّه لم يفترض العلاج مملّكاً في مثل الطين أو الماء والثلج كي يرد عليه ما ورد على السيّد الخوئي (رحمه الله)، بل ذكر ذلك لأجل التفصيل بين المنقولات وغير المنقولات. ففي المنقولات يكون التملّك الأوّلي بالحيازة، وفي غير المنقولات كالأرض يكون التملّك الأوّلي بالعلاج كالزراعة أو التعمير.
وأفاد اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): أنّه حصلت عند العقلاء توسّعات في باب الحيازة من جهات شتّى:
فأوّلا- حصل عندهم التوسّع من ناحية الحائز، وذلك في باب الإرث، فيُرى ابن الميت مثلا أحقّ بمال أبيه من غيره وكأنـّه وجود امتداديّ لوالده. وهذا هو لبّ المقصود للمحقّق النائيني (رحمه الله)، حيث يقول: إنـّه في باب الإرث يتبدّل طرف الإضافة الذي هو الإنسان لا الطرف الآخر ولا الإضافة. فهذا الكلام تحليل عقلائيّ للمطلب، لا تحليل عقليّ وفلسفيّ حتى يرد عليه: أنّ الإضافة تتغيّر حتماً بتغيّر أحد طرفيها.
وثانياً- حصل عندهم التوسّع من ناحية المال الذي يحاز. فتلحق به نتائجه وأثماره كريع العقار وأثمار الأشجار.
وثالثاً- حصل عندهم التوسّع من ناحية ضمان الغرامة، فيُرى صاحب المال المحاز مستحقّاً لبدله عند إتلاف غيره له إمـّا ضماناً لبدله الأصلي بحسب القانون الأوّلي، كما في من أتلف مال غيره من دون معاملة، أو ضماناً لبدل مسمّى كما في المتلف المقبوض بالمعاملة الفاسدة إذا كان الثمن المسمّى أقلّ من ثمن المثل، فإنّ المتفاهم عرفاً أنّ صاحب المال قد قنع بالضمان بمقدار المسمّى وهدر كرامة ماله بمقدار الزيادة على المسمّى. وأمـّا إذا كان الثمن المسمّى أكثر من ثمن المثل فلا يضمن إلاّ بمقدار ثمن المثل; لأنّ ضمان الباقي كان من أثر المعاملة وكان فرع صحّتها وإمضائها، والمفروض عدم الصحّة.
وألحق (رحمه الله) ببحث التوسّع في الحيازة لدى العقلاء بحثاً عن تأثير موقف الحائز الأوّل في نظر العقلاء على نتائج حيازة الحائز الثاني. وتوضيح ذلك -على ما أفاده (قدِّس سرُّه)-:
أنّه إذا ملك شخص مالاً بالحيازة ثمّ جاءت يد ثانية وحازت ذلك المال، فاليد الاُولى تجعل اليد الثانية مقتضية للضمان، واليد الثانية بنفسها مقتضية لإيجاد الملكيّة لأنّها تحوز، إذن فقد اجتمع في هذه اليد اقتضاءان: اقتضاء التمليك واقتضاء الضمان، فإن لم يوجد مانع عن فعليّة كلا الاقتضاءين وحصول أثرهما خارجاً، تحقّق الملك والضمان معاً، وإن وجد مانع عن أحدهما فقط تحقّق الآخر فقط، وإن وجد مانع عن كليهما لم يتحقّق شيء منهما(26).
المورد السابع:
يلاحظ على سماحة السيد الشهيد دقته في تعريف المفاهيم وإبراز نكاتها الحقيقية وقد أرجع مفاهيم مهمة وأساسية في (فقه المعاملات) إلى الارتكازات العقلائية وهي (الحق، والملك، والحكم وغيرها) حيث قال: "وهي مفاهيم ارتكازية عقلائية اتفقت لها أسباب عقلائية، وآثار عقلائية ارتكازية من ناحية الشرع"(27).
المورد الثامن:
ذكر (قدِّس سرُّه) تحقيقاً في إبطال التخريجات العامة للمعاملات الربوية إلى أن يقول السيد الشهيد أن النهي الإبطالي المتوجه للعقد والمعاملة بشكل عام يتوجه إلى الغرض العقدي وهو الذي يمتاز به كل نوع من أنواع العقد عن الآخر ويشترك فيه تمام العقلاء كالمبادلة بين المالين في البيع، أو يتوجه إلى الغرض النوعي الخارجي وهو ما يشترك فيه نوع العقلاء في كل نوع من المعاملات من التسلط الخارجي على الثمن والمثمن في البيع... كما هو التحريم في الربا؛ حيث تترتب المفاسد على الزيادة الخارجية والتسلّط الخارجي إلى أن يقول: "وهذا النهي -سواء كان متجهاً إلى السبب أو إلى الغرض العقدي أو الغرض النوعي الخارجي- تارة لا تكون له نكتة عقلائية ارتكازية فيقتصر على مورده، وأخرى تكون له نكتة عقلائية ارتكازية، لكنها محتملة الإختصاص بالمورد، بحيث لا يوجد ارتكاز عقلائي على عدم الفرق بين ذلك المورد ومورد آخر، وهنا -أيضاً- يقتصر على المورد الخاص، وثالثة يوجد ارتكاز عقلائي يحكم بعدم الفرق؛ فيتولّد لكلام الشارع ظهور ثانوي في العموم والإطلاق؛ فيتعدّى، وهذا ليس قياساً؛ إذ في القياس لا يفرض قيام ارتكاز على عدم الفرق بين مورد النص والمورد الآخر، وإنما ظنٌ خارجي بعدم الفرق، غاية ما هناك أن تكون كبرى القياس نفسها أماريته ارتكازية مثلاً، وهذا لا يولّد للكلام ظهوراً نأخذ به، بخلاف فرض ارتكاز عدم الفرق؛ حيث يولّد الظهور المذكور"(28).
المبحث الثالث: دور الارتكازات العقلائية في تحديد الأفراد الاعتبارية للعناوين
عقد السيد الشهيد (قدِّس سرُّه) عند بحثه قاعدة «لا ضرر» فصلاً بعنوان (تطبيق القاعدة بلحاظ الأضرار الإعتبارية) وفي مستهلّ هذا الفصل أوضح الفرق بين الضرر بحسب طبيعته الواقعية وبين الضرر بلحاظ نظرٍ خاصٍ، ومقصوده من الضرر بلحاظ نظر خاص هو الذي يختلف باختلاف الأنظار ويمكن اقتناص توضيحٍ له من كلامه (قدِّس سرُّه) حيث قال: "من قبيل الأضرار التي تحصل نتيجة لافتراض حقوق مجعولة بحسب الارتكازات العقلائية"(29).
وقد ذكر (قدِّس سرُّه) أكثر من وجهٍ لبيان ملاك شمول القاعدة لهذا النوع من الأضرار؛ لأنّها أضرار اعتبارية والقاعدة موردها الأضرار الحقيقية، نذكر منها ما ينفعنا في بحثنا والذي يتعلّق بدور الارتكازات في فردية الفرد للعنوان وعدمه، فقال (قدِّس سرُّه):
"الوجه الثاني: أن يُدّعى بأنّ الشارع حينما يعلّق حكماً على مفهوم له أفراد حقيقة وأفراد اعتبارية نشأت في طول ارتكاز عقلائي؛ فمقتضى عقلائية الشارع وأنّه فرد من أفراد العرف في مقام التكلّم والمحاورة، وأنّه يريد تمام أفراد هذا المفهوم حتى كان فرداً في نظر العقلاء، فلو قال: «عظّم العالم» -مثلاً- فمقتضى ذلك أنّه يريد تمام أفراد التعظيم حتى ما كان فرداً بحسب الارتكاز العقلائي، مرجع ذلك بحسب الحقيقة إلى التمسّك بالاطلاق اللفظي لكلمة التعظيم.
كذلك في المقام؛ فإننا نتمسّك بالإطلاق اللفظي لمفهوم الضرر؛ لإثبات شموله لكل فرد يكون عند العقلاء ضرراً، وهذا معناه أن تحكيم النظر العقلائي يستلزم توسعة دائرة الأفراد المرادة من المعنى المستعمل فيه اللفظ"(30).
إلى أن قال: "وصحّة الوجه الثاني تتوقّف على تنقيح كبرى مهمة وأساسية ومفيدة في غير هذا الباب أيضاً، وحاصلها: إن الأفراد التي يشملها الخطاب بلحاظ ارتكازات عقلائية في المرتبة السابقة لا بد من التعرّف على أقسامها، لنقف من خلال ذلك على أنّها مشمولة بجميع أقسامها أم لا؟"
أنحاء الأفراد الاعتبارية:
إذا ورد خطاب وفيه عنوان، وكان له أفراد ومصاديق اعتبارية وعنائية فيمكن أن تكون على أنحاء من حيث مدخلية الارتكاز فيها وعدمه:
1- أن يكون دور الارتكاز الإخبار عن فردية الفرد للعنوان لا الإنشاء.
2- أن يكون دور الارتكاز الإنشاء وإيجاد فردية الفرد للعنوان لا الإخبار.
3- أن تكون فردية الفرد للعنوان كما في النحو الثاني، لكنها ليست مطلقة وثابتة حتى عند العرف الذي لم يكن ذلك الارتكاز عنده.
وتفصيل الكلام فيها:
النحو الأول: أن يكون الارتكاز والنظر العرفي مجرّد كاشف ومخبر عن فردية الفرد للعنوان لا منشأً له.
مثاله: وقوع عنوان العالم في خطاب واعتقاد العرف جهلاً واشتباهاً أن زيداً عالم، ففي مثل ذلك لا إشكال في عدم شمول العنوان لهذا الفرد؛ لأنّ شمول عنوان العالم لزيد إنّما هو تابع لواقع علمه، فإن كان عالماً حقيقةً فيشمله الخطاب، وإلا فلا يشمله حتى لو فرض اعتقاد الناس جهلاً وخطأً بعالميته، فإنّ هذا الإعتقاد غير المطابق لا يغيّر من الواقع شيئاً، لأنّ كل عنوان إنما هو موضوع لأفراده الواقعية.
النحو الثاني: أن يكون النظر العرفي دخيلاً في فردية الفرد بنحو الإنشاء لا الإخبار.
مثاله: العناوين التي يمكن إيجاد أفراد لها بعمل إنشائي كعنوان «التعظيم»؛ فإنّ أفراد هذا العنوان على نحوين:
- أفراد حقيقة لا تحتاج فرديتها إلى إعمال عناية من قبل العرف كامتثال أمر المولى أو الأب أو ما شابه.
- أفراد تحتاج إلى بذل عناية خارجية لأجل انطباق العنوان عليها كالقيام لأجل تعظيم الداخل أو الانحناء قليلاً أمام أحد.
فالنحو الثاني ليس تعظيماً واقعاً؛ إذ لو قطعنا النظر عن أي تعارف اجتماعي أو عناية خارجية لا تعدّ تعظيماً إلا بعد إعمال عناية خاصة من عرف معيّن تواضع أبناؤه على أن يكون هذا من وسائل التعظيم والاحترام.
ومن الواضح أن العرف هنا ليس شأنه الكشف، بل إنشاء وإيجاد فردية الفرد. فإذا تحقق ذلك يكون الفرد مصداقاً حقيقياً للعنوان حتى عند مَن لم يشارك في ذلك النظر الإنشائي، فمثلاً: لو تعارف في عرف معيّن أن الإنحناء قليلاً أمام أحد من مظاهر التعظيم، ولم يكن كذلك في عرف آخر، لكن لو اطلعوا عليه لاعترفوا أيضاً، فحينما يشاهدون شخصاً من ذاك العرف ينحني لهم فإنهم يعدّونه تعظيماً واحتراماً، وإن لم يكن في عرفهم كذلك.
وهذا معناه أن النتيجة المترتّبة على هذا النحو من الفردية يكون مطلقاً، وإن كانت عملية الإيجاد والانشاء مخصوصة بهذا العرف.
في مثل هذا النحو من الأفراد العنائية، لا إشكال في شمول الدليل لها؛ لأنّها مصاديق حقيقية لذلك العنوان، ولا يحتاج في مقام انطباق المفهوم عليها إلي أي عناية أو مؤونة. نعم إيجاد الفردية وإنشاؤه كان يحتاج إلى بذل عناية، لكن في طول تلك العناية يصبح فرداً حقيقة، حينئذٍ يشمله إطلاق اللفظ كما يشمل الأفراد الحقيقية على سواء، حتى لو فرض أن هذه الارتكازات العقلائية كانت مستجدة بعد عصر صدور النص.
فمثلاً: لو استجد أسلوب آخر للتعظيم لم يكن متعارفاً في عصر الصدور فيشمله قوله: «عظّم العالم» أيضاً؛ لأنّه في طول هذا النظر العرفي الجديد يكون فرداً حقيقة لذلك العنوان، نظير إيجاد مصداق للماء بعلاج لم يكن متيسّراً في زمن المعصوم، فإنه مشمول أيضاً لإطلاق دليل المطهرية.
وليس هذا من باب تبعية الشارع للأعراف العقلائية؛ لأنّ عنوان التعظيم وقع موضوعاً للحكم الشرعي، وهذا الموضوع تتحقق أفراده في الخارج تدريجاً.
وعلى أي حال سواء بنينا على الاطلاق اللفظي أو المقامي فإنّه يكون شاملاً لتمام الأفراد حتى المستجدة منها بلا حاجة إلى أي مؤونة وعناية.
النحو الثالث: أن تكون فردية الفرد للعنوان كما في النحو الثاني، لكنها ليست مطلقة وثابتة حتى عند العرف الذي لم يكن يرى القيام تعظيماً إذا اطلع عليه.
وهذا معناه: أن النتيجة أيضاً تكون نسبية وضيقة، كما أنّ الانشاء كان كذلك من قبيل النقص، فإنّ هذا العنوان كعنوان التعظيم له أفراد حقيقية كقطع اليد مثلاً، وله أفراد اعتبارية عنائية كالنقص المالي الذي يطرأ على الشخص بلحاظ بعض القوانين، كمن أُممت أمواله الموجودة في البنك، فإنّه يعدّ نقصاً وضرراً فيما لو فرض أن العرف الاجتماعي كان يراه مالكاً لهذا المال، ولا يعدّ ضرراً فيما لو فرض أن العرف لم يكن يرى الملكية الشخصية مثلاً.
إذن فكونه ضرراً أو نقصاً ليس أمراً مطلقاً، بحيث يتساوى فيه من يراه مالكاً ومن لا يراه، وهذا معنى أن مصداقية هذا النقص للضرر إنما تدور مدار تلك العناية، وتكون مرتبطة بنظر خاص دون آخر.
والصحيح هنا هو: شمول الإطلاق اللفظي لهذه الأفراد الإعتبارية أيضاً شريطة أن تكون موجودة في عصر الشارع، أمّا تلك التي استجدّت في العصور المتأخرة عن ذلك فلا يشملها إطلاق الدليل.
أمّا شمول الإطلاق للإرتكازات العقلائية المعاصرة له؛ فلأن المتكلّم -أي الشارع- مستعمل عرفي للكلام، فيلحقه القانون الذي يحكم المحاورات العرفية، فيجري على حسب الطريقة المتّبعة عند تلك الأعراف، ولمّا كان اللفظ بحسب الارتكاز العقلائي شاملاً لتمام هذه الأفراد، إذن إذا استعمله الشارع يكون الأصل فيه أن يجعله شاملاً بإطلاقه اللفظي لهذه الأفراد المعاصرة له.
بتعبير آخر: المفروض في هذا المستعمل أن يلحظ ذلك النظر العرفي في مقام استعمال العنوان، ومن الواضح أن المفهوم بلحاظ هذا النظر شامل لخصوص الأفراد الموجودة في عصر صدور النص لا غيرها.
وأما عدم شمول الخطاب للأفراد المستجدة بعد عصر الشارع، فذلك لأنّ مثل هذا الفرد الذي استجدّ من خلال عرف أو ارتكاز عقلائي بعد عصر النص، لا يمكن أن يشمله الخطاب؛ لأنّ شموله له فرع إحراز أن يكون الشارع قد لاحظ هذا النظر العرفي الجديد حين استعماله اللفظ، ولا يوجد قرينة تدل على ذلك، بخلافه بالنسبة إلى النظر العرفي المعاصر له حيث توجد قرينة على ذلك، هي عرفيته وانتسابه إلى ذلك العرف باعتباره فرداً من أفراده؛ من هنا لا يمكن تعميم الإطلاق اللفظي ليشمل الأفراد المستجدة بعد ذلك، وكذلك لو قلنا بالإطلاق المقامي؛ فإنّه لا يمكن التعميم أيضاً، لكون سكوت الشارع إنما هو إمضاء لتلك الارتكازات المعاصرة له لا غير(31).
ولكنّ ينبغي الإلتفات إلى النكتتين اللتين ذكرهما الشهيد (قدِّس سرُّه) كضابطتين لتوسعة مفاد الأدلة لكي تشمل بعض المصاديق التي ثبتت في أزمنة متأخّرة عن عصر النص(32).
المبحث الرابع: دليلية الارتكاز بكلا قسميه لمباحث الألفاظ
لا بد من توضيح حول علاقة الارتكازات بمباحث الألفاظ وتوقفها عليها؛ إذ هي دليل حجيتها عند السيد الشهيد فنقول:
للإرتكازات العقلائية دور جوهري ومحوري في مباحث الألفاظ:
أولاً:- حجية العمل بالظواهر:
الارتكاز العقلائي الممضى من الشارع هو دليل حجية العمل بظواهر النصوص عند السيد الشهيد (قدِّس سرُّه)، قال: "الإستدلال بالسيرة العقلائية على العمل بظواهر الكلام، وثبوت هذه السيرة عقلائياً مما لا شك فيه؛ لأنه محسوس بالوجدان ويعلم بعدم كونها سيرة حادثة بعد عصر المعصومين؛ إذ لم يعهد لها بديل في مجتمع من المجتمعات، ومع عدم الردع الكاشف عن التقرير والإمضاء شرعاً تكون هذه السيرة دليلاً على حجية الظهور.." وحيث قال "لم يعهد لها بديل في مجتمع من المجتمعات" فهذا يؤكّد على أنّه ارتكاز عقلائي في الواقع وهذا من القرائن التي مرت علينا كونه ارتكازاً عقلائياً، وسيصرح بذلك السيد (قدِّس سرُّه) بكون الممضى هو النكتة الارتكازية لا السيرة.
فإن قلت: إنّ هذا الدليل قاصر عن شمول الموارد التي يوجد فيها أمارة معتبرة عقلائياً -ولو لم تكن معتبرة شرعاً كالقياس- على خلاف الظهور؛ بالقول: إنّه لا سيرة من العقلاء على العمل بالظهور في مثل هذه الموارد.
قال السيد الشهيد (قدِّس سرُّه): "إن هذا الكلام إنما يتجه لو قيل بأنّ الإمضاء يتحدد بحدود العمل الصامت للعقلاء. غير أنك عرفت في الحلقة السابقة أن الإمضاء يتجه إلى النكتة المرتكزة التي هي أساس العمل وهي في المقام الحجية الإقتضائية للظهور مطلقاً. وكل حجة كذلك لا يرفع اليد عنها إلا بحجة، والمفروض عدم حجية الأمارة على الخلاف شرعاً فيتعين العمل بالظهور"(33).
ثانياً: حجية الإطلاق واحترازية القيود:
إنَّ بحثي الإطلاق وقرينة الحكمة، وقاعدة احترازية القيود يتوقّفان على ظهور حالي سياقي؛ وحيث إن كبرى الظهور دليلها الارتكاز فهذا يعني أنّ كل صغرى من صغريات هذه الكبرى تستمدّ حجيتها منها يعني أنها تستمدّ حجيتها من الارتكاز، وهذان البحثان من أبرزها..
ثالثاً: حجية الظهور:
فهل الظهور الحجة هو ظهور عصر صدور الكلام أو عصر السماع المغاير له؟ وهل هو الظهور الذاتي أم الظهور الموضوعي؟ فهنا بحثان أساسيان:
1- حجية الظهور ثابتة لزمن الصدور أو زمن السماع؟
2- حجية الظهور موضوعها الظهور الذاتي أو الموضوعي؟
نذكرهما في مقامين:
المقام الأول:
إنّ موضوع حجية الظهور كما هو الصحيح هو الظهور العرفي في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع، لأنّ الكاشف عن مراد الشارع إنما هو الظهور في عصره لا في عصرنا؛ لأنّ الشارع متحدّث عرفيٌ يخاطب عرفاً معاشاً له، وهو محكوم بقواعد التفاهم العرفي لذلك العرف وبقوانين اللغة المعاصرة له.
فإن قلت: إنّ اللغة كائن متغيّر لأنّه يعيش في وسط متغيّر يتطوّر على مرّ الزمن ولا بد وأن يتأثّر بالاختلافات الفكرية والعلمية على مرّ العصور، فكيف لنا أن نفهم نصوص الشارع بظهور عصر صدورها ونحن نعلم أنّ ظهورها قد اختلف عن ظهورنا اليوم؟ وأنّا لنا الجمع بينهما؟
قلنا: لقد حاول الأصوليون معالجة هذه المشكلة من خلال أصل عقلائي أسموه (أصالة عدم النقل) أو (الإستصحاب القهقرائي) لأنّه يشبه الاستصحاب ولكن مع تقدّم المشكوك على المتيقّن زماناً، وأصالة عدم النقل تعني: أن الظهور الفعلي المعاصر لنا هو نفس الظهور المنعقد في عصر الصدور وبتعبير أوضح هي: "أصل لفظي يتمسّك به في حالات الشّك في هجران المعنى الموضوع له اللفظ إلى معنى آخر، وأنّ المصحح للرجوع إلى هذا الأصل هو البناء العقلائي القاضي باعتماد ما يظهر من اللفظ دون الاعتناء باحتمال هجران المعنى المستظهر إلى معنى آخر"(34).
وإن قلت: كيف يعتمد الشارع على أصل عقلائي يقوم على أساس تخيّلي بالثبات في اللغة وعدم النقل دليله تجارب شخصية لأفراد عاديين، وإنّ المنطق يقول إنّ اللغة حالها حال كل سلوك أو عرف يتغيّر ويتأثّر بما حوله عبر تقادم الزمان، فكيف نعتمد في إثبات ثبات اللغة على ارتكاز منشأه الإيحاء والتخيّل الساذج؟
قال السيد الشهيد: "طبعاً لو أن كل إنسان كان منطقياً في استنتاجاته لما استطاع أن ينتهي من خلال تجربة شخصية محدودة وقصيرة بحسب عمر الزمان إلى أن اللغة ظاهرة ثابتة وأنّ التغيّر حالة استثنائية طارئة عليها، ولكن العرف لا يتبع الاستنتاجات المنطقية دائماً فيما ينتهي إليه من ارتكازات. من هنا نجد العقلاء بما هم أهل العرف يعممون نتيجة هذه التجربة المحدودة والقصيرة ويفرضون الثبات في طبيعة اللغة، ويجعلون ذلك هو الأصل الحاكم، وهذه النكتة هي التي ارتكزت في أذهانهم وأدّت إلى أصالة عدم النقل؛ أي: إن هذا الفهم المغلوط والإيحاء الخادع أصبح سبباً لبناء العقلاء على احتمال التغيير ملغىً في قبال احتمال الثبات..
فإذا ثبتت مثل هذه النكتة في ارتكاز العقلاء، أمكن أن يقال: إنّ هذه النكتة بطبيعتها تقتضي جريان العقلاء على وفقها في نصوص الشارع أيضاً، فلو فرض أن مثل هذا المطلب لم يكن مرضياً عنده وكان يرى أن إلغاء احتمال التغيير تعبّداً غير تام لنبّههم وردعهم؛ لأنّ المفروض أنّ هذه النكتة تشكّل خطراً على أغراضه التشريعية، وحيث إنه لم يردع نستكشف منه إمضاءه لهذه الطريقة، وكفاية الظهور الذي يفهمه الإنسان في زمانه في تشخيص الظهور المعاصر لصدور الكلام"(3).
وبعبارة أخرى: "هذا الإيحاء وإن كان خادعاً، ولكنه على أيّ حال إيحاء عام استقر بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتباره حالة استثنائية نادرة تنفى بالأصل، وبإمضاء الشارع للبناء المذكور نثبت شرعية أصالة عدم النقل، أو أصالة الثبات، ولا يعني الإمضاء تصويب الشارع للإيحاء المذكور، وإنما يعني من الناحية التشريعية جعله احتمال التطابق حجة ما لم يقم دليل على خلافه"(56).
المقام الثاني:
ما هو موضوع الحجية: الظهور الذاتي أو الظهور الموضوعي؟
ذهب السيد الشهيد (قدِّس سرُّه) -عندما قسّم الظهور إلى: ذاتي وموضوعي- إلى الثاني بلحاظ كونه الحجّة وعرّفه بأنه "الظهور بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام"(37) وليس الظهور الخاضع لذهنية فردية خاصة وهو الذاتي، وقال: "والأول يتأثر بالعوامل والظروف الشخصية للذهن التي تختلف من فرد إلى آخر تبعاً إلى أنسه الذهني وعلاقاته، بخلاف الثاني الذي له واقع محدد يتمثل في كل ذهن يتحرك بموجب علاقات اللغة، وأساليب التعبير العام" وكأنّه ارتكازي عند العقلاء والعرف، ودليل حجيته -كما ذكره (قدِّس سرُّه)- ثبوته في زمن المعصوم (عليه السلام) وأصالة الثبات وعدم النقل حيث قال:
"وما هو موضوع الحجية: الظهور الموضوعي؛ لأنّ هذه الحجية قائمة على أساس أن ظاهر حال كل متكلم إرادة المعنى الظاهر من اللفظ؛ ومن الواضح أن ظاهر حاله باعتباره إنساناً عرفياً إرادة ما هو المعنى الظاهر موضوعياً لا ما هو الظاهر نتيجة لملابسات شخصية في ذهن هذا السامع أو ذاك... وبالظهور الذاتي نثبت الظهور الموضوعي في عصر السماع ويبقى علينا أن نثبت أن الظهور الموضوعي في عصر السماع مطابق للظهور الموضوعي في عصر الكلام الذي هو موضوع الحجية"(38).
الخاتمة
بعد هذه المسيرة الشيّقة والشاقة مع فصول البحث لا أخفي أنني حصدت ثماراً كثيرة وجنيت عدة نتائج وتعرّفتُ على أمورٍ عديدة(39)، تبدأ هذه الثمرات من معرفة أهمية هذا البحث وحساسية موضوعه؛ ويكمن ذلك في سعة دوره في عملية الاستنباط ومفصلية ذلك الدور، وسأحاول بيان بعض النتائج التي خَلُص إليها هذا البحث:
أولاً: استطاع إبراز تعريفٍ فيه نوعاً من الشمول حيث أبرز معناه مفهوماً وتطبيقاً ليشمل أقسام الارتكازات العقلائية بما لم يسبقه إليه أحد.
ثانياً: التعرّف على محطة مهمة تفرّد هذا البحث ببيانها وكانت فيصلاً لمباحثه هي تمييزه عن السيرة العقلائية التي لطالما وقع الخلط بينه وبينها.
ثالثاً: التعرف على مناشئ تكوّن الارتكازات العقلائية، فمما استحدثه هذا البحث اقتناص مناشئ للارتكازات وأسسها ومبررات تكوّنها.
رابعاً: جمع شتات الكلمات وما وراءها حول تقسيمات الارتكازات المتعددة بأسس ولحاظات مختلفة.
خامساً: تعرفت أكثر على طرق اكتشاف ارتكازات العقلاء.
سادساً: بيّن لي كيفية كاشفية الارتكازات عن الدليل الشرعي تارة وتنقيحه لصغراه تارة أخرى.
سابعاً: أوضح بشكل مفصّل دور الارتكازات العقلائية في مباحث الألفاظ وكيف أنّها معتمدة اعتماداً أساسياً عليها.
ثامناً: من خلال التطبيقات التي مرّت في طيات البحث وخاتمته اقتنعت جيداً بسعة وأهمية وظيفة الارتكازات.
هذا بالإضافة إلى نفس قراءة كلمات العلماء في هذا البحث التي تفتح آفاقاً رحبة أمام الطالب وتزيد في اطلاعه ومعرفته ومداركه العلمية وهذه كلها فوائد كان هذا البحث سبباً لها.
* الهوامش:
(1) عند بحث ثبوت الكرية بقول صاحب اليد: ج1 ص215.
(2) فقه الشيعة: ج2 ص75، التنقيح: ج2 ص329.
(3) السيد محمود، الهاشمي، بحوث في علم الأصول ج4: 246.
(4) السيد كمال، الحيدري، لا ضرر ولا ضرار: 292.
(5) محمد علي، الخراساني، فوائد الأصول ج3: 193.
(6) لاحظ: السيد محمد باقر، الصدر، دروس في علم الأصول ج1، الحلقة الثانية: 270.
(7) ن.م.
(8) السيد كمال، الحيدري، لا ضرر ولا ضرار: 290.
(9) السيد كاظم، الحائري، فقه العقود ج1: 89.
(10) محمد حسين، الأصفهاني، نهاية الدراية ج3: 348، وهو رأي جمع من الأصوليين أيضاً.
(11) لاحظ: بحوث في علم الأصول عبدالساتر ج9 ص219 ومابعدها.
(12) السيدعلي الحائري، مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد20: 72.
(13) السيد محمد باقر، الصدر، الاجتهاد والتجديد، العدد1: 38.
(14) السيد محمود، الهاشمي، بحوث في علم الاصول ج4: 270.
(15) السيد محمد باقر، الصدر، دروس في علم الأصول ج1، الحلقة الثانية: 265.
(16) السيد محمد باقر، الصدر، ومضات: 189. مقالٍ: نشر في مجلة (رسالة الإسلام) السنة الأولى 1967م، العدد 3.
(17) ن.م: 191.
(18) لاحظ بحوث في علم الأصول عبدالساتر ج9 ص197 وما بعدها.
(19) الأنفال: 1.
(20) السيد محمد باقر، الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى ج1 ص50.
(21) ن.م ص118.
(22) ن.م ص62
(23) ن.م ص66
(24) السيدعلي الحائري، مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد20: 67.
(25) السيدعلي الحائري، مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، العدد20: 82.
(26) السيد كاظم، الحائري، فقه العقود ج1: 32.
(27) السيد محمد باقر، الصدر، الاجتهاد والتجديد، العدد1: 36.
(28) ن.م، العدد 4: 16.
(29) السيد كمال، الحيدري، لا ضرر ولا ضرار: 275.
(30) ن.م: 277.
(31) لاحظ: السيد كمال، الحيدري، لا ضرر ولا ضرار: 278-281.
(32) مر ذكرهما تحت عنوان ضابط تسرية النكتة للأفراد المستجدة.
(33) السيد محمد باقر، الصدر، دروس في علم الأصول ج2، الحلقة الثالثة: 200.
(34) محمد صنقور، البحراني، المعجم الأصولي ج1: 258.
(35) السيد كمال، الحيدري، لا ضرر ولا ضرار (الهامش): ص288.
(36) السيد محمد باقر، الصدر، دروس في علم الأصول ج2، الحلقة الثالثة: 207.
(37) السيد محمد باقر، الصدر، دروس في علم الأصول ج2، الحلقة الثالثة: 207.
(38) ن.م
(39) إلا أنّها باعتقادي تحتاج إلى وقت للتأمّل فيها أكثر والخروج بنتائج أكبر أسأل الله أن أوفق لها لاحقاً.
0 التعليق
ارسال التعليق