مقدّمةٌ حول علم الأخلاق:
قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «إنمّا بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»(1).
إنّ جميع الأنبياء والرسل جاؤوا لتزكية وتطهير الإنسان عبر أهمّ عناصره وأجزائه، وهي العقل، والروح، والجسم، فجاءتْ علوم العقيدة لتصيّر العقل مفكّراً في طريق الله (جلَّ جلاله)، وجاءت الأحكام الشرعيّة، الّتي تتمثّل في العبادات، والحقوق، والواجبات، والأخيران قد يتعلّقان بالله (عزَّ وجلَّ)، أو بالناس، أو بالنفس، فلكلٍّ منها حقوقٌ وواجباتٌ، على الإنسان ألاّ يتهاون في أدائها.
وجاء علم الأخلاق؛ لتزكية الروح والنفس من الرذائل، وتحليتها بالفضائل؛ لتصبح نقيّةً، صافيةً، متّجهةً صوب الكمال الإلهيّ.
ومن جملة ما ذكره علماؤنا الأبرار أنّ أشرف العلوم وأفضلها هو علم الأخلاق؛ لأنّ شرف العلم يكون بشرف موضوعه، والنفس أفضل موجودٍ أوجده الله (عزَّ وجلَّ) من بين الموجودات الأخرى.
ويسند هذا الكلام ما ذكره صاحب جامع السعادات، حيث يقول: «لما عرفت أنّ الحياة الحقيقيّة للإنسان تتوقّف على تهذيب الأخلاق، الممكن بالمعالجات المقرّرة في هذه الصناعة، تعرف أنهّا أشرف العلوم، وأنفعها؛ لأنّ شرف كلّ علمٍ إنمّا بشرف موضوعه، أو غايته... وموضوع هذا العلم هو النفس الناطقة الّتي هي حقيقة الإنسان، ولبّه»(2).
وعلم الأخلاق - كما تقدّم - هو ذاك العلم الّذي يجعل الفرد منّا متخلّياً عن الرذائل، ومتحلّياً بالفضائل، ولربما تكون آية الكرسيّ مسنّدةً لهذا الكلام: {لاَ إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لهَاَ وَاللهُ سمَِيعٌ عَلِيمٌ}(3)، فما لم تحصل التخلية فلن تحصل التحلية، وإن جاءت التحلية قبل التخلية فستكون كالثوب الّذي يكون ممليّاً بالأوساخ، ولا يقبل أيّ لونٍ من الألوان، فالّذي يقوم ببعض الواجبات الأخلاقيّة من دون أن يخلّي نفسه، يكون كقبرٍ باطنُه جيفةٌ عفنةٌ، وظاهرُه زينةٌ عطرةٌ.
ونركّز هنا على أنّ الإسلام هو مدرسة مكارم الأخلاق، وعلى من يرنو إلى حقيقة الإسلام أن يتدرّج في صفوف هذه المدرسة؛ ليصل إلى الكمال المطلق، ولا عبرة بمن كان الإسلام بالنسبة إليه مجرّد نطقٍ بالشهادتين، فهو كالذي يذهب للمدرسة كلّ يومٍ، وينام في الصفّ إلى نهاية الدوام، فـ«يرجع بخفّي حنينٍ»!
وفي بحثنا هذا نحاول قراءة إحدى الصفات الأخلاقيّة الّتي دُعينا إلى التحلي بها من قِبَلِ أهل البيت (عليهم السلام)، وهي: صفة الرضا، وسيكون البحث في محورين:
المحور الأوّل: وهو بيانٌ لمفهوم الرضا عند أهل اللغة، وفي الاصطلاح.
المحور الثاني: وهو بيانٌ لبعض الآثار العمليّة لهذه الصفة، الّتي تعكس آثارها على الفرد، والمجتمع.
المحور الأوّل: الرضا في اللغة والاصطلاح:
النقطة الأولى: المعنى اللغويّ للرضا:
ذكر ابن منظورٍ في لسان العرب حول الرضا: ورضي، يرضى، رضاً - وهو مقصورٌ -: ضدّ السخط(4).
وجاء في القاموس المحيط: رضي عنه، وعليه، يرضى، رضاً، ورضواناً، وأرضاه: أعطاه ما يرضيه، واسترضاه، وترضّاه: طلب رضاه، ورضيتُه، وبه: فهو مَرضُيٌّ، ومَرضِيٌّ، والرّضيّ: الضامن، والمحبّ(5).
النقطة الثانية: المعنى الاصطلاحيّ للرضا:
جاء عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنّه سأل جبرئيل (عليه السلام) قائلاً: « فما تفسير الرضا؟ فقال جبريل: الراضي لا يسخط على سيّده، أصاب من الدنيا أم لم يصب، ولا يرضى لنفسه باليسير من العمل»(6).
صفة الرضا هي من الصفات الأخلاقية المهمّة جدّاً، والّتي يجب على كلّ مؤمنٍ أن يكون متحلّياً بها، وقد ذكر علماء الأخلاق أكثر من تعريفٍ لهذه الصفة الطيّبة، ولا حاجة لذكرها جميعاً، فجميعها يصبّ في مصبٍّ واحدٍ، حيث نستطيع القول أنّ الرضا: (هو قنوع الإنسان، وتركه للاعتراض، والسخط، باطناً، وظاهراً، قولاً، وفعلاً).
ولكي نتعمّق أكثر في معنى الرضا، نشير إلى نكتتين مهمّتين، تساهمان في توضيح معنى الرضا بشكلٍ أوسع:
النكتة الأولى: صفة الرضا من لوازم المحبّة:
الحبّ الحقيقيّ هو ذاك التعلّق والميل الّذي يجعل المُحِبّ راضياً عن كلّ قولٍ - أو فعلٍ - يصدر من المحبوب، فالزوجة المحبّة لزوجها - مثلاً - تكون راضيةً عن كلّ قولٍ - أو فعلٍ - يصدر من زوجها بسبب حبّها له، هذا مثالٌ للحبّ المادّيّ، ولكنّ الحبّ الحقيقيّ هو الحبّ المعنويّ المرتبط بالله تعالى.
فكيف هو حبنا لله تبارك وتعالى؟!
هل حبّنا له يجعلنا راضين عن كلّ ما قدّر لنا؟!
نحن نعلم جميعاً أنّ حبه (عزَّ وجلَّ) هو أصل كلِّ حبٍّ، وأيُّ حبٍّ لا يكون في طول حبّه فهو حبٌّ شيطانيٌّ، يهلك صاحبه، ويرديه إلى بئس المصير.
إذن حبّنا لله تعالى يجب أن يجعلنا راضين بكلّ شيءٍ يصدر تحت ظلّ الإرادة الإلهيّة، فالمحبُّ حقيقةً لله تعالى هو الّذي يفني إرادته في إرادة الله تعالى، ويؤكّد هذا المعنى ما ذكره السيد الإمام (قدِّس سرُّه) في كتاب: (الأربعون حديثاً)، حيث عبّر عن الإنسان الراضي بقوله: «يكون قد أفنى إرادته في إرادة الله، فلا يختار لنفسه شيئاً»(7).
النكتة الثانية: مفهومٌ خاطئٌ:
قد يسأل البعض عن حقيقة صفة الرضا، فهل هي القبول بالواقع والركون له؟ أم هي عدم القبول بالواقع بتغيير كيفيته؟
فهناك مفهومٌ خاطئٌ لدى الكثيرين الّذين اعتقدوا بأنّ الرضا هو الاستسلام للواقع، أو السكون أمامه، وعدم الحركة، فصفة الرضا هي تغيير الحركة، والتأثير في الواقع المعاش، وليست هي الاستسلام، والخضوع الّذي يدّعيه البعض.
وهذا ما عبّر عنه الشهيد مطهري (رحمه الله) في كتابه: (الملحمة الحسينيّة)، حيث قال: «إنّ الرضا والتسليم للأمر الإلهيّ لا يعني السكوت، والسكون، والتوقّف عن الحركة، بل تغيير كيفيّة الحركة»(8).
فالحسين (عليه السلام) لم يخضع للظروف المحيطة به، ولم يركن للظالم، بل حاول أن يغيّر كيفيّة حركته، وهذا التغيير منطلقٌ من الأمر الإلهيّ الّذي يجعله يدافع عن الإسلام، ويحفظه، ويصونه بأيّ وسيلةٍ يكون فيها رضاً للأمر الإلهيّ، فهو راضٍ بما تمليه عليه الإرادة الإلهيّة، ومسلّمٌ تسليماً مطلقاً.
بعكس من تخاذل وضعف أمام الظروف المحيطة به، ولم يحرّك ساكناً، كابن عمر الّذي لزم بيته؛ ظانّاً أنّه بهذا يحقّق رضا الباري (جلَّ وعلا).
فعديدةٌ هي الفروق بين من سكت وسكن أمام الظروف المحيطة به، وبين من غيَّر كيفيّة حركته؛ من أجل أن يؤثّر في الظروف والأوضاع، لا هي التي تؤثّر فيه، ونذكر هنا - من خلال ثورة كربلاء - ما تتميّز به حركة التغيير، وعدم الركون للواقع:
الأوّل: ثورة الإمام (عليه السلام) - ونهضته - كانت بيد التدبير والتخطيط الإلهيّ، فالله (عزَّ وجلَّ) هو المدبّر والمخطّط لهذه النهضة، فكانت إرادة الإمام (عليه السلام) هي إرادة الباري (جلَّ وعلا).
وعندما نقول: (إنّ إرادة الإمام (عليه السلام) هي إرادة الله تعالى.)، لا نعني بذلك أنّ الإمام (عليه السلام) مجبرٌ، ومقيّدٌ بالإرادة الإلهيّة، بل نعني ما ذكرناه سابقاً من كلام الإمام الخميني العظيم (قدِّس سرُّه)، بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد أفنى إرادته في إرادة الله تعالى، فكلّ ما يوافق إرادة الله (عزَّ وجلَّ) تعلّقت به إرادة الإمام (عليه السلام).
الثاني: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان عارفاً بما سيجري عليه - وعلى أهل بيته - من قتلٍ، وسلبٍ، ونهبٍ، وسبيٍ، وتشريدٍ، ولكنّه - مع كلّ ذلك - كان راضياً بما سيجري عليه؛ لأنّه تحت عين الله (عزَّ وجلَّ)، وبرعايته.
وممّا يدلّل على ما ذكرناه هو مقولته الشهيرة، عندما أراد الخروج من أرض مكّة المكرّمة: «كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً، وأجربةً سغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين...»(9).
الثالث: هو تجسيد الإمام (عليه السلام) حالة الانصياع للقيادة في أعلى درجاتها، فاتّباعه كان الاتّباع التامّ – والمطلق - للأوامر الإلهيّة، فقام بثورته - ثورة الصمود، والإباء - اتّباعاً لأمر الإله، لا لأيّ دافعٍ آخر، وكأنّي بلسان حاله يقول:
تركت الخلق طرّاً في هواك
وأيتمت العيال لكي أراكَ
فلو قطّعتني في الحب إرباً
لما مال الفؤاد إلى سواكَ
الرابع: أنّ هذا الانصياع، وهذا الذوبان في القيادة، منشؤه هو العشق، والحبّ، الّذي يتجسّد في العبادات، فلو تأمّلنا قليلاً في ثورة الطفّ لوجدنا أنّها تمثّل منظومةً عباديّةً لم يشهدها التاريخ من قبل، ولا من بعد.
المحور الثاني: الآثار العمليّة لصفة الرضا:
كثيرةٌ هي الآثار والفوائد العمليّة لصفة الرضا، ونستعرض هنا مجموعةً من النقاط الّتي نوضّح فيها أهمّيّة هذه الصفة، وما تعكسه من آثارٍ إيجابيّةٍ في بناء الشخصيّة الإيمانيّة الرساليّة؛ لتكون مقدّمةً للخوض في بحر رضا سيّد الشهداء (عليه السلام).
النقطة الأولى: فضيلة الرضا:
صفة الرضا هي من أشرف الصفات، وأفضلها، وأرقاها درجةً، ورتبةً؛ فهي - كما ورد في الحديث عن سيّد الساجدين، وزين العابدين (عليه السلام) - تفوق مرتبة الزهد، ومرتبة الورع، ومرتبة اليقين، حيث قال الإمام (عليه السلام): «أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا»(10).
وقد تعرّض أهل البيت (عليهم السلام) في كلماتهم كثيراً لهذه الصفة، ونذكر هنا بعضاً من كلماتهم؛ لبيان فضيلة هذه الصفة، وعظمتها:
1) الرضا علامة الإيمان:
جاء عن إمامنا الصادق (عليه السلام): «اعلموا أنّه لن يؤمن عبدٌ من عبيده حتىّ يرضى عن الله فيما صَنَعَ الله إليه، وصنع به، على ما أحَبّ وكَره»(11).
هناك إشارةٌ مهمّةٌ في هذا الحديث المبارك علينا الالتفات لها، وهي أنّ حقيقة الإيمان لا تكتمل في شخصيّةٍ إلاّ وقد تحلّت هذه الشخصيّة بصفة الرضا، فالمؤمن الحقيقيّ راضٍ بكلِّ ما يجري في السرّاء، أو الضرّاء.
والإشارة الأخرى هي: أنّ الراضي بما قدّر له الله تعالى، يجب أن يكون رضاه في ما أحبّ، وما كره، فقد يقدّر الله تعالى لإنسانٍ حياةً سعيدةً هانئةً، فيكون راضياً، ومن ثمّ يبتليه بالفقر، أو المرض، فيسخط، ويعترض على الله تبارك وتعالى، فمثل هذا الإنسان لا يكون قد وصل لحقيقة الرضا.
2) الراحة في الرضا:
ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «من رَضِي من الله بما قسَم له، استراح بدنه»(12).
الإنسان الراضي تراه قد سلّم كلّ أموره لله تبارك وتعالى، فنفسه مطمئنّةٌ هادئةٌ، وكذلك جسمه يكون سليماً من الأمراض، والعلل، فاستقرار الوضع النفسيّ للإنسان يساهم في الحدِّ من تعرّضه للأمراض، والعلم الحديث قد أثبت هذا الترابط والتلازم بين الحالة النفسيّة للإنسان، وبين بدنه وجسمه.
وفي حياتنا العمليّة نجد الكثير من أصحاب الأموال والسلطة ساخطين على ما رزقهم الله تعالى، ومتنكِّرين لما تفضّل به عليهم، طالبين لأموالٍ أكثر، وجاهٍ أكبر، فيدفعهم هذا السخط إلى سلب حقوق الناس، والاعتداء عليهم، فيعيشون في صراعٍ دائمٍ مع الشعوب، وسلطتهم – وجاههم - يكون ظاهريّاً، بينما هم في الداخل يقاسون من التعب النفسيّ، والجسميّ في نفس الوقت.
3) الغنى ثمرة الرضا:
قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «ارضَ بِقَسْمِ الله، تكن أغنى الناس»(13).
جاء في الرواية المزبورة ذكر (الغنى)، والمتبادر للذهن بدايةً عند قراءتها هو: أنّ الغنى المقصود هو الغنى المعنويّ الروحيّ؛ لأنّ الحديث بصدد بيان فضيلة إحدى الكمالات الأخلاقيّة، فالرضا حالةٌ نفسيّةٌ روحيّةٌ، تضفي على صاحبها صفاءً ونقاءً كبيراً جداً، ولكن في نفس الوقت يمكن أن يكون الغنى أعمّ، فيشمل حتىّ الغنى المادّيّ، فالّذي رضي بما قسمه له ربُّه من رزقٍ وخيرٍ يضاعف الباري (جلَّ وعلا) رزقَه، ويبارك له فيه، فتصبح نفسه مطمئنّةً هادئةً، وكذلك يكون رزقه واسعاً، وخيره كثيراً.
4) الرضا سبب استجابة الدعاء:
جاء عن إمامنا الحسن الزكيّ (عليه السلام) قوله: «أنا الضامن لمن لا يهْجِسُ في قلبه إلاّ الرضا أن يدعو الله فيُستجاب له»(14).
استجابة الدعاء لا تتحصّل للساخط والمعترض على الذات الإلهيّة المقدّسة، فهذا السخط والاعتراض يجعل الكثير من الموانع والحجب بينه وبين ربّه، فدعاؤه يصير محجوباً غير مستجابٍ، ويؤيّد ذلك قول أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) في دعاء كميل: «اللهمّ اغفر لي الذنوب الّتي تحبس الدعاء»، فربما يكون السخط أحد تلك الذنوب الّتي توجب حبس الدعاء، وعدم استجابته.
والتوفيق لاستجابة الدعاء هو غايةٌ يسعى لأجلها الكثير من الناس، ولكنّ القليل منهم يوفّق لبلوغها؛ لوجود موانع وحجباً تسدّ طريق استجابة الدعاء، والمانع قد يكون في بعض الأحيان أنّ الواحد منّا لا يعرف كيف يدعو الله تبارك وتعالى، فيظهر استياءه واعتراضه - مثلاً - من دون قصدٍ، أو يعتبر نفسه مستحقّاً لكمالٍ معيّنٍ، ففي المثالين نكون قد اعترضنا على الذات الإلهيّة المقدّسة، مع عدم إحساسنا بذلك، فنُحرم من استجابة الدعاء.
ومن هنا فعلينا أن نهتمّ بقراءة أدعية أهل البيت (عليهم السلام)؛ لأنّهم هم أصفياء الله تعالى، وأحبّاؤه، الّذين يعرفون على أيّ صورةٍ يكون دعاء العبد للمعبود، وعلى أيّ صورةٍ يناجي الحبيبُ المحبوبَ.
النقطة الثانية: ملاك الأجر والثواب:
قد يتساءل البعض منّا عن الملاك الحقيقيّ للثواب، والفضيلة بالنسبة للعمل، فهل حسن نفس العمل هو الملاك في إدراك الثواب والأجر؟ أم أنّ هناك شيئاً آخر وراء نفس العمل؟
نستطيع القول بأنّ الملاك الحقيقيّ ليس نفس العمل فحسب، بل للنيّة الخالصة الراضية عن هذا العمل أساسٌ في ملاك الثواب والفضيلة، وسرّ التلازم هنا بين خلوص النيّة والرضا هو: أنّ الرضا عن العمل أساسٌ لخلوص النيّة، وصفائها.
وبيان ذلك: أنّ العمل الصالح قد يحتاج لجهدٍ؛ ليصل العبد في نهاية المطاف إلى ثمرة هذا العمل، ولكنّ هذا الجهد - إن لم يكن العبد متصفاً معه بالرضا - قد يقوده نحو الشيطان؛ حيث يعظّم الشيطان عمله، ويزيّنه في عينه، فيصير في نفسه كِبْرٌ، وكأنّ له على الله تعالى حقٌّ يجب أن يؤدّيه له!
فالعبد الحقير المسكين الّذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، صار متجرّئاً على مولاه، مانّاً عليه بعددٍ من الركعات، أو بصيام بضعة أيّامٍ، فلا يلتفت إلاّ وقد حُشِر مع أصحاب النّار، وبئس المصير.
النقطة الثالثة: الصبر على البلاء من الرضا:
قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «إنّ عظيم البلاء يُكافَأ به عظيم الجزاء، وإذا أحبّ الله عبداً ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رَضِي له فله الرضا عند الله (عزَّ وجلَّ)، ومن سخط فله السخط»(15).
عديدةٌ هي الابتلاءات – والامتحانات - الّتي تصيب الإنسان في هذه الدنيا، فهناك الفقر، والمرض، والمظلوميّة، وغيرها من المصائب، ومن جهةٍ أخرى قد يكون الامتحان - والاختبار - في الأعمال الصالحة من الصوم، والصلاة، والزهد، والقناعة، وما يماثلها من الأعمال الّتي تحتاج لترويض النفس، وتهذيبها، فالإنسان إمّا أن يكون صابراً راضياً بما قدّر له الباري (جلَّ وعلا)، فيكون من المرضيّين عنده (عزَّ وجلَّ)، مع الأولياء والصالحين، أو أن يعترض على التقدير الإلهيّ، فتراه قد خلع ثوب الأدب والحياء في محضر الذات الإلهيّة العظيمة، فيؤول مصيره إلى جهنّم، يصلاها مذموماً مدحوراً.
النقطة الرابعة: ارتباط الرضا بالمحبّة:
الحبّ والعشق هو مصدر الرضا، ومنبعه، وكلّما كان المحبوب أكثر أهميّةً بالنسبة للمُحِبّ، كان مستوى الرضا عنده أرقى، وأرفع، فعباد الله الصالحين الّذين تحمّلوا صنوف العذابات والشدّات، لم يكن رضاهم - وصبرهم - ناتجاً عن لا شيءٍ، بل لأنّهم تعلّقوا بالرحمة الإلهيّة، وبالجمال المطلق.
والرضا من هذه الزاوية - زاوية تحمّل الألم، والتعب، والمشقّة؛ لأجل المحبوب - له مرتبتان:
المرتبة الأولى: وهي المرتبة الّتي يشعر فيها المحبّ بالألم، ولكنّه مع ذلك راضٍ بما قدّر له؛ لشدّة غرامه بمحبوبه، فكلّ ما يصدر من محبوبه حسنٌ، وطيّبٌ.
المرتبة الثانية: وتتميّز هذه المرتبة عن سابقتها بأنّ المحبّ مع أنّه مجروحٌ، ومتألمّ، إلا أنّه لا يشعر بما ألمّ به؛ فهو قد أفنى نفسه في محبوبه إلى حدّ أنّه لا يدرك ما أصابه إلاّ إذا رأى الدماء وهي تسيل، وتتصبّب.
لكنْ أحبّتي، علينا ألاّ نغفل عن هذه الحقيقة، وهي: أنّ المحبوب الحقيقيّ هو الله تبارك وتعالى، فكلّما هِمْنا وتِهْنا في حبّه والقرب منه، كنّا أكثر صبراً ورضاً على ما يعترينا في هذه الدنيا الفانية، وأبرز مثالٍ على هذا الهيام هو سيرة أهل البيت (عليهم السلام)، وعلى الأخصّ سيرة مولانا أبي عبد الله (عليه السلام)، فلو تأمّلنا قليلاً في سيرته لوجدنا الفناء المطلق، والذوبان التامّ في حبّ الله (جلَّ جلاله).
خاتمةٌ:
بعد ما تقدّم من الحديث حول صفة الرضا نقول: إنّه علينا أن نؤمن بقضاء الله تعالى وقدره، فنتيقّن بأنّ كلّ ما قدّره لنا هو من حكمته، وتدبيره، وأنّ ما قدّره لنا هو الأصلح لنا، وإنْ كانت نفوسنا تكرهه، ولا تميل إليه، فنكون من عباده الصالحين، الّذين لا خوفٌ عليهم، ولاهم يحزنون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
* الهوامش:
(1) بحار الأنوار، ج 16، ص 210.
(2) جامع السعادات، ج 1، ص 39.
(3) سورة البقرة، آية: 256.
(4) لسان العرب، ج 14، ص 291.
(5) القاموس المحيط، ص 294.
(6) ميزان الحكمة، ج 4، ص 1476.
(7) الأربعون حديثاً، ص 247.
(8) الملحمة الحسينيّة، ص 71.
(9) اللهوف على قتلى الطفوف، ص 126.
(10) ميزان الحكمة، ج 4، ص 1475.
(11) ميزان الحكمة، ج 4، ص 1475.
(12) ميزان الحكمة، ج 4، ص 1477.
(13) ميزان الحكمة، ج 4، ص 1477.
(14) ميزان الحكمة، ج 4، ص 1477.
(15) الخصال، للشيخ الصدوق، باب الواحد، صفحة 64.
0 التعليق
ارسال التعليق