هذا هو القسم الثاني من الموضوع، ونتناول فيه المحور الثاني منه، والذي يدور حول ما للإمام المعصوم (ع) من أدوار يقوم بها في حياته أو بعد مماته، وقد تقدم الكلام في القسم الأول منه حول تنبيهات أربعة نحتاجها في دراستنا للمعصوم(ع) وبعد ذلك كان الكلام حول المقامات التي قيل بها للمعصوم(ع).
أدوار الإمام (ع):
1- المرجعية الدينية:
بما فيها الرسالة بالنسبة للرسول، وهي أن يكون الرسول أو الإمام هو المرجع في أمور الدين ( فَلَا وَ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1)، (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2).
ولما كان المعصوم (ع) له هذا المقام الكبير عند الله، بدءاً بكونه نوراً ثم بتكون جسده ونيل كل المقامات العالية ومقام الإنسان الكامل كانت الرسالة أو المرجعية الدينية إحدى المسؤوليات المناطة به لأنه صاحب ذلك الشأن العالي عند الله جل وعلا، لا أنه صار صاحب شأن بسبب هذه الرسالة أو هذه المرجعية الدينية، فهي لا تكسبه مقاماً كان يفتقر إليه وهو الإنسان الكامل، بل لما كان كاملاً صار عليه أن يكمل الآخرين، ويبلغ أحكام الدين، والرسول (ص)ما بعث لتبليغ الرسالة إلا بعد أن بلغ الأربعين من العمر، ولكنه كان صاحب الشأن الرفيع قبل الرسالة، فهو القائل:(كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) (3)، وكان كذلك صاحب الشأن الرفيع بعد الرسالة، فهو لا يقف عند المستوى الذي أهله لتصدي مسؤولية الرسالة، ولذلك يقول المسلمون في صلاتهم: (وتقبل شفاعته وارفع درجته)، وكذلك بالنسبة للإمام (ع) فإنه وإن كان ذا أهلية لتصدي مسؤولية المرجعية الدينية إلا أن هذه الأهلية لا تقف به عند هذا المقام بل إن له(ع) تكاملاً كما تنص عليه الروايات، فقد قال الرسول(ص) لولده الحسين(ع): (وإن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة) (4).
فأهل البيت(ع) كان لهم مقامهم الرفيع قبل الخلق حيث كانوا أنواراً يسبحون حول العرش، فإذن ليست المرجعية الدينية هي الإمامة، بل هي شأن من شؤون الإمامة. فالرسول (ص) والإمام (ع) حقيقة لها قدسيتها، بدءاً بكونها نوراً ثم صلباً، ففي كل ذرة من ذرات وجود الرسول(ص)، وفي كل حيثية من هذه الحيثيات المرتبطة به (ص) توجد قدسية تمتد إلى آخر نشأة من نشآته (ص).
وقد ورد التركيز على هذه الحيثيات حيثية حيثية في الزيارة الجامعة وغيرها، فمنه:(بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي، ذكركم في الذاكرين، وأسماؤكم في الأسماء، وأجسادكم في الأجساد، وأرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في النفوس، وآثاركم في الآثار، وقبوركم في القبور، فما أحلى أسماءكم، وأكرم أنفسكم، وأعظم شأنكم وأجل خطركم وأوفى عهدكم، كلامكم نور، وأمركم رشد،ووصيتكم التقوى، وفعلكم الخير وعادتكم الإحسان، وسجيتكم الكرم، وشأنكم الحق والصدق والرفق، وقولكم حكم وحتم، ورأيكم علم وحلم وحزم).
فليس الرسول أو الإمام عنواناً اعتبارياً حتى يمكن القول بأن القدسية هي للرسالة أو للإمامة سواءً أوجد محمد بن عبد الله (ص) أم لم يوجد، وسواءً أوجد الحسين بن علي(ع) أم لم يوجد، بل إن الرسالة والإمامة عنوانان مقدسان، وصاحب كل عنوان لا بد وأن يكون ذا قداسة ذاتية تأهله للقيام بأعباء هذه المهمة، على أن قداسة ومكانة وشرف الرسل متفاوتة، وأقدسها وأعظمها وأجلها خطراً هو مقام النبي الأكرم(ص)، ولو كانت قداسته نابعة من قداسة الرسالة فحسب فلربما قيل أنه مع كل الرسل سواءٌ، ولكن قدسيته لم تكن بسبب تصديه لتلك المسؤولية و الوظيفة أو غيرها، بل إن سر عظمته هو أنه محمد بن عبد الله(ص).
لقد كان الرسول (ص) مبلغاً للوحي والأحكام الإلهية، ولكن بما أنه لم يكن هناك سعة ومجال لإبلاغ الناس كل أحكام الدين وتعاليمه، علم الرسول(ص) أخاه علياً(ع) ألف باب من العلم ينفتح له من كل باب ألف باب (5)، ثم نص على إمامة الأئمة أجمعين، ففي الرواية (قال جابر بن عبد الله الأنصاري: لما قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، قلت: يا رسول الله عرفتنا الله فأطعناه، وعرفناك فأطعناك، فمن أولي الأمر الذين أمرنا الله تعالى بطاعتهم؟
قال: هم خلفائي يا جابر وأولياء الأمر بعدي أولهم أخي علي، ثم من بعده الحسن ولده، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، وستدركه يا جابر، فإذا أدركته فأقرئه مني السلام، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم محمد بن الحسن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً) (6).
فانتقل العلم إلى الأئمة (ع) بطرق غيبية وصاروا بواسطته يعرفون الصحيح من غير الصحيح، فلا يرتكبون الخطأ، فهم بواسطة علمهم معصومون، ولذلك كان الدور في إبلاغ الأحكام الدينية بعد وفاة الرسول الأكرم (ص) هو دور الأئمة(ع)، وبما أنهم معصومون فلا أحد من الشيعة يقول بعدم صلاحيتهم للمرجعية الدينية وغير الدينية، خلافاً للسنة حيث يقولون في خلفائهم وزعمائهم بأنهم غير أهل لهذه المرجعية، وذلك تبعاً للإقرارات الكثيرة من نفس هؤلاء الزعماء، فقد قال أبو بكر: (إن لي شيطاناً يعتريني)، وقال عمر:(حتى النساء أعلم من عمر)، و (كل أحد أعلم من عمر)، و (كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال)، وقال في سبعين موطن:(لولا علي لهلك عمر)، فبما أن الناس لا زالوا في حاجة إلى معرفة أحكام الدين قام السنة باستخدام القياس والإفتاء بالرأي لملأ تلك الفراغات، وفي هذا الخصوص قال أمير المؤمنين(ع):(أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه) (7).
2- المرجعية السياسية وقيادة المجتمع:
والإمامة في بعض معانيها هي (الرئاسة العامة)، فواحدة من المواضع التي تبقى خالية بعد الرسول (ص) هي قيادة المجتمع. وتلك الآيات الواردة في الحث على إطاعة الرسول (ص) وأهل البيت (ع) لا تختص بمجال دون آخر. وكان الرسول (ص) قد عين خلفاءه الذين سيديرون المجتمع من بعده، فذكر أسمائهم إماماً من بعد إمام، وعين أمير المؤمنين(ع) في يوم الغدير خليفةً وحاكماً من بعده. ولهذا كانت الإمامة مع التوحيد والنبوة في فترة واحدة فيوم أعلن الرسول(ص) أنه رسول من قبل الله جل وعلا، جعل عليا (ع) إماماً وخليفةً من بعده، كما في خبر يوم الدار، فإن النبي جمع بني عبد المطلب وخطبهم فقال:(...فأيكم يؤازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها غير علي - وكان أصغرهم - إذ قام فقال:أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ رسول الله برقبته، وقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع) (8).
3- القدوة والأسوة:
جاء الإسلام بنماذج ليقتدي بها الناس ويتربى باتباعها، فقال:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (9). ولهذا كان من أدوار المعصوم(ع) دور المحور والملجأ والمعتصم الذي يقتدي الناس به، ويسيرون على هداه ليوصلهم إلى الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في الزيارة الجامعة: (بكم يُسْلَك إلى الرضوان)، و(أنتم الصراط الأقوم)، و(من أراد الله بدأ بكم)، وعن أمير المؤمنين علي(ع):(اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى، واستنوا بسنته فإنها أفضل السنن) (10).
4- الولاية التكوينية:
والمراد بها أن الرسول أو الإمام وبما له من مقام عند الله سبحانه وتعالى له القدرة على التصرف في أمور التكوين بإذن الله سبحانه وتعالى، لا بالاستقلال، وذلك ما يظهر من التأمل في آيات القرآن من قبيل ( أَنِّيْ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفَخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بمَا تَأْكُلُونَ وَتَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ) وبواسطة الولاية التكوينية يحفظ الإمام المعصوم (ع) النظام الوجودي والكون عن الخراب والانهدام، فقد جاء في الخبر:(لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت) (11). وعلى هذا فلا يتصورن أحدٌ أن دور الأئمة (ع) هو التبليغ فقط، بل إن لهم مثل هذا التأثير في الدنيا وفي كل ذرات الوجود، فالقدرة على التصرف في الوجود بالنسبة لغير الله عز وجل لا تستحيل عقلاً.
بل إن القول باستحالته زعمٌ بعجز الله عن أن يجعل خلقاً له قدرة التأثير في الوجود، على أن هناك أدلة قرآنية و روائية تنص على تصرف من هو أدنى مقاماً من أهل البيت(ع) في بعض الوجود، وهذه القدرة أيضاً تمتد عند بعض المخلوقات إلى التسلط على الإنسان ونواياه وفكره، وذلك ما أعطي للشيطان من قدرة وجنود لإضلال الناس:( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ) (12)،(يَا بَـنِي آدَمَ لاَ يَـفْـتِـنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِـبَاسـَهُمَا لِيُرِيَـهُمَا سَـوْآتِـهِـمَـا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (13).
ويحدثنا القرآن الكريم عن إتيان ذلك الذي عنده علم من الكتاب بقصر بلقيس لنبي الله سليمان(ع) قبل أن يرتد إليه طرفه، فإن الإتيان به عند هذا الشخص أمر سهل قدر عليه حتى ذلك العفريت: ( قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَّقَامِكَ وَإِنِّيْ عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَّرْتَدَّ إِلّيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (14)
فإن هذا الذي عنده علم من الكتاب لم يكن متمكناً من الإتيان بقصرها وحسب، بل كان متمكناً من إحضاره قبل أن يرتد طرف نبي الله سليمان(ع) فما بالك بمن هم الكتاب الناطق والقرآن الصادق، أفلا يكون علمهم هذا سبباً لولايةٍ أوسع من ذلك بكثير؟! وفي هذا المقام قصصٌ كثيرةٌ عن الرسول(ص) والأئمة من ولده(ع) تذكر في كتب المعاجز، و وقوفاً عند هذا المقام يستوحي أحد الشعراء من معانيه أبياتاً في علي (ع):
لم يأت ماضي الأنبياء بمعجز إلا وكان لفعله كالمصدر
مثل العصا والنار والطوفان والـ إحياء للميت الرميم المقبر
وعلى ولايته لقد بعثوا فسل عن ذاك واسأل من تحب تخبر
والله لم أر في الأنام أخا كهو يوصى إليه بكل سر مضمر
الله صفاه وصفى ولده من كل منقصة وعار معير
شتان بين معفر للات جبـ هته وبين مكسر ومدمر
قدم علت كتف العلا فتكسرت إذ ذلك الأصنام أي تكسر
5- الولاية التشريعية:
ويمكن أن يقصد بها أحد معان ثلاثة:
المعنى الأول: هو أن الله سبحانه وتعالى شرع ولايتهم بمعنى إمامتهم و وجوب اتباعهم.
المعنى الثاني: أن الله سبحانه وتعالى جعل موافقتهم شرطاً في إجراء الأمور، سواءً أكانت هذه الموافقة أو الرضا رضاً خاصاً أو عاماً وإن لم يصرح به الإمام في هذا المورد المعين، وبهذا المعنى يكون عقد الزواج مثلاً متوقفاً على رضا الإمام فلا يكون الزوج زوجاً إلا برضا الإمام، وكذلك سائر الأمور، فمثلاً تكون القاعدة (الناس مسلطون على أموالهم) مقيدةً (بشرط رضا الإمام -ع- ) وتحت هذين العنوانين يمكن إدراج عدة مصاديق كالولاية على اليتيم والقاصر، وإصدار أحكام مؤقتة من باب ولايتهم(ع) لتسيير الحياة الاجتماعية، وهذا المعنى (إصدار الأحكام المؤقتة) بهذه الحدود الضيقة ثابت للفقيه فضلاً عن الإمام المعصوم (ع) فقد حكم الإمام الخميني (قده) بإيقاف الحج بالنسبة للإيرانيين في فترة زمنية محددة.
المعنى الثالث: وهو محل الكلام والمتبادر من مفهوم الولاية التشريعية، ومعناه أن لهم حق التشريع أي إصدار أحكام شرعية كما ثبت للرسول(ص) بحيث تكون هذه الأحكام دائميةً يستحق عليها الثواب والعقاب كما هو بالنسبة لأحكام الله جل وعلا، وليست أحكاماً مؤقتةً لإدارة الحياة الاجتماعية، وفي هذه المرتبة وقع الخلاف بين علماء الطائفة المحقة، فمنهم من لم يقده الدليل لإثبات هذه الولاية، ومنهم من قال بثبوتها وتسليمها للأئمة (ع)، أما في مقام الثبوت (أي إمكان كون الولاية التشريعية لهم(ع)، وأهليتهم لذلك) فلأمرين، الأول هو أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد كما هو رأي المشهور، والثاني هو أن الأئمة(ع) مطلعون على مصالح الأمور ومفاسدها، وذلك من باب إطلاع الله إياهم على الغيبيات (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (15)،فما داموا عالمين بالمصالح والمفاسد كانت لهم أهلية جعل الأحكام الشرعية، فتثبت لهم الولاية التشريعية في مقام الثبوت والإمكان.
هذا على رأي المشهور ولكن هناك من قال بأن الأحكام ليست تابعةً للمصالح والمفاسد بل هي قائمةٌ على أساس الامتثال وعدمه؛ أي بدافع الامتحان من قبل الله لعباده وأنهم هل يمتثلون لأوامره أم لا، فيمكن تصور بعض الأمور لا توجد فيها مصالح في نفسها ولكن الله أراد أن يرى امتثال عباده لأمره في هذه العبادات وذلك كاشتراط غسل اليد إلى أطراف الأصابع في الوضوء، أو مسح مقدار معين من الوجه حال التيمم، فإن حصل زيادة مقصودة كجزء من الوضوء أو التيمم حرمت وكانت تشريعاً، وإن حصلت نقيصةٌ لم تتحقق الطهارة، فهذا المقدار المشترط بعينه قد يقال بأنه لا توجد مصلحةٌ أو مفسدةٌ فيه في نفسه، وإنما تكون المصلحة في نفس الجعل وتبين امتثال العبد من عدمه، وهذا ما يعبر عنه بأن ملاكات الأحكام هل هي في متعلقاتها، أم أنها موجودةٌ في نفس الجعل.
وهناك من قال بأن الأحكام تابعةٌ للمصالح والمفاسد بانضمام الامتثال وعدمه إليها، فيكون هناك ملاكان للأحكام، وذلك لأن دليل المشهور على أن الأحكام تابعةٌ للمصالح والمفاسد هو الحكمة، فكون الله حكيماً يقتضي أن يجعل الأحكام لأمرٍ راجحٍ هو المصلحة والمفسدة، وغير المشهور يجيب على ذلك بأن حكمة الله لا تقتضي تضييق المصالح والمفاسد في خصوص المتعلقات (نفس العبادات كالوضوء وما شاكل) بل إن المصالح والمفاسد تارةً تكون في نفس المتعلقات، وتارةً أخرى تكون في أمور من قبيل تبيين الامتثال وعدم الامتثال(أي في نفس الجعل)، فيكون دليل الحكمة مثبتاً لكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، سواءً وجدت هذه المصالح والمفاسد في نفس المتعلقات، أو في غيرها.
وعلى كل حال يمكن في النهاية القول بأن الأحكام تابعةٌ للمصالح والمفاسد، كل هذا في مقام الثبوت. وأما في مقام الإثبات (أي الوقوع والتحقق الخارجي) فيمكن الاستدلال بروايات في المقام تدل على تشريعهم (ع) للأحكام الشرعية، ومن ضمن الموارد التي تدعى في المقام هو تحريم الرسول (ص) للنبيذ، وتشريع الإمام الجواد(ع) لوجوب الخمس في المكاسب حيث أن الآية (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) (16)تنظر للغنائم الحربية فلا يثبت بها وجوب خمس أرباح المكاسب، على أن هناك دعوى وجود هذا الحكم في الروايات قبل زمن الإمام الجواد(ع).
6- الشفاعة:
وهي من أهم أدوار الأئمة المعصومين (ع)، وفيها آيات وروايات:
( مَنْ ذَا الَّذِيْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه ِ) (17)، (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) (18)
(وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (19)
وعن الرسول الأكرم (ص):(إن الناس يصيرون يوم القيامة جثىً، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان! اشفع، يا فلان! اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى محمدٍ، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود) (20).
وعنه (ص):( من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي) (21).
وقال الصادق (ع):(إذا كان يوم القيامة نشفع في المذنبين من شيعتنا، فأما المحسنون فقد نجاهم الله) (22).
قال الشاعر:
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً ينجيك يوم الحشر من ألم النار
فدع عنك قول الشافعي ومالكٍ وأحمد والنعمان أو كعب أحبار
و وال أناساً قولهم وحديثهم روى جدنا عن جبريل عن الباري
وبهذا تكون الإمامة عند مدرسة أهل البيت (ع) ذات معانٍ جليلةٍ وأفقٍ رحبٍ قصر دونه مخالفوهم، فهم حبل الله وصراطه المستقيم وسبل النجاة، ثبتنا الله على ولايتهم، ورزقنا في الآخرة شفاعتهم، وحشرنا معهم وفي زمرتهم، والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) سورة النساء، الآية 65.
(2) سورة النساء، الآية 59.
(3) بحار الأنوار: 98، ص155، المجلسي(قده).
(4) بحار الأنوار: 44، ص313، المجلسي(قده).
(5) بحار الأنوار: 30، ص115، المجلسي(قده).
(6) شرح الباب الحادي عشر: 192، المقداد السيوري(قده).
(7) راجع الإمامة: مطهري(قده): 45- 50.
(8) المراجعات، شرف الدين(قده): 188
(9) سورة الأحزاب، الآية 21.
(10) ميزان الحكمة: 2، ص1372، الريشهري
(11) مستند الشيعة 6: 25. المحقق النراقي (قده)
(12) سورة المجادلة، الآية 19.
(13) سورة الأعراف، الآية 27.
(14) سورة النمل، الآيتان 39-40.
(15) سورة الجن، الآيتان 26-27.
(16) سورة الأنفال، الآية 41
(17) سورة البقرة، الآية 255
(18) سورة يونس(ع)، الآية 3.
(19) سورة الزخرف، الآية 86.
(20) ميزان الحكمة 2: 1471.
(21) نفس المصدر2: 1472- 1473.
(22) نفس المصدر2: 1474.
0 التعليق
ارسال التعليق