على مر الزمن، منذ آدم (ع) إلى يومنا هذا والكائن البشري يشعر بالنقص في كيانه، وبالحاجة إلى من يعينه ويمده لسدها، فمن التفكير في كيفية وسبب مجيئه إلى هذا العالم ومن يرعاه، وسؤاله عمّن أوجده وبراه، وبحثه عن الطريق الموصل له وكيف يتعامل خلال الطريق، وإلى أين مصيره، إلى التفكير فيما يسد به جوعه ويستر به عورته ويطور مدركاته ونوعية حياته ويزيد من راحته..
ومن التفكير فيما يخصه من حاجات مادية ومعنوية كفرد يعيش في ظل هذه المنظومة الكونية والبيئة المحيطة به، إلى التفكير في الجنس الذي ينتمي إليه كجماعة تتشكل من أفراد عدة، والتفكير في قوانين تحكم هذا التجمع أو ذاك، في هذه المعاملة أو تلك، لما فيه مصلحتهم واستقرار حياتهم..
فالإنسان عقل وروح وجسم ومحيط، وطريقة حياة، وعلم وعمل ومصير..
قبل أربعة عشر قرناً ظهر رجل يقول إنه أتى بحل كل تلك المسائل من عند خالق الكون والإنسان، فصدقه بعض وكفر به بعض، لكنه برهن على كلامه بأن أجاب على جميع أسئلة البشر إلى يومنا هذا بدين اسمه الإسلام..
وكما أكّد أحد أحفاده:(ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلا وقد خرجت فيه السنة من الله ورسوله)(1)
وكانت الأسئلة الأساسية عند الإنسان ولا تزال:
من أين؟
في أين؟
إلى أين؟
فجاء الإسلام مكملاً وخاتماً لما قبله من الأديان السماوية مجيباً على كل جزئيات هذه الأسئلة وأجاب على الأسئلة الأخرى لبني البشر وجعل الأجوبة متفرعة عن هذه الثلاثة الأصلية، وترك في نصوصه القابلية للإجابة على كل ما سيطرأ من تساؤلات وشكوك..
ـ تنبيه: هذه مجرد إشارات وخواطر تعتمد الاختصار والكلام الوجداني حول هذا الموضوع الذي لا تسعه المجلدات فضلا عن الوريقات.
السؤال الأول: من أين؟
أجاب الإسلام مؤكداً ما تقوله فطرة الإنسان ولو لم يتبع ديناً: خلقك أيها الإنسان خالق كل هذا الكون المحيط بك ومدبره.
وزاد توضيحاً: الخالق الذي ليس له شريك في ملكه ولا عديل، الواحد الأحد الذي ليس لـــــه والد ولا ولد، ليس كمثله شيء، العالم الخبير، الرحمن الرحيم، الجبار العظيم، (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى)(2)
أوجدك بعد أن كنت محكوماً بالعدم ونفخ فيك من روحه وسوى جسدك من تراب، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(3)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى}(4) يتزاوجان لتنشأ النطفة ثم تأتي السلسلة السابقة..
ولم يكتف بذلك فقط بل وضع القوانين ــ في دين الإسلام ــ والنظم التي تحكم هذه العلاقات وتنظمها، فجعل من حقوق الولد قبل زواج الذكر والأنثى أن يختار الرجل المرأة الصالحة وتختار المرأة الرجل الصالح، ليكون الولد صالحاً، وأن يكون طعامهما طاهراً مباحاً ليكون الولد طاهراً، وجعل له حقوقا على والديه من تنشئة وتربية وتعليم إلى ما شاء الله من حقوق وواجبات وأخلاقيات تضمن له حياة كريمة ولمجتمعه أن يكون عزيزاً..
إذاً أنا الآن موجود أوجدني الخالق.. ففي أين؟، وماذا يريد مني؟
السؤال الثاني: في أين؟
أجاب الإسلام في هذه الدنيا التي سخّر الخالق كل ما فيها لك وكرمك على سائر المخلوقات بأن جعل لك عقلاً تتعلم وتفكر به، وتختار طريقك في هذا الوجود، فإما أن تشكر خالقك أو تكفر به..
وأرسل الأنبياء والرسل وأعقبهم بالأوصياء والعلماء؛ ليوضحوا لك ملامح هذا الطريق الموجود فيه، وليعلموك كيف ولم تعمل، وليبلغوك رسالة الله لك وسبب خلقك بأنه يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(5)إذاً خلق الإنسان للـــعبادة، (فبها يكون صلاحك وقوام أمرك)(6) فيا أيها الإنسان (إن بعثة الأنبياء إنما تهدف إلى إنقاذ أخلاق الناس، ونفوسهم، وأرواحهم، وأجسامهم من الظلمات واستبدالها بالنور)(7)..
والعبادة عند الإسلام لا تعني الانعزال عن الناس والعيش في أعماق الكهوف والرهبانية، بل تعني كل عمل سليم يتقرب به العبد إلى خالقه والمنعم عليه، فتضم العبادة العمل من اجل كسب لقمة العيش، كما تضم التعلم والتعليم وسائر أمور الدنيا والآخرة: (فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)(8) مطلقاً في كل أمر حسن وصالح، (فكل ما فيه الخير والصلاح يقره الإسلام، وينهى عما فيه من الضرر والفساد)(9) ولو كان هذا الأمر قد عرف قبل الإسلام أو تعارف عليه الناس بعد مجيئه(10)..
نقطة مهمة: وهي أن القوانين والنظم الإسلامية عبارة عن شبكة واحدة، كل منها يقوي الآخر ويستمد قوته منه، وكل حلقة فيها تخدم الحلقات الأخرى وتقومها، فقوانين الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والأخلاقية والعبادية والصحية والجزائية والحقوقية... إلخ، كلها مترابطة مع بعضها البعض تشكل عجينا واحداً قد يراه كل فرد من زاوية، وقد يستخدمه كل فرد لحاجة من الحاجات الإنسانية، لكن الأساس واحد وهو توحيد الله سبحانه والهدف واحد وهو صنع الإنسان المتكامل..
فمثلاً إذا أتينا إلى الاقتصاد الإسلامي نرى ربطا عجيبا بين الاقتصاد ومصلحة الفرد ورقي المجتمع ونموه، (فالإسلام لا يقر انقسام الناس إلى فقراء وأغنياء، بل يحاول أن يرفعهم جميعاً إلى مستوى الغنى، ويسمح بعد ذلك بتفاوت درجات الغنى بين الأفراد)(11)..
أحد الأمثلة، الربا الذي يحرمه الإسلام.. وفيه يقترض الإنسان مبلغا من احدهم فيرده إليه مع ربح للمقرض، وطبعاً لن يقترض أحد إلا لحاجته، فتراه يضاعف جهده وتعبه من اجل سداد الدين في وقته مع فوائده قبل أن تزداد نسبة الفوائد المترتبة على تأخير القرض فيصل الوضع أحياناً إلى أن يبيع أثاثه وممتلكاته من أجل ذلك، فهل من الممكن أن يكوّن مع المقرض الذي استغل ضعفه وحاجته علاقات اجتماعية تقوم على أسس الحب والمودة والتعايش؟ بل هل يستطيع كفرد أن يعيش مطمئن البال مرتاحاً؟ كلا، ولن يستطيع المرابي الجشع ذلك أيضاً فهو يعيش حالة من التكبر والاستضعاف للمحتاج المقترض، و ينتظر رأس الشهر وهو يحسب الفلس تلو الفلس ليحصل على الربح من ذلك المسكين(12)..
وعلى العكس من ذلك نجد نظام القرض الحسن ــ القرض بدون فائدة ــ الذي يشرعه الإسلام، فهو لا دافع له سوى المعونة الإنسانية والتي تنطلق دائماً من منطلق إنساني، لتقوية الأواصر وحل العقد النفسية والتقريب بين القلوب، والقضاء على العداوة والبغضاء(13)..
المجتمع و الذي يتشكل من أفراد كاللبنات إذا صلحت صلح البناء وبالعكس، يوليه الإسلام اهتماماً عظيما في كل تشريعاته ويركز عليه تركيزاً هاماً، وفيه (المسلمون كالرجل الواحد إذا اشتكى عضو من أعضائه تداعى له سائر جسده)(14) وفيه مقياس الكرامة ومفتاحها التقوى فــ{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(15) فنحن كمسلمين (ومن هذا الأصل الاعتقادي (التوحيد) نستلهم المساواة بين جميع بني البشر أمام الله.. وما يميز الفرد عن الآخر كقاعدة ومعيار إنما هي التقوى والابتعاد عن الانحراف والخطأ)(16)..
كل ذلك لهو من طريق الإنسان للآخرة الذي فيه: {...مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(17) فيأتي دور السؤال الثالث..
السؤال الثالث: إلى أين؟
أجاب الإسلام: إلى نشأة ووجود غير هذه الدنيا، (فإن الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار) وفيها يحاسب الإنسان بمقدار سعيه، فقد وفّر الله له ما يستطيع به التمييز بين طريق الخير والشر: {.. لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}(18)..
وختاماً أكرر تنبيهي على أن هذه مجرد خواطر وإشارات حول موضوع لا تسعه مجلدات فضلاً عن وريقات..
ونسال الله العلي القدير أن نكون بعملنا وعلمنا من مصاديق هذه البشرى الشريفة على لسان الرسول الأعظم (ص) ومن الممهدين لها..
(وبشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض)(19)..
والحمد لله رب العالمين..
* الهوامش:
1ـ عن الإمام الصادق (ع) ميزان الحكمة، الشيخ محمدي الري شهري، دار الحديث، الطبعة الأولى، 1422هـ. الرواية: 3392.
2 ــ الحشر: من الآية 24.
3 ــ غافر: 67، يحوي القرآن أكثر من خمسين آية تتحدث عن خلق الإنسان، راجع ميزان الحكمة 1: 303.
4 ــ الحجرات: من الآية 13.
5 ــ الذاريات: من الآية 56.
6 ــ عن الإمام الرضا (ع)، راجع ميزان الحكمة، الرواية: 11607.
7 ــ عن الإمام الخميني (قدس)، حديث الانطلاق: 273.
8 ــ عن الرسول الأكرم (ص)، ميزان الحكمة، الرواية: 129.
9 ــ تجارب محمد جواد مغنية بقلمه: 200.
10ــ راجع نفس المصدر: 198 ــ 200.
11ـ اقتصادنا الميسر، تلخيص اقتصادنا للشهيد الصدر، علي حسن مطر: 130.
12ــ راجع الخطوط الأساسية للاقتصاد الإسلامي، آية الله مكارم الشيرازي: 209ــ 212.
13ــ المصدر السابق.
14ــ عن الرسول الأكرم (ص)، ميزان الحكمة: 8788.
15ــ الحجرات: 13.
16ــ عن الإمام الخميني (قدس)، حديث الانطلاق: 272.
17ــ الزلزلة: 7 ـ 8.
18ــ طه: 15.
19ــ عن الرسول الأكرم (ص)، ميزان الحكمة: 736.
0 التعليق
ارسال التعليق