عندما يعجز المستلِّطون عن اغتيال البشر وتصفيتهم جسدياً فإنَّهم يغتالونهم فكرياً، فالرجل يغتالون رجولته، والمرأة أنوثتها، والشباب عنفوانهم، والإنسان إنسانيّته!
من هنا.. لا بدَّ من النهوض بوعي الأمَّة الإسلامية ـ على الخصوص- ليصل إلى أعلى مستوياته لتحصينها من أن يتسلّط عليها المتسلّطون فتقع فريسة وألعوبة أطماعهم.
فليست المشكلة في اغتيال الأشخاص والتخلُّص منهم؛ لأنَّهم يدركون أنَّ اغتيالهم لا يميت فكرهم؛ فلذا أعدّوا العدّة وخطَّطوا لزلزلة الفكر كخطوة أولى لاستبداله بفكر خالٍ من أيِّ معنى، هذا إن لم يتحوَّل الفردُ إلى خواء لا يفقه إلا ما بين سرّته وركبته من بطنه وفرجه، ومن كان هذا همّه فلا قيمه له[1]، ومن كان كذلك عاش بلا إنسانية.
أظنُّ أنَّ شيئاً ممَّا أريد إيصالُه قد برز من كلامي؛ حيث إنَّ الشعوب باتت تصدِّق في كثيرٍ من الأحيان ما يُلقى إليها من فكر سقيم قد خُلِط بشيء من المصطلحات والأفكار البرّاقة التي يسيل إليها لعاب المهزوم ممن يعيش الفراغ الفكري، فتراه يستقبلها وينظِّر إليها، ويـروّجها بـلا شعور بأثرها السلبي وبغفلة أو تغافل عمّا تُحدِثه من تهـافت وتناقض بين كـلامه وسلوكياته، ومثال على ذلك: أن يصدِّق أكذوبةً ألصقت فيه وأنَّه إنسان متخلِّف يعيش في الدول النامية من العالم الثالث الذي لا يمكنه القفز إلى العالم الأول الذي يتمتّع بالقيادة السياسية والصناعية والاقتصادية... وليته يكتفي بالتصديق، بل يساهم في عمليَّة قتل الإبداع والتميُّز عند غيره من أفراد أمّته بدلاً من أن يؤسِّس فكراً مشجِّعاً للجميع كي يبدع كلٌّ في مجاله ويعطي من نفسه وفكره لأمَّته.
ولا شكَّ في أنَّ هذا مؤثِّرٌ على الفرد في كلِّ مجالات حياته بلا فرق بين مجال وآخر؛ لأنَّ الفكرة واحدة وهي أنَّ الفرد ما دام قد اختار غير ما يريده هؤلاء المتسلِّطون فهو إنسان متخلِّف على كلِّ المستويات، ويحتاج إلى السنوات الضوئية كي يخرج ممَّا هو فيه، وعليه أن يغيِّر ملبسه ومأكله، وحتى أسلوبه في الكلام كي يحاكي تحضُّرَهم وتقدُّمَهم، وما هو واضح أنَّ كثيراً من ذلك يعني أن يترك معتقده وتديَّنه كي يتخلَّص من ذلك الانهزام الفكري الذي أُوْقع فيه، وليس هذا إلا اغتيالٌ لفكره.
أساليب الاغتيال الفكري:
تتعدَّد الأساليبُ وتتنوَّع وتشتدُّ فعاليةً وخطورةً فيما بينها، وأعلاها خطورةً -مما يمارس على الشعوب الإسلامية- هو التشكيك في المعتقدات الدينية والسعي لمحو الإيمان بالله تعالى، ولا شكَّ في أنَّ هذا لَخطرٌ عظيمٌ جداً لما نعلم من أنَّ السلوك لا بدَّ من أن ينشأ من فكرة فإذا تغيَّرت تغيَّر السلوك.
ومن هذه الأساليب: خلق النماذج المشوِّهة ورعايتها على أنَّها نماذج للإسلام كي يتصوَّر الفرد -المسلم فضلاً عن غيره- أنَّ صورة الإسلام متمثَّلة في هذه الجماعة المنحرفة التي كان آخر نماذجها داعش، وأمثال أولئك الذين يتلبُّسون -زوراً- بلباس العلم والعلماء ويَظهرون في وسائل الإعلام بسماجة لا يطيقها عاقل، فلا حاجة حينئذٍ لأن يبحث عن الإسلام ويطّلع عليه! فيأخذ الإسلام من خلال هؤلاء، ومن خلال نظرات غير المسلمين أو المنحرفين السذّج من المسلمين.
ومنها: استخدام المصطلحات الفضفاضة من قبيل الحرية والانفتاح والحضارة، وكذا نشر جملة من الأفكار التي يحسن رونقُ صياغتها، ويخبث واقعها ومضمونها إذا ما طُبّقت، وهذه الأساليب في الغالب تُسلِّط الضوء على الجانب الأخلاقي لا سيَّما ما يرتبط بالتصرفات الخاصّة بالفرد من قبيل ملبسه وكلامه وأفكاره الخاصة ومعتقداته، وغيرها من الأساليب.
الحل بيدك:
نعم أنت قادر على أن تغيِّر هذا الواقع بعد أن تُعمِل دورك وقدراتك التي وهبك الله إياها.
واعلم أنَّ لك هدفاً لا بدَّ من الوصول إليه تحتاج إلى تحقيقه على كلِّ المستويات وهو عبادة الله التي تتمثّل بإجادة العلاقة مع الله والنفس والناس، فإذا ما تحقَّق هذا الهدف عجز أعداؤك من المتسلّطين -فضلاً عن غيرهم- أن يغتالوا فكرك.
فأمّا إجادة العلاقة مع الله فأنْ تعرفه بالمقدار الذي يجعلك تؤمن به وتصدّق أنّه خالقك وموجدك من العدم؛ فله حقّ عليك أن تطيعه فيما أمر بلا تردِّد أو توانٍ، ومما ينبغي فعله: أن تدرس تعاليمه -من العلماء العاملين- لا سيَّما تلك التي تحتاج إلى تطبيقها في غالب أيامك من المسائل العبادية والمعاملاتية والعقدية، لا تلتقطها كيف ما اتفق، ومن أيِّ مصدر كان.
وأمّا إجادة العلاقة مع النفس فأن تعلم أنّ لنفسك عليك حقّاً؛ وهو أن تُبعد عنها الشرور والأضرار وتجلب لها المنافع والخيرات، ولا سيَّما تلك المنافع التي أرشدك الله إليها من خير الدنيا والآخرة، وكذا الحال في الأضرار، ويجمع ذلك كلَّه أن تسعى جاهداً في الوصول إلى أعلى درجات الكمال المناسب إلى فطرتك وإنسانيتك.
وأمّا إجادة العلاقة مع الناس فأن تعرف أنّهم صنفان: أخٌ لك في الدين أو غيره[2]، ولكليهما حقٌّ عليك من حفظه ورعايته مهما أمكن وتوجيهه إذا أخطأ، كما أنَّ عليك أن ترفع من قدره وأن تحترم عقله، وأن تدفع به للخير لا للشر، وأن تعامله بالحسنى ما استطعت..
كما أنَّ عليك أن تنشر الوعي في المجتمع من خلال مجالك العلمي والوسائل المتاحة لك فضلاً عن مجالات البحث العلمي والندوات الفكرية وما شاكل من هذه الأساليب التي تصدّ الفكر الهدّام عن أن يتغلغل في عقولنا ويغتال فكرنا، فما دمت في حرب فكرية فلا بدَّ من المجابهة الفكرية.
وإن تقاعست الجماعات لم يسقط عن الأفراد، وأنت منهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] إشارة إلى الحكمة المنسوبة إلى أمير المؤمنين عليg: >مـن كان همُّه ما يدخل في جوفه كانت قيمته ما يخرج منه< نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، ج20، ص320.
[2] إشارة إلى ما ورد عن أمير المؤمنين عليg: >فإنّهم -أي الناس- صنفان: أخٌ لك في الدين، ونظير لك في الخلق< نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، ج17، ص32.
0 التعليق
ارسال التعليق