الإمامة حوار مع سماحة الشيخ مهدي عباس البحراني (حفظه الله)

الإمامة حوار مع سماحة الشيخ مهدي عباس البحراني (حفظه الله)

يعتبر مبحث الإمامة أحد أهمّ المباحث العقائدية التي أثّرت في الأمّة الإسلامية، فبين مؤيد له ورافض...، وكلٌ من الفريقين له أدلّته، إلا أنّ الباحث يرى أنّ القائلين بالإمامة قادرون على إثباتها من خلال كتب جميع الفرق الإسلامية فضلاً عن العقل، ولا غرابة في هذا الأمر، حيث إنّه يصدر عن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) الذين أخذوا علومهم عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، ومَن أمر الرسولُ وباتباعهم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وهم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وتسعة من أبناء الحسين، آخرهم مهديّ هذه الأمّة، عليهم جميعاً أفضل صلوات المصلين.

ولأهميّة هذا البحث حاورنا سماحة الشيخ مهدي البحراني (حفظه الله)(1)، فإليكم هذا الحوار الذي يدور في محاور ثلاثة (مبادئ الإمامة، الإمامة من كتب العامّة، بعض الشبهات حول الإمامة).

مبادئ الإمامة

■ ما هو مفهوم الإمامة التي يعتقد الشيعة بها ومن هم الأئمة؟

● الإمامة بمفهومها تشمل إمامة أولي العزم كما قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(2).

وتستدلّ الشيعة الإثنا عشريّة بهذه على إمامة الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام)(3).

■ ما هو الفرق بين الإمامة والعصمة؟

● مفهوم الإمامة أخص من مفهوم العصمة؛ لأنّا نعتقد أن الأنبياء جميعاً معصومون، والعصمة مفهوم مشكك وعصمت الأئمة (عليهم السلام) أعلى مرتبة من عصمت أولي العزم!؟ وأكملها للنبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)؛ لأنّه أفضل الأنبياء والمرسلين وإلى أوصيائه المنتجبين، وأمّا مفهوم الإمامة فهو خاص بأولي العزم من الأنبياء وهم خمسة أفضلهم نبينا محمد (صلَّى الله عليه وآله).

لذا يمكن أن نقول: كل إمام معصوم وليس كل معصوم إمام؛ لأن منزلته خاصة عالية كما قال الإمام الرضا (عليه السلام) في وصف مقام إمامة الأئمة (عليه السلام)(4).

■ ما هي أبرز أدلّة الإمامة من القرآن والسنة؟

● أبرز الأدلّة على الإمامة قوله تعالى في آية الإمامة: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(5)، وآية الإكمال: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...}(6)، وآية أولي الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(7)، وآية البلاغ أو التبليغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(8)، وآية التطهير: {...إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(9)، وغيرها من الآيات الكثيرة(10).

وأما أبرز الأدلة على الإمامة من السنّة، فسأذكر من بعض مصادر العامة:

منها: ما ورد في صحيح البخاري بسنده عن جابر بن سمرة قال: سمعتُ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يقول: «يكون إثنا عشر أميراً فقال كلمة لم أسمعها»، فقال أبي إنّه قال: «كلّهم من قريش»(11).

ومنها: ما ورد في صحيح مسلم: «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش»(12).

ومنها: ما ورد في مسند أحمد عن عبدالله بن مسعود أنه قال: سئل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بشأن الخلفاء فقال: «إثنا عشر كعدد نقباء بني إسرائيل»(13).

أما تفسير «إثنا عشر خليفة» ومن هم، فقد ذكر القندوزي في كتابه ينابيع المودّة(14)، بسند ينتهي إلى جابر بن عبد الله الأنصاري وإلى ابن عباس، أنّ يهوديّاً سأل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وقال: أخبرني عن وصيّك، فما من نبيّ إلا وله وصي، وإنّ وصي موسى بن عمران (عليه السلام) يوشع بن نون، فقال (صلَّى الله عليه وآله): «إنّ وصيي علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين أئمة أبرار»، فقال اليهودي: فسمّهم لي، فقال: «نعم، إذا مضى الحسين فابنه علي، ثم ابنه محمد ثم ابنه جعفر ثم ابنه موسى ثم ابنه علي ثم ابنه محمد ثم ابنه علي ثم ابنه الحسن ثم الحجة بن الحسن، فهؤلاء إثنا عشر أئمّة عدد نقباء بني إسرائيل»، وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول: «أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون تاسعهم المهدي المنتظر»(15).

أما من طرقنا فالأحاديث متواترة صحَّح شيخنا الأستاذ آية الله العظمى الشيخ الميرزا جواد التبريزي (قدِّس سرُّه) الأحاديث الصريحة على نصّ الأئمّة(16).

الإمامة في القرآن

■ هل هناك نصّ جليّ واضح كلّ الوضوح من القرآن ذكر فيه اسم عليّ بن أبي طالب؟

● دفع: لا يوجد عندنا نصّ جليّ على عدد ركعات كل فريضة، ولا على كيفية الأجزاء والشرائط، وكذا بالنسبة إلى الصوم والحج والزكاة، فلابد من الرجوع إلى السنّة المطهرة في تفسير ذلك كلّه.

أما بالنسبة إلى الآيات القرآنية التي نزلت في حق أمير المؤمنين (عليه السلام)، واعترف مفسّروا أهل السنة والجماعة على أنّها نزلت في عليّ فكثيرة كقوله تعالى: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...}(17)، فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله): «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي والولاية لعليّ من بعدي»(18).

وذكر السيوطي عن أبي سعيد الخدري قال: "نزلت آية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ..}(19) على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في يوم غدير خم في علي بن أبي طالب، لما نزلت أخذ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بيد عليّ وقال: من كنت مولاه... إلخ"(20).

بل هناك آيات نزلت في خصوص عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بشكل واضح لا يمكن إنكارها، كآية {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}(21)، وآية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(22)(23)، وآية المباهلة{...فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(24)، وهذه الآية أجلى من سابقتها، من أن علي بن أبي طالب نفس رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)(25). ولك أن تراجع التفاسير الروائية لهذه الآية كتفسير الثعلبي، وشواهد التنزيل للحسكاني والدر المنثور للسيوطي، وبعض الكتب الحديثية كفرائد السمطين للجويني الشافعي، وينابيع المودّة للقندوزي الحنفي وغيرها.

■ هل توجد في القرآن آيات صريحة أو في قوتها تدل على أن الأئمة هم الأوصياء بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله)؟ وكيف يستدل الشيعة على الإمامة بمثل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم}(26)، والحال بأنّا نرى أنّ غير الشيعة يعطونها معنى مختلفاً لا يعطي الاستدلال على إمامتهم (عليهم السلام).

● الآية المباركة من سورة النساء تأمر المؤمنين بأن يطيعوا الله سبحانه أولاً وبالذات، لا طاعة لغير الله تعالى، وفي المرحلة الثانية يأمر الله تعالى باتباع الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، وهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، والواو عاطفة فلا يعقل أن يأمر الباري تعالى بإطاعة من لم يكن معصوماً، ومن جهة أخرى ينهانا عن إطاعة الفاسق والكذاب، فإذا لم يكن الرسول معصوماً لعلنا نقع في محذور عقلي.

وعطَفت على أولي الأمر في المرحلة الثالثة الذين فرض الله طاعتهم وهم أهل العصمة؛ لأن طاعة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) وأولي الأمر وولايتهم تنتهي أخيراً إلى طاعة الله تعالى، وكل طاعة تكون بإذنه {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}(27)، فيفهم من الآية أنّ طاعة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) من طاعة الله تعالى وأنّها واحدة، والطاعة المطلقة تقتضي ألا يكون حكمه (صلَّى الله عليه وآله) مخالفاً لما أراده الله تعالى، وهذا الكلام بعينه جارٍ في أولي الأمر، فإنّ الله تعالى فرض طاعتهم على المؤمنين، فإن أمروا بما يخالف الكتاب والسنة المطهّرة فلا يجوز ذلك منهم ولا ينفذ حكمهم؛ لقول الرسول (صلَّى الله عليه وآله): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» كما ورد في تفسير الدر المنثور للسيوطي والمحلّى لابن حزم(28)، لذا استدلّ الإمامية بفقرة الآية المباركة على إمامة الأئمّة وخلافتهم بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله).

والآية تدل على أمور مهمّة:

الأول: عصمة أولي الأمر حيث قرن طاعتهم بطاعة الرسول المطلقة.

الثاني: أولوا الأمر أعلم الأمّة بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، فإن مَن فرض طاعته لا بد من أن يكون عالماً بجميع الأحكام وجهات التشريع.

الثالث: أنّ أولي الأمر أفراد معلومون ومن هذه الأمّة، إلا أنّ معرفتهم لا بد من أن تكون بنصّ جلي من النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، وبه تبيين أسمائهم وخصائصهم.

الرابع: الأصل أنّ منصب الرسالة والخلافة والإمامة والولاية للرسول (صلَّى الله عليه وآله) وهذه المناصب عدا الرسالة تكون للإمام المعصوم (عليه السلام) بأمر الله تعالى، ويبلغه الرسول (صلَّى الله عليه وآله).

الخامس: إنّ الحاجة التي تدعو إلى إرسال الرسول (صلَّى الله عليه وآله) هي بنفسها تدعو إلى تعيين أولي الأمر، حيث توجد في الموردين مصالح مهمّة لا تستقيم مصالح الأمّة بدونها(29).

وهنا أحب أن أشير إلى أنّ الفخر الرازي في تفسير الآية(30) اعترف بأنّ الآية تدلّ على عصمة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وأولي الأمر، فقال: "المسألة الثالثة: اعلم أن قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يدلّ عندنا على أنّ إجماع الأمّة حجة، والدليل على ذلك أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومَنْ أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد من أن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ نهي عنه، فهذا يقتضي اجتماع الأمر والنهى في الفعل الواحد باعتبار واحد،  وهو محال فيثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت أن أولي الأمر المذكور في الآية لابد وأن يكون معصوماً"(31).

الإمامة في كتب الحديث

■ هل توجد روايات في كتب العامة صريحة في دلالتها على الإمامة بالمعنى الذي تقوله الشيعة، وإن وجدت فهل من الممكن إرشادنا إلى بعضها؟

● اتضح من الجواب السابق.

■ ما معنى قول الإمام الرضا (عليه السلام): (بشروطها، وأنا من شروطها) كيف يكون الاعتقاد بالإمامة من شروط التوحيد؟

● نعم، الاعتقاد بالإمامة من شروط التوحيد.

هناك حديث ورد من كتب الفريقين وهو «ولاية عليّ بن أبي طالب حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي»(32)، فهذا يدلّ على أهمّية الإقرار بالولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولا يكفي القول بأنّ كل من قال: لا إله إلا الله، يدخل في حصن الله تعالى، ولذا قال الإمام الرضا (عليه السلام) بشرطها وأنا من شروطها، أي: الإقرار بالتوحيد (لا إله إلا الله) مع الإقرار بالإمامة، كما دلّ على ذلك ما ورد في الزيارة الجامعة «من أتاكم نجى ومن لم يأتكم هلك... أنتم باب الله» لا يمكن معرفة الله إلا عن طريقهم.

وقد ذكر الحر العاملي في وسائله حديثاً صحيحاً عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية»(33).

قال زرارة فقلت: وأيّ شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل؛ لأنّها مفتاحهنّ والوالي هو الدليل عليهن.

وفي حديثٍ من نفس الباب وهو صحيحة أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام): «بني الإسلام على خمس: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم شهر رمضان، والولاية لنا أهل البيت، فجعل في أربعة رخصة ولم يجعل في الولاية رخصة، من لم يكن له مال لم تكن عليه الزكاة ومن لم يكن له مال فليس عليه حج، ومن كان مريضاً صلّى قاعداً وأفطر شهر رمضان، والولاية صحيحاً كان أو مريضاً أو لا مال له فهي لازمة»(34). 

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): «...وفاتحة ذلك كلّه معرفتنا وخاتمته معرفتنا»(35) كما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة «بكم فتح الله وبكم يختم».

انظر إلى قول سيد الموحدين أمير المؤمنين (عليه السلام) في أول نهج البلاغة: «أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه...»(36).

ورد في الكافي عن أبان بن تغلب عن أبي عبدالله (عليه السلام): «يا أبان! إذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث: من شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً وجبت له الجنّة، قال: قلت له: إنّه يأتيني من كل صنف من الأصناف، أفأروي لهم هذا الحديث؟ قال: نعم، يا أبان، إن كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين فتسلب لا إله إلا الله منهم، إلا من كان على هذا الأمر»(37). المراد بسلبها منهم عدم نفعها لهم؛ لكون الولاية شرطاً في التوحيد وفي قبول الأعمال لذا قال الإمام (عليه السلام) بشرطها وشروطها وأنا من شروطها.

فلا إله إلا الله وحده لا يكفي لدخول الجنة، وليَكون حصناً لا بد من عِدل آخر له وهو: «ولاية علي بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي». حديث قدسيّ.

ومن هنا نعرف أنه عندما نزلت آية إكمال الدين قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي والولاية لعليّ من بعدي»(38).

■ بناء على قول الرسول (صلَّى الله عليه وآله): «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» ما هو حكم من لم يعتقد بإمامتهم (عليهم السلام) وهم كثير! وهل الحب للأئمة كافٍ في الإنقاذ من النار؟

● لقد أجبت عن هذا السؤال في ثمان محاضرات لذا سأذكر الجواب هنا مختصِراً.

ورد حديث آخر عن النبي (صلَّى الله عليه وآله): «من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية» وكذا عنه (صلَّى الله عليه وآله): «من مات وليس عليه طاعة مات ميتة جاهلية»، وعن ابن عمر عن النبي (صلَّى الله عليه وآله): «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له»(39).

حفلت أمهات الكتب الحديثية من الفريقين وبالأخص عن العامة بهذا الحديث، فصار من المتواترات بألفاظ مختلفة ومعاني مترادفة، وقد عمل بها طيلة القرون بدءاً من يوم السقيفة إلى نهاية الدولة العباسية، بل كان علماء البلاط يلزمون الناس على البيعة والطاعة، وكانوا يخيفون الناس من ميتة تكون ميتة أهل الجاهلية.

وهذه بعضُ تأملاتٍ في الحديث:

منها: إشعار بوجوب المبادرة إلى بيعة إمام المسلمين، وعدم التهاون فيها خوف مباغتة الموت والوقوع في الهلاك.

منها: لا يجوز نقض بيعة الإمام الحق ولا نكثها.

منها: البيعة عبارة عن المعاهدة والتعاقد على السمع والطاعة، وعليه فلا تقع البيعة إلا لإمام حاضر دون الميت؛ لأن الميت لا تتحقق منه المعاهدة.

منها: يفسر لنا النووي(40) ميتة الجاهلية: "هي بكسر الميم أي على صفة موتهم من حيث هي فوضى لا إمام لهم"، وقال ابن حجر(41): "كموت أهل الجاهلية على ضلال وليس لهم إمام مطاع؛ لأنّهم كانوا لا يعرفون ذلك".

وأقول: إنّ التشبيه بترك البيعة بميتة أهل الجاهلية، من حيث إنّ ترك البيعة يستلزم ترك متابعة الإمام الحق، ويؤدّي ذلك في النتيجة إلى متابعة أئمة الجور والوقوع في الضلال، وبناء على ذلك اتفقت كلمة علماء العامة على أنه يجب مبايعة خليفة المسلمين في كل عصر، ولا يجوز التخلف عنها بنحو من الأنحاء.

قال القرطبي(42): "إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد، وجب على الناس كافّة مبايعته على السمع والطاعة وإقامة كتاب الله وسنة رسول الله، ومن تأبّى عن البيعة لعذر عُذِر، ومن تأبّى لغير عذر جبر وقهر لئلا تفترق الكلمة".

وقال ابن حزم(43): "إن رسول الله نصّ على الإمامة وأنّه لا يحلّ بقاء ليلة دون بيعة".

ومع ذلك كله، فإنّ علماء العامة بعد عصر الخلافة لم يعلنوا للناس وجوب أخذ البيعة، بل تركوا الخوض فيها بعد ما صارت دويلات إسلامية!  إذا لا يحق للفرد أخذ البيعة من خليفتين، فعلى جميع الأئمّة مبايعة شخص واحد يكون هو الخليفة عليهم، وهذا لم يتحقق قطعاً بعد نهاية الدولة العباسية، لذا نرى النووي شارح صحيح مسلم(44) لم يعلّق بحرف واحد على هذا الحديث، مع أنه توفى سنة 676هـ أي بعد سقوط الدولة العباسية، ولعل السبب هو تخوّفهم من سخط حكّام عصرهم إذا نفوا عنهم أهليتهم لإمامة المسلمين، وخوفهم من العامة وحذرهم -من تخطئة كل أهل السنة في ترك إمرتهم- واجب لا يجوز لهم تركه أو التهاون فيه.

بعض مؤهلات خليفة المسلمين وصفاته عند السنة

أن يكون قرشياً، فلا تصحّ إمامة غير القرشيّ كائناً من كان لقول النبي (صلَّى الله عليه وآله) «الأئمة من قريش» حديث مشهور بل عدّه البيهقي من الأحاديث المتواترة وكذا الألباني(45).

أن يكون مجتهداً في الأصول والفروع؛ ليقوم بأمور الدين بحيث لا يحتاج إلى غيره من الاستفتاء في الحوادث، وهذا متفق عليه كما ذهب إليه القرطبي في تفسيره(46).

أن يكون عادلاً مصلحاً لماله وحاله وغير مرتكب لكبيرة ولا مصرّ على صغيرة (47)، وقال القرطبي في تفسيره(48): لا يجوز أن تُعقد الإمامة لفاسق.

الإشكال والملاحظة على آرائهم على نحو الإجمال:

لم يلتزموا بالبيعة وخالفوا نصوصهم المتواترة.

عدم توفر الشروط في الحكّام ليبايعوهم؛ لذا أهملوا الأمر وتركوه خشية الفتنة.

سكوت علمائهم ضيّع عوامهم، ولم يعرفوا من هو إمام المسلمين ليبايعوه في هذا العصر؛ لئلا تبقى رقبتهم معلّقة ومشغولة ولئلا تكون ميتتهم ميتة جاهلية.

وهذا السؤال مطروح على كل مسلم أيّاً كان مذهبه (من هو إمام زمانك؟).

وهناك حديث يرادف هذا الحديث متفق عليه وهو حديث الثقلين، ونقول فيه: إنّ الكتاب معصوم وموجود فلابد من تحقق العِدل الثاني، وإلا لن يصبح قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) (لن يفترقا...) دالاً على نفي مؤبّد.

فإذا قرأ كل مخالف لنا حديث (من مات...) وجاء إلى حديث الثقلين، يعلم أنّ الثقل الثاني يتمثل في العترة، وأحد هذه العترة لا بد من أن يكون موجوداً؛ ليتحقق قوله (صلَّى الله عليه وآله) لن يفترقا... فإذاً هو موجود ولكن أين هو؟ فيتحقق عنده علم إجمالي أن ما تذهب إليه الشيعة من أنّ لهم إمام ويعرفونه، وهو الذي يدعونه المهدي، وهو من العترة الطاهرة ومن قريش، فهو -العدل الثاني للقرآن، والمهدي متفق عليه عند العامة إلا أنّه اختلف البعض في ولادته من عدمها، ومن يقول بعدم ولادته يقع في محذور محو العِدل الثاني وهو المعصوم، فالإمام باق مع القرآن، ولذا تنبه ابن أبي الحديد إلى هذا المعنى فقال في شرح الخطبة: «كي لا يخلو الزمان ممن هو مُهيمن لله تعالى على عباده مسيطر عليهم، وهذا يكاد يكون تصريحاً بمذهب الإمامية إلا أنّ أصحابنا يحملونه على أن المراد به الأبدال»(49).

إشارة إلى المهدي من آل البيت (عليهم السلام)، وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمّة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة، كما ورد في خطبة النهج عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً؛ لئلا تبطل حجج الله وبيِّناته»(50).

وجاءت من طرقنا الأحاديث الكثيرة، فراجع كتاب أصول الكافي في باب لا تخلو الأرض من حجّة.

وورد من طرق العامة في صحاحهم «ولا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش»، وفي آخر «إثنا عشر كعدد نقباء بني إسرائيل»(51).

فإذا ضممت الأحاديث بعضها إلى بعض يثبت المطلوب، وهو أنّ إمام الزمان عند الشيعة معروف وهو المهدي من ولد فاطمة (عليها السلام) وهو عِدل القرآن.

القسم الثاني من السؤال وهو هل يكفي الحبّ للأئمّة (عليهم السلام)؟ الجواب: لا يكفي الحب وحده للإنقاذ من النار، فقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عندما سئل: أيّ عرى الإيمان أوثق يا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فقال: «الحب في الله والبغض في الله»(52).

وفي حديث آخر جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: «يا علي: إنّي أحبك ولكنّي لا أبغض فلان، فأجابه (عليه السلام)، أمّا أنت الآن فأعور، إما أن تعمى وإما أن تبصر»(53).

ومن هنا نفهم هذه المقاطع من الزيارة الجامعة الكبيرة «من أتاكم نجا ومن لم يأتكم هلك» «سعد من والاكم وهلك من عاداكم»، وأنّ الروايات الصحيحة في الوسائل في باب من أبواب مقدّمة العبادات أنّ الولاية مفتاح قبول الأعمال.

لذا نقول كلّ مؤمن مسلم وليس كلّ مسلم مؤمن.

شبهات

■ إذا كانت الإمامة أفضل من النبوّة لماذا لا نقول: الإمام رسول الله؟! أليس من الأفضل أن ننادي الرسول بالمرتبة الأعلى؟

● دلّت الآية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(54) على أن الإمامة أفضل من النبوة(55).

لذا، لم ينل جميع الأنبياء هذه المرتبة إلا أولوا العزم ومنهم نبينا محمد (صلَّى الله عليه وآله)، وهو أفضلهم فهو نبي ورسول وإمام.

نبي الله إبراهيم مرّ بمراحل كثيرة وامتحانات إلهية، فصار خليلاً ونبياً وصاحب كتاب حتى أعطاه الله هذه المرتبة وهي مرتبة الإمامة، فالإمامة مجعولة بالجعل الإلهي. ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ الله تعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنّ الله تعالى اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإنّ الله تعالى اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً»(56) فلمّا جمع الله تعالى له هذه الأشياء قال له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} قال: لا يكون السفيه إمام تقى.

وفي تفسير السيوطي في آية البلاغ(57) وكذا غيره(58)، عن ابن مسعود عند تفسير آية البلاغ، قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. كما أنّ النبوة بالإمامة، وإنّ الذين حازوا من الله هذه المرتبة السامية هم بعض الأنبياء كإبراهيم وعيسى وموسى ونبينا محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

والإمامة هي كمال الدين وتمام النعمة لقوله تعالى: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...}(59)، ذكر القندوزي في ينابيعه والجويني في فرائده والحسكاني في شواهده، إنّ الآية نزلت في علي بن أبي طالب في يوم غدير خم عندها قال النبي (صلَّى الله عليه وآله): «من كنت مولاه...الحديث».

وعن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لما نزلت هذه الآية كبّر...الحديث(60).

إذا أردت أن تعرف معنى الإمامة، راجع ما قاله الإمام الرضا (عليه السلام) عن الإمامة وهو إمام معصوم يُبيّن لنا مقام الإمامة(61).

أذكر مختصراً المستفاد من الآيات فأقول: مهمة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) تبليغ الأوامر الإلهية، وبعبارة أخرى إراءة الطريق. في القرآن آيات تبين لنا أن مهمة الأنبياء التبليغ والدعوة، والتعليم وتبيين الأحكام الشرعية والإرشاد والإنذار كما في سورة النحل آية125وآية44، المائدة آية67، الأحزاب آية39، الجمعة آية2، البقرة آية213. فالأنبياء مهمتهم إراءة الطريق.

وأما مقام الإمامة فالإمام يهدي بأمر ملكوتي بصاحبه، والإمامة بحسب الباطن نحو ولاية على الناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إيّاهم إلى المطلوب بأمر الله تعالى، دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول.

 دلّت آيات على الإمامة وعملها {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(62)، و {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(63)، ذكر الحسكاني أنّها نزلت في ولد فاطمة(64)، ثم بيّن سبحانه وتعالى سبب موهبة الإمامة لقوله تعالى: {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(65).

{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ}(66)، فأفعال الإمام خيرات يهتدى إليها لا بهداية من غيره، بل باهتداء من نفسه وبتأييد إلهي وتسديد ربّاني، والدليل على هذا قوله تعالى: {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، بناء على أن المصدر المضاف يدل على الوقوع، ففرق بين قولنا وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات وقولهم فعل الخيرات، فإنّ الأول لا يدل على التحقق والوقوع، وأما الثاني يدل على ذلك وعلى ما فعلوه من الخيرات بوحي باطني وتأييد سماوي...، فالإمامة جعل إلهي كما في الآيات السابقة وللبحث تفصيل(67).

وروي في الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «والله ما ترك الله أرضاً منذ قيض آدم، إلا وفيها إمام يهتدى به إلى الله، وهو حجته على عباده ولا تبقى الأرض بغير إمام حجة لله على عباده»(68)، وفي حديث آخر عن أبي عبدالله (عليه السلام): «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت».

أما الجواب عن الشق الثاني: لماذا لا ينادى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وبقية أولوا العزم بالإمام؟ و-أضيف عليه- لماذا عبّرت الآية في القرآن وما محمد إلا رسول؟ فالجواب واضح؛ لئلا يحصل الاشتباه والخلط عند الناس وعدم التفريق بين الإمام والرسول، وحتى لا يقال كل إمام نبي ورسول، ولا يقال كل نبي ورسول إمام، بينهما عموم وخصوص من وجه، فيمكن أن تجتمع الإمامة مع النبوة وتفترق في الأئمة أي أنهم أئمة وليسوا أنبياء لذا أكّد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(69)، وقال: «يا علي إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنّك لست بنبي وإنّك لعلى خير»(70)، وقال تعالى: {...وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}(71)، فاقتضت المشيئة والإرادة الإلهية أنّ تتحقق النبوة والرسالة في أفضل وأشرف الخلق، وهو سيد الأنبياء والمرسلين محمد (صلَّى الله عليه وآله).

ولذا ورد أنه لا نبيّ بعدي؛ لئلا يعتقد البعض كما حصل لأنبياء بني إسرائيل، كان يأتيهم الأنبياء واحداً تلو الآخر، بل ادعيت النبوة في بداية بعثته كسجاح ومسيلمة الكذّاب.

فإذاً جانب الإمامة كان مسلّم عند المسلمين، وأنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) من أولي العزم وهو أفضلهم، وبهذه الإمامة انتقلت إلى أئمة الهدى.

فعندما نقول رسول الله محمد، يعني هو منتهى الكمال.

فمناداته بالنبي والرسول لأجل أنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأما الإمامة فإنّه مقام لا يدركه عوام الناس كما ورد في حديث الإمام الرضا (عليه السلام) الذي مرّ ذكره.

■ الإمامة في عقيدة الشيعة ثابتة إلى الإمام علي (عليه السلام) ثم إلى ابنه الحسن ثم إلى الحسين ثم إلى الأئمة من صلبه... أليس هذه هي صورة أخرى عن نظرية الوراثة للحكم كما في الدولة العباسية والأموية ومن سار بعدهم على نهجهم؟

● نحن لا نقول بالوراثة، أي أن منصب الإمامة لم يرثه الإمام ولا أولاده من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، بل ورد تنصيبهم عن الله تعالى شأنهم شأن أولاد الأنبياء كإبراهيم وداوود وزكريا وغيرهم، ولمّا كان النبي (صلَّى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء لم تجز النبوة لهم فحلّت محلّها الإمامة ونص عليهم رسول الله واحداً بعد واحد بأمر من الله وحينئذٍ تكون إمامتهم بالنص.

والفرق واضح حيث إنّ الوراثه للحكم هي وراثة ملكية بأحكام جائرة، وعدم رغبة الناس في اختيار من يختار من سبقه، كما أنها تبتني على مصالح شخصية.

أما الإمامة فهي منصب إلهي ومجعولة بالجعل الإلهي، فمن يعتقد بالله سبحانه وتعالى أنه يرى مصلحة عباده ويخلصهم من الهلكة؛ لذلك أرسل إليهم الأنبياء والمرسلين، ولهذا قال تعالى{لقد كُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ...}(72)، وقالت فاطمة (عليها السلام) في خطبتها المعروفة: «فأنقذكم الله بأبي محمد»، و«أن الإمامة أمان من الفرقة».

وفرق بين الإمامة والخلافة الإلهية، وبين الخلافة القهرية المعبّر عنها بالشورى أو الوراثة كالحكّام الأمويين والعبّاسيين، أمور اعتبارية لأغراض شخصية لذا قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في حق معاوية عندما رأى تلك الرؤيا ونزلت آية {....وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ }(73)، ورد في تفسير الدر المنثور للسيوطي، أخرج عن ابن حريز عن سهل بن سعيد، قال: رأى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فما استمع ضاحكا حتى مات(74)، وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمران النبي قال: رأيت ولد الحكم بن العاص على المنابر كأنّهم قردة، وأنزل الله في ذلك وذكر الآية.

وفيه أخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي أن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أصبح وهو مهموم، فقيل: مالك يا رسول الله؟ فقال: إنّي رأيت في المنام كأنّ بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل: يا رسول الله لا تهتم، فإنّها تنالهم فأنزل الله وذكر الآية.

فصارت الخلافة وراثة ملوك الأمويين والعباسيين وغيرهم بالقهر والجبر والناس بسطاء، فلا يمكنهم أن يقهروا هؤلاء مع ما كان ينزل عليهم في حكومتهم من الظلم والاضطهاد والفقر، ولم يكن لهم أهلية الأمارة والولاية فضلاً عن الخلافة، ولا ينطبق ما ذكرناه من شروط الإمامة عليهم (من مات ولم يعرف...).

فالله تعالى جعل الخلافة الإلهية في الأرض؛ لإرشاد الناس إلى طرق الهداية والصلاح، وأمر عباده بطاعتهم كما دلّت الآيات الكثيرة(75).

وفي الأحاديث الشريفة «لا تخلو الأرض من حجة»، «ولولا الحجة لساخت الأرض بأهلها»، «ولله على الناس حجتين ظاهرة وباطنة: الظاهرة الأنبياء والرسل والباطنة العقل...». فالله سبحانه وتعالى عيّن خلفاءه بالجعل، ولا يحق لأحد التصرّف في الجعل الإلهي حتى الرسول (صلَّى الله عليه وآله) نفسه، كما دلّت عليه آية البلاغ {فإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، ففيها لهجة شديدة وأنه تعالى فرض طاعتهم، وأنّ الأئمة شهداء الله (عزَّ وجلَّ) في أرضه وهم نور الله عز وجل وأركان الأرض، وقد اصطفاهم الله على عباده وأورثهم كتابه، وهم سفن النجاة(76).

فلا تقاس الإمامة والخلافة الإلهية بهذه ولا يمكن المقايسة أبداً.

■ كلمة أخيرة سماحة الشيخ

● أودّ أن ألفت أخوة الإيمان إلى أمرين: أحدهما يخصّني والآخر يرجع إلى أخوة الإيمان.

أما الأمر الذي يخصّني: فإنّي أودّ أن أبيّن أن المصادر التي ذكرتها في هذه المقابلة، أو أي بحث أقوم به فهي موجودة عندي في مكتبتي الخاصّة، ولا أتعامل مع الأجهزة الحديثة، ومكتبتي غنيّة بمصادر العامّة والخاصّة.

والأمر الآخر: قد يسأل أحدهم عن سبب اهتمامي بالكتابة في الجانب العقائدي على حساب الجانبين الفقهي والأصولي.

أقول: لا يخفى على الإخوة الأعزاء من طلبة العلوم والأفاضل، إنني بحمد الله مشتغل بالدرس والمباحثة في الجانب الفقهي والأصولي، وما يرتبط بعملية استنباط الأحكام الشرعيّة، وعندنا جلسة علميّة في إحدى ليالي الأسبوع يحضرها بعض الأفاضل، ولعلّنا ننشر شيئاً منها في هذه المجلة المباركة.

وإنّي قد وجدت أن وظيفتي الشرعيّة الخوض في المسائل الاعتقادية وبالأخصّ الإمامة والخلافة والعصمة، وردّ الشبهات التي ترد من هنا وهناك، لذا كان أول كتاب قد ألفته كان تلبية لطلب جملة من الشباب الجامعي في البحرين، وكان قد طبع في سنة1993م، ومقدّمته قد كتبها العلامة المجاهد شيخنا وصديقنا الشيخ عبد الأمير الجمري -أبوجميل- رحمه الله تعالى، ولأهمّية الأسئلة والأجوبة طبع الكتاب مرتين في بيروت: الطبعة الأولى منه كان اسمه (الوسائل في معرفة المسائل)، ثم أضفت عليه أسئلة فأسميته (تحرير الوسائل في معرفة المسائل -وهذا طبع ثلاث مرات في قم-)، والكتاب الثاني هو: (الآيات الباهرة في مناقب العترة الطاهرة)، بدأت فيه بآية التطهير واختتمتها بآية الإكمال، وكان لكل آية بحث مستقل بها يجمعها طهارة أهل البيت وعصمتهم وخلافتهم وإمامتهم بعد الرسول محمد (صلَّى الله عليه وآله).

وهذه الإصدارات الثلاثة التي صدرت حديثاً وهي: (القول الجلي في تفسير آية الصلاة على النبي -صلَّى الله عليه وآله-)، و(شذرات الذهب في حديث سلسلة الذهب)، و(كشف الأستار عن علل سكوت حيدر الكرار -عليه السلام-)، وهناك مقالات كثيرة ومحاضرات ترتبط ببحث الإمامة والولاية؛ لأهميتها في الدين والمذهب الحق، وهذه الأسئلة التي طرحت في هذا الحوار تحتاج إلى كلام طويل ومفصّل لذا أرجعت إلى مؤلّفاتي، فأرجو من أخواني الاعتناء بالولاية والإمامة بحثاً وعرضاً على الناس بالدليل والبرهان الجلي، بعيدا عن الأمور غير اللائقة والمجادلات الموهنة؛ لأن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) مذهب حق وهم أهل الحق وهم الصراط المستقيم.

مذهبٌ بني على الدليل والبرهان مع ما كانت تعيشه الشيعة الإمامية من ضغوطات السلاطين والحكّام لإخماد حركة أهل البيت (عليهم السلام)، تراه اليوم قد انتشر في جميع أنحاء العالم، فهو النور الذي أرادوا إطفاءه ولكن الله يأبى ذلك ولو كره المشركون.

ومن حقي كرجل دين وطالب علم أن أطبّق قول الإمام الهادي (عليه السلام): «لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتدّ عن دين الله، ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء شيعتنا كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله»(77) فحفظ العقيدة من أهمّ الأمور. والحمد لله أولاً وآخراً.

***

 

* الهوامش:

(1) المحقق سماحة الشيخ مهدي عبّاس علي البحراني (حفظه الله)، من مواليد المنامة في مملكة البحرين، درس المقدّمات في البحرين على يد العلامة السيد علوي الغريفي (قدس)، ثم انتقل إلى النجف الأشرف ومنها إلى قم؛ ليكمل درسه على يد أساتذتها منهم آية الله العظمى الشيخ الميرزا جواد التبريزي (رحمه الله) وآية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني (حفظه الله)، وهو حالياً مستقر في قم المقدّسة يلقي الدروس العليا (البحث الخارج) في الحوزة العلمية باللغتين العربية والفارسية.

(2) البقرة: 124.

(3) للتفصيل راجع كتابنا الآيات الباهرة في مناقب العترة الطاهرة آية الإمامة ص151 (عبارة المحاوَر).

(4) للتفصيل راجع كتابنا آية الإكمال ص235 (عبارة المحاوَر).

(5) البقرة: 124.

(6) المائدة: 3.

(7) النساء: 59.

(8) المائدة: 67.

(9) الأحزاب: 33.

(10) للتفصيل راجع كتابنا الآيات الباهرة راجع شرح هذه الآيات وكيفيّة ارتباطها بالإمامة 1: 151، 2: 317، 3: 187، 4: 277، 5: 43 (عبارة المحاوَر).

(11) صحيح البخاري 9: 250، كتاب الأحكام طبعة مكتبة الرياض. وفي طبعة أخرى 9: 729 باب 1148، حديث 2034.

(12) صحيح مسلم كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش 4: 482 ط دار الشعب بشرح النووي، ط أخرى 3: 1452، حديث 1821- 1822.

(13) مسند أحمد 1: 389 ط. حجرية، صحيح الترمذي ح2223 ص501، صحيح أبو داود 2: 207 كتاب المهدي، كنز العمال 6: 201، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري 3: 618.

(14) ينابيع المودّة باب 46: 441، وكذا فرائد السمطين للجويني الشافعي2: ب32: 136.

(15) ينابيع المودّة ص 258 ط. الأولى الحجرية، فرائد السمطين2: ب 31 ص132.

(16) للتفصيل راجع كتابنا تحرير الرسائل في معرفة المسائل السؤال السابع عشر: هل نص الله على الخلافة والإمامة من بعده؟ الطبعة الرابعة قم المقدّسة، أصول الكافي ج1 كتاب الحجة النص على الأئمة (عبارة المحاوَر).

(17) المائدة: 3.

(18) فرائد السمطين للجويني الشافعي 1: 74 وما يقارب اثني عشر مصدراً.

(19) المائدة: 67.

(20) تفسير الدر المنثور3: 117، شواهد التنزيل للحاكم 1: 989، الواحدي في أسباب النزول ص150، الفخر الرازي في تفسيره 12: 49، 50.

(21) البقرة: 207.

(22) المائدة: 55- 56.

(23) للتفصيل راجع كتابنا الآيات الباهرة ص315 (عبارة المحاوَر).

(24) آل عمران: 50.

(25) للتفصيل راجع كتابنا الآيات الباهرة ص 245 (عبارة المحاوَر).

(26) النساء: 59.

(27) النساء: 80.

(28) تفسير الدر المنثور للسيوطي 5: 576، المحلّى لابن حزم ج1: باب صفات القاضي ص95.

(29) راجع الآيات الباهرة 190-191.

(30) الفخر الرازي في تفسيره 10: 144.

(31) للتفصيل راجع كتابنا الآيات الباهرة ص 191 (عبارة المحاوَر).

(32) شواهد التنزيل للحسكاني 1: 170. بحار الأنوار 39: ب87 ح1.

(33) وسائل الشيعة ج1، ب1 من أبواب مقدمة العبادات.

(34) المصدر نفسه ح24 صحيحة أبي حمزة الثمالي.

(35) المصدر نفسه ح34 صحيحة أبي حمزة الثمالي.

(36) نهج البلاغة – الخطبة الأولى.

(37) الكافي 2: 520 باب من قال لا إله إلا الله.

(38) راجع كتاب الآيات الباهرة ص317.

(39) صحيح مسلم 3:1478، صحيح ابن حبّان 10: 39، مسند أحمد 2: 83، 3: 446، مسند ابن داود 2: 428، المعجم الكبير للطبراني 10: 350، المستدرك على الصحيحين 1: 77، سنن البيهقي 8: 156- 157، مجمع الزوائد5: 218- 219، سلسلة الألباني في الأحاديث الصحيحة، وعن طرقنا روضة الكافي 8: فضل الإمامة ح132.

(40) شرح مسلم للنووي 12: 238.

(41) ابن حجر في فتح الباري 13: 5.

(42) القرطبي في تفسيره جامع الأحكام 1: 272.

(43) ابن حزم في الملل والنحل 4: 69.

(44) شرح صحيح مسلم 12: 240.

(45) إرواء الغليل للألباني 2: 298- 103.

(46) تفسير جامع الأحكام 1: 270.

(47) الإيجي في المواقف: 339.

(48) تفسير جامع الأحكام 1: 270.

(49) وكما فهم ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في شرح البخاري 6: 385.

(50) ذكره محمد عبده في شرح النهج 4: 691.

(51) صحيح البخاري 250:9 كتاب الأحكام وفي ط أخرى ص729 ح2034 ب1148، صحيح مسلم كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش ص482، مسند أحمد 389:1، الترمذي ص501 ح1223، صحيح ابن داود 207:2 كتاب المهدي، المستدرك على الصحيحين للنيسابوري3: 8 كنز العمال6: 8.

(52) المقنعة للشيخ المفيد باب 4 ما يجب من ولاية أولياء الله في الدين.

(53) التعجب للكراجكي ص112.

(54) البقرة: 124.

(55) لتفصيل البحث راجع كتابي الآيات الباهرة ص151 (عبارة المحاوَر).

(56) الكافي 1 باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة ص174.

(57) المائدة: 67.

(58) الشوكاني في تفسيره فتح القدير 2: 88، الحسكاني في شواهد التنزيل.

(59) المائدة: 3.

(60) مر هذا الحديث في البحث (الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي..).

(61) أمالي الشيخ الصدوق :773 المجلس: 97 ولقد نقلناه بتمامه في كتابي الآيات الباهرة عند تفسير آية الإكمال 335. وللاستزادة يمكن مراجعة كتابي الآيات الباهرة ص164.

(62) الأنبياء: 73.

(63) السجدة: 24.

(64) الحسكاني في شواهده 1: 583.

(65) السجدة: 24.

(66) الأنبياء: 73.

(67) الآيات الباهرة ص 167.

(68) الكافي 1: 179.

(69) الكافي ج 8: 107.

(70) الطرائف في مذهب الطوائف 415.

(71) الأحزاب: 40.

(72) آل عمران: 50.

(73) الإسراء: 60.

(74) بحار الأنوار للمجلسي ج 31: 536.

(75) للاستزادة راجع كتابنا الآيات الباهرة (عبارة المحاوَر).

(76) أصول الكافي1 كتاب الحجة، وراجع حديث الإمام الرضا (عليه السلام) عندما وصف مقام الإمامة في أمالي الشيخ الصدوق 773 ونقلناه مفصلاً عند شرح آية الإكمال حيث جعلنا الحديث ختام مسك لكتابنا. وذكر الكليني الحديث ب15 عن كتاب الحجة باب نادر جامع من فضل الإمام وصفاته. وراجع الزيارة الجامعة الكبيرة.

(77) الاحتجاج 2: 260، الكافي ج1 باب استعمال العم ص44 ح1.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا