الإخلاص للقضيّة الحسينيّة «أمّ البنين نموذجاً»

الإخلاص للقضيّة الحسينيّة «أمّ البنين نموذجاً»

أمّ البنين ونسبها

هي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن النّاس بن مضر(1).

ومضر هو الجد الذي يلتقي فيه نسب أمّ البنين بنسب أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث لم يكن لمضر غير رجلين، أحدهما «إلياس»، والثاني «النّاس»، وإليه ينتهي نسب أم البنين (عليها السلام) (2).

هذا ما يرتبط بنسبها من جهة الآباء، وأمّا من جهة الأمهات، فأمّها ثمامة بنت سهيل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب. وأمّها عمرة بن الطفيل بن مالك الأحزم بن جعفر بن كلاب. وأمّها كبشة بنت عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب. وأمّها أمّ الخشف بنت أبي مغولة ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وأمّها فاطمة بنت جعفر بن كلاب. وأمّها عاتكة بنت عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب. وأمّها آمنة بنت وهب بن عمير بن نصر بن قعين بن الحرث بن دوادن بن أسد بن خزيمة. وأمّها بنت جحدر بن ضبيعة الأغر بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن ربيعة بن نزار. وأمها بنت مالك بن قيس بن ثعلبة. وأمّها بنت ذي الرياستين ابن أبي عصم بن شمخ بن فزارة. وأمّها بنت عمرو بن صرمة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث غطفان(3).

فأمّ البنين تنحدر من أشرف القبائل العربيّة نسباً، وأعلاها شرفاً، وشجاعة، وكرماً، وفصاحة. وكان بنو عامر من «الحمس»، وحمس -كفرح- من اشتدّ، وصلب في الدين والقتال(4).

فإنّ من قومها أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، جدّ ثمامة والدة أمّ البنين، وهو الجدّ الثاني لأمّ البنين، قيل له ملاعب الأسنّة؛ لفروسيّته وشجاعته، لقّبه بذلك حسان لمّا رآه يقاتل الفرسان وحده، وقد أحاطوا به، فقال حسان: ما هذا إلا ملاعب الأسنة(5).

وقيل إنَّ أوس بن حجر قال فيه:

يلاعب أطراف الأسنّة عامر

                        فراح له حظّ الكتائب أجمع(6)

 

ومن قومها عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو أخو عمرة، الجدّة الأولى لأمّ البنين، كان عامر أود أهل زمانه وأشهر أهل العرب بأساً ونجدة(7).

ومن قومها عروة الرّحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب، والد كبشة، الجدّة الثانية لأمّ البنين، كان عروة الرّحال وفاداً على الملوك، وله قدر عندهم، ومن هنا سُمِّي الرّحال(8).

ومن قومها الطفيل، فارس قرزل، وهو والد عمرة الجدّة لأمّ البنين، كان معروفاً بالشجاعة والفروسيّة، وهو أخو ملاعب الأسنّة(9).

ولادتها

لم يُحدِّد المؤرّخون تاريخ ولادتها، بيد أنّهم ذكروا أنّ تاريخ ولادة ابنها الأكبر العبّاس (عليه السلام) كانت في السنة السادسة والعشرين من الهجرة(10). وقيل إنّها وُلدت في العام الخامس بعد الهجرة(11).

كنيتها

الأصل في كنية فاطمة العامريّة «أمّ البنين» هو أنّ العرب تكنّي بها المرأة التي تلد ثلاثة أولاد فأكثر، وقد تكنّي بها بناتها عند ولادتهنّ على سبيل التفؤل لهنّ بالبنين(12).

وحينما وضعتها أمّها ثمامة سمّاها أبوها فاطمة، وكنّاها «أمّ البنين»، أسوة بجدّتها أمّ البنين ليلى بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وهي المعنيّة بقول لبيد -الشاعر المعروف- للنعمان ملك الحيرة:

نحن بنو أمّ البنين الأربعة

                        ونحن خير عامر بن صعصعة

 

المطعمون الجفنة المدعدعة

                        الضاربون الهام وسط المجـمعة

 

حيث كانت جدّتها ليلى العامريّة تكنّى بأمّ البنين، وكان كلّ ولد من أولادها سيّداً في قومه، حتى ضُرب بها المثل، فقالت العرب: «أنجب من أمّ البنين»(13).

الإعداد لنصرة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الطفّ

تزوّج أمير المؤمنين (عليه السلام) من فاطمة ابنة حزام العامريّة إمّا بعد شهادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، كما يراه بعض المؤرخين(14)، أو بعد أن تزوّج بأمامة بنت زينب بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كما يراه البعض الآخر(15)، والمشهور أنّها الزوجة الثالثة من زوجات الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فقد دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) أخاه عقيلاً -وكان نسّابة عالماً بأخبار العرب وأنسابهم: «ابغني امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب، لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً، فقال له: أين أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابيّة، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس»(16).

وقيل: إنّ الإمام علياً (عليه السلام) قال لأخيه عقيل:« انظر لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب، من ذوي البيوت والنّسب والحسب والشجاعة؛ لكي أصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً، ينصر ولدي هذا -وأشار إلى الحسين (عليه السلام)-يواسيه في طفّ كربلاء»(17).

وقيل:" إنّ زهير بن القين أتى العبّاس (عليه السلام) في يوم الطفّ، فقال له: اعلم يا أبا الفضل، إنّ أباك أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا أراد أن يتزوّج بأمّك أمّ البنين، بعث إلى أخيه عقيل، وكان عارفاً بأنساب العرب، فقال له: يا أخي، أريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والنّسب والحسب والشجاعة، لكي أصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً، ينصر ولدي هذا -وأشار إلى الحسين (عليه السلام)-يواسيه في طفّ كربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصّر عن حلائل أخيك وعن أخواتك"(18). 

أولادها

العبّاس بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)

ولد العبّاس سنة ست وعشرين من الهجرة، وكان يلقّب «قمر بني هاشم» ويُكنّى «أبا الفضل»(19).

روي عن علي بن الحسين (صلّى الله عليه وآله) أنّه نظر يوماً إلى عبيد الله بن العبّاس بن علي (عليه السلام) فاستعبر ثمّ قال:« ما من يوم أشد على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من يوم أحد قتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطلّب، أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم (مؤتة) قُتل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب، ولا يوم كيوم الحسين (عليه السلام)، ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنّهم من هذه الأمّة، كلٌّ يتقرّب إلى الله (عزّ وجلّ) بدمه، وهو يُذكّرهم بالله فلا يتّعظون، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً. ثمّ قال (عليه السلام): رحم الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه، حتى قُطعت يداه، فأبدله الله (عزّ وجلّ) منهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة»(20).

وروي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنّه قال:« كان عمّنا العبّاس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً»(21).

عاش العبّاس مع أبيه (عليه السلام) أربع عشرة سنة، حضر بعض الحروب، فلم يأذن له أبوه بالنزال، وعاش مع أخيه الحسين (عليه السلام) أربعاً وثلاثين سنة، وذلك مدّة عمره(22).

شارك في قتله زيد بن الرماد الجهني، وعاونه على ذلك حكيم بن الطفيل السنبسي(23).

وقد استشهد معه في طفّ كربلاء اثنان من أولاده، وهما محمّد والقاسم(24).

عبد الله بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)

وُلد بعد أخيه العبّاس بنحو ثمان سنين، وبقي مع أبيه ستّ سنين، ومع أخيه الحسن (عليه السلام) ست عشرة سنة، ومع أخيه الحسين (عليه السلام) خمساً وعشرين سنة، وذلك مدّة عمره، ولم يعقّب.

قال أصحاب السّير:"إنّه لمّا قُتل أصحاب الحسين (عليه السلام) وجملة من أهل بيته، دعا العبّاس إخوته الأكبر فالأكبر، وقال لهم: تقدّموا، فأوّل من دعاه عبد الله، أخوه لأبيه وأمّه، فقال: تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً وأحتسبك، فإنّه لا ولد لك، فتقدّم بين يديه، وجعل يضرب قُدماً ويجول فيهم ويقول:

أنا ابن ذي النّجدة والأفضالِ

                        ذاك عليّ الخير ذو الأفعالِ

 

سيف رسول الله ذو النكالِ

                        في كلّ يومٍ ظاهر الأهوالِ

 

فقاتل قتالاً شديداً فاختلق هو وهاني بن ثبيت الحضرمي، فقتله هاني لعنه الله"(25).

وجاء في الزيارة المروّية عن الإمام صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، والتي رواها المجلسي في بحار الأنوار:«السلام على عبد الله بن أمير المؤمنين مبلي البلاء، والمنادي بالولاء في عرصة كربلاء، والمضروب مقبلاً ومدبراً، لعن الله قاتله هانئ بن ثبيت الحضرمي»(26).

عثمان بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)

وُلد بعد أخيه عبد الله بنحو سنتين، وبقي مع أبيه نحو أربع سنين، ومع أخيه الحسن نحو أربع عشرة سنة، ومع أخيه الحسين (عليه السلام) ثلاث وعشرين سنة، وذلك مدّة عمره.

وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:«إنّما سمّيته عثمان بعثمان بن مضعون أخي»(27).

قال أهل السّير: "لمّا قُتل عبد الله بن علي دعا العبّاس عثمان، وقال له: تقدّم يا أخي، كما قال لعبد الله، فتقدّم إلى الحرب يضرب بسيفه ويقول:

إنّي أنا عثمان ذو المفاخر

                        شيخي عليّ ذو الفعال الطاهرِ

 

فرماه خولي بن يزيد الأصبحي بسهم فأوهطه(28)، حتّى سقط لجنبه، فجاءه رجل من بني أبان بن دارم فقلته واحتزّ رأسه"(29).

وجاء في الزيارة الناحية عن مولانا الإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف): «السلام على عثمان بن أمير المؤمنين سمّي عثمان بن مضعون، لعن الله راميه بالسّهم خولي بن يزيد الأصبحي الأيادي والأباني والدارمي».

وجاء في زيارته أيضاً:«السلام عليك يا عثمان بن علي بن أبي طالب ورحمة الله وبركاته، فما أجلّ قدرك، وأطيب ذكرك، وأبين أثرك، وأشهر خيرك، وأعلى مدحك، وأعظم مجدك»(30).

جعفر بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)

وُلد بعد أخيه بنحو سنتين، وبقي مع أبيه نحو سنتين، ومع أخيه الحسن (عليه السلام) نحو اثنتي عشرة سنة، ومع أخيه الحسين (عليه السلام) نحو إحدى وعشرين سنة، وذلك مدّة عمره(31). وروي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سمّاه باسم أخيه جعفر لحبّه إيّاه(32).

قال أهل السّير: "لمّا قُتل أخوا العبّاس لأمّه وأبيه عبد الله وعثمان، دعا جعفراً، فقال له: تقدّم إلى الحرب حتّى أراك قتيلاً كأخويك، فأحتسبك كما احتسبتهما، فإنّه لا ولد لكم. فتقدّم وشدّ على الأعداء يضرب فيهم بسيفه، وهو يقول:

إنّي أنا جعفر ذو المعالي

                        ابن عليّ الخير ذو الأفضالِ

 

فشدّ عليه هانئ بن ثبيت الحضرمي الذي قَتل أخاه فقتله"(33).

جاء في الزيارة الناحية:«السلام على جعفر بن أمير المؤمنين، الصابر بنفسه محتسباً، والنائي عن الأوطان مغترباً، المستسلم للقتال، المستقدم للنزال، المكثور بالرجال، لعن الله قاتله هانئ بن ثبيت الحضرمي»(34).

إخلاص أبناء أمّ البنين للقضيّة الحسينيّة

لمّا كتب ابن زياد كتابه إلى عمر بن سعد بالتعجيل لحرب الحسين (عليه السلام)، وقبضه شمر بن ذي الجوشن، قام هو وعبد الله بن أبي المحلّ بن حزام الكلابي. فقال عبد الله: أصلح الله الأمير؛ إنّ بني أختنا أمّ البنين: العبّاس وعبد الله وجعفراً وعثمان مع الحسين، فإن رأيت أن تكتب لهم أماناً فعلت. قال ابن زياد: نعم، فأمر كاتبه فكتب لهم أماناً. فبعث به عبد الله بن أبي المحلّ مع مولى يُقال له «كزمان». ولمّا قدم عليهم «كزمان» مولى عبد الله بن أبي المحلّ دعاهم فقال: هذا أمان بعث به خالكم. فلمّا قرأوه قالوا له: أقرأ خالنا السلام، وقل له: أن لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سميّة(35).

وروي أنّ شمراً وقف في يوم العاشر ناحية فنادى:"أين بنو أختنا، أين العبّاس وإخوته؟ فلم يجبه أحد. فقال لهم الحسين (عليه السلام): «أجيبوه ولو كان فاسقاً». فقام إليه العبّاس فقال له: «ما تريد؟» فقال: أنتم آمنون يابني أختنا. فقال له العبّاس: «لعنك الله ولعن أمانك، لئن كنت خالنا، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟» وتكلّم إخوته بنحو كلامه ثمّ رجعوا"(36).

إخلاص أمّ البنين للقضيّة الحسينيّة

الموقف الأول:

يقول المؤرخون:" كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يُكثر من تقبيل ولده العبّاس في طفولته، وقد أجلسه يوماً في حجره، فشمّر عن ساعديه، فجعل الإمام (عليه السلام) يقبّل كفّيه وهو غارق في البكاء، فبهرت أمّ البنين، وراحت تقول للإمام (عليه السلام): ما يُبكيك؟ فأجابها الإمام (عليه السلام): «نظرت إلى هذين الكفّين وتذكّرت ما يجري عليهما». فقالت أمّ البنين: وماذا يجري عليهما؟ فقال الإمام (عليه السلام): «إنّهما يُقطعان من الزند في نصرة الإسلام والذبّ عن أخيه الحسين (عليه السلام) حامي شريعة الله وريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)». فأجهشت أمّ البنين في البكاء، وشاركها من كان معها من النّساء لوعتها وحزنها. وخلدت أمّ البنين إلى الصبر، وحمدت الله (عزّ وجلّ) في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله وريحانته"(37).

الموقف الثاني:

قال ابن طاووس في اللهوف:" ثمّ انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة، قال بشير بن حذلم: فلمّا قربنا منها، نزل عليّ بن الحسين (عليه السلام) فحطّ رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه وقال: «يا بشير! رحم الله أباك، لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟» فقلت: بلى يا بن رسول الله إنّي شاعر. فقال (عليه السلام): «ادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله». قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة، فلمّا بلغت مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله) رفعت صوتي بالبكاء فأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

                        قُتل الحسين فأدمعي مدرار

 

الجسم منه بكربلاء مضرّج

                        والرأس منه على القناة يُدار

 

قال: ثمّ قلت: هذا عليّ بن الحسين (عليه السلام) مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه. قال: فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلا برزن من خدورهنّ، مكشوفة شعورهنّ، مخمّشة وجوههنّ، ضاربات خدودهنّ، يدعون بالويل والثبور، فلم أرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه"(38).

قال بشير:"ورأيت امرأة كبيرة تحمل على عاتقها طفلاً، وهي تشقّ الصفوف نحوي، فلمّا وصلت قالت: يا هذا أخبرني عن سيدي الحسين (عليه السلام)، فعلمتُ أنّها ذاهلة؛ لأنّي أنادي «قُتل الحسين (عليه السلام)» وهي تسألني عنه، فسألت عنها، فقيل لي: هذه أمّ البنين، فأشفقت عليها، وخفت أن أُخبرها بأولادها مرّة واحدة. فقلت لها: عظّم الله لك الأجر بولدك عبد الله. فقالت: ما سألتك عن عبد الله، أخبرني عن الحسين (عليه السلام). فقلت لها: عظم الله أجرك بولدك عثمان. فقالت: ما سألتك عن عثمان، أخبرني عن الحسين (عليه السلام). فقلت لها: عظّم الله لك الأجر بولدك جعفر. فقالت: ما سألت عن جعفر، فإنّ ولدي وما أظلّته السماء فداءً للحسين (عليه السلام)، أخبرني عن الحسين (عليه السلام). قلت لها: عظّم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العبّاس. قال بشير: لقد رأيتها وقد وضعت يديها على خاصرتها، وسقط الطفل من على عاتقها، وقالت -والله- قطّعت نياط قلبي، أخبرني عن الحسين (عليه السلام). قال: فقلت لها: عظّم الله لك الأجر بمصاب مولانا أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)"(39).

يقول المامقاني معلّقاً على هذه الحادثة:"إنّ شدّة حبّها للحسين (عليه السلام) يكشف عن علوّ مرتبتها في الإيمان وقوّة معرفتها بمقام الإمامة، بحيث تستهل شهادة أولادها الأربعة -وهم لا نظير لهم أبداً- في سبيل الدّفاع عن إمام زمانها"(40).

الموقف الثالث:

لمّا دخل بشير إلى المدينة ناعياً الحسين (عليه السلام)، وخرج الرّجال والنّساء، خرجت من جملتهنّ أمّ البنين، فلمّا سمعت بقتل الحسين (عليه السلام) خرّت مغشيّاً عليها. ولمّا دخلت السيدة زينب (عليها السلام) تلك الدّيار التي تنعى أهلها وتتجاوب الرّياح النادبة جدرانها، قالت: "لا أريد أحداً يدخل عليّ في هذا اليوم إلا من فقدت لها عزيزاً في كربلاء، وجلست في منزلها، وجعلت فضّة -خادمة الزهراء (عليها السلام)- على الباب. فلمّا أفاقت أمّ البنين من غشيتها سألت عن الحوراء زينب (عليها السلام) وعن العائلة، فأخبروها بذلك، فبينما هنّ في البكاء والعويل وإذا الباب تُطرق. فقالت فضّة: من بالباب، فإنّ سيّدتي زينب (عليها السلام) لا تريد أحداً يدخل عليها إلا من فقدت لها عزيزاً في كربلاء. فقالت: قولي لسيّدتك زينب (عليها السلام) إنّي شريكتها في هذا العزاء، وأريد أن أدخل عليها لأساعدها، فإنّي مثلها في المصاب. فلمّا أخبرت فضّة زينب (عليها السلام) قالت: سليها من هي التي تكون مثلي في المصاب، ثمّ قالت (عليها السلام): إن صدق ظنّي فإنّها أمّ البنين. فرجعت فضّة وقالت لها: تقول سيّدتي من أنت التي مثلها في المصاب؟ قالت: إنّي الثاكلة أمّ المصيبة العظمى. فقالت فضّة: أوضحي لي؟ قالت: الحزينة صاحبة الفاجعة الكبرى. قالت:أوضحي لي من تكونين؟ قالت: أوَما عرفتني، إنّي أمّ البنين. قالت فضّة: لقد صدقت سيّدتي في ظنّها، وإنّك -والله- كما تقولين، أمّ المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى، ثمّ فتحت لها الباب. فلمّا دخلت استقبلتها زينب (عليها السلام) واعتنقتها، وبكت وقالت (عليها السلام): عظّم الله لك الأجر في أولادك الأربعة. قالت أمّ البنين: وأنتِ عظّم الله لك الأجر في الحسين (عليه السلام) وفيهم، وبكت وبكى من كان حاضراً"(41).

ويذكر الملا حبيب الكاشاني في تذكرة الشهداء:" فجاءتها أمّ البنين، فاعتنقها، وقالت: يا ابنة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ما خبر أولادي؟  فقالت زينب (عليها السلام): قُتلوا أجمعين. فقالت أمّ البنين: روحي وأرواح الجميع فداءً للحسين (عليه السلام)، وما خبر الحسين (عليه السلام)؟ فقالت زينب (عليها السلام): قتلوه عطشاناً. فشبكت أمّ البنين عشرها على رأسها، ونادت: واحسيناه. فقالت زينب (عليها السلام): يا أمّ البنين عندي لكِ ذكرى من ولدكِ العبّاس. فقالت: وأيّ شيءٍ هو؟ فنحّت زينب (عليها السلام) ملحفتها، وأخرجت لها درع العبّاس ملطّخاً بالدماء. فلمّا نظرت إليه أمّ البنين صاحت ووقعت مغمىً عليها. فالتفتت زينب (عليها السلام) إلى قبر الصدّيقة فاطمة (عليها السلام) وقالت: وجئتك يا أمّاه بهديّة من كربلاء، ثمّ أخرجت قميص الحسين (عليه السلام) الممزّق من أثر الضرب والطعن والمضرّج بالدماء"(42).

الموقف الرابع:

كانت أم البنين دائمة العويل والبكاء على قتلى كربلاء، فقد اتّخذت من أسلوب النّدبة والنياحة سبيلاً لنشر مظلوميّة الحسين (عليه السلام)، والتذكير بمصابه (عليه السلام).

يقول أبو الفرج الإصفهاني: "وكانت أمّ البنين -أمّ هؤلاء الأربعة الأخوة القتلى- تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرّها، فيجتمع النّاس إليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء لذلك، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي"(43).

وفاة أمّ البنين

أغلب المصادر لا تتعرّض لوفاة أمّ البنين، إلا أنّه ورد في كتاب «أمّ البنين سيّدة العرب» ذكر مصدرين تعرّضا لذلك:

* المصدر الأوّل: كتاب «كنز المطالب» تأليف العلامة السيّد محمد باقر القرباغي الهمداني، حيث قال: «وقد توفيّت -أي أم البنين- بعد مقتل الحسين (عليه السلام)، ودُفنت في البقيع، بالقرب من فاطمة الزهراء (عليه السلام).

ففي الاختيارات عن الأعمش قال:" دخلت على الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الثالث عشر من جمادى الثاني، وكان يوم الجمعة، فدخل الفضل بن العبّاس وهو باكٍ حزين، وهو يقول: لقد ماتت جدّتي أمّ البنين"(44).

*المصدر الثاني: كتاب «وقائع الشهور والأيام» للبيرجندي، حيث قال: "وفيه -يقصد الثالث عشر من شهر جمادى الثاني- توفيّت أمّ البنين الكلابيّة سنة (64هـ) عن الأعمش"(45). والحمد لله ربّ العالمين.

 

* الهوامش:

(1) عمدة الطالب، الداودي، ص323

(2) أمّ البنبن والدة حامل لواء الحسين (عليه السلام)، سيد علي جمال أشرف، ص72.

(3) مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الإصفهاني، ص52.

(4) الفايق في غريب الحديث، الزمخشري، ج1، ص 274. 

(5) العبّاس (عليه السلام)، السيد عبد الرزاق المقرّم، ص128.

(6) رسالة بن زيدون بهامش الصفدي على لامية العجم، ج1، ص130.

(7) الأغاني، ج1، ص 35.

(8) بلوغ الأرب، ج1، ص142.

(9) العبّاس (عليه السلام)، السيد عبد الرزاق المقرّم، ص130.

(10) تنقيح المقال، المامقاني، ج2، ص128.

(11) قصّة أمّ البنين، محمّد باقر الناصري، ص8.

(12) أمّ البنين، السيّد السويج، ص12.

(13) العبّاس (عليه السلام)، السيّد عبد الرزاق المقرّم، ص130_ قصة أمّ البنين، محمد باقر الناصري، ص12.

(14) الطبري، ج6، ص89_ ابن الأثير، ج3، ص158.

(15) مناقب ابن شهر آشوب، ج2، ص117_الفصول المهمّة 145. 

(16) عمدة الطالب، الداودي، ص324_تاريخ بغداد، ج12، ص136.

(17) تنقيح المقال، المامقاني، ج2، ص128_بطل العلقمي، المظفّر، ج1، ص97

(18) أسرار الشهادة، الفاضل الدربندي، ج2، ص497_معالي السبطين، ج1، ص434_ بطل العلقمي، المظفر، ج1، ص120.

(19) بطل العلقمي، المظفّر، ج2، ص8.

(20) أمالي الصدوق، ص547_بحار الأنوار، المجلسي، ج44، ص298. 

(21) عمدة الطالب، الداودي، ص356.

(22) إبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام)، الشيخ محمّد بن طاهر السماوي، ص57. 

(23) مقتل الحسين (عليه السلام)، السيّد عبد الرزاق المقرّم، ص269.

(24) بطل العلقمي، المظفر، ج3، ص489.

(25) أمّ البنين، علي ربّاني الخلخالي، ص127.

(26) بحار الأنوار، المجلسي، ج98، ص245.

(27) مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الإصفهاني، ص88.

(28) أضعفه وأثخنه بالجراحة، وصرعه صرعة لا يقوم منها.

(29) إبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام)، السماوي، ص35.

(30) بحار الأنوار، المجلسي، ج98، ص245.

(31) تنقيح المقال، المامقاني، ج1، ص219

(32) مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الإصفهاني، ص88.

(33) تاريخ الطبري،ج3، ص332.

(34) بحار الأنوار، المجلسي، ج98، ص245.

(35) مقتل أبي مخنف، ص188.

(36) تاريخ الطبري، ج3، ص313.

(37) العبّاس قائد الكرامة والفداء، الشيخ باقر شريف القرشي، ص37.

(38) اللهوف لابن طاووس، ص115.

(39) تنقيح المقال، المامقاني، ج3، ص70.

(40) المصدر نفسه.

(41) مولد العبّاس، محمّد علي الناصري، ص44.

(42) تذكرة الشهداء، الملا حبيب الكاشاني، ص517.

(43) مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الإصفهاني، ص90.

(44) أمّ البنين سيّدة نساء العرب، السيد مهدي السويج، ص84.

(45) المصدر السابق.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا