بسم الله.. والحمد لله.. وسلام على عباده الذين اصطفى.. قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}(1). ما هو الحد الفاصل بين القاصر والمؤهل في نظر الشريعة؟
يُعتبر اليتيم -في نظر الشريعة- قاصر، والصغير أيضاً مع وجود والده قاصر، وكذلك المجنون. والمقصود من القاصر هو الذي لا يستطيع القيام بالمعاملات، وإجراء العقود، والزواج لنفسه بنفسه فضلا عن غيره، إنما يحتاج إلى الولي وهو الأب أو الجد أو الوصي. والمؤهل هو الشخص المسؤول عن تصرفاته، والقادر على القيام بالمعاملات التجارية، وإبرام الاتفاقات، وإجراء العقود. وهذه الآية الكريمة تتناول بحث الأهلية، وتحدد الشروط التي إذا توفرت في الذكر أو الأنثى كانت لديهما الأهلية في التصرفات المالية، والعقود، والشروط هي:
الشرط الأول: بلوغ النكاح:
قال صاحب الجواهر: «عن المفسرين أن المراد بقوله تعالى {بَلَغُوا النِّكَاحَ} شهوة النكاح، والوطئ، والقدرة على الإنزال»(2). والشريعةُ الإسلاميةُ حددت البلوغ للذكر بثلاثة أمور: 1) الاحتلام. 2) نبات الشعر. 3) إكمال خمسة عشر هلالية. وحددت الشريعة البلوغ للأنثى بأمر واحد وهو: إكمال تسع سنوات هلالية. عن حمران قال: «سألت أبا جعفر(عليه السلام)، قلت له: متى يجب على الغلام أن يُؤْخَذ بالحدود التامة، وتُقَام عليه، ويُؤْخذ بها؟ قال: إذا خرج عنه اليتم وأدرك، قلت: فلذلك حدٌ يُعْرف به؟ فقال: إذا احتلم، أو بلغ خمس عشرة سنة، أو أشعر أو أنبت قبل ذلك، أقيمت عليه الحدود التامة، وأخذ بها وأخذت له. قلت: فالجارية، متى تجب عليها الحدود التامة وتُؤْخذ بها، ويُؤْخذ لها؟ قال: إن الجارية ليست مثل الغلام، إن الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع، وأقيمت عليها الحدود التامة، وأخذ لها بها، قال: والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع، ولا يخرج من اليتم، حتى يبلغ خمس عشرة، أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك»(3).
الشرط الثاني والثالث: العقل والرشد:
العقلُ والرُشْدُ شرطان آخران من الشروط التي تؤهل الإنسان للقيام بإجراء العقود والتصرفات المالية وغيرها، والآيةُ الكريمةُ تبين هذين الشرطين في قوله تعالى: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}. ذكر شيخ الطائفة الطوسي الاختلاف في معنى الرشد فقال: «ابن عباس: معناه: صلاحا في الدين، وإصلاحا للمال. وقال مجاهد والشعبي: معناه العقل. قال: لا يدفع إلى اليتيم ماله، وإن أخذ بلحيته، وإن كان شيخا، حتى يؤنس منه رشده: العقل. وقال ابن جريج: صلاحا، وعلما بما يصلحه. والأقوى أن يحمل على أن المراد به العقل، وإصلاح المال، على ما قال ابن عباس، والحسن، وهو المروي عن أبي جعفر(عليه السلام)»(4).
وقال المحقق الحلي: «ويعلم رشده: باختباره بما يلائمه من التصرفات، ليعلم قوته على المكايسة في المبايعات، وتحفظه من الانخداع. وكذا تختبر الصبية ورشدها، أن تتحفظ من التبذير، وأن تعتني بالاستغزال مثلا والاستنتاج، إن كانت من أهل ذلك، أو بما يضاهيه من الحركات المناسبة لها. ويثبت الرشد بشهادة الرجال في الرجال، وبشهادة الرجال والنساء في النساء»(5).
لكن صاحب الجواهر أرجع معنى الرشد إلى إصلاح المال، وقال: «المراد بإصلاح المال حفظه والاعتناء بحاله، وعدم تبذيره والمبالاة ونحو ذلك مما ينافيه العرف بالأعمال التي لا تليق بحاله. أما تنميته والتكسب به فقد يمنع اعتباره في الرشد عرفا»(6).
إذا توفرت هذه الشروط الثلاثة في الذكر أو الأنثى انتقل من مرحلة الصبا والطفولة إلى مرحلة المسؤولية، وكانت لديه الأهلية لممارسة أي معاملة بنفسه.
آثار الأهلية:
إذا توفرت هذه الشروط في الذكر والأنثى تترتب آثار شرعية منها:
1) رَفْعُ الحجر عنه، بمعنى ترتفع ولاية الأب أو الجد أو الوصي.
2) صحة العقود والمعاملات التجارية.
3) الزواج.
ما يهمنا في هذا البحث هو أهلية الزواج.
أهلية الزواج:
أولا: الولد البالغ العاقل الرشيد له أهلية للزواج في نظر الشريعة دون الحاجة إلى الإستئذان من الأب أو الجد، ولذا قال الفقهاء: "لا ولاية لهما على البالغ الرشيد"(7). وورد في الرواية عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قلت له: «إني أريد أن أتزوج امرأة وإن أبواي أرادا أن يزوجاني غيرها، فقال: تزوج التي هويت، ودع التي يهوي أبواك»(8).
ثانيا: المرأة البالغة العاقلة الرشيدة الثيب -أي المطلقة أو الأرملة أو التي فقدت عذريتها لأي سبب- لها الأهلية في نظر الشريعة أنْ تزوج نفسها دون أن تكون للأب أو الجد ولاية عليها، وبهذا أفتى الفقهاء: "لا ولاية لهما على البالغ الرشيد، ولا على البالغة الرشيدة إذا كانت ثيبا"(9).
عن الحلبي عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنه قال في المرأة الثيب تخطب إلى نفسها قال: «هي أملك بنفسها تولي أمرها من شاءت إذا كان كفوا بعد أن تكون قد نكحت رجلا قبله»(10).
ثالثا: أما البنت البالغة العاقلة الرشيدة البِكْر لها الولاية على أموالها، ولكن هل لها الولاية على نفسها في الزواج؟ أم للأب أو للجد ولاية عليها في ذلك؟ هذه المسألة تعددت فيها الآراء:
الرأي الأول: لها الولاية على نفسها.
الرأي الثاني: للأب أو الجد ولاية على البنت البِكْر الرشيدة.
الرأي الثالث: الاشتراك بين إذنها وإذن والدها.
ورأي الفقهاء المتأخرين هو الاشتراك بين إذنها وإذن والدها، يقول السيد الخوئي: «لا ولاية للأب والجد على البالغ الرشيد، ولا على البالغة الرشيدة عدا البكر فإن الأحوط لزوما في تزويجها اعتبار إذن أحدهما وإذنها معا»(11).
عن صفوان قال: «استشار عبد الرحمن موسى بن جعفر(عليه السلام) في تزويج ابنته لابن أخيه، فقال: افعل ويكون ذلك برضاها، فإن لها في نفسها نصيبا قال: واستشار خالد بن داود موسى بن جعفر(عليه السلام) في تزويج ابنته علي بن جعفر فقال: افعل ويكون ذلك برضاها فإن لها في نفسها حظا»(12). إذن الشريعة الإسلامية بينت الشروط التي تُعطي الأهلية للولد والبيت في الإستقلال في التصرفات المالية والزواج.
الترغيب في الزواج:
من جانب آخر حثَّ الإسلام ورغّب في الزواج المبكر، لأنَّ من أهداف الزواج تحصين الولد والبنت من الانحراف، ولذا وردت الروايات التي ترغّب في الزواج المبكر منها: عن أبي بصير عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «أتى رسول الله(صلّى الله عليه وآله) شاب من الأنصار فشكا إليه الحاجة، فقال له: تزوج، فقال الشاب: إني لأستحيي أن أعود إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، فلحقه رجل من الأنصار فقال: إن لي بنتا وسيمة، فزوجها إياه، قال: فوسع الله عليه، فأتى الشاب النبي(صلّى الله عليه وآله) فأخبره، فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله): "يا معشر الشباب عليكم بالباه"»(13).
عن بعض أصحابنا قال الكليني: سقط عني إسناده، قال: «إن الله(عزّ وجلّ) لم يترك شيئا مما يُحتاج إليه إلا وعلمه نبيه(صلّى الله عليه وآله)، فكان من تعليمه إياه أنه صعد المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن جبرئيل أتاني عن اللطيف الخيبر فقال: إن الأبكار بمنزلة الثمر على الشجر، إذا أدرك ثمارها فلم تجتن أفسدته الشمس، ونثرته الرياح، وكذلك الأبكار إذا أدركن ما يدرك النساء، فليس لهن دواء إلا البعولة وإلا لم يؤمن عليهن الفساد لأنهن بشر، قال: فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، فمن نزوج؟ فقال: الأكفاء فقال: ومن الأكفاء؟ فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض، المؤمنون بعضهم أكفاء بعض»(14).
السيرة النبوية وأهلية الزواج:
لقد ذكر أهل الحديث والسيرة من العامة أن النبي (صلّى الله عليه وآله) تزوج بإم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، وكان عمرها ست سنين، مع تحفظنا على مثل هذه الروايات، لكننا نورد بعضا منها: عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «تزوجني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لست سنين وبنى بي وأنا بنت تسع سنين»(15). وعن عروة عن عائشة: «أن النبي (صلّى الله عليه وآله) تزوجها وهي بنت سبع سنين وزفت إليه وهي بنت تسع سنين ولعبها معها ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة»(16). وعن عائشة قالت: «ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة، وما تزوجني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلا بعد ما ماتت، وذلك أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب». هذا حديث حسن صحيح(17).
هذا ما ورد في كتب العامة أما التحقيق في هذا القول، وتصحيحه أو نفيه، فللمحققين من الإمامية نظرٌ في سنِّ عائشة عند زواجها من رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، يقول السيد جعفر العاملي: «يقولون: إنه -صلى الله عليه وآله وسلم- قد عقد على عائشة، وهي بنت ست سنين، أو سبع. ثم انتقلت إلى بيته بعد هجرته إلى المدينة، وهي بنت تسع. وهذا هو المروي عنها. ونحن نقول: إن ذلك غير صحيح، وأن عمرها كان أزيد من ذلك بكثير، ونستند في ذلك إلى ما يلي:
أولا: إن ابن إسحاق قد عدَّ عائشة في جملة من أسلم أول البعثة، قال: وهي يومئذ صغيرة. وأنها أسلمت بعد ثمانية عشر إنسانا فقط. فلو جعلنا عمرها حين البعثة سبع سنين مثلا فإنَّ عمرها حين العقد عليها كان 17 سنة، وحين الهجرة 20 سنة.
ثانيا: يذكر ابن قتيبة أنَّ عائشة قد توفيت سنة 58 -وعند غيره سنة 57 ه- وقد قاربت السبعين، ولضم ذلك إلى ما يقوله البعض من أن خديجة قد توفيت قبل الهجرة بثلاث، أو بأربع، أو بخمس سنين ثم ما روي عن عائشة من قولها: تزوجني رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأنا بنت تسع سنين.
إذن، فيكون عمر عائشة حين عقد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عليها في سنة عشر من البعثة ما بين ثلاثة عشر إلى سبعة عشر سنة»(18).
وما أورده علماء العامة من أحاديث حول سن عائشة عند زواجها من النبي(صلّى الله عليه وآله) هو دليل من الأدلة الفقهية، وحجة شرعية عند أهل العامة لتصحيح سائر الزيجات التي من هذا النوع ما دام تتوفر فيها الشروط المقررة في الشريعة الإسلامية.
بعد هذه الدراسة الموجزة حول أهلية الزواج، وبيان رأي الإمامية، وإيراد دليل من أدلة علماء العامة حول أهلية الزواج، من حقنا أن نسأل وزير العدل والشؤون الإسلامية في حكومة البحرين عن المادة العاشرة من القرار 45 لسنة 2007م بشأن لائحة المؤذونيين الشرعيين وأحكام لتوثيق المحررات المتعلقة بالأحوال الشخصية، حيث تقول المادة العاشرة "يُمنع إجراء عقد الزواج والمصادقة عليه، ما لم يكن سن الزوجة خمس عشرة سنة، وسن الزوج ثماني عشرة سنة وقت العقد ما لم تبرر ضرورة ملجئة للزواج لمن هم دون هذا السن وبإذن من المحكمة"(19).
نسأل: ما هو الدليل الشرعي الذي استند إليه؟ وهل تتطابق هذه المادة مع الشريعة الإسلامية؟ ونحن مع الدعوات المخلصة التي تطالب بإلغاء أي مادة تخالف الشريعة الإسلامية خصوصا في دائرة الأحوال الشخصية.
* الهوامش:
(1) النساء6.
(2) جواهر الكلام ج26ص12.
(3) وسائل الشيعة (آل البيت) ج1ص43.
(4) التبيان ج3ص117.
(5) شرائع الإسلام ج2ص352.
(6) جواهر الكلام ج26ص49.
(7) كتاب النكاح للخوئي ج2ص249.
(8) وسائل الشيعة (آل البيت) ج20ص293.
(9)كتاب النكاح للخوئي ج2ص249.
(10) وسائل الشيعة (آل البيت) ج20ص269.
(11) منهاج الصالحين ج2ص261.
(12) وسائل الشيعة (آل البيت) ج20ص284.
(13) وسائل الشيعة (آل البيت) ج20ص44.
(14) وسائل الشيعة (آل البيت) ج20 ص61.
(15) صحيح مسلم ج4 ص141.
(16) صحيح مسلم ج4ص142.
(17) سنن الترمذي ج5ص366.
(18) الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج3ص286-287.
(19) يمكن مراجعة موقع وزارة العدل الإلكتروني.
0 التعليق
ارسال التعليق