اعتبار الإيمان في بيِّنة الطلاق

اعتبار الإيمان في بيِّنة الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَّى الله وسلَّم على محمَّد وآله.

توطئة

لا خلاف عندنا معاشرَ الإماميّة في أصل اعتبار الإشهاد في صحّة الطلاق، بل هو من ضروريات مذهبنا، ومن الأدلّة عليه قوله سبحانه: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُـوهُنَّ لِعِـدَّتِهِـنَّ وَأَحْصُـوا الْعِـدَّةَ.. فَـإِذَا بَلَغْـنَ أَجَـلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ..}(1) (2)، وروايات الباب العاشر من أبواب مقدِّمات الطلاق من وسائل الحرّ العاملي (قدّس سرّه)، فمنها موثّقة بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)- فِي حَدِيثٍ- قَال: «..وَإِنْ طَلَّقَهَا لِلْعِدَّةِ بِغَيْرِ شَاهِدَيْ عَدْلٍ فَلَيْسَ طَلاقُهُ بِطَلاقٍ..»(3)، ومنها صحيحة الفضلاء عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليهما السلام)- فِي حَدِيثٍ- أَنَّهُ قَالَ: «وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي اسْتِقْبَالِ عِدَّتِهَا طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَلَيْسَ طَلاقُهُ إِيَّاهَا بِطَلاقٍ»(4)،‏ ومنها صدر صحيحة أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا غَشِيَهَا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، قَالَ: لَيْسَ هَذَا طَلاقاً، قُلْتُ: فَكَيْفَ طَلاقُ السُّنَّةِ؟ فَقَالَ: يُطَلِّقُهَا إِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا قَبْلَ أَنْ يَغْشَاهَا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ (عزّ وجلّ) فِي كِتَابِهِ، فَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ رُدَّ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ..»(5)، ومنها معتبرة زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ سَمِعَتْ أَنَّ رَجُلاً طَلَّقَهَا وَجَحَدَ ذَلِكَ، أَتُقِيمُ مَعَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنَّ طَلاقَهُ بِغَيْرِ شُهُودٍ لَيْسَ بِطَلاقٍ، وَالطَّلاقُ لِغَيْرِ الْعِدَّةِ لَيْسَ بِطَلاقٍ، وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فَيُطَلِّقَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلِغَيْرِ الْعِدَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ (عزّ وجلّ) بِهَا»(6). ولا يعيب سندها اشتماله على موسى بن بكر؛ فإنه وإن كان واقفياً بشهادة الشيخ الطوسي (قدّس سرّه)(7)، إلا أنه ثقة؛ لوجوه أوضحها أنه من معاريف الطائفة قبل وقفه، ولم يرد فيه قدح؛ فقد روى عنه أجلَّة أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، منهم أحمد بن محمد بن أبي نصر وصفوان بن يحيى ومحمّد بن أبي عمير وجعفر بن بشير وعبد الله بن المغيرة وعلي بن أسباط وعلي بن الحكم وفضالة بن أيوب والنضر بن سويد ويونس بن عبد الرحمن، ثمّ إن الذي تسكن إليه النفس أن روايتهم عنه كانت قبل وقفه؛ فإن الطائفة قد اجتنبت الواقفة وجافتهم. هذا كلّه في تقرير صغرى وثاقة معاريف الطائفة، وأما كبراها فحال الراوي عندما تكون بهذه الصفة فهي تكشف عن حُسْن ظاهره، وحسن الظاهر كاشف عن الوثاقة بل العدالة عرفاً وشرعاً.

الأقوال في المسألة

إذا تمهّد هذا فيقع الكلام في المراد من العدالة في كريمة الآية ومستفيض الرواية، فالمشهور اعتبار كون الشاهدَين عدلين في صحّة الطلاق، وأن العدالة المعتبرة أمرٌ وراء الإسلام، وتتحقّق بترك المعاصي والقيام بالواجبات مع الإيمان الخاصّ، كما اعتبر في شهادات غير الطلاق، وقيل: يكفي الإسلام وإن انتفى كلٌّ من الإيمان الخاصّ والعدالة، قال في المسالك: "والقول بالاكتفاء فيهما [يعني الشاهدين] هنا بالإسلام للشيخِ في النهاية وجماعةٍ، منهم القطب الراوندي"(8)، قال في الجواهر: "ومقتضاه الاجتزاء بالمسلمَين الفاسقَين فضلاً عن المؤمنَين"(9)، وممن مال إلى تحقّق العدالة بالإسلام- الشهيد (قدّس سرّه)في المسالك، قال معلِّقاً على صحيحة ابن أبي نصر: "وهذه الرواية واضحة الأسناد والدلالة على الاكتفاء بشهادة المسلم في الطلاق -إلى أن قال- وفي الخبر -مع تصديره باشتراط شهادة عدلين، ثمّ اكتفاؤه بما ذكر- تنبيهٌ على أن العدالة هي الإسلام، فإذا أضيف إلى ذلك أن لا يظهر الفسق كان أولى"(10)، وذهب أحد المعاصرين (رحمه الله) إلى أن العدالة المعتبرة في صحّة الطلاق وإن كانت أمراً وراء الإسلام، وهي الاستقامة في جادّة الشريعة المقدّسة بإتيان الواجبات وترك المحرّمات، إلا أنه لا يعتبر فيها الإيمان الخاصّ، فيكفي اتفاقها ولو ممن لا يدين بمذهبنا(11).

حجّة المشهور

وقد احتُجّ للمشهور بوجهين:

الأول: ظاهر آية الطلاق أو صريحها في أن العدالة أمر زائد على الإسلام، فإن اعتبار إسلام الشاهدَين مستفاد من قوله سبحانه: {منكم}، ويبقى وصفهما بالعدالة زائداً على إسلامهما، فلا بدَّ من مراعاته.

الثاني: ظاهر ما تقدّم من الروايات وغيرها اعتبار العدالة في الشاهدين، وإرادة الإسلام منها مفتقرة إلى قرينة مفقودة، سيما صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)-فِي حَدِيثٍ- قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي. قَالَ (عليه السلام): أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ: اغْرُبْ(اعْزُبْ)(12)،(13)‏.

فإن ظاهر مفردة البيّنة في كلام الأمير (عليه السلام) أمر زائد على العدد والإسلام، بتقريب أنه لما كان سَوق هذه الحادثة من قبل الباقر (عليه السلام)، الذي استقرَّ في زمانه ظهور مفردة البيِّنة في خصوص شهادة الرجلين المسلمَين العادلين؛ لكثرة استعمالها في ذلك، والظهور المستند إلى كثرة الاستعمال حجّة وإن لم يكن بنحو النقل المتشرِّعي إلى هذا المعنى، ولم ينبّه (عليه السلام) إلى تغاير المصطلحين لو كان قائماً، مما يكشف عن اتحاد المعنى الذي استعملت فيه المفردة مع المعنى الرائج زمن الباقر (عليه السلام). ثمّ إن أمر الأمير (عليه السلام) للسائل أن يغرب كناية عن عدم وقوع طلاقه بلا بيّنة، على غرار ما إذا قال: (لا طلاق بلا بيّنة) في استفادة شرطية البيّنة لصحَّة الطلاق.

إلا أن يقال: لعلّ منظور الصحيحة إلى أن دعوى الطلاق تحتاج إلى البيّنة كسائر الدعاوى في مجال الحقوق والأموال، وهذا لا يعني أن أصل صحّة الطلاق-كما لو أحرز وقوعه خارجاً- تحتاج إلى البيّنة. فتأمّل. وكيف كان ففي دلالة الآية على المطلوب بلاغ.

حجّة غير المشهور

وقد يحتجُّ لغير المشهور بوجوه:

الأول: البناء على أن الأصل في المسلم العدالة(14).

ويلاحظ عليه -بغض النظر عن عدم تماميّة الكبرى(15)- أن محل الكلام هو البحث عن حدود الحكم الواقعي، وهو تقيُّد صحّة الطلاق بحضور عدلين مضافاً إلى إسلامهما، فإذا ثبت ذلك وشككنا في صغراه تمسّكنا بالأصل المذكور لإثبات التقيّد والاشتراط، فالتمسّك بالأصل إنما هو في فرض الشك في الحكم الظاهري، ثمَّ إن هذا تسليم باعتبار العدالة، غايته دعوى أن الإسلام كاشفٌ عنها مع الشكّ فيها، ومعه فلا يكتفي غير المشهور أيضاً بالإسلام مع ظهور الفسق، بل قد نزّه صاحب الجواهر (قدّس سرّه) الأصحاب عن القول بتحقُّق العدالة بالإسلام وإن قارن سائر المعاصي(16).

الثاني: بعض الروايات التي استظهر منهما كفاية إسلام الشاهدَين في صحّة الطلاق، وهما ذيلُ صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر-قال- قُلْتُ: فَإِنْ أَشْهَدَ رَجُلَيْنِ نَاصِبِيَّيْنِ عَلَى الطَّلاقِ أَيَكُونُ طَلاقاً؟ فَقَالَ: مَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ أُجِيزَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الطَّلاقِ بَعْدَ أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ خَيْر(17). وصحيحةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ نَاصِبِيَّيْنِ؟ قَالَ: كُلُّ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَعُرِفَ بِالصَّلاحِ فِي نَفْسِهِ جَازَتْ شَهَادَتُه(18).‏ بتقريب أن الولادة على الفطرة تساوق الإسلام، والخير في قوله (عليه السلام)«بَعْدَ أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ خَيْر» نكرة في سياق الإثبات فلا تقتضي العموم، فلا ينافيه -مع معرفة الخير منه بالذي أظهره من الشهادتين والصلاة والصيام وغيرها من أركان الإسلام- أن يعلم منه ما يخالف الاعتقاد الصحيح؛ لصدق معرفة الخير منه معه، فلا يعتبر أزيد من إسلام وصلاح شاهدي الطلاق(19).

ويلاحظ عليه أولاً: ما أفاده سيِّد المدارك (قدّس سرّه) في شرح المختصر النافع من أن المتبادر من قولنا: "عُرِفَ من زيد خيراً" أنه لا يُعرف منه إلا الخير، بأن يظهر منه الخير دون الفسق والعصيان، ومن أعظم‏ أنواع الفسق الخروج عن الإيمان(20)،(21). ولا أقلَّ من أنه لا يعرف الخير والصلاح في من لم يعتقد بالولاية لجهل قصوري، فالتمسُّك بالصحيحتين فيه تمسُّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

وثانياً: إن صحيحة ابن المغيرة أخذت معرفة الصلاح من المسلم، ولا يكاد يتحقّق ويتَّصف به مَن ابتُلي بمعصية كبيرة أو صغيرة، فكيف بمن اختار الخروج عن الإيمان. فهاتان الصحيحتان على مطلوب المشهور أدلّ. ويؤيِّد ذلك تفسير ما اشتملتا عليه من الولادة على الفطرة بما في رواية الحارث بن المغيرة النصري عن أبي جعفر (عليه السلام) -في حديث- قال: «مَا عَلَى‏ فِطْرَةِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرُنَا وَغَيْرُ شِيعَتِنَا»(22).

وما في بعض الكلمات من أن الصحيحتين صريحتان في كون الشاهدين العدلين المعتبرين في الطلاق من النواصب، ورغم النُصْب تقبل شهادتهما فيه(23)- غير بيِّن، بل الواضح عدول الإمام (عليه السلام) عن جواب السائل إلى ضرب ضابطة كليّة يعرف بها حال الجزئية المسؤول عنها. وكما أفاد في الجواهر من أن الإمام (عليه السلام) جَامَعَ في جوابه بين التقيّة والحق، وأن هذا النحو من التعبير معهود من الأئمة (عليهم السلام)، حتى قال الكاظم (عليه السلام) لأحد أصحابه معلِّماً -وكان قد سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ (عليه السلام): مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً لِلسُّنَّةِ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ- يا فُلان لا تُحْسِنُ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا(24)، أو فُلانٌ لا يُحْسِنُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا(25)، فيراد حينئذ بمعرفة الخير فيه والصلاح في نفسه- المؤمن العدل الذي قد يقال: إنه مقتضى الفطرة أيضا، لا الناصب الذي هو كافر إجماعاً، بل ولا مطلق المخالف(26).

وما أجود ما نظّر به للمقام أحد الأعلام (قدّس سرّه) قائلاً: "ولعلّ المقام نظير ما لو استأذن الخادم مخدومه في دخول عدوّه عليه، فيقول المخدوم: (ليدخل علينا من يعرف بالصلاح)، فهذا ليس إذناً في دخول هذا العدوّ، ولكن لم يرد المخدوم التّصريح بالمنع، بل أراد المنع من دخول العدوّ بنحو آخر"(27).

بل لو سلّمنا بسلامة فهم قبول شهادة الناصب من الصحيحتين فلا تبقيان في دائرة الحجِّية والاعتبار؛ إذ أنهما ليستا مما أعرض عنهما المشهور فحسب كما في بعض الكلمات(28)، بل هما محلّ هجر للأصحاب طرّاً؛ فإنه لا عامل بهما منهم البتّة، ودليل حجّيّة خبر الثقة لا يشمل -على جميع المباني فيه- الخبر الذي هجره رواته ونَقَلَته، وهم أرباب المحدّثين.

بل قد يقال -وهو الحقّ-: بأنهما حينئذٍ مخالفتان للكتاب الدالّ على اعتبار العدالة في الشاهدين، وهي غير متحقّقة في الناصب الكافر إجماعاً(29)، بل نفس عنوان (منكم) في الآية كفيل بإخراجه.

وما قيل في ردّ كلام صاحب الجواهر (قدّس سرّه) من أن الحمل على التقيّة فرع وجود المعارض للصحيحتين، وأن روايات العدالة لا تصلح للمعارضة؛ لأنها أعمّ منهما من وجه(30)- فيلاحظ على الشقّ الأول منه: أن صاحب الجواهر (قدّس سرّه) ما حمل الصحيحتين على التقيّة، وأن جواب الإمام (عليه السلام) فيهما لا لجهة بيان الحكم الواقعي، كي يقال: إن الحمل على التقيّة فرع وجود المعارض، بل مراده (قدّس سرّه) أن الإمام (عليه السلام) اتَّقى على مستوى اللفظ، فاستعاض عن الإجابة المباشرة عن سؤال الراوي بضرب الكبرى الكليّة، بحيث يمكنه التفصّي عن تبعة إجابته فيما يرجع إلى الصغرى المسؤول عنها، بل لا يمكن أخذ مستمسك عليه فيها، كأن يقال له: كيف رددت شهادة الناصب؟ هذا والذي هو فرع وجود المعارض هو الأول، وأما الثاني فهو من قبيل المعاريض ولحن الكلام الذي يعرفه من جاس خلال الديار(31)، وأسأل الله من فضله.

ويلاحظ على الشقّ الثاني أنه لا تعارض حتى بالعموم من وجه بين روايات العدالة وبين الصحيحتين في ضوء ما فهمناه منهما؛ إذ أنهما إثباتيان، فروايات العدالة وكذا الآية تأخذ في شاهد الطلاق العدالة، والصحيحتان تأخذان فيه الإسلام والإيمان والعدالة، ولا معارضة بين القبيلين.

وقد يقال: إن ظاهر موثّقة سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ: مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ، وَوَاعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ-كَانَ مِمَّنْ حَرُمَتْ غِيبَتُهُ، وَكَمَلَتْ مُرُوَّتُهُ، وَظَهَرَ عَدْلُهُ، وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُه‏(32)- أن قضيّة العدالة المعتبرة في الشهادة مرتبطة بالإسلام والسلوك العملي الذي يدلّ على المناعة الأخلاقيّة فحسب، وأما اعتبار الإيمان فيها فكأنه أمرٌ غير عرفي سيما في القضايا التي لا ترتبط بالجانب المذهبي؛ لأن عالم الشهادة بحسب المتفاهم العرفي عالم يتصل بمسألة صدق الشاهد، وهو عالم إثبات المشهود به، ومسألة الصدق تحتاج إلى قاعدة نفسيّة من حيث المبدأ، والإسلام يفرض الصدق والأمانة والعفّة، وإن اختلف المسلمون في بعض التفاصيل(33).

ويلاحظ على الشقّ الأول من هذا الكلام أولاً: إن الموثّقة إنما تتحدّث عن قضيّة العدالة في ارتباطها بالسلوك العملي خاصّة، فلا نظر لها إلى موضوعها، وأنه خصوص المؤمن أو الأعم منه ومن غيره من المسلمين، وبعبارة أخرى: إن الموثّقة بصدد اعتبار حسن الظاهر كاشفاً عن العدالة، فلا إطلاق لها لتشمل غير المؤمن. هذا ومقتضى الأصل عدم حجيّة شهادة غير المؤمن بعد عدم وجود إطلاق في أدلّة الشهادة يتناولها.

وثانياً: لو كان نظر الموثّقة إلى قضيّة العدالة في ارتباطها بالإسلام والبُعْد السلوكي معاً- فهذا لا يمنع من تقييدها بما دلّ على اعتبار الإيمان في شاهد الطلاق على ما أوضحناه، مضافاً إلى ما دلّ على اعتباره في الشاهد بصورة عامّة، مثل ما دلّ على عدم قبول شهادة ذي مُخْزِيَة في الدِّين، كموثَّقة ِالسَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) كَانَ لا يَقْبَلُ شَهَادَةَ فَحَّاشٍ وَلا ذِي مُخْزِيَةٍ فِي الدِّين»(34)،‏ الشامل لمطلق المخالف، ولا يعيب سندها النوفليُّ؛ فإنه وإن لم يوثَّق بالخصوص، إلا أنه من معاريف الطائفة الَّذين لم يرد فيهم قدح، مؤيّداً بالعلويّ: فِي قَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ}، قَالَ: «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ وَصَلاحَهُ وَعِفَّتَهُ وَتَيَقُّظَهُ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ وَتَحْصِيلَهُ وَتَمْيِيزَه..»(35)، وبدعاوى عدم الخلاف والإجماع والتسالم(36).

ويلاحظ على الشقّ الثاني: إن مقتضى الارتكاز العرفي فيما يرجع إلى عالم الشهادة وإن كان لا يقتضي أكثر من مسألة صدق الشاهد ووثاقته، إلا أنه لما أخذ الشارع فيه ما هو أضيق دائرةً منها، وهي العدالة- فهو مؤشّر إلى إلغاء النكتة العرفية فيما نحن فيه.

الثالث من الوجوه التي يمكن أن يحتجّ بها لغير المشهور: إطلاق صحيحة حُمْرَانَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «..وَلا يَكُونُ ظِهَارٌ إِلا فِي طُهْرٍ مِنْ غَيْرِ جُمَاعٍ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْن»‏(37). فإنها وإن وردت في خصوص باب الظهار، إلا أن الظهار واحد من ضروب الفُرقة، ولا نحتمل فقهياً امتيازه عن سائر الضروب.

ولكن هذا الإطلاق مقيّد بما دلّ على اعتبار العدالة في شاهدي الطلاق وما دلّ على اعتبار معروفيتهما بالخير والصلاح.

فالمتحصّل أنه لم ينهض وجه لغير المشهور، بل بعض ما استدّل به له هو لمذهب المشهور أدلّ، فالمشهور هو المنصور.

المعتبر من العدالة

بقي هنا شيءٌ، وهو أنه هل المعتبر عدالة شاهدَي الطلاق واقعاً -وإن كشف عنها حسن الظاهر- بحيث ينكشف بطلان الطلاق لو تبيّن فِسقهما أو أحدهما، أو أنه يكفي إحراز عدالتهما بالموازين الشرعيّة في اعتقاد المطلِّق عند الطلاق، فلا يضرّ بصحته انكشاف الفسق لدى المطلّق فضلاً عن غيره؟

المعروف هو الأول، واختار الميرزا النائيني (قدّس سرّه) الثاني(38)، وذهب الشهيد (قدّس سرّه) في المسالك إلى أبعد من ذلك، وهو كفاية ظهور العدالة وإن كان مطّلعاً على الفسق، فقال: "وهل يقدح فسقهما في نفس الأمر بالنسبة إليهما حتى لا يصحّ لأحدهما أن يتزوّج بها أم لا، نظراً إلى حصول شرط الطلاق، وهو العدالة ظاهراً؟ وجهان. وكذا لو علم الزوج فسقهما مع ظهور عدالتهما، ففي الحكم بوقوع الطلاق بالنسبة إليه -حتى تسقط عنه حقوق الزوجيّة، ويستبيح أختها والخامسة- الوجهان. والحكم بصحّته فيهما لا يخلو من قوّة"(39).

والظاهر ما عليه المشهور؛ فإن حسن الظاهر الكاشف عن العدالة المعتبرة في صحّة الطلاق إنما هو أمارة عليها، فإذا اتفق العلم بالخلاف فلا مورد للأمارة آنئذٍ، ولو من غير المطلِّق فليس له أن يرتِّب آثار الطلاق الصحيح؛ لظهور العناوين -ومنها العدالة- في معانيها الواقعيّة.

وما قيل: من أن التسهيل في هذا الأمر العامِّ البلوى يقتضي كفاية إحراز العدالة عند المتعارف حتى لمن يعتقد بالخلاف تسهيلاً وتيسيراً وتخطئةً لاعتقاد من يعتقد بالخلاف، لئلا يتسرّع كلّ أحد إلى المناقشة في عدالة كلّ عادل(40).

فيلاحظ عليه أنه لا شاهد من قبل الشارع على التسهيل في أمر الطلاق، بل مقتضى مبغوضيّته شرعاً التغليظ في أمره باشتراط العدالة الواقعيّة.

والمعجِّب ما قواه الشهيد من كفاية ظهور عدالة الشاهدين حتى لو علم الزوج المطلّق بالفسق؛ فإن خطاب{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} للأزواج فكيف يكتفى بظهور عدالة الشاهدين لدى من سواهم؟!.

والحمد لله أولاً وآخرا، وصلّى الله على محمّد وآله.

 

* الهوامش:

(1) سورة الطلاق1-2.

(2) لاحظ في تقرير وتقريب دلالة الآية على اعتبار الإشهاد في صحّة الطلاق ما في هامش صفحة 282 من كتاب (أصل الشيعة وأصولها) للإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (قدّس سرّه)؛ فإنه أجاد فيما أفاد.

(3) وسائل الشيعة22: 26 ب10 من أبواب مقدّمات الطلاق ح2.

(4) وسائل الشيعة22: 26 ب10 من أبواب مقدّمات الطلاق ح3.

(5) وسائل الشيعة22: 26- 27 ب10 من أبواب مقدّمات الطلاق ح4.

(6) وسائل الشيعة22: 27 ب10 من أبواب مقدّمات الطلاق ح5.

(7) رجال الطوسي (قدّس سرّه): 343 (5108).

(8) مسالك الأفهام9: 114.

(9) جواهر الكلام32: 109.

(10) مسالك الأفهام9: 114- 115.

(11) فقه الشريعة3: 581 م 896 - الطبعة الثامنة 1427هـ- 2006م، فقه الطلاق وتوابعه1: 214- 215 تقرير بحث السيّد محمّد حسين فضل الله (رحمه الله)، بقلم الشيخ محمّد أديب قبيسي.

(12) كذا في أصول الرواية، الكافي6: 58- 59 والفقيه3: 498 والتهذيب8: 47.

(13) وسائل الشيعة22: 25- 26 ب10 من أبواب مقدّمات الطلاق ح1.

(14) لاحظ مسالك الأفهام9: 114، مفاتيح الشرائع للفيض الكاشاني (قدّس سرّه)2: 317.

(15) لاحظ في الاستدلال لها وردّه كتاب (بحوث في فقه الرجال): 66-69 تقرير بحث السيّد علي الفاني (قدّس سرّه)، بقلم السيّد علي حسين مكّي العاملي.

(16) جواهر الكلام32: 109.

(17) وسائل الشيعة22: 25- 26 ب10 من أبواب مقدّمات الطلاق ح1.

(18) وسائل الشيعة27: 393 ب41 من أبواب كتاب الشهادات ح5.

(19) مسالك الأفهام9: 114.

(20) نهاية المرام في شرح مختصر شرائع الإسلام2: 40- 41.

(21) قال في الحدائق10: 41  (قدّس سرّه)قائلاً: «واقتفاه[مرجع الضمير صاحب المسالك (قدّس سرّه)] في هذه المقالة سبطه السيِّد السند في شرح النافع، فقال- بعد نقل كلامه المذكور، وذكر الرواية الأولى ما صورته-: وهو جيِّد، والرواية الأولى مع صحّة سندها دالّة على ذلك أيضا؛ فإن الظاهر أن التعريف في قوله (عليه السلام) فيها: "وعرف بالصلاح في نفسه" للجنس لا للاستغراق، وهاتان الروايتان- مع صحتهما- سالمتان من المعارض، فيتَّجه العمل بهما. انتهى». أقول: إلا أن ما نقله صاحب الحدائق عن شرح النافع غير موجود فيما بأيدينا من نسخه، بل الموجود بعد حكاية كلام جدّه ما يلي: « ولا يخلو من نظر؛ إذ المتبادر من قولنا: (عرف من هذا الشخص خيرا) أنه عرف منه الخير خاصة، وكذا من قولنا: (عرف منه الصلاح) كونه معروفاً بهذا الوصف ممتازاً به، فيكون في الروايتين دلالة على تحقُّق العدالة المعتبرة في الشهادة، بأن يظهر من حال الشخص الخير والصلاح دون الفسق والعصيان، ومن أعظم أنواع الفسق الخروج عن الإيمان، كما هو واضح. وهاتان الروايتان مع صحتهما سالمتان من المعارض فيتجه العمل بهما». نهاية المرام2: 40- 41. 

(22) وسائل الشيعة9: 549- 550 (ك الخمس) ب4 من أبواب الأنفال ح14.

(23) فقه الطلاق وتوابعه1: 214.

(24) تهذيب الأحكام9: 91- 92 (313).

(25) وسائل الشيعة22: 112 ب3 من أبواب أقسام الطلاق ح6.

(26) جواهر الكلام32: 110.

(27)جامع المدارك في شرح مختصر النافع‏4: 516، بتصرُّف في التركيب، فلاحظ.

(28) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة(ك الطلاق): 60.

(29) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة(ك الطلاق): 60.

(30) فقه الطلاق وتوابعه1: 214- 215.

(31) ففي الرواية عن إبراهيم الكرخي عن أبي عبد الله (عليه السلام)أنه قال: حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا..معاني الأخبار:2 ب1 ح3، وعنه في البحار2: 184 ب26 من أبواب العلم ح5، وعن المفضَّل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): خبر تدريه خير من عشر(عشرة) ترويه، إن لكلّ حقّ حقيقة، ولكلّ صواب نورا، ثمّ قال: إنّا والله لا نعدّ الرجل من شيعتنا فقيهاً حتى يُلحن له، فيعرف اللحن..غيبة النعماني: 143- 144، وعنه في البحار2: 208 ب26 من أبواب العلم ح101. ولاحظ الجواهر10: 259.

(32) وسائل الشيعة8: 315-316 ب11 من أبواب صلاة الجماعة ح9.

(33) فقه الطلاق وتوابعه1: 214.

(34) وسائل الشيعة27: 377 ب32 من أبواب الشهادات ح1.

(35) وسائل الشيعة27: 399 ب 41 من أبواب الشهادات ح23.

(36) جواهر الكلام41: 16، الخلاف6: 300- 301، مسالك الأفهام14: 159- 160، مجمع الفائدة والبرهان12: 298، جامع المدارك6: 101.

(37) وسائل الشيعة22: 307 من أبواب كتاب الظهار ح1.

(38) الفتاوى3: 325- 331 (21، 22، 24، 25، 28، 29، 30، 31، 33).

(39) مسالك الإفهام9: 115.

(40) مهذّب الأحكام26: 49.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا