الإلحاد ومسبباته وبعض التساؤلات الإلحادية.. لقاء مع سماحة آية الله السيد منير الخباز (حفظه الله)

الإلحاد ومسبباته وبعض التساؤلات الإلحادية.. لقاء مع سماحة آية الله السيد منير الخباز (حفظه الله)

حاوره: الشيخ محمد علي خاتم

 الجزء الأول من الحوار

بسم الله الرحمن الرحيم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

استكمالاً للحوار السابق من هذا العدد الذي أجريناه مع سماحة الشيخ محمد ناصر ولغرض تناول أكبر قدر ممكن من الزوايا في موضوع الإلحاد نستعرض بعض التساؤلات مع سماحة آية الله السيد منير الخبازB شاكرين له قبول هذا الحوار، فمعكم إلى مائدته، ونشرع مع سماحة السيد في هذا الحوار في محورين؛ المحور الأول حول ظاهرة الإلحاد، والحور الثاني حول بعض التساؤلات الإلحادية[1].  

السؤال الأول: انتشار ظاهرة الإلحاد خصوصاً بين الشباب المبتعثين هل هو لضعف الثقافة الدينية أم لقوة في منطق الإلحاد وأدلته؟

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ظاهرة الإلحاد كسائر الظواهر التي عندما نريد أن ندرسها لا بد من أن ندرسها بطريقة علمية وفي تسليط الضوء على العوامل والأسباب التي أسهمت وساعدت في تولد هذه الظاهرة وانتشارها خصوصاً بين شبابنا المبتعثين في الخارج للدراسات.

ونحن عندما نسلط الضوء على ظاهرة الإلحاد نكتشف أنّ هناك عدة عوامل ساهمت في انتشار هذه الظاهرة، فهناك عوامل فكرية وهناك عوامل إعلامية وهناك عوامل نفسية ونحن نتحدث عن كل عامل من هذه العوامل بتفصيل ووضوح.

العامل الأول: ألا وهو العامل الفكري

بمعنى أن يرجع الإلحاد إلى مدارس فكرية، وجذور فكرية وأيدلوجية مؤسسة ينتج عنها تبني الإلحاد، في البداية لا بد أن نفرق بين عدة ألوان؛ فهناك الملحد وهناك اللاديني وهناك الربوبي وهناك المشكك وهناك اللاأدبي وهناك العلماني؛ هناك ألوان لا ينبغي أن نخلط بعضها بالبعض الآخر.

الملحد وهو الذي ينكر وجود المبدأ لهذا الكون ووجود الخالق. هناك اللاديني الذي يعترف بوجود خالقه ولكن يقول أنا لا أعترف بجميع الأديان واعتبرها اجتهادات وأفكار بشرية وضعها ما يسمى بالأنبياء والرسل.

هناك مثلاً الربوبي وهو الذي يعتقد بوجود الله ولكن يعتقد أن الله برأ هذا الكون وأبدع هذا الوجود ثم اعتزل وترك الكون يسير عبر أنظمة فيزيائية دقيقة فهو يُحكم مسيرته بنفسه بلا حاجة إلى أن يتدخل الإله في مراحل مسيرة الكون.

هناك اللاأدبي الذي يقول أنا لا أريد أن أشغل نفسي في الفكر الديني هل هو صحيح أم لا، أنا مهمل أنا لا أدري عن شيء من ذلك أو أنا لا أستطيع أن أتصور هذه المفاهيم فأتركها.

وهناك المشكك الذي يقول بأنني استمعت إلى أدلة رجال الدين استمعت إلى البراهين التي تطرحها الأديان على وجود المبدأ على وجود النبوات فلم أقتنع بشيء منها.

وهناك العلماني وهو الذي يفصل الدين عن الحياة ويقول بأن الدين هو ظاهرة ودور شخصي بين الإنسان وبين ربه صح أم أخطأ وليس للدين بصمات منعكسة على مجالات الحياة المختلفة سواء بالسياسة أو في الاقتصاد أو في العلاقات الاجتماعية العامة.

نحن الآن نركز على الأقسام الثلاثة الأولى: الأول: من ينكر المبدأ تعالى، والثاني: من يعترف بالمبدأ وينكر الأديان، والثالث: من يعترف بالله وينكر نفوذه ونفوذ سلطنته وقدرته في إدارة هذا الوجود. فنحن عندما نتحدث عن هذه الألوان الثلاثة نقول: هناك عوامل أسهمت في بروز ظاهرة الإلحاد التي تشمل الألوان الثلاثة، العامل الأول كما قلنا هو العامل الفكري، والعامل الفكري يتمثل في نوعين:

النوع الأول: هو نجاح العلم الحديث سواء على مستوى فيزيائه وكيميائه وفلكه أم نجاح العلم الحديث في تفسير الظواهر.

لاحظوا أنّ الطرح الديني الذي كان سائداً قبل -لنفترض- 300 سنة أو 400 سنة كيف كان يتعامل مع الظواهر كظاهرة المطر وظاهرة الخسوف والكسوف وظاهرة الزلازل وظاهرة الأوبئة المنتشرة كيف كان يتعامل معها الطرح الديني آنذاك، كانت هذه الظواهر تطرح بصفتين صفة ميتافيزيقية غيبية وصفة غائية، الصفة الميتافيزيقية أن يقال: إنّ المطر تديره ملائكة والرياح تديرها ملائكة وكذلك الخسوف والكسوف يرجع إلى تدخل ملائكي في إبراز هذه الظاهرة تفسر ظواهر الكون التي تحيط بالإنسان بأن لها بعداً ميتافيزيقياً غيبياً لا يصل الإنسان إلى حقيقته وكُنهه، لذلك يتعامل الإنسان مع جميع الظواهر التي حوله بأنه يستسلم لها لأنه لا يستطيع أن يفهمها ولا أن يفسر كيف يتعامل، ومعها الصفة الثانية هي الصفة الغائية بأنّ جميع أحداث الكون حتى الزلازل وحتى البراكين جميع أحداث الكون وحتى الأمراض التي تحدث على الأرض هي لغاية إلهية يريدها الله، فهناك غاية يعرفها الله تبارك وتعالى وجميع ما في الكون من أحداث حتى لو كانت أحداثاً مدمرة هي أحداث منوطة بغاية وليست أحداثاً اعتباطية، وفي مقابل هذا الطرح الديني نجح العلم بنظر الناس في أن يبدد هذا الطرح الديني بكلتا الصفتين؛ أولاً استطاع أن يفسر هذه الظواهر تفسيراً مادياً خالياً من البعد الغيبي، ليس هناك بعداً غيبياً في ظاهرة المطر، هناك عملية تكوينية واضحة أنّ الشمس تسطع بأشعتها على ماء البحر فيتبخر الماء فيتحول إلى هذه المادة الغازية المكثفة وتمر الرياح عليها فترجع ماءً مرة أخرى من دون بعدٍ ميتافيزيقي آخر. ظاهرة الخسوف وظاهرة الكسوف كلها ظواهر كونية لها أسبابها الكونية المعروفة، لا نحتاج إلى أن ندخل بعداً غيبياً في تكون هذه الظواهر. وثانياً: في الصفة الأخرى لا توجد غاية، فهذه الظواهر أمور طبيعية تحدث عند حدوث أسبابها من دون وجود غاية وراء ذلك ولا هدف وراء ذلك، فاستطاع العلم تبديده لصفتي الغيبية والغائية في تحليل ظواهر الكون وأن يعبر إلى أذهان الملحدين فيقال إذا استطاع العلم أن يفسر هذه الظواهر فإنّه سيستطيع أن يفسر الظواهر الأخرى.

ما يقال عنه بأنّه روح ليس هناك روح ليس هناك إلا أبعاد مادية كان الناس يسمونها بالروح؛ لأنهم لم يكونوا يدركون أسبابها المادية، ليس هناك فرق بين الموت والحياة إلا بفرق فيزيائي محض، وأما دعوة أنّ هناك روحاً يستلمها ملك الموت وتعرج إلى عالم آخر فكل هذا إنما هو تفسير ميتافيزيقي غيبي، والعلم كما فسّر ظاهرة المطر وظاهرة الخسوف والكسوف سيفسّر لنا ظاهرة الموت بتفسير فيزيائي واضح من دون أن نحتاج إلى إدخال الأبعاد الميتافيزيقية والغيبية.

مثلاً عندما نأتي إلى مسألة الانفجار العظيم لهذا الكون وما طرحه (ستيفن هوكينج) في هذا المجال يقال بأنه إذا قرأنا هذه النظرية التي أصبحت الآن تتربع على جميع النظريات في تفسير وتحليل مبدأ الكون نجد أنّ الانفجار حدث صدفة وبشكل عشوائي بدون أسباب غيبية أو غائية وراء ذلك، إذن يمكن للعلم أن يُزحزح الدين عن كونه مصدراً للإجابة عن الأسئلة ويحل العلم محله وتنتهي ظاهرة التديّن من هذا الوجود، ومن هذا المجتمع البشري.

هذا عامل من العوامل الفكرية التي أسهمت في انتشار ظاهرة الإلحاد.

والنوع الثاني: هو بروز الفلسفة الوضعية. ففي القرن الثامن وعلى يد الفيلسوف الفرنسي (كانت) أسس ما يسمى بالفلسفة الوضعية تبتني هذه الفلسفة على أنّ ما لا يمكن رصده فلا وجود له، أنت تستطيع أن ترصد الخسوف والكسوف وله وجود، تستطيع أن ترصد الجاذبية من خلال رصد أثارها، فالجاذبية لها وجود، تستطيع أن ترصد الثقوب السوداء بألحاظ أثارها، فلها وجود، أما المَلَك أو الروح أو الإله أو الآخرة بما أنّه لا يمكن رصدها إذن لا وجود لها.

ثم جاء الفيلسوف الانكليزي (آلن) عام 1936 ورسخ الفلسفة الوضعية وأضاف إليها هذه الصفة (الفلسفة الوضعية المنطقية)، والفلسفة الوضعية المنطقية تقوم على مبدأ التثبت، ما هو مبدأ التثبت؟ يقال: كل قضية تعرض عليك لها معيار في تصديقها أو تكذيبها، والمعيار العلمي في تصديق القضية إما معيار تجريبي وإما معيار رياضي وإما معيار منطقي، ولا يوجد معيار رابع بحسب الحصر العلمي. ففي المعيار التجريبي نقول: كل ماء تبلغ درجة حرارته (100) فإنّه يغلي، هذه قضية هي بحد ذاتها قضية تجريبية نعرضها على المعيار التجريبي لنثبت صحتها من فسادها، نأتي إلى القضية الرياضية فنحن عندما نقول 4 نصف 8 و4 ربع 16 هذه قضية معيار صدقها هو المعيار الرياضي، والمعيار المنطقي بمعنى أنّ القضية عندما تعرض بألفاظها يعني بما لها من مادة وصورة في عالم الألفاظ فهي تثبت صدقها من كذبها من خلال ألفاظها، فأنا عندما أقول أنا مفكر فهذه قضية بنفسها تثبت صحتها أو فسادها؛ لأنها تبتني على مادة وصورة ومضمون يتلقفه ذهن المخاطب ليستطيع أن يحلل صدقه من كذبه، أما القضايا الميتافيزيقيا  -المَلَك، الآخرة، الله، الروح- هذه القضايا لا يمكن عرضها لا على المعيار التجريبي ولا على المعيار الرياضي ولا على المعيار المنطقي، فإذا لم يوجد معيار لمحاكمتها فهي إذن قضايا افتراضية لا نشغل أنفسنا بها، لذلك الفلسفة الوضعية المنطقية التي تقول لا تعنينا هذه القضايا الدينية لأنه لا يمكن إخضاعها لمقياس التصحيح والتخطئة لذلك أنتجت عن هذه الفلسفة الوضعية بروز ظاهرة الإلحاد.

لاحظوا (أنتوني فلو) هذا أستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد الذي كان 80 سنة من حياته ملحداً ثم انقلب على الإلحاد وكتب كتابه المشهور (هناك إله)، هذا المفكر في زمان إلحاده كتب عدة كتب منها (فرضية الإلحاد) جعل الكرة في ملعب المتدينين، قال نحن لا نحتاج إلى أن نثبت عدم وجود الإله!! أنتم أيها المتدينون تحتاجون إلى إثبات وجود الإله؟! لأننا عندنا مقياس لصحة كل قضية إما تجريبي وإما رياضي وإما منطقي؟ قضاياكم لا تخضع لهذا المقياس أنتم الذين تحتاجون إلى إثبات فرضية الإله!! لأننا الذين لا نحتاج إلى نفي هذه الفرضية؛ فجعل الكرة في ملعب المتدينين.

من العوامل الفكرية التي أسهمت في بروز ظاهرة الإلحاد هو مبدأ حساب الاحتمالات، ومبدأ حساب الاحتمالات ألغى المنطق الأرسطي، وأنا لا أريد أن أدخل في تحليل هذه الجهة، والمنطق الأرسطي يعتبر بحسب المنطق الرياضي أنه منطق عقيم، منطق لا ينتج؛ لأنّ النتيجة مستبطنة ومختزنة في إحدى مقدمتي القياس، فبما أنّ النتيجة مستبطنة في إحدى مقدمتي القياس إذاً هو قياس صوري واستدلال شكلي، وإلا فالمقدمة والنتيجة هي موجودة في رحم المقدمة، لذلك إنّ المنطق الأرسطي لا يصلح للاستدلال لإثبات القضايا، فاستبدل بمنطق حساب الاحتمالات، وبما أنه استبدل بمنطق حساب الاحتمالات، كثيراً من العلم الديني أو ما نعبّر عنه بعلم الكلام كثيراً من علم الكلام فقد مصداقيته كعلم ناهض، فنحن نثبت وجود الله من خلال براهين عقلية؛ برهان الإمكان وبرهان الحدوث، مثلاً برهان الصديقين نحن نثبت نبوة النبي من خلال حكم العقل العملي بقبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب، بالنتيجة نحن نعتمد في إثبات المبدأ والنبوة على المنهج الأرسطي على القياس المنطقي الأرسطي، وبما أنّ هذا قياس أثبت فشله وعقمه إذاً خسرنا علماً كثيراً من علم الكلام الذي كنّا نعتمد عليه في إثبات المبدأ والعدل والنبوة والمعاد يوم القيامة، لأجل ذلك بروز دليل حساب الاحتمالات كمنطق رياضي حاكم هو الذي استوجب من أمثال السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر+ أن يقتحم هذا الميدان ويكتب كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) ليحاكم دليل حساب الاحتمالات، وأنه هل دليل حساب الاحتمالات صالح للإجابة على جميع الأسئلة من دون عوامل كيفية تنضم إلى هذا الدليل، فأسّس كتابه على هذه النقطة ليصح استخدام دليل حساب الاحتمالات في إثبات المبدأ وإثبات النبوة وفي إثبات المنتهى ألا وهو يوم المعاد.

هذه نعبر عنها بالعوامل الفكرية التي أسهمت في بروز ظاهرة الإلحاد.

نأتي إلى القسم الثاني من العوامل ألا وهو العامل الإعلامي:

فالإعلام قد خدم الإلحاد؛ لأن المتدينين لا يملكون إعلاماً مؤثّراً، لا يملكون إعلاماً نافذاً، لاحظوا (دوكنز) معروف وهو من أشهر الملحدين في عصرنا الحاضر صاحب كتاب (الجيل الأناني) وكتاب (صانع الساعات الأعمى) وكتاب (وهم الإله) وهو من أشهر كتب الإلحاد المنتشرة بين شباب الغرب وشبابنا المبتعثين في الغرب، هذا الباحث الانكليزي قد أنشأ مؤسسات، والمتدينون غافلون لا ينشئون مؤسسات في الدعوة إلى الدين، بينما الملحدون ينشئون مؤسسات للدعوة إلى الإلحاد، قد أنشأ مؤسسات تتبنى استغلال الإعلام في نشر الإلحاد. مثلاً نذكر عدة خطوات قامت بها هذه المؤسسات: الخطوة الأولى: استغلال كل وسائل الإعلام كالاتوبوسات في بريطانيا والقطارات والمطاعم ومحطات البنزين والحدائق العامة وكل الأماكن التي يقطنها أو يرتادها الإنسان مقيماً عابراً مسافراً يلقى شعارات الإلحاد فيها حتى يقربوك من الإلحاد شيئاً فشيئاً، مثلاً يكتبون: (على الأغلب ليس هناك إله فاستمتع بحياتك) يعني لا تقلق أن هناك إله، مثلاً يصوّرون طفلاً يخاطب والديه يقول لهما: من فضلكما لا تصنّفاني متديّناً دعوني أكبر وأختار لنفسي وبإرادة حرة. فهم الآن يعتبرون -في بريطانيا- تعليم الطفل الدين يتنافى مع الحرية الفكرية، اتركوا الطفل، لا تتحدث معهم عن الدين أبداً إلى أن يكبر ويقرّر مصيره بنفسه.

يعتبرون حديثك مع الطفل عن الدين هو إرهاق وخلاف الحرية الفكرية التي يمتلكها الطفل!

من الشعارات: الحياة الممتعة لا تحتاج إلى إيمان، فبإمكانك أن تستمتع بحياتك بدون إيمان.

الخطوة الثانية: قد عقدوا مؤتمرات كثيرة لتسفيه واحتقار الفكر الديني واستبدال العلم بدله فقالوا البديل عن الدين هو العلم والعلم الذي يستطيع أن يجيب عن الأسئلة المصيرية التي تمر بالإنسان في مؤتمر كاليفورنيا عام 2006م طرحت هذه المفاهيم منها "الدين وهم يدعو إلى العنف والحروب" يقولون ماذا حصلنا من الدين!! سواء الحروب بين المسلمين والمسيحيين والحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية؟ ماذا حصلنا من الدين غير ظهور القاعدة وربيبتها داعش، ماذا حصلنا من الدين غير تدمير البشرية، الدين وهمٌ يدعو إلى العنف والحروب، لا نحتاج إلى الإله كي نكون على خُلُق، فأنتم لاحظوا الأمين الصادق لا يحتاج أن يكون متديّناً، فيمكن للإنسان أن يكون أميناً عفيفاً وصادقاً مع الآخرين من دون أن يكون متديّناً. فلماذا نقحم الدين حتى في علاقاتنا الاجتماعية!! فإذا تخلّصنا من الدين سنستطيع أن نجيب على جميع الأسئلة، هذه الخطوة الثانية.

الخطوة الثالثة: لقد ملؤا عالم الانترنت كصفحات الفيسبوك مثلاً ملؤوها بصور العمليات الانتحارية التي تقوم بها داعش وأخواتها وصور اختطاف الأبرياء وصور اغتصاب الأطفال من قبل هذه الزمر الظلامية التي تتبنى الإسلام وصور سرقة بعض مَن يتسمى بالدين أموالَ الناس باسم الدين.

فظاهرة الرق قد عادت من جديد كما تعرفون، واسترقاق الناس، وسوق النخاسة وبيع النساء من طرف إلى طرف آخر.

ومما أجّج استغلال الإلحاد لوسائل الإعلام هي أحداث 11 سبتمبر عام 2001م، أكدت على استغلال الإلحاد لوسائل الإعلام، لذلك نفسه (دوكنز) مباشرة بعد هذه الأحداث ظهر على شاشات التلفزيون في بريطانيا وفي عدة مقابلات قال "تحولت (أنا كنت محايداً فالآن أنا لست محايداً) بعد هذه الأحداث إلى متطرف راديكالي وتلاشى من قلبي بقايا -لقد كانت عندي بقايا احترام للدين تلاشى- وتلاشى من قلبي بقايا احترام الديانات فتلاشى الاحترام مع الدخان والتراب الذي تصاعد نتيجة التفجير في أحداث 11 سبتمبر!!" هذا العامل الإعلامي.

والعامل الأخير الذي أتعرض له هو العامل النفسي:

الإلحاد أحياناً تقوده عوامل نفسية تؤدي إلى تبني الإلحاد، على سبيل المثال أذكر عدة عوامل؛ فنحن من خلال الاستقراء استقرأناها من عدة تجارب إلحادية استمعنا إليها فالعامل الأول هو الراحة، فيقول أحدهم: (أنا الآن سعيد مع كوني ملحداً، فعندما أصبحت ملحداً شعرت بالسعادة؛ فليس هناك رقابة عليّ، وليس هناك من يتابعني، وليس هناك إله يراقبني ويحصي عثراتي، فأنا شعرت بالسعادة لأني أنا ملحد، فلماذا أخرج من هذا العالم -عالم السعادة- إلى عالم قيود وتضييق ورقابة ومتابعة وهو عالم التدين؟)، مثلاً عامل نفسي آخر ألا وهو السأم من العبادة، فلماذا نتعب أنفسنا بالعبادة 50 سنة أو 70 سنة كلها عبادة يوميّاً؟ لماذا، بما أنّ الله الذي يطرحه المتدينون لا يحتاج إلى عبادتنا فلماذا نحن نتعب أنفسنا في العبادة؟ فلنترك هذه العبادة ونتجه إلى حياتنا ونستثمر الوقت الذي سنستثمره في العبادة، فلنستثمره في الدراسة وفي العلم وفي الإنتاج والعطاء وفي تطوير الحياة. إذاً هذا عامل نفسي وهو السأم من طول العبادة أو من فكرة العبادة.

ومن العوامل النفسية الأخرى الحرية الإباحية، فتعرفون جيداً بأنّ هناك نمط من الناس يعيش فرطاً في النزعة الجنسية وكذلك يعيش فرطاً في النزعة العاطفية، يجد أن لا متنفس له في المجتمع الديني وفي المجتمع المحافظ، فعندما يتجاوز الدين ويتحول إلى ملحد يجد إشباعاً لنهمه الجنسي والعاطفي، إنّه يجد في المجتمعات الإباحية مجالاً لإشباع غريزته؛ لذلك يخرج عن إطار التدين إلى إطار الإلحاد انقياداً للعامل النفسي الذي يعيشه.

هنا أذكر أيضاً من الأسباب النفسية ما طرحه (بدز) أستاذ الطب النفسي في جامعة نيويورك، هذا كان ملحداً لمدة 40 سنة ثم أصبح متديناً، ولما أصبح متديناً أجرى دراسات نفسية على مجموعة من الملحدين فاكتشف عاملاً مشتركاً بينهم، فعبّر عنه بخلل عصابي وراء هؤلاء الملحدين، فما هو هذا الخلل العصابي؟ هو (الميول والرغبة الشديدة للانتماء للطبقة الأفضل في المجتمع)، وكثيراً من شبابنا المبتعثين مع كل الأسف يشعرون بأنهم طبقة هابطة عندما يذهبون إلى الغرب، هو يرغب بأن ينتمي لتلك الطبقة الراقية في الغرب، الطبقة المستحوذة على الشركات وتمتلك الإعلام وتمتلك النجومية وتمتلك الشهرة وتمتلك العطاء والإنتاج في الغرب، فرغبته في أن ينتمي إلى هذه الطبقة تعني أن يتخلى عن الدين، وخصوصاً إذا كان الدين هو الإسلام فهو دين مبغوض لأجل ذلك حتى يتخلص من هذا العبء وينتمي إلى تلك الطبقة، يتخلّص من الدين ويصبح ملحداً ليكون شخصاً مرغوباً أو يتحرر من المحيط الأسري والاجتماعي الذي يشعر بأنّ المحيط الشرقي في دول الخليج وفي العراق وفي إيران؛ هذا المجتمع الشرقي مجتمع أسري ضيق يتابع الإنسان ويراقبه ويجهز على حريته، فلكي يتخلّص من هذا المجتمع لا بدّ أن يتبنى الإلحاد، لذلك كتب (بدز) هذا الكتاب (منظور التقصير الأبوي) يعني الأسرة دائماً تربي الطفل على الخنق والضيق بحيث يكون هذا العامل التربوي سبباً في بعده عن الدين كما ظهر هذا الكتاب عام 1999م.

هذه مجموعة العوامل الفكرية والإعلامية والنفسية التي أسهمت في بروز ظاهرة الإلحاد.

السؤال الثاني: هل الإلحاد يبتني على نقد الفكر الديني بأركانه الثلاثة وهي المبدأ والنبوة والمعاد أم يبتني على فلسفة عامة للحياة؟

الجواب: ربما يتصوّر أنّ الإلحاد مجرّد نقد لله ونقد النبوة، لا؛ فالإلحاد هو نتاج الحضارة المادية؛ فسيطرة الحضارة المادية على مقاليد الحياة أنتج بشكل أوتماتيكي ظاهرة الإلحاد؛ فالإلحاد يستبطن فلسفة عامة لهذه الحياة لا أنّه فقط يركّز على نقد الله ونقد النبوة ونقد المعاد، وهذا يتبين على مستويين فلسفي وتطبيقي:

أما على المستوى التطبيقي فهو واضح، عندما تدخل إلى أي بلد غربي تجد أنّ الدين بالنسبة إلى الإنسان الغربي شيء هامشي!! يعني عندما تتحدث مع الإنسان عن الدين يعتبر كلامك هامشي ليس له داعي، تحدث معه عن عمله وعن دراسته أو إنتاجه أو عن الشركات أو تحدث عن العالم، عالم الاقتصاد والسياسة، فالدين قد أصبح سؤالاً هامشياً أو سؤالاً لا يصغى إليه ولا داعي لإفراغ الوقت للحديث عنه.

هذا النتاج -صيرورة الدين أمراً هامشياً- نتاج سيطرة الحضارة المادية بما لها من فلسفة فكرية، كيف بما لها من فلسفة فكرية، الآن أطرح الجانب الفلسفي فالجانب الفلسفي للحضارة المادية يرتكز على عدة ركائز:

الركيزة الأولى: استبعاد الفطرة الخيرة، يقول لك: أنتم المسلمون مساكين، تقول بأن الإنسان طيب وعنده فطرة طيبة خيرة تدعوه إلى الفضيلة واجتناب الرذيلة، أبداً لا يوجد شيء من هذا القبيل في الإنسان.

(هوبز) هذا السياسي البريطاني منذ عام 1679م كتب: إنّ التعامل الاجتماعي -يعني تعامل الناس بعضهم البعض- ليس ناشئاً عن فطرة طيبة بل عن غريزة حبّ البقاء، لأنني أحب أن أبقى أضطر أن أتعامل معك حتى أتّقي شرّك، وكذلك أنت تحب أن تبقى تضطر أن تتعامل معي، فالتعامل البشري هو تعامل اضطراري ناشئ عن غريزة حبّ البقاء وليس ناشئاً عن فطرة اجتماعية خيرة تسمى بالنزعة الإنسانية مثلاً.

نلاحظ (جون لوك) يقول: إن العقل صفحة بيضاء تتراكم عليه المعطيات المادية وليس للفطرة دور توجيهي، فالإنسان لم يلد وعنده فطرة توجهه كما أنتم يقول المتدينون، بل ولد الإنسان صفحة بيضاء خالية من كل شيء، فالمعطيات المادية اليومية من حاجته للطعام وحاجته للشراب وحاجته للسكن وحاجته للباس وحاجته للجنس ومن حاجته للعمل ومن حاجته للتعامل مع الآخر ملأت عقله، فليس هناك دور توجيهي للفطرة.

هذه أصول فطرية تُركِّز عليها الحضارة المادية في وسائل الإعلام، وهذه تُبعد الدين وتُدحرجه عن عالم الحياة.

الركيزة الثانية: الإنسان. فما هو الإنسان؟ الإنسان انتقل من الصورة الآلية إلى الصورة العضوية.

فعندما جاء (نيوتن) في فيزيائه وتخلّصه من الفيزياء القديمة -على يد نيوتن- المكتشف الحركات الثلاثة ومكتشف الجاذبية، فنيوتن عمّم القوانين الفيزيائية حتى على الإنسان فأصبح الإنسان مجرد آلة مثله كمثل آي آلة أخرى، نيوتن قد صوّر الكون كله بأنه ساعة، وهذه الساعة تعمل بطريقة آلية، والإنسان عقرب من عقارب هذه الساعة لا أكثر، والله يدير هذه الساعة بطريقة آلية، والإنسان عندما تحوّل إلى آلة تحوّل إلى كادح يعمل ضمن الشركات ليحصل على بعض المال ويبني بيتاً له ويشتري سيارة ليركب بها ويشتري خبزاً ليأكله وينام على وسادة، فأصبح الإنسان مجرّد آلة ميكانيكية تعمل 50 سنة من أجل هذه المهام الحياتية المادية الفارغة.

تبدلنا من فيزياء نيوتن وجئنا إلى فيزياء الكمومية وتبدلنا إلى عالم آخر، وتحوّل الإنسان على ضوء النظرية الداروينية -نظرية التطور والنشأة-، وتحوّل من طبيعة آلية إلى طبيعة عضوية، كيف تحول إلى طبيعة عضوية؟ نأتي إلى ما يقوله فراود: بما أنّ النظرية نظرية التطور نظرية ثابتة إذاً يعيش هذا الإنسان غرائز أسلافه إذا كان هذا الإنسان وليد سلالات القرود وقبلها الزواحف وقبلها الحيوانات البرمائية والمجهرية هكذا كان الإنسان، فإذا كانت هذه النظرية -نظرية التطور- نظرية علمية ثابتة بأدلتها وبراهينها، ما هذا الإنسان إلا كتلة تحمل في داخلها غرائز أسلافها من الحيوانات الأخرى، فهذه الغرائز هي التي تتحكم في مسيرة الإنسان، والإنسان بعد أن كان ظاهرة آلية بنظر نيوتن تحول إلى ظاهرة عضوية لأسلاف حيوانية أخرى على ضوء النظرية الداروينية.

الركيزة الثالثة: الانسلاخ من التاريخ كما يقول (فرانسيس فوكوياما) الباحث الأمريكي المعروف في كتابه (نهاية التاريخ) يقول: البشرية كخطوط على الرمال فتأتي الأمواج فتمسحها -فأنت لم تمتلك تاريخ-، المائز بين الإنسان المفكر والإنسان غير المفكر مسألة الإرث التاريخي، فالدين يقول: الإنسان يمتلك التاريخ وبما أنه يمتلك إرثاً تاريخياً، إذاً هو يمتلك حضارة فكرية، إذاً الإنسان الحاضر متأثّر بفكر الإنسان الماضي.

(فوكوياما) يقول: افصلوا هذا الإنسان عن الإرث التاريخي، فإذا انفصل الإنسان وانسلخ عن الإرث التاريخي تحوّل إلى خطوط على الرمال تمسحها الأمواج من دون أن يكون له شيء يعتد به.

الركيزة الرابعة: لا يوجد ثابت عقلاني؛ لأنّ الإنسان كيان مادي، والعقل في نظر الحضارة الحديثة كمثل المعدة، انظر كيف المعدة جهاز مادي يساهم في عملية هظم الطعام، العقل هو قطعة مادية تسهم في جمع الأفكار وتحليلها ليس إلا، فالعقل كالمعدة تماماً، وليس للعمل مساحة للتفكير والتحليل والعطاء والإيجابية عن الأسئلة المصيرية، فإذا جرّد الإنسان من هذه النقطة أصبح الإنسان مسخراً لمنطق الواقع وأخلاق الصيرورة كما يعبّر الباحثون، يعني عليك أن تجري مع الواقع لا أن تقول هي ثوابت، لا توجد ثوابت، الواقع أنت تمشي مع متغيّراته، أنت تمشي مع الواقع بسائر تغيّراته، وليس لك ثوابت؛ لأنه لا توجد لدى الإنسان ثوابت عقلية، الإنسان ابن بيئته، الإنسان ابن واقعه، والواقع هو الذي يقرر لنا القيم والأخلاق وليس هناك ثوابت عقلانية تقرّر لنا القيم والأخلاق، لذلك الحضارة الحديثة أنتجت مشروعية زواج المثليين، وسوف تنتج بعد 50 سنة الزواج من المحارم من الأم والأخت، وستنتج بعد 100 سنة -إذا استمرت- أن يتزوج الإنسان من أبيه ومن أخيه، لماذا؟ لأنّ الحضارة الحديثة بنيت على أن لا توجد ثوابت عقلانية وفطرية في رتبة سابقة، لا يوجد إلا منطق الواقع وأخلاق الصيرورة، هذه عبارة عن أنّ الحضارة المادية الحديثة تمتلك فلسفة عامة للحياة وليست مبنية فقط وفقط على نقد المبدأ والمعاد والنبوة بل على إزاحة الدين عن مسرح الحياة إزاحة تامة.

والحمد الله رب العالمين 

الجزء الثاني من الحوار

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نرحب بكم في هذا الجزء الثاني من هذا الحوار الشيق والمهم مع سماحة العلامة السيد منير الخباز~ ومعكم إن شاء الله نستثمر فصول هذا الحوار الثاني مع سماحة السيد في موضوع الإلحاد.

المحور الأول: عوامل الإلحاد الموجودة في المؤسسة الدينية

السؤال الأول: سيدنا تحدثتم في اللقاء السابق عن العوامل الفكرية والإعلامية والنفسية لانتشار ظاهرة الإلحاد فما هي العوامل الداخلية النابعة من عالم المتدينين أنفسهم المساهمة في انتشار الظاهرة وما هو سبيل العلاج لمثل هذه العوامل؟

الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

هناك عدة عوامل نابعة من رحم المؤسسة الدينية أو من رحم عالم المتدينين أسهمت هذه العوامل في انتشار ظاهرة الإلحاد والعلمنة:

العامل الأول: ضعف العامل الديني وجموده، فعندما نلاحظ الخطاب الديني الملقى من على المنابر وفي المساجد نجده خطاباً كلاسيكياً، إما مؤطّر بالوعظ وإما مؤطّر بنقل التاريخ وإما مؤطّر بنقل التفسير بنفس المنهج المتوارث من دون أن تكون هناك لمسات للتطوير والتجديد بما ينسجم مع لغة العصر ومع ذهنية الإنسان المعاصر. ومن معالم جمود الخطاب الديني التركيز على لغة التفريط والتعويض، حيث يركّز الخطاب الديني في كثير من المنابر والمساجد على أنّ الإنسان يستسلم للحياة بذريعة أنّ هذا استسلاماً لله وتفويض الأمور إلى الله، وأنّ كل شرّ ومصيبة وأذى سيعوضه الله تبارك وتعالى؛ فهناك تفويض وتعويض، بينما يحتاج الإنسان وخصوصاً الإنسان المعاصر يحتاج إلى لغة الإثارة، يحتاج إلى لغة التحفيز ويحتاج إلى لغة التنشيط ويحتاج إلى أن يتنبّه أنّه قادر على أن يصنع الحياة، قادر على أن يغيّر الأوضاع، قادر على أن يصنع المستقبل. خلق روح التحفيز والتشويق بدلاً من خلق روح التفويض والتعويض هو الذي يسهم في أن يشعر الإنسان المسلم المعاصر أنّه يعيش حركة تطويرية وتجديدية، فتركيز لغة التفويض والتعويض دون لغة التحفيز يساهم في تجميد الإنسان المسلم واستسلامه لما يطرح له من فكر من دون أن يكون هذا الإنسان المسلم على قناعة بأنّ دوره في الحياة دور الخلّاقية ودور الفاعلية ودور الإثارة ودور التطوير، لأجل ذلك متى ما وجد هذا الإنسان المسلم فرصة أخرى في أساليب العلمانيين وفي أساليب الإلحاديين اتجه لها وتفاعل معها؛ لأنها هي التي تنسجم مع طبيعته الفطرية الإنسانية التي تنشد دائماً الإثارة والتطوير والتغيير، فطبيعة الإنسان هي طبيعة التغيير.

العامل الثاني: منهج التلقين. عندما تُطرح المعتقدات على مستوى الأصول وعلى مستوى ما يتفرع عن الأصول تطرح كتلقين بأنّ هناك أصول دين نعتقد بها وهي بأنها كذا وكذا وكذا، هناك روايات يجب أن نسلّم بها، وهناك موروثات دينية يجب أن نعتقد بها، منهج التلقين يعُوِّد ذهن المسلم على أن لا يتحرك، على أن لا يفكر، على أن لا يقوم بالتحليل والتأمل، وبالتالي يُرى هذا الفكر -بالنسبة للأجيال الشابة والمتوالية- بأنّه فكرٌ جامدٌ، فكرٌ متخلفٌ، فكرٌ هو ابن قرون عديدة من دون أن يتطوّر أو يتجدّد، لذلك كانت هناك حاجة إلى منهج الإثارة وليس منهج التلقين. أن نعوّد الذهنية المسلمة على الإثارة، على أن تتأمل، على أن تفكر، فديننا ليس ناقصاً، وديننا ليس قاصراً، وليس في فكرنا القرآني وليس في فكرنا الروائي ما هو نقص حتى نخاف ونتعامل معه بلغة ومنهج التلقين، فكرنا القرآني والروائي فكر ثري غزير، لو تعاملنا مع الذهنية المسلمة بلغة الإثارة والتأمل والتنظر لوصلنا إلى حصانة تمنعه من الاستسلام إلى الأبواق الإعلامية الإلحادية.

العامل الثالث: هو عدم مواكبة المؤسسة الدينية لعالم الفكر، فالمؤسسة الدينية (الحوزة ـ المنبر ـ المسجد) هذه المؤسسة الدينية فالمؤسسة الدينية غير مواكبة والمؤسسة الدينية بعيدة عن ما يثار، ما يثار في العالم من أطروحات حول الدين حول الإنسان حول النفس حول مصير الإنسان حول الأسئلة الوجودية ما يثار في العالم حول هذه الأسئلة وحول هذه القضايا المصيرية المؤسسة الدينية لا تتابعها ولا ترصدها ولا تهتم بها، فالمؤسسة الدينية منغلقة على ما هو موروث من العلوم والأفكار منذ عدة قرون دون أن تنفتح على ما يثار في العالم، ونتيجة ذلك يشعر الشاب المسلم أنّ المؤسسة الدينية لا تلبي طموحاته، وأنّ المؤسسة الدينية لا تجيب على أسئلته، وأنّ المؤسسة الدينية لا تحل إشكالاته واستفهاماته، لذلك حيث يجد الحل ويجد الجواب في الأساليب الإعلامية العلمانية والإلحادية فمن الطبيعي أن يتّجه إليها وأن يتأثّر بها، لذلك عندما نقول بأنّ هذه عوامل داخلية مضافاً إلى العوامل الأخرى التي ذكرناها عوامل فكرية وعوامل نفسية وعوامل إعلامية:

الخطوة الأولى: نحتاج إلى عمل مؤسسي؛ لا يمكن أن نجابه تيار الإلحاد وهو تيار عالمي عارم وصاخب يخترق كل الحدود، لا يمكن أن نجابه هذا التيار مجابهة فكرية ولا مجابهة كلامية ولا مجابهة نفسية، مجابهة فكرية علمية رصينة لا يمكن ذلك إلا بعمل مؤسسي، دون العمل المؤسسي سوف لن نستطيع أن نظهر للذهنية المسلمة بأنّ هناك فكراً دينياً رصيناً قادرًا على تلبية جميع الاحتياجات والإجابة عن جميع التساؤلات، وهذا العمل المؤسسي يرتكز أولاً على رصد الشبهات وأن يكون عندنا لجاناً ترصد الشبهات وتواكب الإثارات والأطروحات في كل يوم بيومه وفي كل أسبوع بأسبوعه؛ لتجمع هذا الملف من الإثارات والأطروحات لكي تسأل المؤسسة الدينية عن الإجابات الواضحة المقنعة. هذه هي الخطوة الأولى.

الخطوة الثانية: أننا نحتاج إلى علم الكلام الجديد، وعلم الكلام الذي ندرسه في شرح الباب الحادي عشر أو شرح تجريد الاعتقاد أو الكتب التي كتبها علمائنا قبل 40 و50 سنة وما كتبه السيد الطباطبائي صاحب الميزانO وما كتبه الشيخ المطهري والسيد الصدر(رحمهما الله) كُتبٌ كتبت قبل 40 سنة و50 سنة، نحن نحتاج إلى منهج في علم الكلام الجديد يبتني على ما استحدث من أدلة علمية في تناول الحقائق وفي إثباتها يبتني على ما استحدث من إثارات وأفكار ليكون منهجاً وافياً مشبعاً مقنعاً.

الخطوة الثالثة: إننا علينا أن نحث الخطباء (ولا أقصد الخطباء الحسينيين فقط)، أقصد أرباب المنابر وأرباب المساجد المبلغين، جميع المبلغين يحتاجون إلى أن يدخلوا دورات في التبليغ، هذه الدورات تعلمهم كيف يكتسبون اللغة المعاصرة للحديث، كيف يكتسبون مهارة الحوار مع الطرف الآخر، كيف يكتسبون المعلومات الأساسية في مجال علم الإدارة وفي مجال علم النفس وفي مجال علم الاجتماع وفي مجال علم القانون؛ لأنهم سيستفيدون من هذا الرصيد المعلوماتي في الحوار مع الآخر في الحديث مع الآخر، إذا امتلك هؤلاء دورات تثقيفية تُعنى في حركية التبليغ حينئذٍ نكون قد ضمنّا أرضية تساهم في مواجهة الفكر الإلحادي مواجهة فكرية أيضاً على مستوى تطوير مؤلفاتنا، المؤلفات الكلامية والمؤلفات التفسيرية في تفسير القرآن ما زالت بنفس لغة العلامة الحلي وبنفس لغة مثلاً الشيخ نصير الدين الطوسي وبنفس لغة علمائنا الأوائل، مع أنّ اللغة كائن حي يتطوّر ويتجدّد في كلّ جيل وفي كلّ زمن، ولغة الإنسان المعاصر تختلف عن لغة الإنسان ما قبل 50 سنة فضلا عن ما قبل 100 سنة، الأساليب الفكرية والمناهج الإعلامية كل ذلك يحتاج إلى أن ينعكس على مؤلفاتنا خصوصاً في مجال علم الكلام وفي مجال التفسير وفي مجال تحليل الفكر الوارد عن أهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

المحور الثاني: حول بعض التساؤلات الإلحادية

السؤال الثاني: أحسنتم سماحة السيد، سيدنا بعد أن سلطنا الضوء على جملة من الأمور المهمة ننتقل معكم إلى بعض الأسئلة التي تطرح في عالم الإلحاد وفي مواقع الإلحاد ونشرع في هذا السؤال الذي يكثر طرحه ويدور بين أذهان الملحدين وغير الملحدين، وهو أنّ الدين مبني على قانون السببية، والإيمان بكونه قانوناً مطلقًا هو الذي طرح هذا السؤال المعروف: إذا كان لكل شيء سبباً فما هو السبب في وجود الله ومن خلق الله؟؟

الجواب: الإجابة عن هذا السؤال تقتضي أن نطرح أمرين:

الأمر الأول: هناك مغالطة واضحة؛ القانون الذي يحكم به العقل هو أنّ (لكل حادث سبب)، وليس لكل موجود سبب، هناك فرق بين العبارتين (لكل حادث سبب لا أنّ لكل موجود سبب)، وهذا ما يعبّر عنه ببرهان الإمكان (كل شيء في نفسه هو ممكن الوجود) بمعنى أنه يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد، كل ما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد -أي كان متساوي الطرفين، يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد- فانتقاله من هذه التسوية -بين الوجود واللاوجود- إلى الوجود يحتاج إلى سبب ينقله. إذن هذه القاعدة ناظرة للممكن، يعني الذي يمكن أن يوجد وأن لا يوجد، ناظرة للحادث، يعني الذي لم يكن فكان فيقال: (كيف كان بعد أنه لم يكن؟) يحتاج إلى من كوّنه وأوجده، فلكل حادث سبب ولكل ممكن سبب، لا لكل موجود سبب. أما الموجود الذي لم يسبقه عدم، الموجود الذي ليس ممكن، الوجود يعني لا يعيش الاستواء في الطرفين يمكن أن يوجد أو يمكن أن لا يوجد، بل وجوده نابع من ذاته ألا وهو المبدأ الأول وهو الله§، وهذا السؤال في حقّه غلط؛ لأنه ليس ممكناً حتى يقال مَن نقله من الإمكانية إلى الوجود، ليس بحادث حتى يقال مَن نقله من العدم إلى الوجود، بل وجوده عين ذاته ولأجل ذلك لا تنطبق عليه هذه القاعدة.

الأمر الثاني: عندما نركّز على نظرية الانفجار العظيم التي قال بها (ستيفن هوكينج) وغيره، نظرية الانفجار تقول: هذا الكون لم يكن ثم كان، هذا الكون مثلاً منذ 13 مليار سنة لم يكن ثم كان، طيب إذا كان هذا الكون لم يكن ثم كان فهناك سبب بمقتضى قانون السببية نقله من عالم العدم إلى عالم الوجود ومن عالم الإمكان إلى عالم الوجود، فما هو ذلك السبب؟ إما أنّ الكون أوجد نفسه وإما أنّ الكون وجد بلا سبب، إما أنّ الكون أوجد نفسه وإما أنّ الأسباب تتسلسل إلى ما لا نهاية، وجميع هذه الاحتمالات باطلة؛ وجد الكون بلا سبب هذا يتنافى مع قانون السببية؛ فإنّا ذكرنا إنّ كل شيء يتساوى طرفاه -فيمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد- فإنّ انتقاله من التساوي إلى الوجود يحتاج إلى سبب ينقله، فلا يمكن أن يوجد الكون بلا سبب، نقول بأنّه وُجد من سبب إما هو الذي أوجد نفسه، أي هو سبب وجوده، هذا خلاف العقل؛ لأنّ لازم ذلك أن يكون موجوداً قبل وجوده كي يوجد نفسه، وهذا خلاف آخر أنه كان معدوماً ثم وجد.

والاحتمال الثالث أن نقول بأنّ الكون أوجده سببٌ، وذلك السبب أوجده سبب، وتتسلسل الأسباب إلى ما لا نهاية، يقولون التسلسل باطل؛ لأنه لو ذهبت العلل إلى ما لا نهاية لم يوجد شيء، فإذا ذهبت الأسباب إلى ما لا نهاية فلا يوجد مبدأ للسلسلة كي يكون لها منتهى، لا يوجد مبدأ حينئذٍ، إذا لم يوجد مبدأ لم يوجد شيء؛ إذاً بالنتيجة بما أنّ الكون لا يوجد بدون سبب باطل. وأما أن الكون يوجِد نفسه باطل وبما أنّ الأسباب تتسلسل إلى ما لا نهاية باطل، إذاً النتيجة: للكون سببٌ لا سبب له، للكون مبدأ لا مبدأ له، للكون مبدأ وجوده عين ذاته ولا يحتاج إلى من يعطيه الوجود بل وجوده هو مقتضى ذاته ولا يحتاج إلى من يعطيه الوجود كي يحتاج إلى سبب. ربما يقول المرء أنا لا أقدر أن أتصوّر موجوداً وجوده عين ذاته لا يحتاج إلى من يعطيه نعمة الوجود، نقول: ليس كل معقول متصوّر، هناك أشياء أن تتعقّلها بمعنى أنّ البرهان قائم عليها، هناك أشياء قام البرهان على صحتها مع أنك لا تستطيع أن تحيط بها بذهنك المحدود، فعلى سبيل المثال من الحقائق الثابتة إنّ الجُسيم تحت الذري في الآن الواحد يكون في مواقع متعددة، وأنت لم تتصور أنّ جسماً أو جسيماً في الآن الواحد يكون في أماكن متعددة، إذاً لم تقدر أن تتصوّر لكن البرهان الفيزيائي قانونه على ذلك، ليس كل ما قام عليه البرهان يمكن أن يحيط به الذهن المحدود، وهو صحيح وهو معقول لأنّ البرهان قام على صحته وإن كان ذهني لا يستطيع أن يُحيط به، ذهني لا يستطيع أن يحيط به لأنه جُسيم في الآن الواحد يكون في أمكنة ومواقع متعددة لا يستطيع أن يحيط بذلك، لكن البرهان الفيزيائي قائم على معقولية ذلك، هنا أيضاً البرهان العقلي يقول: الكون وجد بعد أن كان معدوماً، فأما أنه قد وجد بلا سبب فهذا باطل، وأما  أنه أوجد نفسه فهذا أيضاً باطل، أما ذهبت الأسباب إلى ما لا نهاية وهذا باطل أيضاً، فتعيّن عقلاً أن يكون مبدأ الوجود وجودٌ لا يكتسب الوجود من غيره، فهو المبدأ وهو المنتهى.

السؤال الثالث: فلننتقل من إثبات وجود الخالق إلى نفس هذا المخلوق الإنسان، الشخصية الإنسانية ترتكز من حيث الفكر والصفات والسلوك على الموروث الجيني وبطبيعة الحال هذا يتنافى مع الدعوة إلى دين معين أو لفلسفة معينة لجميع أبناء المجتمع هذه بلسان منحرف، فماذا تقولون؟؟

الجواب: هناك فكرة م ازال يركّز عليها أرباب الإلحاد مثل (دوكنز) ألا وهي ما يعبر عنها بالحتمية الجينية، وهي مبنية على فهم خاطئ لنظرية التطور، ومعنى هذه النظرية أنّ الشخصية الإنسانية مرهونة بهذا الرصيد الجيني، فشخصيتك تقرّره جيناتك ولا تستطيع أن تنفك عن شخصيتك، لذا لكل إنسان شخصية، وبما أنّ لكل إنسان شخصية فيقال: إنّ الرصيد الجيني لكل شخصية هو المسيطر وهو المتحكم في سلوك الإنسان وفي مشاعره وفي أفكاره وفي خواطره، فلا يمكن أن نفرض أو نطرح على جميع أبناء البشرية ديناً واحداً وفلسفة واحدة؛ لأنهم يختلفون في شخصياتهم وأفكارهم وسلوكهم وفي مشاعرهم نتيجة اختلاف الرصيد الجيني وهو ما يعبر عنه بالحتمية الجينية، وهل الحتمية الجينية نظرية صحيحة أم لا؟ نحن نركّز الآن على عدة أمور في مناقشة نظيرة الحتمية الجينية.

الأمر الأول: جيمس واتسون الذي هو من أوائل من وصل إلى تحليل طريقة جُزئي (d. n. a) وهو المشفر الوراثي، عندما وصل إلى هذه النظرية في بدايتها قالوا: المحور المتحكم في بيولوجية الخلية -الخلية الإنسانية- والمتحكم في صفاتنا البنائية هو هذا الجزئي: جزئي (d. n. a)، ثم توسّع الكلام فقالوا: بل إنّ هذه الجينات هي المتحكمة في السلوك والشخصية، يعني ليست هناك عوامل مؤثرة في شخصية الإنسان غير رصيده الجيني، فقالوا مثلاً: خلايا جسم الإنسان تشتمل على 100 ألف نوع من البروتينات إذاً هي تحتاج إلى 100 ألف جين مقابل كل جين بروتين وكل جين يشفر بروتين، إذاً بما أنّ لديه 100 ألف نوع من البروتينات إذاً يحتاج إلى 100 ألف جين، وبالتالي شخصية الإنسان هي شخصية جينية محضة تتحكم بها جيناته وليس لها تفاعل أو تفعيل مع عوامل أخرى، لكن في عام 2000م عندما اكتشف مشروع الجينوم البشري على طابعه تبيّن أنّ الجسم لا يتجاوز -فيما لا يملك- 25 ألف جين لا أكثر، وقد حدّد البيولوجي (ديفيد بلتيمور) المولود 1938م ذلك بقوله: تلاشت نظرية الحتمية الجينية، لا توجد حتمية جينية؛ لأنه ثبت بأنّ البيئة التي نعيش فيها والتغذية ودرجة الحرارة والتغير الداخلي ومزاج الإنسان في التفعيل والتفاعل؛ كل هذه العوامل تؤثر في نشاط الجينات وليس العكس، ليست الجينات هي التي تخلق الشخصية وحدها بل هناك عوامل أخرى تؤثر في هذه الجينات، لا أنّ الجينات هي المؤثرة، البيئة والتغذية ودرجة الحرارة والمزاج الشعوري الذي يملكه الإنسان كل ذلك مؤثر في الجينات من دون أن تتأثر، طبعاً الخارطة الأساسية في الجينوم البشري وهذا التأثر في الجينات يمكن أن يمرر للأجيال المتصاعدة من أبنائنا وأبناء أبنائنا، إذاً البيولوجية الجديدة تحرّرت من نظرية الحتمية الجينية وقرّرت أنّ الشخصية الإنسانية ليست سجينة وحبيسة لتأثير الجينات بل هناك عوامل أخرى تؤثر فيها، عوامل بيئية وعوامل نفسية وعوامل حيوية من التغذية ودرجة الحرارة وأشباه ذلك، بل إنّ هذه العوامل مؤثرة في جيناته وليس العكس.

الأمر الثاني: ثبت أنّ (d. n. a) نصف محتوى الكروماكس وليس جميعها، والنصف الآخر يتألف من بروتينات تنظيمية، هذه البروتينات التنظيمية مساهمة في دور الجينات. لاحظوا كانت المعادلة السابقة (d. n. a)، (r. n. a) و(r. n. a) يعني ثاني الأحماض النووية، البروتينات هذا ينتج هذا وهذا ينتج هذا فأصبحت المعادلة الآن المؤثر البيئي أولاً والبروتين المنظم ثانياً (d. n. a)، (r. n. a)، إذاً ليس المؤثر في كيان الإنسان وشخصيته محضاً وحصراً هو الرصيد الجيني.

والأمر الثالث: يكرّر دوكنز إلى الآن نظرية الحتمية الجينية، بينما ستيفن جونز عالم الوراثة البريطاني المولود 1944م يقول: يشترك الشنبانزي مع الإنسان في 98.7% من (d. n. a)، بينما لا يشترك الإنسان مع الشنبانزي في 98.7%، الشبانزي يشارك الإنسان لا أنّ الإنسان يشارك الشبانزي، بينما الحتمية الجينية المبتنية على نظرية التطوّر -بفهم خاطئ طبعاً لنظرية التطوّر- تفترض أنّ الإنسان رصيد جيناته، وأنّ الجينات حبيسة لهذا التسلسل الوراثي الذي انحدر منه الإنسان. إذاً الإنسان شخصيته متكوّنة مما ورثه من أسلافه الذين منهم -كما يُدّعى- مثلاً سلالة الشنبانزي وغيرها.

لماذا يقول ستيفن جونز هذا المعنى؟ يقول ثبت أنّ الجين كبد الخلية وليس مخ الخلية، هذه الخلية الحيوية التي بها بناء الإنسان ما هو المخ المتحكم فيها؟ هل هو الجين أم لا ليس هو الجين؟ أقيمت تجارب نُزع الجين -وما يسمى بالنواة- من الخلية ورُئي بأنّ الخلية تحيا في الإنسان، يمارس التنفس، يمارس التغذية، يمارس الإخراج، يمارس الهضم، وإن انتزعت منه النواة -ألا وهي الجين- بينما جيء إلى غشاء الخلية لاحظوا أنه إذا انتزع غشاء الخلية تموت الخلية وتنتهي، إذاً المخ المتحكم في الخلية الحيوية لكيان الإنسان هو غشاؤها وليست نواتها وليس الجين، الغشاء ماذا يعمل وماذا يعني الغشاء؟ فالغشاء يعني المزيج من المستقبلات والمستجيبات، هذا الشعور العصبي والشعور المزاجي للإنسان، هذا الشعور العصبي الذي هو مزيج من المستقبلات والمستجيبات هذا مخ الخلية، غشاء الخلية إذا فقَدَ ماتت الخلية التي يبتني عليها الإنسان، وبما أنّ هذا الغشاء وبما أنّ هذا الشعور العصبي يعتمد على العوامل الداخلية والخارجية إذاً فالعوامل المتحكمة في شخصية الإنسان ليست هي خصوص النواة الجينية وإنما عوامل مختلفة؛ ما يعيش من بيئة، بيئة فكرية بيئة اجتماعية، وما يعيش من وسائل تغذية وما يعيش من جو حراري أو جو بارد، وما يعيش من نظم شعورية يكتسبها من خلال أُسرته وتربيته كل ذلك مؤثر في شخصيته.

الأمر الرابع: نحن لدينا بعض موروثنا الإسلامي، ما يذكره بعض العرفاء من السعادة والشقاوة الذاتية، كيف؟ يستدلون في ذلك إلى حديث ورد عن النبي المصطفى| >السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه<[2] فيقولون: هناك سعادة وهناك شقاوة، فإذا هو سعيد من الأول فهو سعيد، وإذا هو شقي من الأول يبقى شقيّاً إلى الأبد، فهذا غير صحيح لمن السعادة والشقاوة الذاتيتان اقتضائية بالنسبة له وليستا على نحو العلة التامة كما يعبّر في الفلسفة، كيف؟ بمعنى أنّ هذه الصفات التي يكتسبها الإنسان إما بالوراثة أو يكتسبها الإنسان من طريقة لقاء الأب والأم، لاحظ حتى نطفة الإنسان التي تنعقد في الرحم، هذه النطفة التي تنعقد في الرحم تلتصق بجدار الرحم، هذه البويضة الملقّحة التي تلتصق بجدار الرحم تتأثر في صفاتها بالزمن الذي التصقت فيه بجدار الرحم وبالطريقة التي تكوّنت بها من أب وأم، وكل هذا يُحدث فيها صفات وينعكس عليها بصفات، لكن هذه الصفات التي تكتسبها النطفة من الجينات ومن المشفر الوراثي تكتسبها النطفة من زمن ومكان، وكذلك طريقة انعقادها يكتسبها الإنسان من رحم أمه، يكتسبها الإنسان من التربية الأسرية، وكل هذه الصفات ليست علة تامة في شخصيته، يستطيع أن يواجه كل هذه الصفات ويعيّن شخصيته، {إنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[3]، فكل هذه الصفات مجرّد اقتضاء، يعني تعطي الإنسان استعداداً لأنْ يكون على طبقها لا أنها تفرض عليه أن يكون على طبقها؛ هي اقتضاء وليست علة تامة لبناء الشخصية، بل يستطيع الإنسان أن يحطم كل ذلك ويصبح شخصية أخرى {إنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وقال تبارك وتعالى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}[4] ويخرج الطيب من الخبيث والخبيث يخرج من الطيب.

السؤال الرابع: يظهر أن بعض الملحدين يطرح بعض الإشكالات من دون أن يجعل لها تحديثاً واطلاعاً على النظريات والفرضيات الجديدة. في ما يتعلق سيدنا بأمر الدين، الثابت منه أمور ظنية، وفي المقابل ما يثبت من المنطق التجريبي أمور قطعية، وبلا شك القطعي بحكم العقل مقدم على الظن، فما هو رأيكم؟

 الجواب: الجواب عن هذا السؤال يعتمد على تحليل المنطق التجريبي: مثلاً عندما نقيم تجربة في الظروف الاعتيادية نرى أنّ كل ماء تبلغ درجة حرارته 100 فإنه يغلي، هذه التجربة أنتجت هذا القانون!! وهنا نسأل: هل اعتمدت التجربة على نفسها في إنتاج القانون؟ يعني نفس التجربة أنتجت لنا القانون من دون عوامل فكرية أخرى ومن دون مبادئ أولية فكرية أخرى أم لا؟ فالتجربة كي تنتج اعتمدت على مبادئ عقلية وهي ما يسمى بالمعارف القبلية، هل يمكن أن تنسلخ التجربة في الوصول إلى النتيجة عن المعارف القبلية، يعني عن المبادئ العقلية البديهية والأولية؟ لا يمكن ذلك، لماذا؟ لأنّا لو أقمنا هذه التجربة على مليار ماء ومليار ماء لوجدنا أنّ كل ماء تبلغ درجة حرارته 100 فإنّه يغلي في الظروف الاعتيادية، مليار ماء هل هذا ينتج لنا قاعدة كلية مفادها أنّ كل ماء في الماضي وفي المستقبل إذا بلغت درجة حرارته 100 فإنه يغلي! لا يمكن؛ لأنّ الاستقراء الذي قمنا به استقراء ناقص وهو إقامة التجربة على مليار ماء، فكيف نستطيع أن نعمّم القاعدة لكل ماء وُجد أو لم يوجد بعد فإنّه يعيش نفس هذه القاعدة! هذا غير ممكن، إذاً حتى تكون نتيجة التجربة نتيجة كلية نحتاج إلى مبادئ ومعارف قبلية ندخلها وهي المبدأ الأول، ومبدأ العلية الأكثري أو الدائمي لا يكون اتفاقياً، يعني كيف هنا لا يمكن في كل فردٍ من مليار فردٍ من الماء ومليار ماء أن يكون الغليان في كل ماء اتفاقياً، لا يكون مليار ماء يتفق على الغليان عند بلوغ درجة الحرارة 100 أبداً، هذا لا يصح، إذاً لا بدّ هناك من سبب، فالقانون العقلي الأول يقول: الاتفاقي لا يكون أكثرياً ولا دائمياً، والأكثري والدائمي لا يكون اتفاقياً؛ يعني لا يمكن لكل ماء غليان مستقل عن غليان الماء الآخر اتفاقاً، إذاً لا بدّ من وجود سبب وراء هذا الغليان. هذا القانون الأول.

والقانون الثاني: هل السبب متعدّد أم مشترك؟ نقول: اشتراك مليار ماء في صفة واحدة وهي الغليان عند بلوغ درجة الحرارة 100 يكشف أنّ العلة مشتركة؛ لما يعبر عنه بقاعدة السنخية بين العلة والمعلول، وبما أنّ المعلول واحد وهو الغليان عند بلوغ درجة الحرارة 100 إذاً العلة لهذا المعلول واحدة، يعني علة واحدة لجميع أفراد المياه. هذا أيضاً معرفة قبلية احتجنا إليها.

والقانون الثالث: أنّ الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، فنحن أقمنا التجربة على مليار ماء لكن المياه الأخرى التي لم توجد بعدُ وستوجد بعد 100 سنة كيف نعمّم التجربة لها؟ نعمّمها بقاعدة حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد، وبما أنّ المياه التي ستأتي بعد 100 سنة نفس المياه الموجود الآن في عناصرها الكيميائية التي تعتمد عليها، بما أنها مثلها فحكمها حكمها، فأي عالم فيزيائي أو كيميائي أو فلكي لا يمكن أن يعتمد على المنطق التجريبي وحده، بل يحتاج في الوصول إلى النتيجة إلى المنطق العقلي وإلى المعارف القبلية وإلى هذه القواعد الثلاثة (الأكثري والدائمي لا يكون اتفاقي - والمعلول الواحد يكشف عن علة واحدة - حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد)، ولولا هذه القوانين الثلاثة لما وصلت التجربة إلى نتيجة كلية عامة. إذاً بما أنّ المنطق التجريبي ليس منطقاً قطعياً؛ فالمنطق التجريبي منطق ظن، ولو لم يعتمد على المعارف القبلية والمبادئ الأولية ما أنتج، فالمنطق التجريبي في حدّ ذاته منطق ظني وليس منطقاً قطعياً، إنما يكون منطقاً قطعياً إذا اعتمد على المبادئ الأولية؛ فنحن نرجع إلى المبادئ الأولية لأنّ السرّ في الوصول إلى اليقين -وهو القطع- هو المبادئ الأولية وليس المنطق التجريبي، فنرجع إلى المبادئ الأولية فنقول: معارفنا الدينية تدل على ثبوت وجود المبدأ تعالى، وثبوت أصول الدين: التوحيد والعدل والنبوة وضرورة الإمامة وضرورة وجود المعاد، وثبوت أنّ النبوة تلازم العصمة، وثبوت أنّ الإمامة تلازم الحجية، هذه معارفنا الدينية، ومعارفنا الدينية تنقسم إلى ضرورات ونظريات، ضرورات مثل وجود الله ووحدانيته وعدالته والنبوة والإمامة والمعاد، وكذلك عندنا نظريات وهناك معارف نظرية بمعنى عقائد مختلف في صحتها وعدم صحتها، وبالنسبة إلى المعارف الضرورية استندت إلى المبادئ الأولية التي استند إليها المنطق التجريبي، فكيف نقول بأنّ المعلومات التجريبية قطعية والمعلومات الدينية ظنية؟ هذه مغالطة؛ لما أنّ المعلومات التجريبية لم تصبح قطعية إلا ببركة المعارف العقلية القبلية وهي المبادئ العقلية الثلاثة التي ذكرناها، وبما أنّ المنطق التجريبي اكتسب قطعيته من هذه المعارف نأتي للمعارف الدينية، المعارف الدينية الضرورية أيضاً اكتسبت يقينيتها وقطعيتها من البراهين العقلية الأولية، فلا معنى بأن يقال تلك قطعية، بل هي معلومات قطعية، نعم يوجد في الدين معلومات ظنية إن قام عليها الدليل أخذنا بها وإن لم يقم عليها الدليل لا نأخذ بها؛ تبعاً لقول القرآن الكريم: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.

أحسنتم سماحة السيد نصل معكم إلى السؤال الأخير في هذا اللقاء.

السؤال الخامس: إنّ اختلاف البشرية في القيم السلوكية باختلاف الثقافات والعصور شاهدٌ على نسبية القيم، وهذا يتعارض مع منطق الدين الذي يرى القيم قضايا ثابتة لا تتخلّف ولا تختلف؟

الجواب: في مسألة نسبية القيم أذكر أموراً ثلاثة بشكل مختصر:

الأمر الأول: نظرية نسبية القيم هي تنحدر من نظرية أخرى عامة وهي مسألة نسبية الحقيقة، بمعنى أنّه لا توجد حقيقة مطلقة وإنما الحقيقة نسبية، فلأجل ذلك ليست نظرية نسبية القيم هي نظرية مستقلة، بل هي متفرعة على نظرية نسبية الحقيقة، ونظرية نسبية الحقيقة نظرية خاطئة، لماذا؟

أولاً: لأنّ هناك خلطاً بين نسبية الإدراك ونسبية المُدرَك، فالحقيقة نفسها في واقعها ليست نسبية، فالله موجود أو غير موجود؟ ليس وجود الله أمراً نسبياً، وكذلك الإنسان موجود أو غير موجود؟ فليس وجود الإنسان أمراً نسبياً، الإنسان يمتلك عقلاً مفكراً أو لا يمتلك؟ هذه ليست مسألة نسبية، والحقيقة في واقعها ليست نسبية، وإنّما إدراكنا للحقيقة نسبي، أنا مدرك جزءاً من حقيقة الإنسان، وأنت تدرك جزءاً أكبر من حقيقة الإنسان، وشخص ثالث يدرك جزءاً أوسع من حقيقة الإنسان، يختلف إدراكنا للحقيقة، يختلف مستوى الحقيقة باختلاف مستوياتنا الذهنية والثقافية، فالنسبية في إدراكنا وليست النسبية في الحقيقة المدركة، وهذا لا بدَّ أن نلحظه، وهذا يتفرع عليه أنّ النسبية في تعاملنا مع القيم وليست النسبية في واقع القيم، وليست القيم في واقعها نسبية فهي مثل أي حقيقة أخرى، هي في واقعها مطلقة، وتعاملنا مع القيم وتفاعلنا معها هو النسبي وليست النسبية في نفس القيم. هذا أولاً.

ثانياً: عندما يُقال الحقيقة نسبية، كلمة الحقيقة النسبية هي بنفسها حقيقة، ونفس قولنا: (الحقيقة نسبية) هو نفسه -هذا القول- حقيقة، فهل هذه الحقيقة نسبية أو مطلقة؟ نفس قولنا: (القيم نسبية) نفس هذا القول هل هو نسبي أم غير نسبي؟ إذا قلتم هو نسبي إذاً لا يصح الاعتماد عليه؛ لأنه مقولة نسبية، وإذا قلتم هو ليس نسبياً بل هو حقيقة مطلقة، إذاً انتقضت القاعدة وهي أنّ كل حقيقة نسبية؛ لماذا؟ لأنّ نفس هذه المقولة هي حقيقة مطلقة وليست حقيقة نسبية. هذا الأمر الأول.

والأمر الثاني: من أين نكتشف القيم؟ نحن الآن نختلف، أنا أمامي إنسان راسلي، يعني يمشي على منطق راسل، هذا المنطق الوجودي، راسل ممن ارتكز وتبنى وشيَّد نظرية نسبية القيم، نحن مع راسل هذا الفيلسوف نقول: كيف نستطيع أن نكتشف القيم؟ يعني ما هو الطريق لاكتشاف القيم غير اتفاق العقلاء؟ أن نستقرى المجتمعات العقلائية التي تعيش على الأرض ـ وليس المجتمعات البدائية وليس المجتمعات المتخلفة بل المجتمعات العقلائية-، المجتمعات العقلائية التي تعيش على الأرض يعني التي تتحرك من منطق عقلي هل أنها تتفق على قيم أم لا؟ فلا إشكال في أنها تتفق على قيم، جميع المجتمعات العقلائية تتفق على أنّ العدالة شيء جميل وأنّ الظلم شيء قبيح، وكذلك الأمانة شيء جميل والخيانة شيء قبيح، وأيضاً الصدق والإخلاص شيء جميل، وعلى أنّ الكرامة للإنسان شيء جميل، وعلى أنّ الإحسان والتضحية -أن تضحي من أجل البشرية- وأن تحسن للبشرية بلا مقابل شيء جميل، قيم اتفقت عليها المجتمعات العقلائية كلها في كل زمن وفي كل مجتمع.

إذاً هناك قيم مطلقة ونستكشف إطلاقها من خلال اتفاق المجتمعات العقلائية عليها في كل زمن وفي كل مكان، وهذا الأمر الثاني.

الأمر الثالث: الاختلاف ليس اختلافاً في القيم وهذه نقطة المغالطة؛ حيث إنّ الاختلاف في الصغريات كما يقولون لا في الكبريات، فالاختلاف في التطبيق وليس في المبادئ، فلا تختلف البشرية في أنّ الظلم قبيح، إنما يقولون هل أنّ عدم إعطاء المرأة دور قيادي كأن تصبح المرأة رئيس دولة هل هذا ظلم أو ليس بظلم؟ هذا اختلاف في التطبيق.

العدالة شيء جميل فهل من العدالة أن نجعل قيمومة الأسرة للرجل أم للمرأة؟ هذا اختلاف في التطبيق، نعم تختلف البشرية في التطبيقات ولكن لا تختلف البشرية في الأصول والمبادئ وفي حُسن العدالة وقُبح الظلم وحُسن الأمانة وقبح الخيانة وإلى غير ذلك.

من أين نكتشف التطبيقات؟ من المصالح العامة، يعني أنّ الدين عندما يقول: إنّ القيمومة في الأسرة للرجل وليست للمرأة، هذا تطبيق لقيمة وهي العدالة، والعدالة تقتضي أنّ القيمومة للرجل لا المرأة، كيف؟ هذا لا بدَّ من استقراء المصالح العامة، وتحديد الصغريات إنما يتم بتحليل المصلحة العامة للمجتمع البشري ليُرى من هو أكثر ضبطاً في الأسرة للمصلحة العامة الرجل أو المرأة؟ لأنّ الأسرة هي المنطلق للمجتمع، وعلى أساس تحديد المصلحة العامة نحدّد من هو الأوفق لقيمومة الأسرة، فمعرفة الكبريات من خلال اتفاق المجتمع البشري عليها، ومعرفة الصغريات من خلال تحليل المصالح العامة للمجتمعات البشرية.

أحسنتم سماحة السيد على هذه الإفادات، وفي ختام هذا اللقاء أشكركم على حُسن المتابعة ونشكر سماحة السيد على هذه الإفادات وإلى لقاء آخر إن شاء الله ويكون اللقاء الثالث مع سماحة السيد لنستكمل بعض فصول هذا الموضوع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.  

الجزء الثالث من الحوار

هنالك أدلة تثبت وجود الخالق، وهنالك أدلة أخرى تثبت العكس، فمن بدل أن نثبت وجود خالق، أريد إثباتاً بأنّ وجود خالق يتطلب وجود دين علينا تطبيقه أصلاً. وهنا إثارات أربع مباشرة: الإثارة الأولى: لماذا وجود خالق يتطلب وجود دين؟ الإثارة الثانية: هل من دليل على أنّ الإسلام هو الدين الصحيح الذي نتبعه من بين بقية الأديان؟ الإثارة الثالثة: على أيّ أساس نؤمن بالمعاجز مع أننا لم نرها، وهي تخالف العلم؟ كالمعاجز التي تكلم عنها القرآن، نريد دليلاً ليس في القرآن، وإنما من خارجه لنقنع به غير المسلم، مثلاً الإسراء والمعراج قضيتان لم يثبتهما العلم (صعود النبي إلى السماوات ورؤيته للجنة والنار)؟ الإثارة الرابعة: ما هو الهدف من وجود الدين من الأساس؟ إذا كان للعبادة، فكيف نفسّر عدم وصوله لمناطق دون أخرى؟ هل الناس في هذه المناطق خلقوا من غير حكمة مثلاً؟

الجواب: بداية، لا يوجد أدلة تنفي وجود الخالق، وإنما هناك مناقشة للأدلة، أما بالنسبة للأسئلة، فإجاباتها كالآتي:

جواب الإثارة الأولى: الخالق الذي نؤمن به هو الخالق الهادف الذي له غايات وأهداف، لا الخالق الساذج، إذ لا قيمة للإيمان بخالق يوجد الكون من دون هدف ولا حكمة كما توجد الشمس الحرارة من دون تخطيط من قبلها لشيء، ودليلنا على أن الخالق هادف: أنه هو الخالق الذي أوجد المجموعات الشمسية ضمن نظام فيزيائي دقيق، ومعادلات رياضية باهرة، ولولا أنّ له هدفاً لوجدت كل هذه المجموعات بطريقة مبعثرة، فإذا كان له هدف من وجود النظام الفيزيائي المحكم، فمن المستحيل أن لا يكون له هدف من خلق الإنسان.

وكذلك نقول: إنّ الذي أوجد كل عوامل الحياة في الكون بدقة رياضية بارعة، يعني ذلك أنّ له هدفاً من إعطاء الحياة، والذي أوجد الإنسان مزوداً بكل عوامل القوة والنشاط وجعله قادراً على بناء أعظم حضارة، يعني ذلك أنّ له هدفاً من وجود الإنسان، وذلك الهدف هو إعمار الكون وانتشار العدل، وأن تسود البشرية لغة القيم الإنسانية من الصدق والأمانة والإيثار.

وهذا هو الدين، فإنّ الدين ليس مجرّد طقوس، بل هو القيم والمهارات التي تبعث الحياة، فإنّ هذا هو الهدف الذي ينسجم مع خالق فجّر ينابيع الحياة في الكون كله، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[5]، أي أنّ الهدف من وجودكم هو إعمار الأرض، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[6]، أي العدالة، وقال تعالى: {إِنَّ ٱللهَ يَأْمُرُ بالْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَى}[7]، وتجسيد العدالة قيماً وسلوكاً هو العبادة التي قال عنها تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[8].

جواب الإثارة الثانية: إنّ الإيمان بالدين الإسلامي يرتكز على نقطتين:

النقطة الأولى: دليل حساب الاحتمالات: وبيانه أنّ النتيجة إذا كانت أكبر من المقدمة، فإنّها تكشف عن تدخل يد من الخارج أسهمت في تحقيق النتيجة، مثلاً إذا أرسل لك طفل في السادسة من عمره في الصف الأول الابتدائي رسالة، فقرأتها ووجدت قصيدة بديعة جداً يحتاج إنشاؤها إلى براعة في الشعر، وخبرة طويلة في فنون الأدب، فإنّك بأوّل وهلة يحكم عقلك أنّ هناك يداً أخرى هي التي صاغت القصيدة وليس الطفل، والسبب في ذلك أنّ النتيجة -وهي القصيدة البديعة- أضخم بكثير من حجم المقدمة -وهي المستوى البدائي للطفل-، فكذلك الأمر في رسالة الإسلام، فإنّ الإنسان إذا قام بمقارنة بين المقدمة وهي صفات النبي محمد| قبل الإسلام، وبين القرآن الذي جاء به، يعرف أنّ القرآن يستحيل إنشاؤه من قبل النبي|، لأنّ النتيجة أكبر من المقدمة، فالمقدمة هي: النبي|، وصفاته هي: أنه أمّي لم يحضر عند معلم، ولا استفاد من مدرس، ولم تكن له أي علاقة بعالم الشعر والأدب، ولم يمارس هذه المهارة أبداً، بل كان مشغولاً بتجارة خديجة بنت خويلد، ولم تكن له أية علاقة بعلماء النصارى واليهود حتى يستفيد من معلوماتهم، وإذا بذلك الأمي غير المتعلم المنقطع عن عالم الفكر والبلاغة يأتي الناس بكتاب فريد في ظرف مجيئه، لعدة جهات:

الجهة الأولى: إنّ القرآن مملوء بلاغة وفنوناً أدبية راقية متنوعة عجز المجتمع العربي عن مجاراته فيها، رغم رواج فنون الأدب وأساليب البلاغة في المجتمع.

الجهة الثانية: إنّ القرآن ضم في ثناياه لائحة قانونية لم يكن لها سابقة في التاريخ البشري، حيث تنوّعت إلى قوانين للمعاملات الاقتصادية، وقوانين للإرث والحدود، وقوانين للعبادة والقيم السلوكية.

الجهة الثالثة: إنّه تحدّث عن الكون والطبيعة في عدّة آيات، وطرح عدّة معلومات لم تكتشف إلا في العصر الحاضر.

الجهة الرابعة: إنّه ضمّ مادة تاريخية مفصّلة منذ قصة آدم وحواء إلى يوم النبي|.

الجهة الخامسة: إنّ القرآن ضم مادة تربوية مؤثرة في تركيزه على القيم الإنسانية.

فإذا لاحظنا عظمة القرآن من حيث عظمة المعلومات التي ضخت فيه، والنسق الأدبي الذي يجمع آياته كلها، فهذه هي النتيجة التي تعني المستوى المتفوق من الفكر القرآني، وإذا قمنا بالمقارنة بين هذه النتيجة والمقدمة وهي مؤهلات النبيe، حصل لنا جزم بأنّ النبيe لا يقدر على صياغة القرآن، وأنّ هناك يداً غيبية هي التي صاغت القرآن، وحيث لا يوجد أي ارتباط بين النبي| وعلماء الأديان الأخرى، وأنّ المستوى البلاغي، والتربوي، والقانوني، فوق المستوى البشري المعهود، فإنّ العقل يحكم بلا تردّد بأنّ يد الغيب الإلهي هي التي أنزلت القرآن على النبيe.

النقطة الثانية: إنّ الدين الإسلامي فيه ما في الأديان الأخرى وزيادة، لذلك ينبغي للعاقل المتأمّل أن يسير على طبق هذا الدين وتعاليمه.

جواب الإثارة الثالثة التي مفادها: أنّ المعاجز تخالف العلم، فكيف نؤمن بها؟ ليست المعجزة ظاهرة متحرّرة من المنهج العلمي، بل المعجزة هي الظاهرة المستندة لأسباب مادية غير ظاهرة للعيان، وهذا أمر ممكن الوقوع، ولا يرفضه العقل، مثلاً: عندما قال وزير سليمان -كما ذكر القرآن-: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[9]، فالمقصود بذلك أنّ نقل عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين ليس حدثاً لا يخضع للمنطق العلمي، بل هو في إطار العلم، ويعني ذلك أنّ الوزير استخدم وسائل علمية مادية لنقل العرش في لحظة، ولكن لأنّ هذه الوسائل لم تكن موجودة في تلك الأزمنة بين يدي الناس، لذلك اعتبرها القرآن معجزة.

ومن هذا القبيل إسراء النبيe من مكة إلى بيت المقدس، فهو ليس حدثاً متحرّراً من الأسباب العلمية المادية، بل هو منها، ويعني ذلك أنّ النبيe جهزت له الوسيلة المادية التي تحفظ التوازن، وتهيئ الأكسجين اللازم للحياة، وتتحرّر من هيمنة الجاذبية، لكن الناس في تلك الأزمنة لا تفقه هذه الأسباب المادية، فكان ذلك معجزة له|، وأيضاً ولادة عيسىg من دون أب كانت عبارة عن استخدام خلية من خلايا الأم لتلقيح بذرة الجسم البشري، وهذا ما يؤكد إمكانه في العصر الحاضر موضوع الاستنساخ، بحيث يتم عبر معالجة لبعض خلايا الأم التي تسهم في تولد الجنين من غير أب، ولذلك فالمعجزة أمر نسبي عند بعض العلماء، فما هو معجزة في زمن -للجهل بأسبابه- لا يكون معجزة في زمن آخر.

وعند المعروف بين العلماء: أنّ الإعجاز يبقى إعجازاً حتى مع قدرة العلم على تفسيره وتمكنه من تكراره، لأنّ هذه المعجزة حين حدوثها اعتمدت على القواعد العلمية، ولكن الوسيلة المعتمدة كانت وسيلة إلهية لا بشرية، وهذا هو وجه الإعجاز فيها، فمثلاً إذا لاحظنا الفرق بين القلب الحقيقي والقلب الصناعي، وبين اليد الحقيقية واليد الصناعية، فهنا قد نقول إنّ الوظيفة الجسدية التي يمارسها القلبان واحدة وهي: تجديد الدورة الدموية، ولكن الوسيلة الإلهية وهي القلب الطبيعي تظل معجزة، لأنّ البشرية وإن اكتشفت محتواه، وعرفت وظائفه، وتمكنت من صنع مثله، لكن يظل هو الوسيلة الأقوى عملاً والأكثر انسجاماً مع الجسم، ومجمعاً للأسرار العلمية والاكتشافات الطبية.

لذلك عندما يسألنا أي إنسان: أين المعجزات الإلهية التي تدل على الإبداع الإلهي، والذي يعجز المجتمع البشري عن تكراره؟ نقول له: ببساطة إنّ أول معجزة بين أيدينا هي حبة القمح، فإنّ المجتمع البشري قادر بواسطة التطور التكنلوجي أن يخترع مركبة فضائية، لكنه عاجز عن صنع حبة قمح في المعمل تحمل بين طياتها شرارة الحياة، بل يحتاج وجودها إلى إعداد بشري ومدد إلهي، مع أنّ المجتمع البشري عارف بمحتوى حبة القمح ودورها، وأعظم من هذه المعجزة: قلب الإنسان، ودماغه، وهكذا.

جواب الإثارة الرابعة التي مفادها: ما هو الهدف من وجود الدين؟

يتبين الجواب عن الإثارة الرابعة في نقاط:

النقطة الأولى: إنّ الهدف من الدين ليس هو العبادة فقط، وإنما إعمار الأرض ونشر القيم الإنسانية، والصلة بالله.

النقطة الثانية: إنّ الصلة بالله ليس طقوساً وممارسات عمياء، بل الهدف من هذه الصلة التي نعبر عنها بالصلاة والصوم: أن تكون حافزاً للإنسان نحو العطاء، ورقيباً داخلياً يمنع الإنسان من ارتكاب الرذيلة والظلم الاجتماعي، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[10].

النقطة الثالثة: إنّ وجود بعض المناطق في الأرض لا تعرف الدين أمر لا ينافي حكمة الله تعالى، ولا يلغي هدفه من تشريع الدين؛ لأنه تعالى لا يريد أن تؤمن الناس بالدين وتتعامل به قسراً ومن دون رغبة، فإنّ الدين سلوك عملي فاعل، فإذا جاء السلوك من دون رغبة، أو مع الجهل بأهدافه، لم يحقق إنجازاً ولا أثراً في سعادة المجتمع البشري، قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[11]، وقال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[12].

وهذا الأمر شائع في عرف القوانين البشرية، فمثلاً لو أنّ الدولة أسّست نظاماً تعليمياً حراً متقناً بهدف نشر الوعي والمعرفة، وقامت بتبليغ النظام من خلال جميع وسائل البث، ولكن بقيت مناطق في الدولة تجهل أهداف النظام، أو ترفض التعامل به، فإنّ ذلك لا يتنافى مع حكمة الدولة، ولا يلغي أهدافها أبداً، فإنها أرادت إيصال الخير والوعي لمن يرغب فيه من فئات الشعب، ويتفاعل مع أهدافه، وكذلك الله أراد أن يصل صوت الدين لرقعة كبيرة من البشرية، وأن تقوم هذه الرقعة بتبليغه بالطرق الاختيارية المتاحة التي تختلف باختلاف الأزمنة والظروف، فلو بقيت مناطق تجهل الدين أو ترفضه، لم يشكل ذلك خللاً في الدين في نفسه، ولا فشلاً في أهدافه.

السؤال الأخير: إنّ الفكر الديني يتحدّى المنطق التجريبي بأنّ الأسئلة الوجودية الفطرية وهي: من أنا؟ ومن أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟ مما لا إجابة عليها في غير الدين، فهل للفلسفة الإلحادية رؤية تفصيلية حول إجابات هذه الأسئلة أم لا؟

الجواب: نعم تعرّضت الفلسفة الإلحاديّة إلى هذه الأسئلة وأجابت بعدّة أجوبة:

الأول: بما أنّ العالَم الذي ثبت عن طريق المنهج العلمي التجريبي واقعيّته هو خصوص العالم المادّي ولا دليل على وجود عوالم أخرى فمن الخطأ السؤال بـ إلى أين؟ كما أنّ المنهج التجريبي لم يثبت لنا كون القوّة التي خلقت الكون قوّة هادفة ولم يثبت لنا وجود الغائية لهذا الكون، فلذلك من الخطأ السؤال من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟؛ لأنّ كلّ ذلك يتفرّع على وجود خالق هادف أو وجود غاية للوجود مما لم يتمّ عليه دليل علمي تجريبي.

الثاني: أنّ السؤال بـ من أنا؟ هو سؤال عن حقيقة النفس ولم يُثبت المنهج التجريبي أكثر من أنّ النفس عبارة عن عمليات كهروكيميائية تقوم بها الخلايا التي تسهم في التغذية والنمو والحركة والتنفّس.

الثالث: عندما نطرح السؤال من أين؟ فإنّ الجواب هو أنّ مقتضى الداروينية هي أنّ انحدار الخليّة الحيّة البسيطة والمعقّدة مصدر بدائي واحد وقد يكون أزلياً ولا دليل على مبدأ للحياة وراء ذلك.

في ختام هذا الحوار الشيّق مع سماحة آية الله السيد منير الخبّازB نتقدّم بجزيل الشكر لسماحته على إفاداته القيّمة النافعة.

ونسأل المولىa أن يشمل الجميع برحمته ويوفقهم إلى الثبات على الإيمان به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] هذا الحوار هو عبارة عن مادّة مصوّرة (فيديو) أعدّتها مجلة رسالة القلم مع سماحة السيد لنشرها على الشبكة العنكبوتية، ورُتّب هذا الحوار بصورة كتبية لنشره هنا مع الحفاظ على خصوصيات الحوار المصوّر.

[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج74، ص115.

[3] سورة الأنفال: 53.

[4] سورة آل عمران: 27.

[5] سورة هود: 61.

[6] سورة الحديد: 25.

[7] سورة النحل: 90.

[8] سورة الذاريات: 56.

[9] سورة النمل: 40.

[10] سورة العنكبوت: 45.

[11] سورة الكهف: 29.

[12] سورة البقرة: 256.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا