السلام على الحسين وعلى عليِّ بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
السلام عليكم أيّها السادة العلماء والخطباء.
السلام عليكم أيّها الأخوة جميعاً ورحمة الله وبركاته.
في عاشوراء الحسين (عليه السلام) كثيرةٌ هي الأدوات التي يُمْكن أن تُعزِّز قضية الوحدة الإسلامية في عقل وقلب وإرادة العاشورائيين، ويأتي الخطاب الحسيني وكلمة المنبر وخطبائه في طليعة تلك الأدوات إذا ما انفتح الخطاب والكلمة والخطيب على الإسلام في همومه وتطلّعاته وإراداته وأولويّاته.
وورقتي هـذه تتضمّن محورين، في المحور الأول تشديد على اثنتين
من مسؤوليات الخطباء وعامّة المبلّغين، وعلى اثنتين من مواصفاتهم.
وقد آثرت توظيف الخطبة المأثورة عن سيّد الشهداء (عليه السلام) -والتي هي من السهل الممتنع- للاستشهاد لنقاط هذا المحور.
وفي المحور الثاني تأصيل للوحدة الإسلامية، والإلماح إلى أنموذج قرآني يسهم في تفعيل الوحدة الإسلامية.
فإلى هذه الورقة:
المحور الأول: الخطيب (المبلِّغ) مواصفات ومسؤوليات
المسؤوليات: فمهما تنوّعت مسؤوليات الخطيب وتكثّرت إلا أنّها أجمع ترجع إلى مسؤوليتين اثنتين:
1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ومن المسؤوليات المناطة بالخطيب (المبلّغ) بامتياز وبنحوٍ آكد وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رغم أنّها لا تختصّ بفئةٍ ولا بشريحة، قال سبحانه محضِّضاً العلماء على وظيفة النهي عن المنكر محرّجاً على تركها: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(2).
وفي الخطبة التي رواها الشيخ الأقدم ابن شعبة الحرّاني في كتابه تحف العقول عن الإمام التقي السبط الشهيد أبي عبدالله الحسين بن عليّ (عليه السلام) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار؛ إذ يقولُ: {لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ}، وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(3)، وإنما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك؛ رغبةً فيما كانوا ينالون منهم، ورهبةً مما يحذرون، والله يقول: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ واخْشَوْنِ}(4)، وقال: {الْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(5)، فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه؛ لعلمه بأنّها إذا أدِّيت وأقيمت استقامت الفرائض كلُّها هيّنها وصعبها، وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاءٌ إلى الإسلام مع ردِّ المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفيء والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها، ووضعُها في حقِّها» إلى أن يقول: «وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمَّةَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) محقورة(مخفورة خ)، والعمي والبكم والزمنى في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تعينون(تعتبون خ)، وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كلُّ ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون».
2- تبليغ رسالات الله:
من المسؤوليات المناطة بالخطيب(المبلّغ) تبليغ رسالات الله، قال سبحانه: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ}(6)، وكما أنّ مفردة(الرسالة)قد استعملت في مجموع تعاليم الدين كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(7)، كذلك مفردة(الرسالات) قد استُعْملت -هي الأخرى- ويراد بها أيضاً مجموع تعاليم الدين، قال تعالى على لسان نوح النبي (عليه السلام): {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(8)، وقال تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}(9)، وقال تعالى حكايةً عن شعيب النبي (عليه السلام):{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}(10).
نعم ثمّة رسالات لابد أن تبلّغ، ولا بدّ أن يكون التبليغ لها أجمع، لا أن تُبلَّغَ منقوصة أو مبتورة أو مجتزئة وبانتقائية، وهذا كما قد يستفاد من نفس قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ}(11)، كذلك يستفاد -ولو بالإضافة إلى بعض الرسالات والتعاليم- من قوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(12) فإهمال تبليغ واحدةٍ من الرسالات إهمال تبليغ كلّ الرسالات.
المواصفات:
ومهما تشعّبت مواصفات الخطيب(المبلّغ)، إلا أنّ لُبابها أمران، وما سواهما يرجع إليهما، أحدهما العلم، والآخر التقوى.
ففيما يخصّ أمر العلم وبالالتفات إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ}، لا بد أن تُعلم تلكم الرسالات، وأن يُحاط بها خُبْراً كيما تبلّغ، فما لم يتوفّر الخطيب(المبلّغ) على الإحاطة الكافية برسالات الله وتعاليم دينه فأنّى له بتبليغها.
فالمأمول أن يكون الخطيب(المبلّغ) عالماً، وسَيَعي الإسلام ببصيرةٍ وعمق.
وأن يكون فاضلاً وسيقتدر على محاكمة أفكاره عن الدين ومجمل الأفكار عنه، وسيُميّز الغثِّ من السمين، وستتضح له رؤية الدين للحياة وكذا مرادات الدين وأولوياته وخريطة طريقه العامّة.
وفيما يخصّ أمر التقوى وخشية الله-ولو في ناحية التبليغ- يقول تعالى{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ}.
وفي الخطبة المأثورة عن سيّد الشهداء (عليه السلام) بشأن الربّانيّين والأحبار: «وإنّما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك؛ رغبةً فيما كانوا ينالون منهم، ورهبةً مما يحذرون والله يقول: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ واخْشَوْنِ}».
وفي الخطبة الحسينية أيضاً ما يُستفاد منه بوضوح ضرورة التضحية وأنّ طريق المبلّغ والناهي عن المنكر طريق ذات الشوكة، فتقول الخطبة: «فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للّذي خلقها، ولا عشيرةً عاديتموها في ذات الله»، إلى أن يقول مخاطباً العلماء ولافتاً إلى لابديّة المعاناة وإلا لصارت وظائفهم إلى غيرهم: «وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون(تسمعون خ)؛ ذلك بأنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرّقكم عن الحق، واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم، واستسلمتم(أسلمتم خ) أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلّطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستبعد (مستعبد خ) مقهور وبين مستضعف على معيشته مغلوب».
فالمأمول أن يتوفّر المبلّغ(الخطيب) على معرفة بالله وعلم به يسوقه إلى خشيته، ففي الصحيفة السجادية من دعائه (عليه السلام) في الإلحاح على الله تعالى -وهو الدعاء الثاني والخمسون منها- في إشارة إلى قوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}- يقول (عليه السلام): «سُبْحَانَكَ أَخْشَى خَلْقِكَ لَكَ أَعْلَمُهُمْ بِكَ»(13).
ثمّ إنّ قوله سبحانه في سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} تعريف من الله سبحانه لنا بنفسه، فكونه مالكاً لنا ولما سوانا يحتّم علينا عقلاً ألا نتصرّف في هذا الملك بغير ما يأذن فيه، وكونه منعّماً يحتِّم علينا فطرةً أن نشكر نِعَمَه، بألا نسخِّرها فيما لا يرضى، وكونه مجازياًَ يحتِّم علينا عقلاً وفطرةً ألا نتنكّب الطريق حذار عقوبته، ونفس هذه المعرفة قد استولت على نفس يوسف الصدّيق (عليه السلام) لحظة تأتّي المعصية، وأخذت مكانها منها فولدت فيها وازعاً عنها، قال سبحانه-على لسانه (عليه السلام)-: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(14).
ثمّ المأمول من الخطيب(المبلّغ) ألا يخشى مع الله غيره كائناً منْ كان، وإلا فستكون هذه الخشية على حساب خشية الله وستضرُّ بها.
المحور الثاني: الوحدة الإسلامية تأصيلاً وممارسةً
إنّ أمر الوحدة الإسلامية من الأمور التي شغلت أذهانَ العلماء بالإسلام الحريصين عليه وعلى أهله، فبعد أن أدركوا من خلال الإسلام أهميّتها وخطرها، ووعوا خطورة الفرقة وفداحتها أخذوا في التأصيل لها والدعوة إليها والمنافحة عنها، فلنتناولها في العناوين التالية:
أولاً: الوحدة مطلوب القرآن:
فقد ركّز القرآن على المشترك بين الديانات التوحيديّة جميعاً فدعا إلى توحيد المعبود وتوحيد المطاع وإخلاصه بالطاعة، فقال سبحان: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(15).
بل قد يقال- كما أفاد سيّد الميزان (رضيَّ الله عنه) في تفسير الآية: "والدعوة في قوله: {إِلَى كَلِمَةٍ...} بالحقيقة إنّما هي إلى الاجتماع على معنى الكلمة بالعمل به(أي العمل بمعنى الكلمة)... فالمعنى: تعالوا نأخذ بهذه الكلمة متعاونين متعاضدين في نشرها والعمل بما توجبه"(16).
هذا والوحدة التي دائرتها المسلمون وقاعدتها مشتركات الإسلام أخصّ من الوحدة التي دائرتها المسلمون وأهل الكتاب، فالدعوة إلى الثانية دعوة إلى الأولى ضمناً، فحقيقٌ بالخطيب(المبلّغ) أن يركّزها في عقول ونفوس وإرادات مستمعيه وأن يستحثّهم للعمل بموجبها.
ثانياً: لا للفُرقة مطلقاً:
إنّ الوحدة التي قاعدتها الإسلام في مشتركاته، ودائرتها المسلمون لم يُؤْذن بفتّها والتفريط فيها والمصير إلى الفُرقة والتناحر والاقتتال لأيّ سبب وإن تعاظم وبموجب أيّة ذريعة وإن جلّت.
فلم يؤذن لمثل لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على تقدير أن يُعْصى ويُخالَف أمره في البراءة من مخالفي أمره المفضية إلى عزلهم وتشطير المجتمع الإسلامي، قال سبحانه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}(17).
ورغم ضلال بني إسرائيل واتخاذهم العجل إلهاً واعتقادهم بأنّه إله موسى (عليه السلام)، وقد ناصحهم هارون في غياب موسى (عليه السلام)، وأوضح لهم بأنّ عبادة العجل ضلال ولكنّه لم يقدم على خطوة من شأنها شق المجتمع وتشطيره، وقد اعتذر لموسى بذلك، واستوجه موسى عذره ولم يردّه، قال سبحانه حكايةً على لسان موسى (عليه السلام): {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}(18).
ثالثاً: الاختلاف حالة نشاز:
لمّا لم يكن الاختلاف حالة سويّة وطبيعيّة بل حالة نشاز وعلى خلاف مقتضيات الواقع الاجتماعي- كانت الحكمة وأحد أهداف إنزال القرآن العزيز- نزع فتيل الخلافات والاختلافات، قال سبحانه:{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(19).
وكيف يكون اختلاف وتشطير المجتمع حالة سويّة، والحال أنّ الرحمة بمنأى عن مثل هذا المجتمع، قال سبحانه:{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}(20).
وأما ما أثر عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) أنّه قال: «اختلاف أمّتي رحمة» فلم يرد من طرقنا بسندٍ معتبر، والوارد من طرقنا ورد معه بيانه، وأنّه لا يراد بالاختلاف فيه ما يُساوق افتراق الأمّة، ففي علل الشرائع(21) ومعاني الأخبار(22) لرئيس المحدّثين الشيخ الصدوق (رضيَّ الله عنه) بإسناده عن عبد المؤمن الأنصاري قال: «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إنّ قوماً يروون أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال: اختلاف أمّتي رحمة، فقال: صدقوا، فقلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، قال: ليس حيث تذهب وذهبوا، وإنّما أراد قول الله عزّ وجلَّ {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ويختلفوا إليه فيتعلّموا، ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله، إنّما الدينُ واحد، إنّما الدين واحد».
رابعاً: الاختلاف داعية الاقتتال والضعف:
وكيف يكون الاختلاف رحمة وحالة سويّة وهو يدفع باتجاه التناحر والاقتتال، قال سبحانه: {وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(23).
وكيف يكون الاختلاف رحمة وحالة سويّة ومنتهاه إلى ضعف الأمّة ووهنها، قال سبحانه: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(24).
خامساً: إيّانا أن نختلف:
ثمّة نهي واضح عن أن نوجد فُرْقة ونؤسّس لها، قال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(25).
وثمّة أمور لا تقلُّ -سوءاً وملاكاً- عن إيجاد الفُرْقة والتأسيس لها- كعدم معالجة أسبابها للقضاء عليها أو عدم إدارة الاختلاف الموجد لها وكتعميقها أو المزايدة من تبعاتها.
سادساً وأخيراً: {مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ}(26):
في مثل هذه الظروف العصيبة للأمّة الإسلامية ونزعاً لفتيل اقتتالها وتناحرها وإفشالاً لمخطّطات أعدائها الراقصين على وتر الطائفية والساعين حثيثاً في المزيد من طأفنتها وتعميق فوارقها وتقزيم مشتركاتها تمسّ الحاجة والضرورة إلى إعلان السلم ولو بشكل منفرد من هذه الطائفة أو تلك، وممّن يملك كلمة مسموعة في الناس وأن لا ينتظر في إعلانه إلى توافق عليه، ولنا في هابيل قدوة حسنة، إذ كانت ردّة فعله عن عزم أخيه قتله وإن أخذ في مقدّماته-هي إصحاره وإعلانه السلم بقوله- كما حكاه عنه الله سبحانه: {مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ}.
ولئن كان المشترك بين هابيل وقابيل هو أخوّة النسب فالمشترك بين المسلمين أخوّة أمتن من تلك، وهي أخوّة الدين، وقد ورد بنحوٍ مستفيض أنّ الإسلام شهادة ألا إله إلا الله والتصديق برسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس(27).
فالمأمول من الخطيب(المبلّغ) أن يجعل في ضمن مساحة ما يُبلّغه للمؤمنين قضية الوحدة الإسلامية وأن يُشدّد عليها ويدفع نحو موجباتها والأخذ بمقتضياتها، وأن يعلن السلم {مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} وأن يؤكّد عليه.
ولا يفوتني أن أشيد بإكبار بالخطوة المسؤولة للمجلس الإسلامي العلمائي المتمثّلة في وثيقة الوحدة الإسلامية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على محمّد وآله الأطيبين الأطهرين وأصحابه المنتجبين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التوصيات:
1- المأمول أن يتدرج الخطيب(المبلّغ) في مدارج العلم، وسيعي الإسلام ببصيرة وعمق، وأن يكون فاضلًا، ليقتدر على محاكمة أفكاره عن الدِّين ومجمل الأفكار عنه، وتمييز الغثَّ من السمين، ولتتضح له رؤية الدين للحياة.
2- المأمول أن يتوفّر المبلّغ (الخطيب) على معرفة بالله، وعلم به يسوقه إلى خشيته، وألا يخشى مع الله غيره كائنًا منْ كان، وإلا فستكون هذه الخشية على حساب خشية الله وستضرُّ بها.
3- المأمول من الخطيب(المبلّغ) أن يجعل في ضمن مساحة ما يُبلّغه للمؤمنين قضية الوحدة الإسلاميَّة، وأن يُشدّد عليها، ويدفع نحو موجباتها، والأخذ بمقتضياتها.
4- الوحدة التي دائرتها المسلمون وقاعدتها مشتركات الإسلام، أخصّ من الوحدة التي دائرتها المسلمون وأهل الكتاب، فالدعوة إلى الثانية دعوة إلى الأولى بطريق أولى، فحقيقٌ بالخطيب (المبلّغ) أن يركّزها في عقول، ونفوس وإرادات مستمعيه، وأن يستحثّهم للعمل بموجبها.
5- في مثل هذه الظروف العصيبة للأمَّة الإسلامية، ونزعًا لفتيل اقتتالها وتناحرها، وإفشالًا لمخطَّطات أعدائها الراقصين على وتر الطائفية والساعين حثيثًا في المزيد من طَأْفَنَتِها، وتعميق فوارقها، وتقزيم مشتركاتها تمسُّ الحاجة والضرورة إلى إعلان السِّلم ولو بشكل منفرد من هذه الطائفة أو تلك، وممّن يملك كلمة مسموعة في النَّاس، وأن لا ينتظر في إعلانه إلى توافق عليه.
* الهوامش:
(1) ورقتي في مؤتمر عاشوراء الثامن تلا شطراً وافراً من هذه الورقة فضيلة الشيخ محمّد صالح القطري(دام موفّقاً) في مؤتمر عاشوراء الثامن الذي أقامه المجلس الإسلامي العلمائي ليلة 14 من ذي القعدة 1434هـ.
(2) المائدة:63.
(3) المائدة: 79:78.
(4) المائدة: 44.
(5) التوبة: 71.
(6) الأحزاب: 39.
(7) المائدة: 67.
(8) الأعراف: 62.
(9) الأعراف: 68.
(10) الأعراف: 93.
(11) الأحزاب: 39.
(12) المائدة: 67.
(13) الصحيفة السجّادية ص 254.
(14) يوسف: 23.
(15) آل عمران: 64.
(16) الميزان ج 3 ص 246.
(17) الشعراء: 214-216.
(18) طه: 92-94.
(19) النحل: 64.
(20) هود: 18.
(21) ج1: 85 ح4.
(22) ص 157 ح3.
(23) البقرة: 253.
(24) الأنفال:46.
(25) آل عمران: 105.
(26) المائدة: 28.
(27) الكافي2: 24-29 باب أنّ الإسلام يحقن به الدم ح1، 4، 5، 6، وباب الإيمان بشرك الإسلام ح1، 3، 5.
0 التعليق
ارسال التعليق