الإفطار باعتقاد دخول الليل.. إيجابه للقضاء وعدمه

الإفطار باعتقاد دخول الليل.. إيجابه للقضاء وعدمه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف أنبيائه وخاتم رسله محمّد وآله الطاهرين.

 [مقدّمة]

لو أفطر باعتقاد بقاء الليل أو دخوله ثمّ انكشف خلافه فإنّ مقتضى القاعدة هو البطلان، فيلزم القضاء؛ لأنّه تابع لفوت الفريضة في وقتها، وقد فاتت في المقام حسب الفرض؛ لأنّ حقيقة الصوم هو الإمساك عن المفطّرات في مجموع الوقت، ولم يتحقّق هذا في المقام؛ إذ لم يجتنب عنها في بعضه، ففوّت الواجب على نفسه، وإن كان معذوراً في هذا التفويت فيما لو استند فيه إلى حجّة، ولو كانت هي التعبّد ببقاء الليل؛ لاستصحابه، إلا أنّ مثله لا يوجب إلا رفع الحكم التكليفيّ دون الوضعيّ، وهو البطلان، ويترتّب عليه القضاء؛ لتحقّق الفوت بالوجدان، وإن كان على وجهٍ محلَّل.

وعليه ففي كلّ مورد دلّ الدليل على الاجتزاء وعدم الحاجة إلى القضاء فهو، وكان على خلاف مقتضى القاعدة، فيقتصر على مورده تعبّداً-، كما إذا تناول المفطّر باعتقاد بقاء الليل وكان قد راعى الفجر، ثم انكشف سبق طلوعه، وأنّ تناوله كان في النهار-، وإلا كان مقتضى الأصل هو القضاء.

[مسألتنا ومحلّ الكلام]

فإذا أفطر الصائم باعتقاد دخول الليل ثمّ انكشف عدمه فهل يوجب ذلك القضاء أم لا؟ قال الإمام الخوئيّS: "اختلفت كلمات الفقهاء في هذه المسألة اختلافاً عظيماً، ولا تكاد تجتمع على شيءٍ واحدٍ، كما أشار إليه في الجواهر والحدائق، بل لم يعلم المراد من بعض الكلمات- كالشرائع- حيث عبّر بالوهم، ولم يُعلم أنّه يريد به الظنّ أو الشكّ أو الجامع بينهما، وفصّل بعضهم-كابن إدريس- بين الظنّ القويّ والضعيف-إلى أن قالS- حتى أنّه نُسِب إلى فقيهٍ واحد قولان في كتابين، بل في كتابٍ واحد"[1].

[روايات المسألة]

والمتّبع هو الروايات الواردة في المقام-وإلا فالقاعدة-، فقد دلّت جملة منها على عدم القضاء، وهي روايات الباب 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، وهي:

صحيحة زُرَارَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍg: >وَقْتُ الْمَغْرِبِ إِذَا غَابَ الْقُرْص، فَإِنْ رَأَيْتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ صَلَّيْتَ أَعَدْتَ الصَّلاة، وَمَضَى صَوْمُكَ، وَتَكُفُّ عَنِ الطَّعَامِ إِنْ كُنْتَ قَدْ أَصَبْتَ مِنْهُ شَيْئا<[2]. وظاهر مضيّ الصوم هو الصحّة.

وصحيحته الأخرى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍg- فِي حَدِيثٍ- أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ، فَأَفْطَرَ ثُمَّ أَبْصَرَ الشَّمْسَ بَعْدَ ذَلِكَ (قَالَ): >لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء<[3].

ورواية أَبِي الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِg عَنْ رَجُلٍ صَامَ، ثُمَّ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ، وَفِي السَّمَاءِ غَيْمٌ فَأَفْطَرَ، ثُمَّ إِنَّ السَّحَابَ انْجَلَى فَإِذَا الشَّمْسُ لَمْ تَغِبْ. فَقَالَ: >قَدْ تَمَّ صَوْمُهُ، وَلا يَقْضِيه<[4].

ورواية زَيْدٍ الشَّحَّامِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِg فِي رَجُلٍ صَائِمٍ ظَنَّ أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ كَان، وَأَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ، وَكَانَ فِي السَّمَاءِ سَحَابٌ فَأَفْطَرَ، ثُمَّ إِنَّ السَّحَابَ انْجَلَى فَإِذَا الشَّمْسُ لَمْ تَغِبْ. فَقَالَ: >تَمَّ صَوْمُهُ، وَلا يَقْضِيه<[5].

وبإزاء هذه الروايات موثَّقةُ أَبِي بَصِيرٍ وَسَمَاعَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِg فِي قَوْمٍ صَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، فَغَشِيَهُمْ سَحَابٌ أَسْوَدُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَرَأَوْا (فَظَنُّوْا) أَنَّهُ اللَّيْلُ فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ إِنَّ السَّحَابَ انْجَلَى فَإِذَا الشَّمْسُ- فَقَالَ: >عَلَى الَّذِي أَفْطَرَ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ إِنَّ الله§ يَقُولُ: {أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِفَمَنْ أَكَلَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ اللَّيْلُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ؛ لأنَّهُ أَكَلَ مُتَعَمِّدا<[6].

إذ يريدg من قوله: >عَلَى الَّذِي أَفْطَرَ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْم< أنّ اللازم عليه القضاء وعدم الاكتفاء بالناقص، وهذا وإن كان خلاف الظاهر بدواً، ولكنّه هو المراد بقرينة استشهادهg بالآية، ثمّ تعقيبه بـ >فَمَنْ أَكَلَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ اللَّيْلُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ<، سيّما مع تعليل هذا الذيل بقولهg: >لأنَّهُ أَكَلَ مُتَعَمِّدا<.

وبهذا البيان يُدفع ما لم يستبعده المحقّق الهمدانيS من أنّ المراد بقولهg: >عَلَى الَّذِي أَفْطَرَ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْم< هو إتمام صيام اليوم الحاضر، والإمساك في بقيّة النهار، وأنّه لا يبطل الصوم بذلك[7].  

ثمّ لو قطعنا النظر عن الصدر وقلنا بإجماله وتردّده بين المعنيين المزبورين فإنّ ذيل الرواية واضحٌ في لزوم القضاء، وحملُ الذيل على ما لو أكل بعد تبيّن أنّه في النهار[8]- خلاف الظاهر.

فالروايات الأربع دلّت على عدم لزوم القضاء في فرض الظن بدخول الليل وإن لم تكن علّة، وهذه الرواية دلّت على وجوب القضاء حتى إذا كانت علّة.

[وجوه الجمع]

(1) وقد يجمع بين الطائفتين بحمل الظنّ في الطائفة الأولى على الظن القويّ، أو الغالب، وفي الموثّقة على الظنّ الضعيف أو غير الغالب[9].

وفيه أنّه جمع تبرّعيّ لا شاهد عليه، فإنّ الظنّ في هذه الروايات يساوق الاعتقاد والقطع وإن لم يكن مطابقاً للواقع، فهو على نسق ما في قوله سبحانه: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}[10]، بل قال شيخ الجواهرS: "بل لعلّ دعوى استفادة سقوطهما معاً- يعني القضاء والكفّارة- عن الغالب، والكفارة خاصّة عن غيره من الأدلّة ولو بدعوى أنّه مقتضى الجمع الّذي لا شاهد له بين النصوص- من الغرائب"[11].

(2) وقد يجمع بين الطائفتين على مستوى عقد الوضع بحيث يرتفع التعارض باختلاف موضوعَيّ كلٍّ من الطائفتين بأنّ الموثّقة الدالّة على إثبات القضاء موضوعُها اعتقاد أنّ السحاب هو الليل؛ لاشتباهه به نظراً لاسوداده، فلا يلتفت للسحاب، إذ يقول السائل: "فِي قَوْمٍ صَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، فَغَشِيَهُمْ سَحَابٌ أَسْوَدُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَرَأَوْا (فَظَنُّوْا) أَنَّهُ اللَّيْلُ"، لا أنّهم اعتقدوا دخول الليل بسبب السحاب، بل نفس السحاب الأسود حسبوه ليلاً، ففيه ذكر الإمام× بأن وظيفتهم القضاء، وأمّا ما دلّ على نفي القضاء فموضوعه اعتقاد تحقّق الليل بسبب وجود السحاب بحيث يكون الشخص ملتفتاً لوجود السحاب فيتخيل دخول الليل بسبب السحاب[12].

وهذا جمع بين موثّقة أبي بصير وسماعة من جهةٍ وبين روايتَي أبي الصبّاح الكناني وزيد الشحّام من جهةٍ أخرى.

وفيه- مضافاً إلى سقوط روايتَي أبي الصبّاح وزيد الشحّام سنداً[13]، فلا تنهضان للمعارضة- أوّلاً: أنّ هذا الجمع يعتمد على أنّ الضمير في قول السائل: "فَرَأَوْا (فَظَنُّوْا) أَنَّهُ اللَّيْلُ" راجع إلى السحاب، ولكن يحتمل إرادة الوقت وأنّهم برؤيتهم للسحاب عند الغروب حسبوا أنّ الليل قد حلّ- لا أنّهم حسبوا نفس السحاب ليلاً-، فلا يعود هناك فرق موضوعيّ بين الموثقة والروايتين، والنتيجة أنّ الموثّقة تثبت القضاء على مَن أفطر بسبب السحاب، والروايتان تنفيان القضاء عنه.

وثانياً: لو سلّمنا عود الضمير إلى السحاب إلا أنّ تعليل لزوم صيام ذلك اليوم بآية: {أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ}، وتعليل لزوم قضاء مَنْ أكل قبل أن يدخل الليل بـ (لأنَّهُ أَكَلَ مُتَعَمِّدا) (نعم هذان التعليلان) يتناولان مورد الروايتين- لو كان مختلفاً عن مورد الموثّقة-، ومعه فلا يصحّ الجمع بين الموثّقة والروايتين بما ذكر.

ويؤيّد ما ذكرنا أنّ الاعتبار قاضٍ بعدم قضاء مورد الموثّقة المدّعى؛ لكون المكلّف معه أبلغ عذراً من مورد الروايتين، أو فَقُلْ: هو أولى بالحكم بعدم القضاء، ولا أقلّ من المساواة بينهما، فكيف يكون حكمه القضاء؟!

(3) وقد يقال في الجمع - بعد عدم نهوض روايتَي أبي الصبّاح وزيد الشحّام في أنفسهما وبقطع النظر عن المعارضة- أنّ النسبة بين الموثّقة وصحيحتَي زرارة- الدالّتين على عدم لزوم القضاء لو أفطر بظنّ دخول الليل مطلقاً- هي نسبة العموم المطلق، فتحمل الصحيحتان على الموثّقة، والنتيجة هي عدم لزوم القضاء بالإفطار بظنّ دخول الليل إلا فيما إذا أفطر باعتقاد دخول الليل بسبب الغيم- الّذي هو مدلول الموثّقة-.

وفيه أنّ الظنّ بدخول الليل في الأعمّ الأغلب إنّما هو بسبب الغيم، فيلزم من الجمع المزبور حمل المطلق -وهما الصحيحتان- على الفرد النادر، وهو مستهجنّ عرفاً.

(4) وقد ذُكِرَ جمع آخر على مستوى عقد الحمل لا الوضع، بأن يُتصرف في الموثّقة بحمل (فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ) -الظاهر في وجوب القضاء- على الاستحباب؛ نظراً لنصوصيّة روايات الطائفة الأخرى في نفي القضاء.

ولكن التعبير بـ (عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ) ممّا يأبى الحمل على الاستحباب في نفسه؛ فإنّه بالجمع بينه وبين لا يجب القضاء في جملة واحدة يُرى التهافت عرفاً، على أنّ وجوب القضاء معلّلٌ بـ (لأنَّهُ أَكَلَ مُتَعَمِّدا)، وهو لا يناسب الاستحباب.

[مرجّحات التعارض]

[(1) المرجّح الجهتيّ]

وبعد عدم تأتِّي الجمع العرفيّ بين الطائفتين فقد رجّح سيّدُ الأعاظمS الطائفة الأولى؛ لمخالفتها لمذهب جمهور العامّة، فتطرح الموثّقة أو تحمل على التقيّة[14].

وقد أورد عليه بعض تلامذته بأنّ المسألة محل خلاف بينهم، حيث نسب القول بعدم وجوب القضاء فيها إلى أكثر أهل العلم، ونسب القول بالوجوب إلى جماعة منهم[15].

وفيه أوّلاً: أنّ وجوب القضاء مذهب أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم- كما في المغني[16]-، لا العكس، بل قال العلامةO في التذكرة: (وهو قول العامّة)[17]؛ وذلك لأنّ القول عندهم بعدم وجوب القضاء شاذّ؛ ولذا أضاف في المغني قائلاً: "وحُكِيَ عن عروة ومجاهد والحسن وإسحاق لا قضاء عليهم"[18].

وثانياً: أنّ المسألة وإن كانت محل خلاف بينهم، كما نصّ على ذلك ابن رشد (الحفيد)، حيث قال: "ومن هذا الباب اختلافهم فيمن ظنّ أنّ الشمس قد غربت، فأفطر، ثمّ ظهرت الشمس بعد ذلك هل عليه قضاء أم لا؟"[19]، إلا أنّه بمراجعة بعض مصادرهم يتّضح أنّ القول بوجوب القضاء هو قول المالكيّة والحنفيّة والشافعيّة والحنابلة[20]، ما يعني أنّه ليس رأيّاً لخصوص رؤساء المذاهب، بل هو رأي العلماء من كلّ هذه المذاهب، ومع وجود الخلاف فالعبرة في الترجيح إنّما هو بمخالفة المعاصر منهم لزمن النصّ، كمالك وأبي حنيفة بالنسبة إلى الروايات عن الباقر والصادق^، كما في روايات مسألتنا، فلا ينظر لرأي مَن تأخّر منهم عنهماh.

[(2) المرجّح المضمونيّ]

وقال أيضاً: إنّ الترجيح للموثّقة لموافقتها للكتاب العزيز في قوله سبحانه: {ثُمّ أتِمُّوْا الصِّيامَ إلى الْلَيْل}[21]- فلا تصل النوبة معها إلى الترجيح بمخالفة العامّة-؛ ومقتضاه طرح روايات الطائفة الأولى، أو أنّ الكتاب العزيز عامٌّ فوقانيٌّ يكون مرجعاً بعد تساقط الخاصّين؛ للمعارضة[22].

وربما يتوجّه عليه ما أفاده أحد الأعاظم+ من أنّ الأخبار النافية للقضاء ليست مخالفةً للكتاب؛ لأنّ الآية الشريفة ناظرةٌ إلى الحكم الواقعيّ الأوّليّ، ولا تنافي مع عدم وجوب القضاء لما عرض من زعم دخول الليل ووقوع الافطار في النهار[23].

وبعبارة أخرى إنّ روايات الطائفتين تتحدّث عن إجزاء الناقص من الصوم وعدمه في فرض الاعتقاد بدخول الليل مع تبيُّن الخلاف، فالإجزاء وعدمه فيها حكم ثانويّ وفي ذلك الفرض، ولمّا كان عدم الإجزاء في الآية حكماً واقعيّاً أوّليّاً فلا يكون شيءٌ من روايات الطائفتين حتى الدالّ منها على عدم الإجزاء موافقاً للآية رغم أنّ الحكم فيها هو عدم الإجزاء.

وفيه- مضافاً إلى أنّ مقامنا ليس من باب الحكم الثانويّ في شيء؛ ليأتي ما ذكرهS من نظر الآية إلى الحكم الواقعيّ الأوّليّ، فلا مخالف لها ولا موافق من روايات الطائفتين- أوّلاً: أنّ مقتضى إطلاق {ثُمّ أتِمُّوْا الصِّيامَ إلى الْلَيْل} تشريك من أفطر ظانّاً دخول الليل مع غيره ممّن أفطر في هذا الحكم، وأنّه لا يختصّ بحكم بعدم القضاء.

وقد يتوجّه على الترجيح بموافقة الآية- ما استفدته من السيّد الأستاذ B مذاكرةً- من أنّ روايات الطائفتين لمّا كانت ناظرة إلى الحكم الظاهريّ- وهو كفاية قيام الظنِّ غير المطابق للواقع الأعمِّ من القطع والاطمئنان والأمارة المعتبرة (كفاية قيامه) في إثبات إجزاء الناقص من الصوم أو عدم كفايته- وكانت الآية ناظرة إلى الحكم الواقعيّ، فلا موافق من روايات الطائفتين للآية ولا مخالف، وإن كانت الموثّقة تتفق مع الآية في إثبات البطلان ولزوم القضاء.

ولكن يرد عليه -هو الآخر- بأنّه إنّما يتمّ لو لم يكن للآية إطلاق، وأنّها في مقام أصل التشريع.

فتحصّل أنّ الآية بإطلاقها مرجِّحةٌ للموثّقة- بناءً على المختار من أنّ الترجيح بالكتاب كما يكون بظهوره اللفظيّ يكون بظهوره وإن كان حِكَميّاً وبالإطلاق-، ولو بنينا على عدم كون إطلاق الكتاب مرجِّحاً، فالآية- بعد استقرار تعارض الخاصّين وتساقطهما معاً- مرجع.

[(3) المرجّح الصدوريّ]

ثمّ أنّه قد يلاحظ على أصل جعل الآية مرجِّحاً أو مرجعاً بأن النوبة لا تصل إليه فيما لو كانت إحدى الطائفتين مشهورة؛ فتتقدّم من باب تمييز الحجّة عن اللاحجّة، وفي بعض الكلمات أنّ من يلتزم بكون الشهرة مرجّحة لزمه تقديم الموثّقة؛ لأنّ عليها عمل المشهور[24].

وهذا إنّما يتمّ بالبناء على أنّ المستفاد من مقبولة ابن حنظلة في الترجيح بالشهرة هي الشهرة العمليّة كما هو مسلك السيّد البروجرديّS وبعض تلامذته، ولكنّ المختار- تبعاً للسيّد الخوئيّS- أنّ الشهرة في مقبولة عمر بن حنظلة هي الشهرة الروائية الّتي تكون الرواية بها سنّة قطعيّة أو في قوّتها، وقد تعرّضتُ لهذه الشهرة في مقولة (رجوع أحد الزوجين في هبته)[25]، وحيث إنّ الموثّقة ليست بتلك المثابة، فلا تتقدّم وإن كانت شهرة العمل عليها.

وفي بعضٍ آخرَ من الكلمات أنّ الترجيح للروايات الأربع؛ لشهرتها؛ لأنّها أكثر عددًا[26].

وفيه إنّا وإن بنينا على كون المراد من الشهرة هي الروائية إلا أنّ مرمى السهم هو تماميّة صغراها من عدمها؛ وحيث إنّ من غير البعيد رجوع صحيحتي زرارة إلى رواية واحدة وإن اختلفت ألفاظهما، مع ضعف كلٍّ من روايتَي أبي الصبّاح وزيد الشحّام-فلا تتشكّل- والحال هذه- الشهرة، ومنه يعرف ما في بعض الكلمات من تسميّة هذه الطائفة بالمستفيضة[27].

فتحصّل أنّ الشهرة العمليّة على الموثّقة وإن كانت حاصلة إلا أنّها ليست هي المرجّحة، والشهرة الروائية وإن كانت مرجّحة إلا أنّ روايات الطائفة الأولى لم تصل إلى حدّها.

وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض، وهي الموافقة للكتاب ثمّ المخالفة للعامّة، وقد ذكرنا أنّه بالالتفات إلى قوله تعالى: {ثُمّ أتِمُّوْا الصِّيامَ إلى الّلَيْل} يكون الترجيح للموثّقة، ولا يضرّ بالأخذ بها موافقتها للعامّة.

نعم من لا يلتزم بوجود الدليل على الترجيح أصلاً كما هو مختار بعض الأعلام، وإنّما الدليل يقتضي التخيير- فالمتعين حينئذٍ هو الحكم بالتخيير بين الطائفتين، فللمجتهد الالتزام برواية ثبوت القضاء، كما له الالتزام بما دلّ على نفيه[28]، ولكنّ الكلام كلّ الكلام في كبرى التخيير، ومحلّ بحثها هو الأصول.

[النتيجة]

فتحصّل أنّ القول بلزوم القضاء هو الأوفق بالأصول والقواعد، ولا أقلّ من الاحتياط اللازم بذلك، كما صار إليه مرجع الطائفة الإمام السيستاني= متفرّداً من بين المعلّقين على العروة[29].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مستند العروة الوثقى(ك. الصوم1) موسوعة الإمام الخوئيّS21: 425- 427.

[2] وسائل الشيعة10: 122 ب 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح1.

[3] نفس المصدر: 123 ب 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح2.

[4] نفس المصدر 10: 123 ب 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح3.

[5] نفس المصدر 10: 123 ب 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح4.

[6] نفس المصدر ب50 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح1.

[7] مصباح الفقيه- ط. جماعة المدرّسين- 14: 510، 511.

[8] نفس المصدر 14: 511.

[9] الوسائل10: 122، 123 ذيل البابين 50، 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

[10] سورة الأعراف: 171.

[11] جواهر الكلام16: 283.

[12] جواهر الكلام16: 284.

[13] أمّا الأولى؛ فلأن في سندها محمد بن الفضيل، ولا شاهد على اتحاده مع محمد بن القاسم بن الفضيل الثقة، وأمّا الثانية؛ فلاشتمال سندها على أبي جميلة، وهو المفضّل بن صالح، وقد نقل تضعيفه النجاشيّO- انظر: معجم رجال الحديث19: 311 [12607].

[14] مستند العروة الوثقى(ك. الصوم1) موسوعة الإمام الخوئيّ+21: 433.

[15] تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى5: 144.

[16] المغني3: 74.

[17] تذكرة الفقهاء6: 72.

[18] المغني3: 74.

[19] بداية المجتهد1: 243.

[20] الفقه على المذاهب الأربعة، ط. المكتبة العصريّة: "الشافعيّة قالوا:.. فلو جامع ظانّاً بقاء الليل أو دخول المغرب ثمّ تبيّن أنّه جامع نهارا فلا كفارة عليه وإن وجب عليه القضاء والإمساك" ص311، "المالكيّة قالوا:.. فإن أفطر ناسياً أو مخطئاً أو لعذرٍ كمرضٍ وسفر فعليه القضاء فقط" ص312، "الحنفيّة قالوا: ما يوجب القضاء دون الكفّارة ثلاثة أشياء:.. الثاني: أن يتناول غذاءً أو دواءً لعذرٍ شرعيّ، كمرضٍ أو سفرٍ أو إكراهٍ أو خطأ-إلى أن قال- إما الفطر وقت الغروب فلا يكفي فيه الشكّ لإسقاط الكفّارة، بل لا بدّ من غلبة الظنّ على إحدى الروايتين" ص313، "المالكيّة قالوا:.. وبالجملة كلّ فرض أفطر فيه فإنّه يجب عليه قضاؤه" ص314، "الحنابلة قالوا: يوجب القضاء دون الكفّارة أمور:.. ومنها ما إذا أكل أو شرب أو جامع شاكّاً في طلوع النهار أو ظانّاً غروب الشمس ولم يتبيّن الحال، فإنّ صومه لا يفسد بذلك، أما إذا تبيّنه في الصورتين فعليه القضاء في الأكل والشرب، وعليه القضاء والكفّارة في الجماع" ص315.

[21] سورة البقرة: 187.

[22] تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى5: 144.

[23] جامع المدارك2: 185.

[24] المرتقى إلى الفقه الأرقى (ك. الصوم): 386.

[25] انظر: العدد الثاني من مجلة مداد الأطهار.

[26] مصباح المنهاج(ك. الصوم): 209.

[27] مصباح الفقيه14: 508، 510.

[28] المرتقى إلى الفقه الأرقى (ك. الصوم): 386.

[29] العروة الوثقى والتعليقات عليها- ط. مؤسّسة السبطينh العالميّة10: 218 (التعليقة4)، 219 (التعليقة4).


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا