سنَّةُ التغيير من السنن التي سنّها الباري في هذه الخليقة، فأيُّ حراكٍ في هذه البسيطة يريد أنْ يغيّر من واقعه إلى الأفضل فالمدد الإلهيّ سيكون حليفه، حيث إن المدد والعون السماويّ متوقفٌ على إرادة الإنسان في التغيير، ولكن لو لم يحرّك الإنسان ساكناً فلن تناله تلك النفحات السماويّة، فلقد قال الباري (عزّ وجلّ): {... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...}(1)، فسنَّةُ التّغيير عبارةٌ عن ثورةٍ أرضيةٍ وانتصارٍ سماويٍّ، فإذا ثار المُصلح في الأرض وحاول إحقاق الحقّ فيها، فلا بدَّ أن نرى الأثر السماويّ معه.
إنّ الحُسن والقبح -على مذهب الإماميّة- من الأمور العقليّة، فأيّ إنسان إذا سألناه هل تريد أن يهجم الظالم عليك؟ فإنّه سيجيب: كلا!. حتى وإن تجرّد هذا الإنسان من كلّ أطياف الدّيانات؛ لأنّ كلّ مخلوق قد جُبِلَ على حبِّ الخير، فهو يرى الحُسن حسناً حتى وإن كان ضد رغباته، ويرى القُبح باطلاً حتى وإن كان في صفّه، نعم قد تُغطِّي على الإنسان مصالُحه الآنيّة فتنقلب الموازين لديه، ولكن في قرارة نفسه هو يحكم بأنَّ هذا الفعل حسنٌ أو قبيحٌ.
ومن المصاديق المهمّة للذين انقلبت بهم موازين الحُسن والقبح هي الأنظمة الظالمة، فهي تلوك الحقّ لجانبها حتى وإن كلّفها ذلك الكذب وإرغام الآخرين على قبول قولها.
والقرآن الكريم يحكي لنا بعض الأساليب التي تنتهجها الأنظمة الجائرة ضدّ الحركات التغييريّة والإصلاحيّة التي تقوم بها الشعوب، وهذه الأساليب هي سنةٌ قد نصّ عليها القرآن، فهي سائدةٌ في كلّ نظام جائر يهدف من خلالها إلى إبقاء عروش جوره، وذلك لأنّ تلك الأنظمة تعلم أنَّ وجودها لم يكن قانونياً أو إنسانيّاً، وإنّما جاء على حين غفلةٍ من الشعوب أو في فترة ضعفٍ لتلك الشعوب أو قهراً لها، فلأجل أن تبقى تلك العروش فإنّ أساليب القمع والظلم الذي ذكره القرآن الكريم هو عبارة عن بيانٍ واضحٍ وفاضحٍ لكلّ من تغطّى بغطاء المُلك وهو يحكم بالظلم بين الناس لكي يسود حكمه رغم أنف الشعوب.
بحثنا هنا يستعرض الشواهد القرآنية التي تحكي ظلم الأنظمة الظالمة لشعبها، وكيف أنَّه يبني حكمه على أساس الظنون، وأيضاً نتعرّض لسيرة النبي الأعظم محمد (صلّى الله عليه وآله) وآله (عليهم السلام) ذلك في بعض الشواهد على ظلم المشركين له (صلّى الله عليه وآله) ولعائلته.
ولك أيّها القارئ أن تقيس تلك السنن الذي ذكرها القرآن الكريم على واقعنا لترى هل تنطبق أم لا، وهل هناك من يتّعظ بما جرى لتلك الأنظمة الظالمة، أم على قلوبٍ أقفالها؟
1-الضربة الاستباقية:
من خلال قصة نبي الله موسى (عليه السلام) وعدوّه وعدوّ الباري فرعون، يذكر المؤرخون أنّ المنجّمين عندما جاؤوا بخبرٍ لفرعون يفيد بأنّهم نظروا للنجوم وعرفوا بأنَّ زوال ملكه سوف يكون عبر أشخاص من بني إسرائيل(2)، لذا قرّر فرعون أنّ يقوم بضربة استباقية، أي قبل أن ينشأ ذلك الجيل الذي يريد التّغيير فإنّه سيمحوا وجوده(3)، فبنى فرعون أمره على كلام المنجمين الذي به ما به من شوائبَ وأخطاءٍ وتُرّهات، فقام فرعون بقتل أيّ مولودٍ ذَكَرٍ في تلك الفترة، فلم يُبقِ لبني إسرائيل أيّ أبناء، فجاء سادات القوم إلى فرعون واشتكوا عنده على أنّ فعله هذا سوف لن يُبقي في الشعب من يقوم بخدمتهم، فأمر فرعون بأن يقتلوا سنةً وأن تكون هناك سنةٌ أخرى تسمى بسنة المكرمة والهبة والعفو وتعود الكرّة مرةً أخرى في السنوات الأخرى وهكذا.
يقول المؤرخون أنّ نبي الله هارون قد وُلِدَ في سنة العفو والسماح والمكرمة، بينما نبي الله موسى (عليه السلام) قد وُلِدَ في سنة القتل، غير أنّ الله قد حفظ رسوله من القتل، فأمر أمّه بأن ترضعه و تلقيه في اليمّ(4)، وهكذا ولد من سيمحو الحكومة الظالمة الفرعونية.
وأمّا في واقعنا فإننا نرى أنّ الحكومات الظالمة وفراعين أزمتنا قد أخذت على عاتقها إحياء الفكر الفرعونيّ في الضربات الاستباقيّة، فقبل أن توضّح أيّ معارضة شعبية مرئيّاتها التصحيحية نرى أن التُهم قد قيلت جُزافاً بأنّ ميول هذه الفئة -الضالّة- خارجيّة، وأنّها تستقي خططها ودعمها من أحزابٍ معينة.
2-التشويه الإعلاميّ:
كما أنّ فرعون قد كان أعلى سلطةٍ في مملكته، فلقد كانت القوة والهالة الإعلاميّة بيده، فنرى أنَّـه هو بنفسه الذي قد دعا السحرة لمجابهة الفئة المواجهة لنظامه والمتمثلة في نبي الله موسى وأخيه هارون (عليهما السلام)، وهو الذي قد وعد السحرة بأنّهم سيكونون من المقرّبين ناهيك عن الأجر الذي سوف ينالونه جرّاء انتصارهم على موسى (عليه السلام) إن تحقّق(5).
إنّ هذا التحشيد من السحرة والإمكانيّات ضدّ شخصين فقط أرادا الإصلاح في الأمّة، ينمُّ عن خوف السلطة آنذاك على بقائها؛ ذلك لأنّ أساس تلك السلطة كان واهناً.
عموماً عندما خسر السحرةُ الحرب، وخسر فرعون الرهان، انقلب السحرة إلى ساحة الحقّ أي: إلى حزب المعارضة، فبدأ فرعون باتّهام السحرة بأنّهم قد قاموا بهذه اللعبة من أجل إغواء الناس، واتّهم حزب المعارضة أي: موسى والسحرة بأنهم شرذمةٌ قليلون(6)، فعلى الرغم من أنّ فرعون هو بنفسه الذي قد دعا السحرة إلى مواجهة موسى وأنّه على اطلاع على نياتهم آنذاك في القُرب منه، ولكن عندما رأى أنّهم قد انحرفوا عن خطه استخدم الهالة الإعلامية في تشويه صيتهم وصورتهم بين الناس وشنّ عليهم تلك الحروب والمطاردات.
وأيضاً فإن حال الحكومات الظالمة لم يتغيّر أيضاً، فالحروب الإعلاميّة لم تتغيّر، والتشويه الإعلامي لأيّ فئة تريد الإصلاح، فالحجج عند تلك الحكومات هي هي لم تتغيّر، فالحجة هي (شرذمةٌ قليلون)، فكم من ظالم قد نادى من خلال إعلامه وهو يصدح بأنّ هذه الفئة ما هي إلا فئة قليلة ضالة، ولكن كانت نهاية الظالم مثل نهاية فرعون. والأغرب والأعجب أنّ الأنظمة الظالمة تعلم علم اليقين أنَّ هذه الفئة المُعارضة لظلمهم هي من أشدّ فئات المجتمع حرصاً على مصلحة العباد والبلاد، ولكن إصلاح الوضع يعني عند ذلك النظام هو إفساد لمخططاته الشيطانيّة، لذا تراه يرفض أيَّ مصلحٍ ولو على مستوى اللسان.
3-الاتّهامات الباطلة:
كان النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قبل أن يُبعث -وكما هو معروف ومتسالم عليه- يُلقب بالصّادق الأمين، حيث كان كفّار قريش يضعون أماناتهم عنده (صلّى الله عليه وآله)، ولم يكن لدى أحدٍ من الكفار شكٌ بأنّ النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) سيكون حافظاً لها غير خائن، وأيضاً ففي طول المدة التي قضاها قبل البعثة -أي طيلة أربعين عاماً- لم يسمعوا له كذبةً واحدة، وعلاوةً على ذلك فلقد كان كفار قريش يأتون بأطفالهم له (صلّى الله عليه وآله) لكي يبارك عليهم. فكانت سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) قبل البعثة لدى الجميع أنّها شخصية مثاليّة ولا يمكن لأحدٍ أن يآخذه بزلةٍ أو خطأ ما.
هذا الكلام كلّه قبل أن يبعث برسالته السماويّة، ولكن ما إن بُعث واتّضح لكفار قريش أنّ مصالحهم إلى زوال وبطشهم سينقضي، فكما اتّهموا الأنبياء السابقين بأنّهم {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}(7)، {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ}(8) وفي قرارة أنفسهم يعلمون أنّهم يكيلون التّهم إلى الأنبياء جزافاً، فقام كفار قريش أيضاً برمي الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالتّهم جُزافاً وكذباً، ولكن من أجل أن تبقى عروشهم الكاذبة أخذوا يتّهموا ذلك الطرف المعارض بكلّ باطل.
ولم يختلف النهج في الأنظمة الجائرة حالياً عن سابقتها، إذ ترى أنّ وصم المعارض لها بأنّه منحطٌ، فإنَّ ذلك الوصف سيكون أساساً لبقاء كيانهم الظالم، فعندما تعجز الأنظمة الظالمة من مجابهة الحجج، تواجه المعارض لها بالتّهم الباطلة، فكم من معارضةٍ وصفت بأنّها عملية للخارج وكم من معارضٍ وصف بأنّه ذو سوابقٍ، وكلّهم بُراءٌ من تلك الأوصاف.
4-سياسةُ أنّا ربكم الأعلى:
من الحجج التي استخدمها فرعون والتي لا زال فراعين العصر يستخدمونها، أنّ فرعون كان يرى نفسه أنّه ربّهم الأعلى، وأنّه المتفضّل على الآخرين بالحياة والأملاك والهبات وغيرها، فهو عندما حاور موسى (عليه السلام) قال فرعون: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}(9) فكانت كل سنين موسى (عليه السلام) في قصر فرعون -كما يرى فرعون- هي تفضّل وإنعام منه على موسى.
فكم قد تسلّط فرعون على رؤوس العباد سنين عديدة، فاليوم أيضاً نرى أنّ الأنظمة الظالمة لا يزحزحها عن ذلك العرش الواهن إلا الموت، فهي لا ترى للآخرين حقٌ في انتخاب من يرونه كفوءاً، بل إنّ الكفوء هو الظالم لا غير؛ فتبقى في عرشها لا تتغيّر وإن طالب المعارض بانتخابٍ حرٍ نزيهٍ.
ولكن فرعون يأبى ذلك الانتخاب؛ لأنّه يعلم أنّ الكل لن ينتخبه أبداً، فهو ذو الإنجازات الفريدة وهو ذو المعالم الباهرة وهو ذو الصولات والجولات وهو من قد صنعته التجربة وهو معجزة أهل زمانه!! غير أننا لو دققنا لوجدنا ذلك من أفعال غيره قد سرقها ونسبها لنفسه جزافاً.
فكل إنجاز يقوم به موسى (عليه السلام) ما هو إلا تفضّلات ونِعم قد أنعمها فرعون على موسى، والأنظمة الظالمة تنسب كل إنجازات الآخرين لها بسبب الهبات التي قدمها النظام الظالم، وكأنّه لا شيء يستطيع أن يقوم به الشعب إلا عبر مكرمات وهبات من النظام. فحتّى وإن اختلفت المسمّيات بين الأمس واليوم إلا أنّ النتيجة واحدة.
فلا غرابة في هذا الأمر بتاتاً؛ إذ أنّ أوسمة أمير المتقين علي بن أبي طالب (عليه السلام) التي قد نصَّ عليها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجعلها خاصةً له، قد سرقها غيره ونسبوها لأنفسهم وهم يعلمون أنّ صاحبها هو أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وليسوا هم، فبسيف أمير المؤمنين (عليه السلام) انتصر المسلمون ولكنّنا نرى أن مسمّاه (سيف الله المسلول) قد نُسب لغيره، وعلى هذا فقِس.
5-شراء الذمم:
عندما عجز كفار قريش عن مواجهة معاجز النبي (صلّى الله عليه وآله) وحججه وبراهينه الواضحة، جاؤوا له بأسلوب آخر، ليس أسلوب الحرب وليس أسلوب الإرهاب، وإنما أسلوب الحوار الكاذب، فجاؤوا له وقالوا: إن أردت أن يكون لك مُلك منطقةٍ ما أعطيناك، وإن أردت أن تكون أغنانا أعطيناك، وإن أردت الزواج بأجمل نسائنا زوّجناك، ولكن اترك عنك الدعوة لهذا الدّين. ولكن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أبى هذه العروض والمكارم في سبيل أن يتخلّى عن المبدأ الأساس.
والأنظمة الظالمة تحاول دائماً أن تشتري ذمّة كل معارض لها، من خلال حواراتها الكاذبة ودعاياتها المغرضة، ولكنّ المعارضة في أغلب الأحيان تكون واعيةً لتلك الخطط الشيطانية، وكم شاهدنا من مُعارض قد عارضَ نظاماً لفترةٍ قليلةٍ ولكن ما إن أقبلت عليه الدنيا بزينتها حتى باع معارضته وصار يتهجّم على المعارضين الذين كانوا معه يوماً.
6- الحصار:
ينقل أرباب السير، أن خديجة (عليها السلام) عندما حضر وقت ولادة سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، أرسلت لنساء قريش لكي يأتوها ويتولينَ منها ما تلي النساءُ من النساء، ولكن نساء قريش واجهنَّ طلبها بالرفض بحجّة أنّها قد تزوجت من أفقر العرب.
وأيضاً عندما رفض بنو طالب الانصياع لرغبة الكفار بأن يتنازل الرسول (صلّى الله عليه وآله) عن دعوته، قاموا بمحاصرتهم اجتماعياً، أي أن لا يتزوجوا منهم ولا يزوجهم، ولا يتعاملون معهم بالبيع والشراء وغير ذلك.
وكذا فإن الحصار قد زاد إلى أن حوصر بنو طالب في منطقة تسمى بشعب أبي طالب، فهذه سياسة التجويع التي فرضت على الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأهله.
وهذه بعض أنواع الحصار التي ترتكبها الأنظمة الظالمة المعاصرة، ففي مثالنا الأول، نشاهد في واقعنا الحصار الطبيّ، ففي جميع القوانين الوضعيّة ناهيك عن القيّم الدينية والأخلاقيّة، نرى أنّهم يفردون لأماكن تلقي العلاج بنوداً وقوانين في دساتيرهم الوضعية لكي تحمي تلك الفئة التي لا تقوى على المواجهة، ولكن في الواقع نرى أنّ الحصار يفرض على مثل هذه الأماكن، لكي لا يقوم المعارض بتلقي العلاج اللازم له، بل إنَّ مثل تلك المراكز الصحية قد أصبحت وكراً لاصطياد المعارضين.
وكذا سياسة الحصار الاجتماعيّ، فنرى أنّ من يزرع فتيل الفتنة الطائفيّة، فأيّ معارضٍ لذلك النظام لا بدّ أن يكون منبوذاً اجتماعياً فلا صوت له ولا حقّ له في أن يُطالب بشيء، فهو لا وجود له في نظر ذلك النظام.
وكم رأينا من الأنظمة الظالمة سياسة التجويع، فبالأمس عبر حصارهم للمعارض في منطقةٍ محددة، واليوم عبر الفصل التعسفيّ وإيقاف المعارض عن وظيفته التي بذل لها عمره لكي يُحصلها ويحصل على قوتٍ يكفيه ويكفي من يعيش تحت عيلته.
ولا غرابة في أن تجتمع هذه الأنواع من الحصارات وغيرها على منطقة واحدة، فالظالم عندما يفكر ببقاء عرشه، فلا يألوا جهداً في إرغام المعارض بالقوّة على الرضوخ لرأيه، فلا يوجد محذور في اجتماع هذه الأنواع لدى النظام الظالم، فلا قانون يردعه، ولا أعراف تحكمه، ولا عقل يرشده، ولا هو بإنسان لكي يرى غيره أُناساً.
7-القتل والاغتيال:
عندما حاصرت الحجج فرعون، وأصبح في الجانب الضعيف في مواجهة المعارضة التي تمتلك العقل والحجج والبراهين والأدلّة الدامغة على صحة مطالبهم، لم يجد فرعون من وسائله سوى أن يقوم باغتيال وقتل المعارضة وإجبار نسائهم على المذلّة لديه: {..قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ..}(10).
وأيضاً لم يسلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من محاولات الاغتيال فلمّا اجتمع الكافرون في محاولة لقتل المُعارِض لهم فتمثّل لهم إبليس -كما يُروى- وأمرهم بأن يجتمع القوم حول منزل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وكلٌ بيده سفيه ويهجموا عليه ويضربوه بسيوفهم أجمعين، فيضيع دمه بين القوم ولن يستطيع بنو طالب أن يطالبوا بثأرهم من جميع قريش، ولكنّ الله (جلَّ وعلا) كان بالمرصاد فصدّ مخططات إبليس وأعوانه.
ولم يسلم حتى واقعنا من الاغتيالات لمن يعارض النظام الظالم، ولم تسلم نساء المُعارِض من الإهانات والإذلال، فكم من معارضٍ كُتب في عداد الموتى والقاتل له لم يُعرف، وكم من امرأةٍ هُتِـكَ خدرها بسبب معارضتها للظلم والظالمين.
8-العتاد والبطش والقوة والإرهاب:
إذا عجز المنطق عن مواجهة الحجج الدامغة، ولم تفد الإغراءات والحوارات الكاذبة والحصار، اتّجه النظام الباطل إلى البطش والقوة لإرضاخ الطرف الآخر المعارض على قبول رأي النّظام، فالقوة هي المنطق الذي يحاول به النظام الظالم إبقاء نفسه.
ففرعون عندما لم يستطع مواجهة حجج موسى الدامغة لم يجد منفذاً سوى المطاردة والقتل والإرهاب وإنزال الجيوش المستوردة لمطاردة من يعارض حكم فرعون، فكان هذا الخيار هو الخيار الأخير لإجبار المعارضة على الرضوخ لفكر فرعون ورأيه، ولكنّ الأنظمة الظالمة غافلة أو تحاول أن تتغافل، أنّ هناك يداً إلهيّة تدعم من يريد نشر السّلام، فلقد شاءت القدرة الإلهيّة أن تُري فرعون ومن يسير بدربه أنّ القوة العسكريّة لا تمثل شيئاً أمام القوة الإلهيّة ففي لحظات قليلةٍ انتهى ذلك الجيش كلّه برئيسه في الماء، وما ذلك على الله بعزيز، وشاء الباري أن يُلقي حجّته على بقية الفراعين بأن أخرج جسد فرعون ليكون خير عِبرة لمن لديه قلبٌ يعي به {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً...}(11).
إنّ النظام الظالم الذي يخاف من كلمة الحق ويحاول إخمادها قبل أن تسري وتُشعِل عرشه الواهن تراه يحاول أن يطمس الحقيقة التي يقرُّ بها حتى هو نفسه. فهذا الظالم مشغول بالأسباب الماديّة التي تُشعل آماله في إبقاء عرشه وهو في غفلة وتغافل دائم عن المدد الإلهي للمظلومين، فالباري قد أخذ على نفسه عهداً بأنّ ينتصر للمظلوم وإن طالت مدة بقاء الظالم(12).
للأسف لم تكن لديهم أذنٌ واعية، بل في آذانهم وقرٌ، فلم يتعظوا بسننِ من مضى ولا بسننٍ قد رأوها رأي العين، ولكن صدق قول الله (عزّ وجلّ) عليهم: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(13).
هذه بعض الأمور التي سنّها القرآن الكريم في بيان الطرق والسبل التي تنتهجها الأنظمة الظالمة في إطالة مدة بقاءها، لأنّها تعلم أنّ مصيرها إلى زوال، ولا بدَّ للحق أن ينتصر في النهاية وإن طالت مدّة الظلم. ولا ندّعي في هذه العجالة أنّ هذه الأمور التي ذكرناها سابقاً هي السبل الوحيدة التي ذكرها القرآن الكريم فالأسباب والدواعي للظالم ليست محصورة فيما ذكرناه، بل هناك طرق أخرى وسبل أخرى يستطيع المتتبع لآيات القرآن والمتأمّل فيها أن يستخرج أموراً أخرى لم تذكر هنا.
* الهوامش:
(1) الرعد: 11.
(2) حيث أنّ بني اسرئيل كانوا عبيداً يخدمون فرعون وسادات القوم.
(3) على الرغم من أنّ كلام المنجمين لن يفيد في أحسن الأحوال إلا الظن، ولن يصل لدرجة اليقين.
(4) القصص: 7.
(5) الاعراف: 113- 114.
(6) الشعراء: 54.
(7) الذاريات: 39.
(8) هود: 54.
(9) الشعراء 18.
(10) الاعراف: 127.
(11) يونس: 92.
(12) الروم: 47.
(13) الحج: 46.
0 التعليق
ارسال التعليق