الإسلام...سياسة وسلام حوار مع سماحة الشيخ عبّاس الكعبي (حفظه الله) (1)

الإسلام...سياسة وسلام حوار مع سماحة الشيخ عبّاس الكعبي (حفظه الله) (1)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام المصطفى أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، لا سيّما بقية الله في الأرضين.

التشريع الإسلامي نبع عذب يرفد الإنسان بقانون ينظّم من خلاله تمام شؤون حياته بكل مجالاتها الشخصية والاجتماعية، فلم يُبق المشرِّع الحكيم شيئاً إلا وفيه كتابٌ أو سنة.

وهذا ما جعل من هذه الشريعة منهلاً يلوذ به الصادي فيرد عنها ريّاً رويّاً لا يظمأ بعده إلى النظر فيما أنتجه الآخرون من قوانين إلا بعين الشفقة عليهم في تركهم للمنهل الصافي وتسابقهم على الغَرف من نبع آسن لا يزيد الشارب منه إلا ظمأً.

ومن جملة ما أولته الشريعة الغرّاء اهتماماً؛ المسائل المرتبطة بالنظام الاجتماعي وكيفية حفظه والقيام به خير قيام، والمتتبّع لكثير من الأحكام الشرعية يرى بوضوح مدى اهتمام الشارع بحفظ النظام على الوجه الأكمل وحفظه عن لزوم الهرج والمرج مهما كلّف الأمر.

ونظراً لأهمية الموضوع ارتأت مجلة (رسالة القلم) إجراء حوار مع عالمٍ ذي باعٍ واسعٍ في هذا المجال، عسى أن يُسهم ذلك في تصحيح فكرة أو رفع إشكال، وذلك عبر محاور أربعة كالتالي:

المحور الأوّل: الإسلام والسلام.

المحور الثاني: الإسلاميون والسياسة.

المحور الثالث: السياسة وواقعنا الشيعيّ.

المحور الرابع: السياسة وطالب العلم.

فلنرحب بسماحة العلامة آية الله الشيخ عباس الكعبي.

الشيخ: نحمد الله ونشكره على هذا اللقاء بإخوتنا في مجلة (رسالة القلم)، ونتمنّى لكم التوفيق في رسالتكم التوعويّة -بإذن الله تبارك وتعالى- خاصّة بين طلبة العلم، والمحاورُ التي تفضلتم بها وطرحتموها محاورُ جديرةٌ بالتوجه في هذا الوقت، خاصّة إلى إخوتنا الطلبة.

المحور الأوّل: الإسلام والسلام

■ أطلق المجلس العلمائي في البحرين شعار (الإسلام سياسة وسلام)، ما هي أهم الأمور التي يشير إليها هذا الشعار؟

● أتصوّر بأنّ هذا الشعار شعار وجيه وصحيح وهادف ويتناسب مع المرحلة، فنحن في الوقت الذي نقول بأنّ السياسة هي من صميم التعاليم الدينية، ولا يمكن لمتدين أن يعزل نفسه عن السلوك السياسي، أو لا يتبنّى نظريّة سياسيّة؛ نريد من ذلك أنّ الهدف الأساس من السياسة في الإسلام هو تحقيق السلام الشامل العادل، فالإسلام هو دين السلام.

ولمزيد من الإيضاح وإزالة اللبس لا بد من التفرقة بين استعمالين لكلمة السلام، فليس السلام المقصود هنا هو نفسه المعنى المصطلح في عصرنا، حيث تطلق كلمة كلمة السلام لكن من دون التوجّه إلى جذور هذه الكلمة.

فالسلام الذي ينشده الإسلام لا يتحقّق إلا في ظلّ أمن شامل، والأمن الشامل لا يتحقق إلا في ظل عدالة شاملة، والعدالة الشاملة لا تحقق إلا في ظل حكومة صالحة، والحكومة الصالحة لا تتحقق إلا في ظل وجود مجتمع مؤمنٍ صالح، فهذه المفاهيم جميعها مرتبط بعضها مع البعض الآخر، فإذا أردنا أن نحقق السلام ينبغي أن ندخل في ميدان الجهاد من أجل مكافحة الظلم وتحقيق العدل، ومن هنا فنقول: إنّ الهدف من الجهاد في الإسلام هو تحقيق السلام الشامل العادل، فالسلام من دون التوجه إلى الجذور يتحوّل إلى حالة هدنة.

والسّلام قد يُلحظ فيه مَن يرعى السلام، فإذا كان مَن يرعى السلام بنفسه ظالمًا، كيف يستطيع أن يحقق السلام العادل!؟ هذا غير ممكن، لهذا قلنا بأنّ هذا الشعار هادف جدًّا ومهمّ، فالإسلام سياسة وسلام، والهدف من السياسة تحقيق السلام.

وإذا أتينا إلى المنظومة المعرفيّة الإسلاميّة نجد هذه المفردة مفردة السلام تحتلّ مكانة مهمة جدًّا بين مفردات المفاهيم الإسلامية، ومن باب التمثيل نطلّ إطلالة سريعة على هذه المفاهيم:

أ- كما هو واضح بأنّ المسلم حينما يحيِّي أخاه المسلم فإنه يحيّيه بتحيّة السلام، فيقول: سلام عليكم، فالتحية الإسلاميّة تتضمن مفهوم السلام الحقيقي وهي تتضمن -أيضًا- نوعًا من الدعاء.

ب- إذا نظرنا إلى أسماء الله -تبارك وتعالى- فأحد أسمائه وصفاته هو (السلام)، وكذلك من أسمائه (المؤمن).

ج- أحد أهداف الدعوة إلى الله الدعوة إلى دار السلام {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(2)، هذا وإن كان المراد بدار السلام الجنّة، ولكنّ الجنة مظهر من مظاهر السلام الحقيقي الواقعي في الدنيا.

د- الأنبياء دعوتهم -في الواقع- دعوة إلى السلام الحقيقيّ، ومكافحة الظلم، ومن خلال هذه الدعوة إلى السلام الحقيقي خاض الأنبياء معاركاً مع الظالمين فمعركة الأنبياء مع الظالمين على طول التاريخ من أجل السلام الحقيقي، وتحقيق الأمن الشامل الصحيح.

هـ- وبالنظر إلى مجموع الآيات والروايات التي تتحدث عن السلام بمفردات أخرى:

منها: قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}(3)، فالصلح أخصّ من السلام إذ معناه القضاء على حالة الحرب والعنف، فثقافة السلام تسبب الدعوة إلى ثقافة الصلح.

ومن هذا القبيل ما ورد عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ:‏ «لإنْ أُصْلِحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِينَارَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله): إِصْلاحُ‏ ذَاتِ‏ الْبَيْنِ‏ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ والصِّيَامِ»(4).

والروايات في هذا المجال كثيرة يتبيّن من خلالها مدى اهتمام الشارع المقدّس بمسألة السلام وتحقيقه في الأرض على شتى الأصعدة والمجالات.

■ ما بين العنف والسلم، ما هو الأصل الإسلامي في علاقة المسلم مع الآخر من مذهبه أو المذاهب الأخرى؟

● هذا واضح، فإن العلاقة بلا إشكال هي علاقة السِّلم، والسلام، والصلح، ويدل على ذلك الحديث المتّفق عليه بين جميع المسلمين، عَنِ النَّبِيِّ  (صلَّى الله عليه وآله) فِي وَصِيَّةٍ لَهُ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ سِبَابُ‏ الْمُسْلِمِ‏ فُسُوقٌ‏ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»(5)، وكذا ما جاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: «الْمُسْلِمُ‏ أَخُو الْمُسْلِمِ‏ هُوَ عَيْنُهُ ومِرْآتُهُ ودَلِيلُهُ، لا يَخُونُهُ ولا يَخْدَعُهُ ولا يَظْلِمُهُ ولا يَكْذِبُهُ ولا يَغْتَابُهُ»(6)، وغيرها من الروايات التي تتحدّث عن حقّ المسلم على المسلم، أو المؤمن على المؤمن، وكما جاء في كتاب العِشرة من بيان العلاقة والارتباط مع أصحاب المذاهب المختلفة من قبيل «عُودُوا مَرْضَاهُمْ واحْضُرُوا جَنَائِزَهُمْ‏، واشْهَدُوا لَهُمْ وعَلَيْهِمْ، وصَلُّوا مَعَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ التَّمْيِيزُ وتَكُونَ الْمُبَايَنَةُ مِنْكُمْ ومِنْهُمْ»(7)، هكذا أدّبنا الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن نبتعد عن حالة البغض والكراهية وأمثال ذلك.

نعم البعض يتصوّر بأننا إذا أخذنا بمفهوم الجهاد في الإسلام، فإنّنا ندعو إلى العنف، والدعوة إلى الصراع والحرب وأمثال ذلك، وهذا ناتج -مع الأسف الشديد- من عدم فهم معنى الجهاد فإن مفهوم الجهاد -خصوصًا في هذا الزمان- من المفاهيم المظلومة المغلوط فهمها، فالجهاد مأخوذ من الجَهْد –بالفتح- بمعنى التعب، والجُهْد -بالضم- بمعنى بذل الطاقة والوسع، ثمّ إذا صار الجهاد بقيد (سبيل الله)، يصبح معناه: بذل الطاقة والوسع أو التعب من أجل إعلاء كلمة الله.

فمن الشروط الأساسية في الجهاد أن يكون الجهاد قربة إلى الله، أن يبذل الإنسان نفسه ويبذل ماله من أجل تحقيق أهداف الله -تبارك وتعالى-، من أجل عبادة الله في الأرض، وإذا كان كذلك فالجهاد يستبطن مفهومًا آخر، وهو نزع روح السلطة وحبّ السلطة والتسلط على الآخرين وظلم الآخرين، ففي أيّ حالة توجد حالة ظلم وحالة استيلاء وحالة سلطة وحالة اضطهاد على الآخرين -فضلاً عن القتل والإبادة والدّمار- فهو ليس من الجهاد في شيء.

فأوّل ما يشترط في المجاهِد هو أن يقتل روح السلطة وحب السلطة في نفسه، ويستطيع أن يضحّي من أجل أن يحقّق كلمة الله في الأرض، عبادة الله، إذ لا يجتمع الجهاد مع ظلم الآخرين، لا يجتمع الجهاد مع روح التوسعيّة.

الجهاد مفهوم مباين للإمبريالية المعاصرة، الإمبريالية المعاصرة هي توسّعٌ من أجل استعمار الآخرين واضطهاد الآخرين، بينما الجهاد سعي حثيث من أجل رفع موانع التوحيد، وتحقيق عبادة الله في الأرض، ونجاة الآخرين من الشرك والكفر والطغيان والظلم والاضطهاد.

والجهاد على أقسام -كما هو معروف في الفقه-: جهاد دفاعي، جهاد ابتدائي، جهاد الطاغوت أو جهاد الظالم، جهاد أنظمة الجور، والجهاد بكلّ أقسامه وعناوينه لا توجد فيه حالة عنف على الآخرين وخصوصًا الأبرياء والمساكين، ويمكننا أن نستشهد بجملة من آداب الجهاد في الإسلام حيث نصّت الروايات وبالتبع لها فتوى الفقهاء على أنّ الذي يقاتَل هو خصوص المقاتِل لا الأبرياء، فلا يعتدى على الشيخ الكبير ولا المرأة ولا الطفل ولا الشجر، بالإضافة إلى ملاحظة الأمور الإنسانية الأخرى كتحريم إلقاء السمّ في بلاد المشركين، وأمثال ذلك، مما لا يجتمع أصلاً مع دعوى العنف التي يتهم بها الإسلام.

فالجهاد إذاً أمرٌ مختلِف عن العنف، وعن الحالة التي يمارسها التكفيريون في هذا العصر باسم الجهاد، بل هذا في الواقع تجنٍّ على مفهوم الجهاد باسم الجهاد، فالجهاد جُعل من أجل تحقيق السلام الشامل لا الدمار الشامل.

هذا إذا لاحظنا العلاقة مع غير المسلم من بقية الديانات، أما إذا لاحظنا العلاقة التي يوجدها الشرع بين نفس المسلمين فليس لدينا في الإسلام جهاد مذهبي بين أبناء المذاهب الإسلامية، بأن يجاهد أصحاب مذهب معيّن مذهبًا آخر، بل المفهوم المشترك بين المذاهب عندنا هو مفهوم التعاون، والترابط، والتعارف، والأخوّة الإسلامية، ونبذ الكراهية والعنف، والمحاولة للصلح والإصلاح، وملاحظة حقوق بعضهم البعض، وليس لدينا مفهوم اسمه (الجهاد) في علاقة المسلمين فيما بينهم.

نعم عندنا جهاد البغاة، والبغاة هم الظالمون الذين يعتدون على كيان الدولة الإسلامية والأمّة الإسلاميّة، ويستخدمون العنف ضدّ الدولة الإسلامية وضدّ الحاكم الإسلاميّ، هؤلاء اسمهم (البغاة)، بل حتى بالنسبة إلى البغاة فإن الجهاد معهم مرحلة متأخرة في التعامل معهم، فمن اللازم بادئ ذي بدئ أن نقوم بعملية السّلام والصلح، فالسلام والصلح هو الحاكم بينهم كما تنص الآية الكريمة {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}(8)، فالفئة الباغية هي الفئة الظالمة التي تروّج الاقتتال وتروّج ثقافة العنف والكراهية وقتل الأبرياء بين المسلمين، أو تقوم بالسيف ضدّ الحاكم الإسلامي -العادل طبعًا- مثل الحالة التي مورست في تاريخ الإسلام في حرب الناكثين والقاسطين والمارقين -وهذا باتّفاق المذاهب الإسلاميّة- هذه الحالة تسمّى حالة بغي ضدّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فالبغي كيف يعالج؟ يعالج البغي أيضًا عن طريق الجهاد من أجل تحقيق السلام وإرساء مبادئ السلام بين المسلمين.

إذًا الحالة الأولية الحاكمة بين أبناء المذاهب لا شكّ في أنّها السلام والأمن، لا العنف، وهذا واضح من خلال الآية الشريفة.

يفهم البعض من مجموعة من الآيات الكريمة مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}(9) و{ُمحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(10) أن الإسلام يؤسس إلى العنف في علاقة المسلم مع الآخرين.

■ كيف يمكن الملائمة بين هذه الآيات وطرح فكرة السِّلم والسلام في الإسلام؟

● الأصل الأولي هو ما قدمنا ذكره وعلى ضوئه ينبغي أن نعالج هذه المجموعة من الآيات التي ربّما يسيء فهمها البعض، ومن خلال إساءة فهم هذه الآيات قد يقال: إنّ الأصل الأوّليّ الحاكم هو العنف في علاقة المسلم مع الآخرين، وأنّ الإسلام يؤسس إلى العنف في العلاقة مع الآخرين.

من هذه الآيات: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}(11)، هذا تأسيس إلى ثقافة المقاتلة والحرب مع الآخرين، وهي ثقافة الجهاد ولو الجهاد ضدّ الكفار وضدّ المشركين.

ويجاب عنه: بأنّ ثقافة القتال ضدّ الكفار وضدّ المشركين خاضعة إلى أحكام الجهاد، والجهاد -كما قلنا- ليست فيه نزعة سلطويّة ونزعة أنانيّة فهو مختلف تمام الاختلاف عن الإمبريالية، فالجهاد هدفه نجاة الإنسان، لا التسلط على الإنسان، يعني المقاتلة من أجل نجاة الإنسان، حتّى مع الكفار والمشركين بادئ ذي بدئ حسب ثقافة الجهاد نحن ندعوهم بدعوة سلمية، فمن جملة شروط الجهاد الدعوة إلى الله بالطرق السلمية، فلا يجوز مقاتلة الكفار والمشركين من دون الدعوة السلمية إلى الله -تبارك وتعالى- وهذا شرط مهم جداً ينبغي الالتفات إليه، ولا بد من أن يكون الداعي هو قائد الأمّة الإسلامية الذي ليست عنده نزعة سلطوية على مستوى إمام معصوم كما في روايات الجهاد الابتدائي، أو إذا وسّعنا دائرة الجهاد الابتدائي إلى من ينوّب الإمام المعصوم ويؤطّر نفسه بإطار التقوى والعدل وليست عنده نزعة سلطوية.

فلا بد أولاً من دعوة إلى الله، وليس المقصود هو مجرد الدعوة الشفهية، بل المقصود الدعوة إلى الله بالطرق السلمية التي تتمثل بالدعوة الثقافية والعمل الثقافي، فالعمل الثقافي مقدَّم على العمل الحربي والعنف حتّى في الجهاد وحتّى في المقاتلة، فمن دون العمل الثقافي لا تجوز الدعوة إلى العمل الحربي، فالحرب هي آخر الحلول كما أن آخر الدواء الكيّ.

ثم إنه لا يصح غمض النظر عن بقية الآيات الواردة في هذا المجال ففي القرآن آيات أخرى أيضًا تبحث عن الدعوة إلى الله بالطرق السلمية، مثل قوله تعالى: {تعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}(12)، فهذه دعوة إلى الله بهذا المستوى بحيث إذا كان هناك شخص من الكفار أو المشركين أراد أن يسمع كلام الله ويريد أن يصغي إلى الحقّ حتّى يعرف الحقّ فهيتدي أو يعرف الحق ولا يهتدي، يجب تأمين الأمن له حتى إذا أراد أن يبقى على كفره وعلى شركه {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}(13)، فإذا سمع الكلام وقال بأنه لا يريد أن يؤمن فلا يجوز لك أن تقتله، بل ينبغي أن تحافظ عليه وتوصله إلى بلاده بأمن وسلام، ودار الإسلام تتحوّل له دار أمان، لا دار عنف وقتل وإبادة، هذه هي أهميّة الدعوة السلمية والعمل الثقافي المقدّم على الجهاد، ثمّ الداعي هو الإنسان المهذّب الكامل وهو الإمام.

وأكثر من العمل الثقافي توجد في الإسلام حالة أخرى وهي إيجاد طريق لنجاة المظلومين والمضطهدين عن طريق الأموال كما هو. بالنسبة إلى المؤلفة قلوبهم، حيث أجازت الشريعة دفع الزكاة والضرائب الإسلامية للكفار وللمشركين من أجل جذبهم للإسلام، ولا يجوز قتلهم إذا أمكن عن طريق دفع الأموال جذبهم إلى الإسلام، هذا أيضًا عمل مقدّم.

فالذي يقاتَل ويقاوَم هو الطاغوت والفاسد والمفسِد وأئمة الكفر، هؤلاء يقاتلون {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ}(14)، وربما تكون واحدة من فلسفة قتال هؤلاء أنّهم لا عهد لهم، ينكثون العهد ويحقّقون الفساد والظلم.

إذًا ينبغي أن نفهم آيات القتال بهذه اللغة.

هذا من جهة نفس الآيات ويمكننا أن نلاحظ أيضاً تاريخ الإسلام لنرى كيف تعامل الدعاة الأوائل مع غير المسلمين وكيف طووا هذه المراحل، فبادئ ذيء بدئ بدأ الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) بثقافة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(15)، وهم لا يسمعون طبعًا، ثمّ اتسع الإسلام، ووصل الأمر بهم إلى {لكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}(16)، ثمّ أُجبر الرسول (صلَّى الله عليه وآله) على المهاجرة إلى الحبشة، ثم في النهاية إلى المدينة المنورة، وتحمّل الأذى، وفي هذا الطريق بيعة العقبة الأولى والثانية أيضًا بطرق سلمية، ثم المدينة المنورة آمنت بالطرق السلمية، فالرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) شكّل دولةً إسلاميّة بالمدينة المنورة من دون سلوك طريق الحرب أصلاً، بل لم تشرّع آنذاك آيات القتال وآيات الجهاد ثمّ جاءت آيات الجهاد لتشرّع الدّفاع {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(17) ثمّ يستمرّ الأمر بهذه الصورة إلى أن اتسع الإسلام واتسعت الدائرة الإسلامية فجاءت الآيات التي وردت في السؤال {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}(18)، لتثبّت قوة الدولة الإسلامية وعلوّ الدولة الإسلاميّة وهيمنة الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، وأنّ النظام والكيان الواحد الذي ينبغي أن يكون حاكمًا في دار الإسلام هو كيان الإسلام، ولم تسمح الدولة الإسلامية بوجود كيانات متعدّدة في وسطها، وهذا شأن كل دولة مع الكيانات التي لا تريد أن تكون تابعة لها، وهكذا الدولة الإسلامية ينبغي أن تفرض هيمنتها على الكيان كلّه، بالطرق السلمية، والحرب حالة طارئة.

هذا كله بالنسبة إلى الآية الأولى، وأما بالنسبة إلى آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(19)، فلكي تتضح هذه الآية لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الآيات فيها نوع من الاستشراف على المستقبل وبيان خصائص المجتمع الإسلاميّ القويم، وأنّ الإسلام في عصر الرسول (صلَّى الله عليه وآله) قام على مجموعة من الخصائص:

أوّلاً: الحبّ المتبادل بين أبناء المجتمع الإسلاميّ، وبين الله -تبارك وتعالى- وبين رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} حبّ الله وحبّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والانتماء إلى الله والانتماء إلى الرسول هو أقوى من الانتماء العشائري والانتماء القبائلي والانتماء القومي والإنتماء الوطني والانتماء الإقليمي وما إلى ذلك.

ثانيًا: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} من المتواضعين، تواضع يسود بين أبناء المجتمع الإسلامي وليس تكبّراً وحقداً وكراهية، فهذه ثقافة السلام.

ثالثاً: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} يعني مقابل الكفار والكيان الآخر الذي يريد أن يعتدي على الكيان الإسلامي أشدّاء مثل ما هو موجود في الآية الأخرى {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} لا يخافون ذلك ويتحلّون بالشجاعة، وهذا لا يتعارض مع ثقافة السِّلم والإسلام والدعوة إلى السلام التي هي الهدف الأساسيّ من إقامة الدولة الإسلامية.

فالآية تقول: إنّ المجتمع الإسلاميّ إذا فقد هذه الصفات صار على عكس هذه الصفات، فمثلاً بدل الانتماء إلى الله وإلى الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وصار الانتماء طائفياً أو حزبياً أو قومياً أو إقليمياً بدلاً عن الانتماء إلى الدولة الإسلامية يصير انتماء إلى الدولة القوميّة، إذا تتبدل هذه الحالة كما نرى الآن، بدلاً من أن ينتمي المسلم إلى المسلم في الحالة العامة صار عندنا في قلب الأمة الإسلامية كيانات قوميّة وجغرافية، هذا تنبّؤ أنّه في المستقبل ربّما تؤولون إلى هذه الحالة {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فبدل أن تكونوا متحابّين بعضكم مع بعض على أساس الأخوّة الإسلامية ستكونون أعزّة على المؤمنين، بمعنى المؤمن يضُدّ المؤمن الآخر، ويستخدم العنف ضده، أذلة على الكافرين بأن تكوّنوا الكيانات التابعة إلى الإسلام ذليلة أمام الكفار بدل أن تكون شديدة على الكفار مقابل اليهود والنصارى والمشركين والصليبيّين وأمثال ذلك، خاضعة لهذه الكيانات، يتركون ثقافة الجهاد، وتستبدل ثقافة الجهاد بثقافة الاسترخاء والراحة وحبّ الدنيا يسيطر عليهم!

الآية الشريفة تقول: إذا ابتليتم بهذه الحالات تفقدون عزّتكم وكرامتكم، وفي المستقبل سيوجد الله قوماً يتحلّون بصفات المجتمع الإسلاميّ القويم وسيعيد الله تعالى على أيديهم عِزّ الإسلام إلى أصله، فالخلاصة أن الآية تتحدّث عن ارتدادٍ لكنه ليس الارتداد الفقهي وإنّما ارتداد تنزيليّ منزّل منزلة الارتداد الفقهي فقوله تعالى {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} ليس ارتدادًا بمعنى الكفر، بل بمعنى أن المجتمع الإسلامي ربّما يصلّي ولكن خصائص هذا المجتمع ليست خصائص المجتمع الإسلاميّ القويم، فالآية تتحدث عن هذا المطلب، لا تتحدث عن حالة التأسيس لحالة العنف كما يتصور البعض.

الآية الأخيرة أيضًا كذلك {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(20) فهي تؤسس إلى ثقافة الرحمة والأخوّة والمودّة والمحبة والسلام، وهي إشارة إلى الثقافة التي ينبغي أن تكون هي المسيطرة بين أبناء المجتمع الإسلاميّ وبين أبناء الأمّة الإسلامية بمذاهبهم المختلفة، هذه ثقافة السلام {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار} يعني لا يذوبون في هوية الكيانات الأخرى بل يحفظون هويتهم، وهذا ليس تأسيسًا للعنف، هذا في الواقع اعتزاز بالهوية الإسلاميّة الأصيلة المتجسّدة بمحوريّة {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} وهذه الآية تريد أن تقول: الرّسول القائد هو محورٌ لأبناء الإسلام، وعلى أساس هذا المحور الأمّة الإسلامية تكون قويّة عزيزة ممانعة، هذه ليست ثقافة عنف، بل هي ثقافة انتماء وعدم انصهار في الثقافات الأخرى والكيانات الأخرى، وهذا ما أفهم من الآيات.

إذاً هذا بالنسبة إلى الإسلام والسلام، ثمّ الدعوة إلى الله هي دعوة إلى السلام كما قلنا، الدعوة إلى التوحيد؛ الدعوة إلى الشريعة؛ الدعوة إلى الأهداف السامية الإسلامية، دعوة إلى تحقيق السلام، مثلاً انظر إلى هذه الآية الشريفة التي دائمًا نأتي بها في الثقافة المهدوية {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(21)، الهدف من هذا الوعد الإلهي للمجتمع المؤمن والصالح هو تحقيق الخلافة الإلهيّة، الهدف من تحقيق الخلافة الإلهيّة هو التّمكن من تطبيق الشريعة، هو الأمن الشامل {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} هذا هو الهدف النهائي الأمن الشامل في ظلّ الأمن الشامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والنفسي والقضاء على حالة الاضطهاد والمظلومية والمحروميّة، والقضاء على حالة الجهل والفقر والتخلّف في المجتمع الإسلامي، عند ذلك تتحقّق العبادة الإلهية الحقيقية {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} وأين هذا من الدعوة إلى العنف في الآية الشريفة، والآيات على هذا النحو كثيرة.

ففي ظلّ العدل تتحقّق أهداف الأنبياء لاحظ الآية الكريمة كمثال على ذلك{لقد أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(22) هذا البأس الشديد يستخدم من أجل العدالة، في ظل العدالة يتحقق السلام الحقيقيّ، فهذا البأس والعنف هو عبارة عن القوّة من أجل السلام الحقيقيّ، ثمّ {مَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فالجهاد ليس تأسيساً للعنف بقدر ما هو تأسيس لحقوق الإنسان، والعدل الشامل.

الجهاد تأسيس للمنظومة الأمنيّة المتكاملة، وفي ظلّ المنظومة الأمنية المتكاملة يتحقق السلام الحقيقي، ولذا فوظيفة الأنبياء الأساسية هي الدعوة إلى السلام لا إلى إبادة الناس، وهذه هي حقيقة التوحيد كما يقول أحد الفاتحين الإسلاميين عندما أتى إلى قيصر كسرى وسأله: ماذا تريدون منّا؟ فقال الفاتح: «جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد»(23).

واختلاف النتائج باختلاف الدواعي إلى الفعل نرى الآن أكبر مشكلة في العالم هي مشكلة تحقيق السلام؛ وذلك لأن السلام لا يتحقق بمجرد الشعارات وإنّما بمعالجة الجذور التي يتهيأ الناس بعدها للقبول بالسلام، وعلى هذا الأساس فلنسأل: لماذا هذا العجز عن تحقيق السِّلم والسّلام في العالم؟

يبدأ تاريخ دعوى تحقيق السلام من حين بدء تكوّن عصبة الأمم المتحدّة وذلك بعد الحرب العالمية الأولى، ثم صرنا في الحرب العالمية الثانية وشكّلوا منظمة الأمم المتحدة وميثاق الأمم المتحدة من أجل تحقيق السلام طبقًا للفصل السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة، ثمّ بعد ذلك جاء إعلان حقوق الإنسان، وإلى الآن لم يتحقق شيءٌ من الأمن والسلام في العالم!

السرّ في ذلك أنّ جذور هذا السلام ابتنت على حالة القوة والعنف وسيطرة القوى التي لها حقّ الفيتو -الذي هو بنفسه ظلم-، فكيف يرجى السلام في العالم؟

وهذا بخلاف ما سار عليه الإسلام وجعله كمنهجية في تحقيق السلام حيث جعل رهن تحقق السلام عبور مرحلتين:

المرحلة الأولى: هي مرحلة الاعتراف بالآخر وبناء الثقة بين الشعوب والثقافات والحضارات على أساس العهد {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}(24) أو {َأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا}(25)، ولا يُمكن نقض العهد. هذا تأسيس للسلام.

المرحلة الثانية: هي مرحلة القبول بالتنوّع، وثقافة الحوار مع الآخر حتى الوصول إلى الحقيقة والالتزام بالحقيقة، ولو تحاورنا ولم نصل إلى الحقيقة، فالثقافة البديلة هي الرجوع إلى المرحلة الأولى أعني ثقافة العهد والالتزام بالعهود.

وكل هذا متاح للدولة الإسلامية والكيانات الإسلامية، وهو الطريق إلى تحقيق السِّلم والسلام.

المحور الثاني: الإسلاميون والسياسة

■ من الواضح أنّ الإسلام أولى السياسة مساحة كبيرة من تشريعاته وأحكامه، غير أنّ هناك إشكالاً يُطرح على الفعل السياسي للإسلاميين من جهة عدم ملائمة أفعالهم السياسية لنظرتهم الدينية، فمثلاً ترفض السياسة الإسلامية فصل السياسة عن الدين في حين نرى أن السياسي الإسلامي يتخذ من أصحاب هذه الأفكار أنصاراً له، فهل يوجد غطاء شرعي لمثل هذه العلاقات؟

● هذا السؤال رغم محوريته يصبّ حول المثالية في السياسة الإسلامية والواقعية، ثمّ هذه المحورية فيها فقرات وجهات من البحث، منها الملاءمة وعدم الملاءمة بين النظرية السياسية والفعل السياسي، أقول: هذا ليس خاصًّا بالإسلاميّين فقط، بل يعمّ الإسلاميين وغير الإسلاميين، إذا كانت هناك مجموعة سياسية تتبنى نظرية سياسية، لكن لا يطبّقون هذه النظرية في أدائهم وسلوكهم، فإنّ علمهم يخالف عملهم، وهذا الفرق له دواعٍ وأسباب عديدة جدًّا، من جملة هذه الأسباب عدم الالتزام بالنظرية السياسية، فقد تكون النظرية السياسية كغطاء وآلية تستخدم لأهداف وطموحات سياسيّة.

بل قد يتبنى البعض منهم السياسة الماكيافيلية (الغاية تبرر الوسيلة)، فلو كانت الغاية هي السلطة مثلاً، فهم يطالبون بها بأي وسيلة وطريق، فالسياسي ربّما يتحدّث عن الأخلاق وعن المثُل والقيِم والمبادئ، لكنّ سلوكه السياسيّ يختلف تمام الاختلاف مع نظرياته.

لاحظ مثلاً الآن في الديمقراطية المعاصرة الكثير يدّعون الديمقراطية في التنظير السياسي وأما في العمل فهم مع الديمقراطية إذا كانوا على رأس السلطة، فلو خسروا السلطة انقلبوا على الديمقراطية، كما حصل عندما انتصر الإسلاميون في الجزائر (جبهة الإنقاذ الإسلاميّ) وفي زماننا هذا (الإخوان المسلمون)، الآن بغضّ النظر عن تحليل الأمر بشكل تفصيلي، لكن الجهة المقابلة والتي كانت تدّعي الديمقراطية لم تتحمل ديمقراطيتها أن ترى تقدم الإسلاميين؛ لأنّ انتصار الإسلاميين لا يصبّ في صالحهم، فهذه الازدواجية بين السلوك والنّظر موجودة عند الكثير من السلطات والحكومات المعاصرة ولا يتحملون الديمقراطية؛ لأنّها ليست لصالحهم كما نرى الآن في الغرب، فالغرب يريدون الديمقراطية وينادون بالديمقراطية أو يدّعون الديمقراطية لبعض الشعوب ويقفون ضدّ الديمقراطية وضدّ بعض الشعوب، فالديمقراطية في البحرين مثلاً محظورة، لكن ديمقراطية التكفيريين مطلوبة!

فالذي يقع في سوريا اليوم مؤامرة كبرى وليست مجرد معارضة ولكنهم يدعمونها، والذي يقع في البحرين مطالبة بحق الانتخاب العادل وتشكيل برلمان واقعي لا أكثر ولا أقلّ، ولكنهم يرونه أمراً محظوراً وممنوعاً وطائفياً.

أما الازدواجية بين السلوك السياسي والنظرية الدينية، فقد يكون ناتجاً من كون المتبني للنظرية الدينية لا يعرف منها إلا الاسم وعملهم في الواقع ينصبّ على تحصيل السلطة الشخصية، كما رأينا في زمن دولة الكليسة والكنسية في عصور قبل الإصلاح، وفي زمن القرون الوسطى نظرية الحق الإلهي المباشر وغير المباشر والتفويض الإلهي وأمثال ذلك، فإنّ الحاكم بعد سيطرته على الدولة يتحول إلى إله يُعبد من دون الله. وهذا السلوك مرفوض بشكل واضح لا يقبل النقاش والتأويل.

وأما إذا أردنا التحدث عن السياسة والنظرية السياسية الإسلامية فإن أول ما ينبغي أن نتحدث عنه هو التقوى، فالسياسة الإسلامية مبتنية على التقوى وأوّل شيء ينبغي أن يُعالج عند السياسي الإسلامي هذه الازدواجية بين السلوك السياسي والنظرية السياسية.

فأوّل ما يُطلب من السياسي في الإسلام ألا يكون عنده ذرة حبٍّ لذاته، فإذا كان عنده حبٌّ للذات ويعمل لأجل ذاته ونفسه وسلطته، فإنّه لا يتبنى النظرية الإسلامية في السياسة، فالسياسي الإسلامي عندما يدخل وينظر للعمل الاجتماعي والسياسي ينظر بعنوان أنّه أمانة في عنقه ويتحرك وِفق المبادئ العادلة (الأمانة، العدالة، التقوى، الصدق، خدمة النّاس، الحِرص على رفع المعاناة من الناس والاضطهاد عن الناس في الواقع، تقديم خدمة دينية للناس)، هذا المطلوب في السياسة الإسلامية.

هذا ما يتعلق بالشقِّ الأول من السؤال، أما الشق الثاني والمتعلق بمسألة الغطاء الشرعيّ للتعاون مع غير الإسلاميين، فهو في الحقيقة يبتني على الغايات المشتركة، فمثلاً إذا تشكّل حِلفٌ وجبهةٌ لرفع الظلم والمعاناة عن المواطن، واشترك في ذلك المتبني للفكر العلماني والمتبني للفكر الإسلاميّ من باب المحافظة على حقوق الإنسان، فما الإشكال فيه؟

فالعمل في ضمن الحدود التي يتفق عليها أصحاب الأفكار والآراء المتباينة لا تُشكّل تناقضاً بين النظريّة والفعل السياسي، فالنبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) في زمانه شكّل حِلفَ الفضول قبل الإسلام، ولو دعت الحاجة إلى تشكيل حلف فضول آخر لانتمى إليه أيضاً.

فالدفاع عن العدل والحقّ ومجابهة الظالمين والدعوى إلى الديمقراطية وغيرها من النقاط المشتركة بين العلماني والإسلامي لا يوجد فيه أيُّ اشكال، وإنما يأتي الإشكال فيما لو استلزم هذا الاتفاق تنازل الإسلامي عن المبادئ الإسلامية، فإنه مرفوض جملةً وتفصيلاً.

■ لو تفضلتم بالتفصيل أكثر في الحدود التي تفرضها الشريعة في علاقة السياسي الإسلامي بباقي التيارات والأحزاب السياسية، وخصوصاً الأحزاب التي ترفض تدخل الدين في السياسة؟

● هناك الثابت وهناك المتغير، فالثّابت يشكّل مساحة القيم والمبادئ والمثُل العليا، والمتغيّر يشكّل الدائرة والمساحة الواقعية التي يتحرّك فيها السياسيّ الإسلاميّ للوصول إلى هذه القِيَم والثوابت حسب متطلبات كل عصر وزمان، وهذا لا إشكال فيه.

مثلاً -والمثال واقعيّ- ما حدث في العراق، فالعراق احتُلّ من قِبل الأمريكان، وطردُ المحتلّ واجب شرعيّ ومن الثوابت، ولكن هل طرد المحتلّ فقط عن طريق السلاح والمقاومة؟ فإذا كان السلاح والمقاومة لا يوصلان إلى نتيجة فماذا نفعل؟ فهنا لا بد من اللجوء إلى حلول أخرى.

المرجعيّة الدينية في العراق تبنّت حلولاً واقعيّة تنسجم مع النظرية الإسلامية، وذلك وفق الترتيب التالي:

أوّلاً: طرح فكرة الديمقراطية، وأن لكلّ مواطن عراقي صوتاً واحداً، لماذا نادت المرجعيّة بالديمقراطية؟؛ لأنّ الديمقراطية طريق واقعيّ لطرد المحتلّ، فالمحتلّ الأمريكي ينادي بمبدأ الديمقراطية، فالمرجعية قالت: إذا تريدون الديمقراطية فباسم الله: استفتاء، دستور، احتكام إلى صناديق الاقتراع، هذه سياسة واقعية تنسجم مع المثُل والقيم، فالقيم والمثُل ماذا تقول؟ الديمقراطية تكون سببًا لطرد المحتلّ والقضاء على حالة الظلم والاضطهاد، وهذا مندرج ضمن القاعدة الشرعية: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»، وهذه سياسة واقعية، هم ألزموا أنفسهم بالديمقراطية فلا بدّ من أن يلزموا أنفسهم بما يترتب على الديمقراطية.

ثانيًا: تحريم التعامل مع المحتل الأمريكي، ومساعدة الظالمين، هذه كذلك سياسة واقعية.

ثالثًا: عدم إعطاء صبغة رسمية لواقع الاحتلال عن طريق رفض مقابلة المحتلّ، مثل "برايمر" حينما طلب اللقاء مع سماحة السيّد السيستاني (دام ظله) المرجع الأعلى في النجف الأشرف، ولكنّ السيّد لم يسمح له ولم يلتقِ به، حتّى أنّ (برايمر) بعد أن عجز عن مبتغاه طلب السماح له بشرب الشاي في مكتب السيّد من دون لقائه، والظاهر بأنّهم لم يسمحوا له أيضًا.

هذه سياسة واقعية سبّبت شيئًا فشيئًا طرد المحتلّ من خلال الطرق السلمية.

رابعًا: تحريم التكفير، والدعوة إلى الأخوّة الإسلاميّة، ومجابهة الفتنة الطائفيّة والمذهبيّة في العراق حسب متطلبات الوضع هناك، ودعوة أبناء الشيعة والسنة وجميع المكوّنات السياسية في العراق إلى خطاب الوحدة، وهذا أثّر تأثيره الكبير.

فالواقعية الإسلامية وفقًا للنظرية الإسلامية عالجت الواقع السياسي، فيمكن أن نجمع بين النظرية والواقع السياسيّ، فالواقع السياسيّ قد يُملي علينا ظروفًا لا بد حينها من معالجاتها بما يتوافق مع النظرية الإسلامية، مثلاً إذا لاحظنا المعاناة التي في البحرين والاضطهاد، ولاحظنا الخطة العامة التي رُسمت من قِبَل المجلس العلمائيّ، فهي خطة حكيمة، والشعار الذي أطلقه المجلس العلمائيّ -كما تفضلتم- (الإسلام سياسة وسلام) دعوة للسلام والسِّلم والديمقراطية وحفظ حقّ المواطن وفقًا للأُطر المتفق عليها دوليًّا، ودعوة الحكومة للحوار الواقعيّ من دون تنازل عن واقع الظالمين، والحالة التصعيدية التي تتبناها الحكومة من أجل ظلم الشعب البحريني ومواجهة الحالة التصعيدية؛ لأنّ الحكومة تصعّد من الاضطهاد والإسلاميّون هناك يصرّون على مواصلة الطريق من أجل الديمقراطية الواقعية وتشكيل البرلمان الواقعي، وأن يكون لكلّ مواطن حقّ الانتخاب، ومطالبة الحكومة بالالتزام بالميثاق الوطني الذي أطلقته هي - وهي غير ملتزمة بالميثاق الوطني- ففي مثل هذه الحالات لا منافاة في أن العلماني والإسلامي وجميع المكونات الأخرى والطوائف والمذاهب يتّفقون على أنّ لكلّ مواطن حقّ الانتخاب، والمطالبة بتشكيل برلمان واقعي فهذا سقف تحت الحقوق المشتركة، هذا الواقع، وهذا ينسجم مع النظرية الإسلاميّة؛ لأنّه في النهاية يؤدي إلى رفع الظلم والاضطهاد والمعاناة عن الشعب البحريني.

■ قد تكون هناك خصوصية للبحرين خصوصًا مع العلمانية، فقبل خمس سنوات تقريبًا أطلق العلماء حملة ضدَّ العلمانية، وقد كان على رأسهم سماحة الشيخ عيسى أحمد قاسم (أيَّدهُ الله) حيث تكلّم عن العلمانية، ونادى في خطبة الجمعة: "فلتسقط العلمانية"(26)

● لا يوجد إشكال في ذلك، فالعلمانية نظريًّا لا نتبنّاها، ولكن في العمل المشترك ووجود أهداف مشتركة بيننا وبينهم مثل الديمقراطية، وكان العلماني صادقًا في كلامه بالنسبة إلى تشكيل البرلمان الواقعي، فهل يوجد إشكال؟

ونحن هنا لا نريد الخوض والتكلم بالنسبة إلى الواقع المعاش في البحرين، فالواقع المعاش في البحرين من المواضيع الداخلية ويرجع في تشخيصها إلى المجلس العلمائي فهو المتَّبع في ذلك، وأما كلامنا فهو على المستوى النظريّ والتنظير بشكل عام، ولا نريد أن نهدف إلى حالة خاصّة، وليكن هذا واضحًا.

■ وهل مثل هذا الكلام يجري فيما قد تفرض السياسة أحياناً من الاستعانة بدول معادية للإسلام بشكل واضح كأمريكا وبريطانيا وغيرهما من الدول والدخول معهم كحلفاء أو وسائط، مما يعتبره البعض نوع ركون واستعانة بهذه الدول، وبما أن الغاية لا تبرر الوسيلة هل هناك مبرر واضح من ناحية شرعية وسياسية يبرر اتخاذ هذا الطريق كوسيلة للتوصل إلى تسويات سياسية؟

● قلنا الاشتراك في العمل لتحقيق الأهداف المشتركة كرفع المعاناة والظلم والاضطهاد لا إشكال فيه، مثلاً الإمام الخميني (قدِّس سرُّه) في وقته كانت جميع التيارات تعمل داخل إيران، وهدفها المشترك إسقاط الشاه، لكنّ خط الإمام (قدِّس سرُّه) كان واضحاً فهو ينادي بتشكيل حكومة إسلامية، فالذي يريد أن يساعد الإمام في إسقاط الشاه فليساعد، وكذلك قد تفرض السياسة الاستعانة بدول معادية للإسلام بشكل واضح كأمريكا وبريطانيا وغيرها من الدول والدخول معهم كحلفاء أو وسائط، وبما أنّ الغاية لا تبرر الوسيلة فهناك مبرّر واضح من ناحية شرعية وسياسية يبرّر هذا الخيار كوسيلة للتوصل إلى تسويات سياسية.

في الحقيقة -وهذا لا بدّ أن يكون واضحًا- نحن نعتبر أمريكا الشيطان الأكبر، وأن سياستها مع المسلمين هي سياسة المكر والفرقة والعداء والبغض والحقد وكذلك بريطانيا، فأمريكا وبريطانيا لا تريد أن تخدم الإسلام ولا تريد أن تخدم المواطنين والأمّة، فالعمل وكلّ تسوية سياسية بمرجعية أمريكيّة وبريطانية هذا يؤدي مسيرها في الواقع إلى الانحراف والضلال والتيه وعدم الوصول إلى الغاية المرجوّة، ونحن لا نقول بهذا الأمر وهذا خطّ أحمر عندنا في الحقيقة.

فإن جعل المرجعية للتسوية أمريكا وبريطانيا تناقض، فبريطانيا وأمريكا هم من سلّطوا الحكومات على الشعوب في المنطقة وهذه الحكومات لها حلف استراتيجي مع أمريكا ومع بريطانيا لذلك أمريكا وبريطانيا لا تتنازلان من أجل الشعوب ضدّ الحكومات العميلة لهم ولم يأتِ يوم ولا ساعة أرادت فيها أمريكا خدمة الإسلام والشعوب الإسلامية، لكن إيصال صوت الحقّ عن طريق منظمات حقوق الإنسان والرأي العام والإعلام العالمي ورسم الصورة الصحيحة لمعاناة الشعوب ومطالبة المنظمات العالمية وفقًا للمواثيق والعهود العالمية وإيصال الصوت وفضح السياسة الأمريكية والبريطانية في هذا الأمر مفيدٌ جدّاً فقد توجد في داخل أمريكا وفي داخل بريطانيا أصواتٌ حرةٌ شريفة غير تابعة لنهج السياسة العامة الحكومية، وهذا في الواقع مما يساعد واقع الشعوب المظلومة والمضطهدة، فبهذا المقدار الأمر لا بأس فيه وغير مرفوض شرعًا وأخلاقًا وقانونًا ودينيًّا، ويمكن تشبيه ذلك مناداة الإمام الحسين (عليه السلام): «يا آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارًا في دنياكم»(27)، فالإنسان يخاطب أحرار العالم والضمائر الحيّة لمساعدة المظلومين من أيّ دين كانوا أو مذهب أو طائفة، فهذا أمر محبّذ شرعًا وواقعًا ووجدانًا.

أما الرجوع إليها كمرجعية في التسوية ازدواجية وتناقض، ومصيره حسب التجربة إلى الفشل الذريع، والقضاء على الحركة الإسلامية، ولكي تتضح الصورة أكثر فلنلاحظ بعض التجارب القديمة والحديثة في هذا المجال وما هي النتيجة التي وصلت إليها، مثلاً الحالة الأفغانية بعض الحركات الإسلامية في أفغانستان مع الأسف اعتمدوا على أمريكا وعلى ألمانيا وعلى بريطانيا، حيث قالوا: إن القوّة بيد هؤلاء، فلعبت هذه القوى بمصيرهم وسلّطت طالبان على الحكم، ثم طالبان قامت بذبح هذه الحركات الإسلامية، وإلى الآن تجد نفس أمريكا وهذه الدول تجري صفقات مع طالبان؛ لأنّ طالبان ولِيدهم.

وخذ مثالاً آخر، حركة الإخوان المسلمين -في مصر- فمن الأخطاء الاستراتيجية لها أنّها اعتمدت على الأمريكان وعلى بريطانيا والدول الغربية وفي ساعة الشدة تركوهم، وفي الواقع سحبوا البساط من تحت أرجلهم لصالح التيار الليبرالي، والانقلاب ضدّ  الثورة الشرعيّة، فهذا نموذج ثانٍ وهناك نماذج أخرى يُمكن ذكرها أيضًا.

■ في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة ظهرت شعارات الإسلام السياسي وما لبثت أن خفقت وسقطت أمام إرادة الشعوب، أين يكمن الخلل في هذه التجارب؟

● نحن لسنا مع هذا الشعار، بل نحن مع الإسلام المحمديّ الأصيل الذي يتضمن معارف شاملة وجامعة تحتوي على جوانب سياسية واجتماعية واضحة، فإذا جئنا إلى تقسيم الإسلام إلى: إسلام سياسي، إسلام غير سياسي، إسلام ثوري، إسلام غير ثوري، إسلام ناطق، إسلام ساكت، إسلام...، هذه التقسيمات {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}(28).

نعم، التقسيم الذي جاء به الإمام الراحل الخميني (قدِّس سرُّه) بأنّ الإسلام إمّا أن يكون إسلامًا محمديًّا أصيلاً أو إسلامًا أمريكيًّا، ونعني بالإسلام الأمريكي: الإسلام المغلوط، الإسلام المعكوس الهزيل الذي تريده أمريكا، الإسلام المفرّغ والخالي من المضمون، العاري عن المضمون الحركي الحيّ المقارع للظلم، هذا هو الإسلام الذي تريده أمريكا، وهذا أمر واضح.

طبعًا بالنسبة إلى حركات الصحوة الإسلامية فنحن بنظرنا الصحوة لا زالت في البدايات، وقطعًا ستستمرّ؛ لأنّ الصحوة هي صحوة الشعوب، وصحوة الشعوب تبتني على عناصر:

العنصر الأوّل: الاعتزاز بالهويّة الإسلاميّة، اليوم كلّ مسلم من شعوب المنطقة يعتزّ بالإسلام، وهذه الحركات وهي حركات الشباب في العالم الإسلامي بدأت من المساجد بشعار (الله أكبر)، من صلوات الجمعة، مع تعدّد التيارات والاتجاهات والمذاهب، ولكنّ الأساس فيها: الاعتزاز بالإسلام.

العنصر الثاني: المعاداة لأمريكا والصهيونية، فهذا أيضًا من عناصر الصحوة الإسلاميّة، وفي تصوّري أنّ شعوب المنطقة تتنفّر أكثر من أيّ وقت آخر من أمريكا والصهيونية، ويعتبرون أساس المشكلة هو أمريكا والصهيونية.

العنصر الثالث: وهو مهم أيضًا، تبنّي المشروع الإسلاميّ الحضاريّ؛ لأنّ الإسلام مشروع حضاريّ تستطيع الحضارة الإسلامية أن تقدّم مشروعًا بديلاً عن الحضارة الغربيّة والليبرالية وغيرها.

هذه العناصر الثلاثة موجودة الآن في العالم الإسلاميّ، وما حدث من أخطاء في الحركة فهو راجع إلى النُّخب والأحزاب والتيارات، وليس راجعاً إلى الشعوب، فالشعوب لا زالت متحركة ومتأثرة وتبحث عن الحلّ الأصيل، فلاحظ هذا كنموذج، أخطاء الإخوان في مصر أو أخطاء الإسلاميين في مصر:

الخطأ الأوّل: في مرحلة التطهير، فإن أيَّ ثورة تريد أن تنجح لا بدّ من أن تمرّ بمراحل: التحرير، وبعد التحرير التطهير من الحالة المضادّة للثورة في الأصل، وبعد التطهير تحتاج إلى ترشيد ووعي بالجمهور، وبعد ذلك التثبيت عن طريق المؤسسات الدستورية الصالحة.

لكنّ الثورة في مصر بعد مرحلة التحرير لم تأتِ إلى مرحلة التطهير، بل الكلّ بقى في الحكم فلم يتغيّر شيء، والإخوان المصريّون نادوا: الشعب يريد إسقاط النظام، لكنّ هذا الإسقاط تحوّل في الحقيقة إلى (إصلاح النظام)، وذلك لأنهم قاموا بعملية استفتاء لا على الدستور، بل على إصلاح الدستور، مما يعني تثبيت الدستور السابق، هذا هو الخطأ الأوّل.

الخطأ الثاني: جميع المؤسسات الدستورية التي كانت في الحكومة السابقة بقيت على حالها، السلطة القضائية والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية بكلّ تفاصيلها، والذي تغيّر هو بعض الرموز والأشخاص فيها، ولم تأتِ مؤسسات أخرى.

الخطأ الثالث: عدم تشكيل مؤسسات ثورية جديدة تفرضها الحالة الجديدة للحفاظ على الثورة، كالحالة التي صارت في الجمهورية الإسلامية؛ إذ تشكّل حرس الثورة الإسلامية ولجان الثورة الإسلامية، وهذه الحالة لم تشكّل في مصر.

الخطأ الرابع: انتهاج سياسة خطوة خطوة، التي تقابل سياسة الثورة مع الصهاينة والتي تتمثل بإبقاء (كام ديفيد)؛ إذ لم يتغيّر شيء في مصر من جهة التعامل مع هذه المعاهدة.

الخطأ الخامس: عدم تعاملهم الصحيح مع باقي الفصائل المشاركة في الثورة، وهذا السبب هو الذي ولّد حركة تمرّد، والدولة والحكومة وطبعًا الجيش والجماعة المعاندين للثورة استغلوا حركة تمرّد للانقلاب ضدّ الشرعيّة، وبعد ذلك نفس حركة تمرّد صارت ضحيّة للانقلابيّين.

الخطأ السادس: -و هو من أخطائهم الفادحة- أنّهم لم يحسنوا الظنّ -مع الأسف- بالثورة الإسلامية والقيادة الرشيدة لعمدة الثورة الإسلامية، فإن الجمهورية الإسلامية وظّفت جميع إمكاناتها لصالح الإسلام والمسلمين، ولكنهم في قبال ذلك أساؤوا الظنّ بالثورة الإسلاميّة وأغلقوا الأبواب على الثورة الإسلاميّة، وأخذوا يقعون في فخّ التّكفيريّين، فصاروا متحالفين مع التكفيريّين، وأوجدوا البغض والكراهية ضدّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) من دون مبرّر، وأغلقوا الأبواب على الجمهوريّة الإسلاميّة، بينما كانت الجمهورية الإسلامية تريد لهم الخير، ولا تريد التدخل في شؤونهم.

ومرجع تمام هذه الأخطاء ومكمن السرّ فيها هو عدم وجود قيادة واعية قادرة على وعي المرحلة والأخذ بزمام الأمور.

هذا نموذجٌ، وإذا أردنا ذكر بقيّة النماذج سيطول المقام.

■ ما هو المطلوب الأكثر إلحاحاً على السياسيين الإسلاميين في هذه المرحلة هل هو مجرد التنظير لحاكمية الإسلام على بقية المذاهب السياسية، أم السعي لقيادة الأمّة والنهوض بها نحو تحقيق حكومة إسلامية؟

● لا بد لنا أولاً من التوقف عند حقيقة المشروع الإسلاميّ في المنطقة، ولكي يتجلى لنا ذلك بوضوح نقول: يوجد عندنا في المنطقة مشروعان:

مشروع إسلاميّ الذي يدعو إلى صحوة إسلاميّة، وعي إسلاميّ، وحدة إسلاميّة، أخوّة إسلاميّة، تشكيل مجتمع صالح، الاعتماد على الذات، إعادة بناء الأمّة الإسلاميّة القويّة، العمل المشترك من أجل تشكيل مجتمع مؤمن صالح آمن مطمئنّ قويّ متماسِك راشد متحضّر شاهد على باقي الأمم، ونحن نستطيع أن نشكّل هذا المجتمع البنّاء الرشيد.

المشروع الآخر وهو المشروع المضادّ، المشروع المضاد هو المشروع الأمريكيّ المشروع الليبرالي المشروع الصهيوني، ولا يوجد مشروع ثالث في المنطقة، المشروع الأمريكي الصهيوني نحو الانحدار والمشروع الإسلاميّ يعيش عصر الانتصارات، هذا أوّلاً.

والمهم في هذه المرحلة -في تصوّري- هو نبذ ورفض الخلاف الطائفي المذهبي المناطقي المحلّي، وتكثيف الجهود وتوحيد الصفوف والطاقات والقابليّات، والعمل المشترك الذي يتجاوز الحالات الخاصّة والشخصيّة للوصول إلى الغاية المطلوبة، وهذه المسؤولية تقع على عاتق النُّخب والمصلحين والمراجع الفكريّين والعلماء والقادة، بأن يكثّفوا اللقاءات المشتركة ويعرفوا أهميّة المرحلة ويوحّدوا الصفوف مقابل الكفّار والمشركين ومقابل التكفيريّين الذين يجرّون الأمّة الإسلامية إلى وادٍ سحيق، فإن التكفير اليوم يمثّل أكبر خطر على الإسلام والمسلمين والمشروع الإسلاميّ، حيث تحوّل التكفيريون إلى أداة بيد أعداء الإسلام.

هذا هو المطلوب المهم في العصر الحاضر وتحقيقه يحتاج إلى مقدار كبير من البصيرة والوعي والمقاومة والصبر لإكمال المشروع، وهذا كلّه في الواقع من القضايا التي يجب أن نتوجّه إليها.

المحور الثالث: السياسة وواقعنا الشيعيّ

■ مِن أهم الاتهامات التي توجّه لأيّ حراك شيعي هو ارتباطه بالخارج وعلى الخصوص الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هل لهذا الاتهام واقع؟

● المرجع في هذه الاتّهامات في الحقيقة هو أنّ الدولة الإسلاميّة في إيران من ناحية المرجعية الفكرية قامت على أساس مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، لكن في الوقت الذي قامت فيه الجمهورية على أساس مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لم تتبنّ فكرًا طائفيًّا ومذهبيًّا، بل انطلقت من أوّل يوم لتبنّي المشروع الإسلامي وخدمة الإسلام والمسلمين من أيّ مذهب كانوا، فمِن أوّل يوم للجمهورية الإسلاميّة تبنّت القضية الفلسطينيّة، وإلى اليوم فإن هذه القضية من القضايا المحوريّة المركزيّة للأمّة الإسلاميّة، وفي هذا السياق يقع إعلان الإمام الخميني (قدِّس سرُّه) ليوم القدس العالمي.

وهكذا الحال بالنسبة إلى جميع الخصوصيّات التي تتعلّق بالمسلمين بشكل عام، فالجمهوريّة الإسلاميّة لها وجود فيها، لكن هذا الاتّهام لماذا؟ لأنّ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) برزت على الساحة وصار لها كيان وتواجد عالميّ، فأخذت دوائر الاستكبار العالميّ إلى جنب أنّها تروّج البغض والكراهية إلى الإسلام، كذلك تروّج البغض والكراهية إلى التّشيّع والبغض والكراهية لإيران، حتى كأنّما إسلام فوبيا اندمج مع شيعة فوبيا وإيران فوبيا وهذه صارت عبارات فيها مضمون مؤقت، والأصل يرجع إلى التخوّف من الإسلام وليس التخوّف من الشيعة في الحقيقة، والمروّج إلى هذه الاتّهامات هي الدوائر والمخابرات الأمريكيّة والبريطانية وأمثال ذلك، والأبواب هي ربّما أبواب شيعيّة وأبواب سنيّة ضد الجمهورية الإسلاميّة التي تتحدّث عن هذا التدخل، ويأتون بنماذج مثل لبنان، ونحن على عكس ذلك نأتي بنموذج لبنان بعنوان خدمة الإسلام والقضيّة الفلسطينيّة، فصحيح أنّ حزب الله في لبنان في الواقع هو من ناحية فكرية شيعيّ اثني عشريّ، ولكن كما قال الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله: "حزب الله هكذا على عهد القضية الفلسطينية وتحرير لبنان من المحتلّين وخدمة اللبنانيّين".

وعلى عكس ذلك، فنحن نأتي بلبنان كمثال بأنّ الجمهورية الإسلامية لا تتدخل بل تساعد، القرار في حزب الله قرار لبنانيّ، الآن حزب الله استطاع أن يؤلّف بين الموالاة للوطن والانتماء العقائدي، فالانتماء العقائدي للقيادة الإسلاميّة ولولاية الفقيه لا يتنافى مع الموالاة للوطن. عندما اتّهم السيد حسن نصر الله وحزب الله بأنّ حزب الله حزب ولاية الفقيه، قال: نحن نفتخر بأنّ حزب الله حزب ولاية الفقيه، لكن قرارنا لبناني، وفي النهاية حزب الله قدّم مشروعًا حضاريًّا عن طريق المقاومة لخدمة لبنان، والقرار في لبنان قرار داخلي لا ربط له بالجمهورية الإسلامية.

فهذه الحالة نستطيع أن نعمّمها، بعبارة أخرى: نستطيع أن نجمع بين الانتماء العقائدي والاعتقاد بالمرجعيّة الشيعية وولاية الفقيه، والانتماء للوطن والمواطنة عن طريق العمليّة الديمقراطية والواجبات والحقوق المتبادلة بين الدولة والمواطن، بين الحكومة والمواطن، والمواطنون في أيّ بلد من البلدان يتصرفون وفقًا لقناعتهم الداخليّة، لكن على أسس وضوابط شرعيّة.

فهذا السقف الشرعيّ لا يعني تدخل الجمهورية الإسلاميّة، هذا بالنسبة إلى السؤال الأوّل.

■ أليس موقع إيران الإقليمي يقتضي منها التدخل؟

● إيران دولة إقليميّة لكن من دون أن تتدخل في الكيانات الداخليّة، نعم الشعوب ربّما تنتمي كانتماء عقائدي أو انتماء دينيّ لولاية الفقيه أو لمرجع من المراجع، وهذا المرجع سواء كان في النجف أو في قم أو في طهران، المرجعية ليس لها ربطٌ بالتدخل، مثلاً -وإن كان هذا المثال ليس له شبه بالحالة الشيعية- الفاتيكان والمسيحيّين في العالم فهل إذا كان مسيحيّ في العالَم يتبع الفاتيكان يعتبر على حساب المواطنة لدولته!؟

فهذا شيء وهذا شيء آخر، فكما في لبنان لدى المسيحي اللبناني نوع انتماء إلى الفاتيكان لكن ليس على حساب لبنان، أو المسيحي في بريطانيا ليس على حساب بريطانيا، وهكذا هنا المسلم الشيعي في المنطقة عندما يقلّد مرجع تقليد في النجف أو في قم أو في طهران أو يتبع مبدأ ولاية الفقيه فهذا لا يعني تدخلاً.

■ بالنظر إلى أن الكثير من المسائل الفقهية المرتبطة بالشأن السياسي مرجعها إلى المواضيع الخارجية الموكول أمر تشخيصها إلى المكلّف، فما هو دور الفقيه في ذلك؟

● دور الفقيه في ذلك هو بيان القضايا الفقهيّة بشكل كلّي، لكنّ التشخيص الموضوعي في الأصل راجع إلى الوليّ الفقيه في القضايا العامّة الإسلاميّة من منطلق «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله»(29).

والفرق بين المرجعيّة والولاية هنا: أن المرجع يفتي في القضية الكليّة، لكنّ الفقيه الوليّ الزعيم يتصدّى للشأن السياسيّ والاجتماعيّ بشكل ميدانيّ، وهذا إنما يتم بالنسبة إلى المشروع الموحّد للأمّة لا القضايا الجزئية المحليّة، أما القضايا الجزئية المحلية فهي موكولة إلى علماء البلد الأدرى بتشخيص الموضوع، وتكون عندهم وكالات من المراجع ومن الولاية وأمثال ذلك، فالأمور موكولة إلى علماء البلد، فمثلاً في البحرين الأمر موكول إلى المجلس العلمائيّ وصياغته الداخلية، فهم أدرى بما يرتبط بالأمور الداخليّة.

■ هناك بعض الأمور تتطلب تدخل الفقيه مباشرة مثل خروج مسيرة، فإنّه يزاحم حقّ الناس في الشارع فلذلك يحتاج إلى إجازة مباشرة من الفقيه؟

● هذه الأمور السياسيّة الاجتماعية العامة يُرجع فيها إلى فقهاء البلد، أو في البحرين ترجع الأمور إلى تشخيص المجلس العلمائي، ولا نستطيع أن ندخل في التفاصيل، أتصوّر بهذا الشكل يكفي.

■ أقصد أنّ بعض الأمور لا بدّ فيها من التدخل المباشر للفقيه كحالة صدّ العدو.

● مثل حالة الدفاع الفقيه ربّما يعطي إذنًا عامًّا، والوصية في القضايا العمومية كحرمة السكوت مقابل الظالم فهذه قضايا عامة، والنهي عن المنكر مثلاً، وإجازة الفقيه محليًّا قابلة للحلّ وليست إلزامًا عامًّا، نعم في القضايا المرتبطة بالأمّة مثل يوم القدس فهذه حالة عامة إسلامية، الإمام الراحل كان يدعو إليها والسيّد القائد يدعو إليها، أو الخطاب العام والوصاية العامة التي تكون لحجاج بيت الله الحرام، فهذه حالة عامة، لكنّ الأمور التي تتعلق بالبلد هي راجعة إلى علماء البلد وبحسب الوكالات وبحسب الإذن والتوكيل وأمثال ذلك.

■ هل لا بدّ من أن يكون المتصدّي للقيادة فقيهًا، أو يكفي التصدّي من الشخص العارف بالأمور السياسيّة، هذه إشكاليّة كبيرة في البحرين؟

● الوارد في الروايات هو «وأمّا الحوادث الواقعة...»، الحوادث جمع محلّى بأل، وكما يقول الشيخ الأنصاريّ في المكاسب: ليس أحكام الحوادث، وإنّما نفس الحوادث الواقعة [حيث قال: "فإن المراد من الحوادث ظاهراً مطلق الأمور التي لا بد من الرجوع فيها عرفا أو عقلا أو شرعا إلى الرئيس... وأما تخصيصها بخصوص المسائل الشرعية، فبعيد"(30)] يعني القضايا السياسيّة الاجتماعيّة، لا بدّ من أن يتصدّى إليها الفقيه؛ لأنّ الأمور قد تتوقف في الواقع على إسالة دماء وانتهاك أعراض وأموال، وهذه القضايا وبلا أدنى شكٍ تحتاج إذنًا من الفقيه، وغير الفقيه لا يجوز له أن يتصدّى، هذا بشكل عام.

وهناك تجارب عديدة، البحث عنها يطول جدًّا، وليس عندنا مجال لكي نتحدّث عنها، وهذا السؤال يحتاج إلى حلقات، لكن باختزال، تجربة الثورة الإسلامية أدّت إلى تشكيل دولة وكيان، وهذا الكيان قد استمرّ إلى هذا اليوم فبلغ 35 سنة، والدولة الإسلاميّة تحوّلت إلى دولة إقليميّة، وهذه التجربة قامت على المرجعيّة الفكريّة والسياسيّة للإمام الخميني (قدِّس سرُّه) وخط الإمام، والآن هذه الراية يرفعها السيّد القائد، نحن في رأينا أنّ خطّ الإمام الخامنئي (أيَّدهُ الله) هو التجربة الناجحة والرائدة والمفيدة للتصدّي للكفار وأعداء الإسلام وللنهوض بالأمّة الإسلاميّة، وهذه التجربة الإسلامية الناجحة يجب الالتفاف حولها ودعمها ونصرتها والوقوف إلى جانبها، ولا ننسَ أنّ الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدِّس سرُّه) الذي هو من روّاد الفكر الإسلاميّ والسياسيّ والاجتماعي، قد بارك مشروع حزب الدعوة وأمثال ذلك، وهو في النهاية بعد انتصار الثورة الإسلاميّة كتبَ كتابه "الإسلام يقود الحياة"، ووجّه رسالة إلى تلامذته، وقال: "ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام"، وقال: "الهدف من المرجعية نصرة الإسلام وطالما الإمام الخميني رفع راية نصرة الإسلام، ينبغي علينا كلّنا أن ندعم ونخدم هذا المشروع الإسلاميّ"، وهذه أيضًا شهادة من الإمام الصدر (رحمه الله).

المحور الرابع: السياسة وطالب العلم

■ يشغل طلبُ العلم مساحةً كبيرة من أوقات طلبة العلم بدرجة قد تؤثر في اهتمامهم بالشأن السياسي، فما هي وظيفة طالب العلم المشتغل بالتحصيل خصوصاً في خارج البلد تجاه هذه الأمور؟ وما هي المساحة المطلوب منه شغلها في الجانب السياسي؟

● لكي نقف على جواب واضح لهذا السؤال ينبغي أولاً أن نتعرف على صفات طالب العالم الناجح، فإن طالب العلم ينبغي أن يتمتّع بعدّة خصائص، وهذه الخصائص يحصّلها في نفسه، وكلّ خصلة من هذه الخصائص تدعمها إضافة إلى الآيات والرّوايات والعقل، التجربة أيضًا:

أوّلاً: أن يتحلّى بالعلم والفضل المناسب، فينبغي عليه من خلاله سنوات دراسته أن يتحوّل إلى عالِم، وليس المقصود من العالِم المجتهد الجامع للشرائط والمرجع تقليد، بل المقصود أن يُتقن الدرس الذي يدرسه وإلا فلا يسمّى طالب علم، وهذا الدرس الذي يتقنه إضافة إلى المقدّمات والسطوح معرفة العقيدة ومعرفة الآيات والروايات، فهذا المقدار من الأمور العامة ينبغي أن يكون عنده، لذا عليه أن يخصّص وقتًا للدراسة والمطالعة، وإذا كان باسم السياسة يريد نسف طلب العلم فهو غير مطلوب، وإذا كان باسم طلب العلم يريد أن يترك الاهتمام بالشؤون السياسية فهو أيضاً غير مطلوب.

وثانيًا: أن يتحلّى بالتقوى، فإذا كان يتقدّم علميًا بمقدار صفحة في اليوم يلزمه أن يتقدّم في التقوى أيضًا، وإلا إذا كان طالب العلم غير متحلّ بالتقوى فلن يكون عادلاً، وإذا لم يكن عادلاً لن يتأتى له أن يتصدّى لشؤون الإسلام والدين، لا أن يكون موجِّهًا دينيًّا بأيّ مستوىً من المستويات.

فهذان عنصران ذاتيان لطالب العلم، العنصر الأوّل: طلب العلم، والعنصر الثاني: التقوى.

وثالثًا: البصيرة، «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(31)، فينبغي أن يعرف الأمور، وعندنا تجربة واضحة مع بعض الجماعة الذين كان لهم نصيب من العلم والتقوى، ولكن ليس لديهم معرفة بالشؤون السياسية والاجتماعية وليس لديهم وعي في ذلك، فهؤلاء مع الأسف بدل أن يخدموا الإسلام سبّبوا ضررًا له.

رابعًا: أن يتحلّى بالعقلانيّة والحكمة «من لا عقل له لا دين له»، وهذه العقلانية والحكمة غير طلب العلم وغير التقوى وغير البصيرة والوعي.

خامسًا: ينبغي أن يحسّ بالمسؤولية «من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم»(32)، فوظيفة طالب العلم خدمة الإسلام، لا أن يهتمّ بنفسه فيكوّن نفسه كخطيب أو عالم ويشكِّل ذاته وكيانه لنفسه ويقول: أنا أخدم الإسلام بهذا الشكل، فالمسؤولية الشرعيّة الملقاة على عاتقه أكبر من ذلك، والمسؤولية الشرعيّة لها واجبات، وهذه الواجبات قد تحتاج أحياناً إلى أن يضحي بنفسه أو بمشروعه الشخصيّ، فلا بدّ من أن يكون مستعدًّا لهذه التضحية.

سادسًا: ينبغي أن يتحلّى بروح جذّابة، خصوصًا مع الشباب، وتكون عنده ملكة الجذب للآخرين، وذلك عبر الانفتاح الإيجابيّ عليهم.

سابعًا: أن يكون متحرّكًا لا جامدًا، ويمتلك نوعًا من المهارات كالخطابة، والكتابة، والحفظ، العلوم الجديدة، الكمبيوتر والانترنت، نوع من العمل الرياضي المناسب حتى يكون عنده نشاط وحيويّة لا أن يكون جامدًا.

ثامنًا: أن يكون بسيطًا، ولا نعني بذلك التقشف، وإنّما ألا يحبّ حالة الرّفاه والتجمّلات، فليس من اللازم أن يمتلك سيّارة كبيرة وبيت كبير ويكوِّن كيانه؛ فإنّه طالب آخرة وليس طالب دنيا {وَللآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}(33)، هكذا لا بدّ من أن يكون شعاره { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(34).

وتاسعًا: الطالب ينبغي أن تكون عنده عزّة نفس وعفّة، وليس له أن يحسّ بحالة من الذلّ والهوان، وهذه العزّة لها مصاديق وعيّنات ونماذج كثيرة لا ندخل فيها.

وعاشرًا: أن يكون شعبيًّا منفتحًا على النّاس، لا أن يبتعد عن النّاس، عنده روح خدمة النّاس، يحترق قلبه على النّاس، كما في الآية الشريفة {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(35).

والحادي عشر: نتصوّر أنّ الطالب الموفّق ينبغي أن يتجاوب مع المشروع الإسلاميّ العام الذي تعيشه الأمّة، فلا يصح من طالب العلم وخصوصًا إذا كان يدرس في قم المقدسة أن ينزوي عن معرفة الثورة الإسلاميّة، وولاية الفقيه، وخط الإمام (قدِّس سرُّه)، وخط السيّد القائد (دام ظله)، فالثورة الإسلاميّة تشكّل مرحلة من مراحل تاريخ الإسلام، وغيّرت كثيرًا من المعالِم في العالَم، وقامت هذه الثورة على أساس فكر أهل البيت (عليهم السلام)، وسبّبت عزّة للأمّة وعزّة لأتباع المذهب، فكيف يعيش طالب العلم في قم ويقول: لا دخل لي في هذه الثورة؟ وهذا أمر مهم في رأينا.

الثاني عشر: أن يتحلّى بروح العمل الجماعي، لا العمل الفردي.

الثالث عشر: أن يكون عنده صبر وسعة صدر، بأن يتحمل ويصبر أمام المشاكل؛ فإنّ طالب العلم في مسيرته الحوزويّة تواجهه الكثير من المشاكل التي تحتاج إلى صبر وتحمّل، إضافة إلى روح النشاط والأمل.

الرابع عشر: أن يكون عنده مشروع وتخطيط حتى يطوي المراحل.

الخامس عشر: أن يتوكل على الله، ويدعو الله، ويتضرّع ويبتهل، مثلاً أن يلتزم بصلاة الليل. وقد كان السيّد القائد (حفظه الله) في إحدى محاضراته لمسؤولي الحوزة الإيرانية يقول: "عندكم خمسون ألف طالب في الحوزة، ينبغي ألا يقلّ عدد المصلّين لصلاة الليل عن خمسة وثلاثين ألف طالب، وإلا فحوزتكم ليست بموفقة".

السادس عشر: أن يكون عند الطالب أنس بالقرآن الكريم، يقرأه بحالة أنس، لا أنّه يأنس أكثر بالأصول والنحو والصرف، والقرآن أجنبيّ عنه -والعياذ بالله-، وكذلك أن يحصل عنده أنس بالروايات.

السابع عشر: أن يكون عنده برنامج عملي للتوسل بأهل البيت (عليهم السلام).

هذه الصفات المطلوب توفرها في طالب العلم، وهذه الصفات كلها ينبغي أن تكون من ضمن برنامجه بشكل جدول أعمال، ويستفيد من الوقت ولا يضيّعه.

■ يرى بعض السياسيين أنّ تقدّم طلبة العلم وخصوصاً المعمم منهم للتصدي للأمور السياسية لا يخدم القضايا السياسية -خصوصاً في البحرين حيث اتهمت الثورة بالطائفية- باعتبار أن هذا اللباس يسبب النفرة عند البعض أو عدم التعاطف من كثير من المؤسسات الدولية نظراً لما يحملونه من فكرة مشوّهة عن الإسلام والشيعة، ما هو تقييمكم لهذا الطرح وكيف يمكن معالجته؟

● هذا اشتباه، ونحن نعتقد بعكس ذلك، فإنّ تصدّي طلبة العلم وعلى رأسهم المجلس العلمائي، وتبنّي القضايا العامة والسياسية والاجتماعية بروح حضاريّة وإنسانيّة وعصريّة في الثورة البحرينية اليوم، يمثّل هذا الأمر أحد أروع مظاهر الرفعة والعزّة والشموخ والسؤدد لعلماء الدّين، ونحن فخورون بعلماء الدّين الحركيّين في البحرين وعلى رأسهم سماحة العلامة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله).

فهذه فكرة خاطئة، فمظهر العالِم لا يسبّب نفرة، بل هو مظهر عزّة ورفعة.

■ هناك من يرى بأنّا متّهمون بالطائفية، وإذا ظهرنا بهذه الصورة نركّز الطائفية.

● لا، هذا مستمسك وذريعة للتقاعس، فما ربط هذا بالطائفية، فالأمور واضحة، والضمائر الحيّة تعرف؛ لأنّ الخطاب الآن في البحرين ليس خطابًا طائفيًّا، وإنّما خطاب ديمقراطيّ، فالمطالبة بصناديق الاقتراع وحقّ الانتخاب أين يقع من الطائفية؟ والمعمم لا يدعو إليها، وهل العلماني أولى بالدعوة إليها من العالِم الديني في هذا الوقت؟، لا.

■ نصحية أخيرة.

● نحن لسنا بمستوى النصحية حتّى ننصح، ولكن نشيد بالأخوة الطلبة الأعزاء المؤمنين المجاهدين المشتغلين بالقضايا العامة لشؤون الأمّة، ونبارك لكم هذا المشروع، وعندما نتذكر حالة العظماء والشخصيات الإسلامية الكبيرة، فهؤلاء في سنّهم المبكرة كانوا مشتغلين بهذه الأمور، مثل الإمام الخميني (قدِّس سرُّه)، أو آية الله كاشاني (قدِّس سرُّه)، أو الشهيد الصدر (قدِّس سرُّه)، أو المجاهدين كأمثال السيد حسن نصر الله، فهؤلاء قدوة وأسوة للطلبة العاملين اليوم.

ونسأل الله أن يبارك في جهودكم، وفي هذه المجلة الكريمة مجلة (رسالة القلم)، على هذه الجهود التي تقدمونها للأخوة الطلبة في جميع الجاليات.

وفي الحقيقة نحن نحتاج إلى نهضة بين الطلبة العرب الملتزمين في مواكبة العصر والزمان، بحيث نأتي بالنسبة إلى إصلاح المنهج، إصلاح البرنامج، الاستفادة من الوقت والزمان، الاهتمام بشأن تربية كوادر عاملة واعية تجيد إمّا فنّ الكتابة أو فنّ الخطابة أو فنّ التدريس، أو التقدّم العلمي، وأمثال ذلك من الأمور، فالحاجة الآن ماسة إلى هذا الأمر، وأتصوّر أنّ الذي يُمكن أن يدرس ويحضر في الحوزة العلمية والأمور تساعده على أن يدرس في الحوزة، فاليوم الحضور في الحوزة الدينية إذا كان واجبًا كفائيًا، فاليوم نظرًا إلى الحاجة الموجودة في العالَم الإسلامي، ربّما يكون متعيّنًا على بعض الأفراد، والقدر المتيقن هو واجب متعيّن على الطلبة المشغولين المحصّلين فعلاً بأن يحصّلوا العلم والتقوى والبصيرة ويعدّوا أنفسهم إعدادًا جيّدًا مناسبًا، وأن نسعى كلّنا [أن نرتقي] من مستوى تلقي كلام الأستاذ إلى تحقيق كلام الأستاذ، وعصرنة المناهج الحوزويّة مواكبةً لتلبية الحاجات المعاصرة على جميع الأصعدة، والنظر إلى معارف أهل البيت (عليهم السلام) كمنظومة معرفية متكاملة مترابطة في جميع الحقول والتخصصات.

ونسأل الله التوفيق لكم، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

*****

باسمي وباسم إدارة مجلة (رسالة القلم) أقدّم خالص شكري لكم سماحة الشيخ على تفضلكم باقتطاع جزءٍ من وقتكم الثمين لأجل هذه المقابلة، والحمد لله ربِّ العالمين.

 

* الهوامش:

(1) أحد أساتذة الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، ومن الذين يتمتعون بنصيب مهم في العلوم السياسية والفكرية، ويتصدى فعلاً إلى عدّة مناصب، منها العضوّية في مجلس الخبراء في الجمهورية الإسلامية، وعضويّة مجلس صيانة الدستور، وعضويّة جماعة المدرسين، وعضوّية الهيئة العلمية في مؤسسة الإمام الخميني (قدِّس سرُّه).

(2) سورة يونس: 25.

(3) سورة النساء: 128.

(4) ثواب الأعمال ص 148.

(5) وسائل الشيعة ج12، ص281.

(6) الكافي ج2، ص7.

(7) وسائل الشيعة ج12، ص7.

(8) سورة الحجرات: 9.

(9) سورة المائدة: 54.

(10) سورة الفتح: 29.

(11) سورة التوبة: 29.

(12) سورة آل عمران: 64.

(13) سورة التوبة: 6.

(14)سورة التوبة: 12.

(15) سورة العلق: 1.

(16) سورة الكافرون: 6.

(17) سورة الحج: 39.

(18) سورة التوبة: 29.

(19) سورة المائدة: 54.

(20) سورة الفتح: 29.

(21) سورة النور: 55.

(22) سورة الحديد: 25.

(23) أخذت هذه العبارة من قول الرسول (صلَّى الله عليه وآله) في رسالته إلى أسقف نجران:... أمّا بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد... بحار الأنوار ج35، ص263.

(24) سورة المائدة :1.

(25) سورة الإسراء: 34.

(26) خطبة الجمعة (290) 14 جمادى الثاني 1428هـ 29 يونيو 2007م في جامع الإمام الصادق (عليه السلام) في البحرين.

(27) بحار الأنوار ج45، ص51.

(28) سورة النجم: 23.

(29) كمال الدِّين وتمام النعمة ص484.

(30) المكاسب ص555.

(31) بحار الأنوار ج68، ص307.

(32) الكافي ج2، ص163.

(33) سورة الضحى: 5.

(34) سورة الأعلى: 17.

(35) سورة التوبة: 128.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا