إمامتنا من خلال القرآن الكريم

إمامتنا من خلال القرآن الكريم

بادئ ذي بدء لا بد من تقديم مقدّمة تمهيدية لتكون موطئة للدخول في هذا البحث أقول فيها.

لا شك ولا ريب لدى قارئي الكريم أنّ المنهج الكلامي قد قدّم خدمات واضحة وجليّة في تاريخ التشيع وأفرز رموزاً فكرية كالمفيد والمرتضى والطوسي والحلّي، ولكنّ المنهج الكلامي لم يرتق إلى الإمامة في أفقها القرآني، من دون أن يقلّل ذلك من المكاسب الكبيرة التي حققها الفكر العقديّ خلال شوطه الطويل.

لهذا لا بد لنا من بحوث تأسيسية قرآنيّة بمقدورها -وحدها- أن تضع الإمامة  في أفقها الإسلامي الرحيب.

«فكما لا تكتمل الرسالة بدون الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله) كذلك لا تتم الشريعة بدون إمام، فلا يكفي البشرية وجود شريعة محفوظة، بل لا بد من تجسيد وتفعيل تلك الشريعة في إنسان يتمتّع بامتيازات تشريعية تعطيه صلاحيّة تطبيق الشريعة على الناس كل الناس، إذ لا بد لكل قانون ودستور من مطبّق ومفعّل له ويكون نافد الكلمة، وإلا عاد القانون والدستور حبراً على ورق.

ولقد شاء الله (سبحانه وتعالى) أن يسعد الإنسان في الحياة بدون أن يقيّده أو يجبره على ذلك فيسلبه كرامته وحريته، وهكذا ينبغي عليه أن يوفّر له من نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى وسائل السعادة والرفاهية في جميع أبعادها ومفاصلها، باعتباره أفضل مخلوق عند الله (سبحانه وتعالى)، فشرّع له الشرائع وعبّد له المناهج، ثم بعث رسولاً يبيّن له وينذره ويبشره ويدعوه إلى تطبيق ذلك ويشرف على تنفيذه وإجرائه في الساحة العملية للبشرية وكان عليه أن لا يترك الخلق دون منقذ ومحقق للشريعة الإسلاميّة بعد خاتم النبوّة (صلّى الله عليه وآله) بل كان ينبغي أن يعيّن لهم أئمة يتمتّعون بما يتمتّع به الرسول (صلّى الله عليه وآله) من صلاحيات، ويقومون بما يقوم به الرسول (صلّى الله عليه وآله) من مهام، كلّ ذلك إتماماً للنعمة وتحقيقاً للحكمة الربّانيّة وتوفيراً لوسائل السعادة والرفاة للناس دنياً وآخرة»(1).

ويتّضح لنا مما تقدّم أنّ الطريق إلى الله لا يمكن إلا عبر النبوّة والولاية لأهل البيت (عليهم السلام)، وأنّ ما في الإسلام من الخير والصلاح والفلاح والهداية والسعادة مشروط بالولاية لأهل البيت (عليهم السلام)، فعدم التفاعل مع النبوّة والإمامة في مفاصل وأبعاد الحياة الإنسانية كلّها، يعني:

لا يمكن معرفة الله (سبحانه وتعالى) حق المعرفة؛ فتكون المعرفة ناقصة وغير مكتملة ولا يمكن حينئذٍ الإلمام بعبادة الله (سبحانه وتعالى) وطاعته بشكل سليم وصحيح.

لا يمكن تفعيل وتنفيذ وتطبيق قوانين وإرادة الإسلام على أرض الواقع الذي تعيشه البشريّة في ظلّ خاتمة الأديان وتحقيق إقامة دولة العدل الإلهي بشكل مكتمل وصحيح.

لا يمكن أن تقام الحجّة التامّة لله (عزَّ وجلَّ) على الناس.

ويتجلّى لقارئي مما سبق:

أنّ الإمامة متّصلة ومستمرّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، في مقابل أولئك الذين أنكروا ديمومتها واستمراريتها، بل قالوا بانقطاعها وأنّها ليست دائمة، بإزاء ما ذهب إليه الشيعة الذين صرّحوا بدوامها وعدم انقطاعها.

أمّا على خطّ المسؤوليات فلم يكن النزاع بأقلّ مما سبق ومما مضى حول نظريّة (الإمامة) فقد أنكرت المدرسة السنّية الدور التشريعي لأئمة أهل البيت (عليه السلام) وكما يعرف -قارئي النّبيه- أنّ الدور التّشريعي الذي ينهض به الإمام (عليه السلام) بالمعنى الشامل الذي يستوعب بيان العقائد والأخلاق والحلال والحرام، أي: بيان القرآن الكريم مطلقاً.

أئمتنا هم أولي الأمر:

أمرنا الله (سبحانه وتعالى) في قرآنه الكريم بإطاعة أولي الأمر من بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(2).

والقرآن الكريم يتناول في هذه الآية مسؤولية السلطة والقيادة، وهي وإن كانت ليست ذات قيمة بنفسها وبذاتها، إنّما هي وسيلة لتحقيق العدالة التي تعني حصول كلّ شخص على حقّه كاملاً غير منقوص.

«وهذه القيمة يحققها سلطان الله في الأرض ومصداقه محقق في قيادة وإدارة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأولي الأمر  من بعده الذين يجسّدون في الساحة العمليّة سياسته (صلّى الله عليه وآله) التي رسمها الله له (صلّى الله عليه وآله) كخاتم للنبوّة وقد كانوا هم أهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام، فأولي الأمر هم الامتداد الطبيعي للرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهم العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، الأكفاء على القيام بأمره الصابرون المتّقون، وبالتالي هم أكثر النّاس طاعة لله، وأقربهم إلى نهج رسوله»(3).

 وهنا لفتة قرآنيّة مفادها: أنّا عندما نرجع إلى القرآن الحكيم نجد أنّ الله (سبحانه وتعالى) جعل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) هو الحاكم لهذا نصّت الآية {أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ}(4) إذا كان الشخص معصوماً ومسدداً ويرى الحقائق كما هي، فله إذاً حق الحكومة والقيادة على الناس، ونستفيد من هذه الآية المباركة أنّها تعطي للنبي (صلّى الله عليه وآله) تفويضاً وعصمة وتسديداً في كل حكم يصدره.

ويكون القرآن الكريم هو القانون والدستور الرسميّ لإدارة الأمّة الإسلاميّة، فهو الحكم العدل بين الناس في جميع أبعادهم ومفاصلهم المختلفة.

وكل حكم يصدر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) فهو حكم الله لأنّه بتعليمه وتسديده، فالكتاب هو المقياس في الحكم على الناس وليست المصالح أو الأهواء.

وبتعبير أجلى: على الرسول (صلّى الله عليه وآله) أن يتبع ويتماشى مع الحق في كل حراكه وانطلاقاته وفعالياته طبقاً للإرادة القرآنية، فيكون مقياساً لحكمه على الناس واتخاذ المواقف منهم.

وقد يدّعى ظهور الحكم الوارد في الآية الشريفة سابقاً في خصوص القضاء، ولا شأن للحاكم أن يتسنّم البعد القيادي والسياسي في الأمّة!

وتقول الإجابة على هذا السؤال لا بدَّ أن نعرف الفلسفة الأساسية الكامنة وراء وجود الأديان السماوية والشرائع التي شرعها الله سبحانه للإنسان.

عند عرض هذا السؤال على كتاب الله نجده يؤكّد حقيقة في غاية الأهميّة والوضوح، يعكسها قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(5) في حال تفكيك الآية المباركة تبرز المعاني التالية:

يشير المقطع الأول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} إلى أنّ هذه الحقيقة ليست مختصّة أو منحصرة بالنبيّ الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله) بل إقامة العدالة وفق القيم الإلهية أحد أهمّ وأبرز الأهداف التي تنزّلت من أجلها رسالات السماء، وسعى إليها كل مؤمن بل كل إنسان، ويكون دافعه هو المسؤولية التي لا بد من أن يتحمّلها كل إنسان سويّ ونقيّ في كل الحراك والانطلاق في جميع الأبعاد والمفاصل، فإذا رفع راية العدالة شخص فعلى سائر الناس أن ينصروه وأن يكونوا عوناً له حال وثوقهم به وبأهدافه الإلهية، ولا يدعوه أو يتركوه وحيداً فريداً في مواجهة الدكتاتوريين الظالمين، فذلك هو المحكّ الذي يثبت الشخصيّة الواعية الولائية المؤمنة الملتزمة بالمسؤولية، وهذه هي الحقيقة التي يلزم تفعيلها من قبل الجميع بدون استثناء، فهي حكم سارٍ وشامل للنبوة العامّة، وهي قاعدة توجه جميع الأنبياء الذين بعثهم الله إلى البشريّة.

هذا الانبعاث الذي كان مصدره هو الله (سبحانه وتعالى) والرسل وحدهم انطلقوا باسم الله وبأمره الذي تلقّوه منه عبر الوحي بعد اختيارهم من قبله تعالى، وحيث ختم الله عهده هذا النوع من الحركات بنبيّه محمد (صلّى الله عليه وآله) فإنّ الحركة الصادقة هي التي تكون امتداداً لهم وبزعامة الأوصياء والربانيين والعلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، والأولياء والقادة المؤمنين السائرين على خطى الولاية.

{الْبَيِّنَاتِ} التي تعني المنهج الربّاني الأصيل، والمتمثّل في الرسالات التي ختمها ربّنا بأكملها وهو القرآن الكريم الذي حفظه من التحريف، وجعله مهيمناً على الكتب، فإنّه المنهج والدستور والقانون الأصيل والوحيد الذي يجب اتباعه في كل حراك وانطلاق وفعالية ليكون مسدداً في أيّ مسعى يؤدّي إلى الهداية من خلال ارتباطهم بالله (سبحانه وتعالى) عن طريق القرآن الكريم.

{وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ} بعث الله أنبياءه بالمعجزات الدالة على صحّة ما ادّعوه وأنزل معهم الكتب السماويّة(6) المتضمنة لشرائع الدين من اعتقاد وعمل وهي خمس: كتاب نوح، صحف إبراهيم، التوراة، الإنجيل، القرآن الكريم.

فالكتاب هنا يراد به الجنس أي جنسه الذي يشمل كل كلام الله المنزل على رسله.

وحيث لا يؤتي الإيمان ثماره إلا إذا تحوّل إلى نظام تربويّ واجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي شامل لجوانب الحياة يكفل للبشرية السعادة، أنزل الله شريعة متكاملة إلى جانب البيّنات متمثّلاً بالكتاب، فإذا كانت البينات تؤمّن القناعات الأولية فإنّ الكتاب يؤمّن النظام العملي الشامل المنطلق من الإيمان، والذي يستهدف تكريسه بعمق في النفوس والواقع والقيام بالقسط -هذا الهدف العظيم-إنّما يستمدّ شرعيّته وشرعته منه.

ومع دلالة الإنزال على المعنى الظاهر من الكلمة فإنّه يدل على الفرض، وكل ما نزل من الخالق إلى المخلوق فهو لازم مفروض عليه القيام به ومن البديهي أنّ معرفتنا بالبينات أن الكتاب من الله تلزمنا العمل به وتنفيذه في كل أبعاد الحياة وحراكها وانطلاقاتها المختلفة ليكون سبباً في سعادتنا في الدنيا والآخرة.

{وَالْميزان} وهو الآلة المعروفة ذات الكفتين التي تقدّر وتوزن بها الأشياء، وبها تستوفى الحقوق، وقد يراد بالميزان هنا العدل وجعل الميزان رمزاً لذلك وعنواناً إليه.

ولكي ينجلي المعنى بوضوح أكثر لقارئي الكريم نقول: ما هو المراد من الميزان؟ هل هو العقل؟ أم الإمام العادل؟ أم هذه المقاييس التي يزن الناس أشياءهم بها؟

يبدو أنّ الميزان أساساً هو المقياس الذي نعرف به تطبيق الحكم على الواقع الخارجي، وبتعبير آخر: إنّ كل شيء يحقق العدالة وتعرف به الحقيقة والمصداق فهو ميزان يوزن به ما يناسبه، وهذا لا يتم إلا من خلال العقل والإمام والمقياس السليم.

وقد يسأل قارئي الكريم هنا: كيف يكون ذلك؟

أولاً: ما جاء القرآن الحكيم ليلغي دور العقل، إنّما ليثير دفائنه بالاجتهاد الفكري الواعي والفطن في فهم حقائقه وأحكامه وطريقة تفعيله وتطبيقه في الواقع المعاش، وليقوم بدوره الحسّاس والخطير في حياة البشرية.

ثانياً: ما جاء القرآن الحكيم بديلاً عن الإمام (السلطة العادلة) حيث يجب التسليم للقيادة الشرعية في حدود قيم الكتاب فدور الإمام يكمل دور الرسالة في إقامة القسط وبالتعبير المعاصر إقامة العدل الاجتماعي وهذا هدف سامٍ في جميع الأديان.

وهل يمكن إقامة العدل في المجتمع من غير قيادة سياسية؟

من البديهي أنّه لا معنى لدين بلا سياسة وقيادة وزعامة، فالقرآن الكريم يؤكّد وجود نسيج متداخل بين الدين ووجود قائد سياسي، وهنا نصل إلى حقيقة أخرى مفادها أنّ وظيفة النبيّ ليست بيان الدين وحسب، فهذه مرحلة أولى تتبعها مراحل أخرى تتمثل بتطبيق هذا الدين على المجتمع.

ولو كانت وظيفة الدين منحصرة في البيان لكفى النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يرتقي المنبر ويذكر للناس حكم الله ثمّ يقول: إن أردتم أن تعملوا اعملوا وإن تريدوا فلا تعملوا.

إنّ القرآن الحكيم صريح في التركيز على إقامة القسط بتطبيق وتفعيل الدين وليقوم بدوه الحساس والخطير في حياة الناس، يقول الله سبحانه {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}(7) إذ يستفيد عدد من المفسرين أن للسلطة والقيادة مدخلاً لا بدّ منه في إقامة العدل الاجتماعي ولذلك أردف إنزال الحديد بالبأس الشديد، أجل في الحديد منافع للناس بيد أنّ الأساس هو ما في الحديد من إشارة إلى القوّة يتضاءل معها دوره في المساهمة في بناء البيوت والعمارات وتحريك المصانع وتشييد المدن.

وإذ تحتاج عملية إقامة العدل الاجتماعي إلى إمام وقائد، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّي قد تركت فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(8).

وقد أجمعت فرق المسلمين قاطبة على هذه الرواية مع حكم العقل بضرورتها، أمّا قول الخوارج: «حسبنا كتاب الله» فإنّه باطل بشهادة الكتاب، وشهادة العقل والتاريخ البشري حيث لم نعهد جماعة بلا سلطة تحكمهم، وحتى الخوارج أنفسهم ما عاشوا دون سلطة طوال تاريخهم.(9)

وميزان الإنسان في الدنيا هو ميزانه في الآخرة حيث يقول الله (سبحانه وتعالى): {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}(10)، ويمكننا استخلاص بعض الأمور من هذه الآية المباركة:

على كل إنسان ألا يغفل أو ينسى الآخرة والقيامة (يوم ندعوا) أي: يوم ننادي.

إنّ تقسيم الناس يوم القيامة سيكون على حساب قادتهم وأئمتهم {كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} فالإمام يعكس قيم ومبادئ أمّته وهو تجسيد لكل فرد في الأمّة.

لا يمكن لأيّ فرد أن يفرّ من اختيار أسوته وإمامه {كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}

على كل مسلم ألا يصرف ذهنه أو شعوره أو أحاسيسه عن مسألة الإمامة، بل عليه أن يعتبرها جزءا من كل كيانه في جميع أبعاده ومفاصله الثابتة والمتحرّكة، وذلك لعظم أهمّيتها {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} لأنّه في يوم القيامة سيحشر مع أئمته. وقد ذكر القرآن نوعين من الأئمة:

*إمام النور والهداية: {أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} كما كان حال النبي إبراهيم (عليه السلام) فقد حطم أولاً وقبل كل شيء الأصنام التي كانت مورداً لعبادة الناس حيث انفصل (عليه السلام) عن عبادة الآباء وتحدّى ضغوط المجتمع ولم يكتف بعدم الخضوع لأبيه «آزر» الذي كان يتخذ موقفاً متشدداً بل حاول أن يجعل ويصير أباه يتبعه ويطيعه لأنّه على يقين، كما تحرر من الخضوع لطاغوت المجتمع وللسلطة السياسية الفاسدة بما تمثّله هذه السلطة من وسائل البطش والإرهاب، فكان ذلك الإنسان الذي خلقه الله على الفطرة الإيمانية وأصبح عبداً مؤمناً صالحاً كما أراده خالقه.

إنّ الإنسان المتحرر عن عبودية الطاغوت وعبودية الآباء وعبودية الشهوات وغيرها فإنّه يصبح مستقل الشخصيّة لا يخضع إلا لخالق الكون العزيز الحكيم وهو الله (سبحانه وتعالى)، وهكذا بدأ إبراهيم (عليه السلام) حياته بداية سليمة فأعطاه الله (سبحانه وتعالى) بدل ذلك المجتمع الفاسد مجتمعاً صالحاً، وبدل ذلك الإرهاب والطغيان أمناً وحرّية وبدل ذلك التاريخ الفاسد جعله منطلقا جديداً لبناء تاريخ صالح {أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}.

لقد عوّض الله (سبحانه وتعالى) عن كل بلاء صبر عليه بنعمة، فتحرره من قيد الطاغوت أعطاه الله سبحانه نعمة القيادة وجعله إماماً لقيادة المجتمع وهدايته وفقاً للصراط المستقيم، وعندما تحرر من قيد المجتمع المشرك أعطاه مجموعة من المؤمنين يتبعونه ويسيرون بهدايته وفقاً للمرسوم الإلهي، وأعطاه الأولاد وهم سائرون على نهجه الإصلاحي، فأنشأ ذلك المجتمع المهتدي بهداه وتحرر من قيد التاريخ المنحرف فجعله الله (سبحانه وتعالى) نقطة البدء لتاريخ جديد ونظيف، وجعل أولاده أئمة للناس كما زوّدهم بقانون ودستور متكامل بإزاء ذلك المنهج الفاسد الذي كان منهجاً مفعلاً لدى الطاغوت الدكتاتوري والمجتمع الذي كونه مرتزقة وعملاء خاضعين إليه برسالة تدعو إلى تفعيل الخير في أوساط المجتمع الفطن والواعي، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وعبادة الله وحده دون الخضوع لهذا أو ذاك، والتحرر الكامل عن السلطات غير الشرعية والإدانة بالعبودية المطلقة لله (سبحانه وتعالى).

إنّ هذه القيادة والإمامة تجسّدت في إبراهيم (عليه السلام) عبر أكثر من خمسة آلاف سنة إلى يومنا هذا.

* إمام النار والضلالة {أَئِمَّةً} أي: قدوة ضلال في المنهج الدكتاتوري الظالم حيث {يَدْعونْ} أي: ينادون ويأمرون ويطلبون الانقياد والانصياع لهم من قبل الناس إلى إطاعته واتباعه بالقوة والتهديد والتطميع والتحقير من خلال الإذلال الذي يمسخ شخصية الإنسان من شخصيته التي أرادها الله (سبحانه وتعالى)، ولكن إمام النار والضلالة كفرعون أصبح هو وجنوده من خلال معاداتهم للحق، ووقوفهم أمام تفعيله في الساحة المعاشة في جميع مفاصلها وأبعادها وانطلاقاتها وحراكها حاكماً مطلقاً وسيطر على البلاد والعباد وتكبّر حتى بلغ الأمر به إلى أن يدّعي الألوهية واعتقد بقدرته على مقاومة الحق وأنّ الحياة لا يحكمها قانون أو دستور فصار مثلاً وقدوة لكل ظالم يريد أن يدخل {إلى الْنّار}(11)، ففي الحقيقة والواقع إنّهم شكّلوا وصنعوا الخط الدكتاتوري في سلبياته النارية وسنّوا تلك اللبنة التمردية والعاصية للحق لتكون منهجا لمرتزقتهم وعملائهم والتي تكون تبعتها مسيراً لجهنّم والعياذ بالله، أي: إنّهم شرّعوا لأصحاب النار الطريق إليها يدعونهم بعملهم وسيرتهم وسلوكهم ومنطقهم وموقفهم العدائي للحق إلى النار حيث صنعوا إليهم الطريق والخارطة الموصلة إليها.

فرعون وجنوده إلى يومنا هذا في الكفر وأئمة ضلال يدعون من اتبعهم وسار بنهجهم إلى النار، والدكتاتور حينما يبني القصور أو يجمع الأموال والسلاح فإنّه يتصوّر أنّه قد صار عظيماً من خلال الحطام الزائل وهذا الشعور والإحساس الطاغوتي هو الذي يصنع بينه وبين الحقيقة حجاباً.

ويتلخّص لنا مما مضى أن في الحياة خطّين هما: خط الحق المتمثل في رسالات الأنبياء وأئمة الهدى، وهو الخط الذي يؤدي إلى الجنّة، وخط الباطل المتمثل في الثقافة الجاهلية والدكتاتوريين وهو الخط الذي يؤدي إلى النار.

وهذه السلطات الفاسدة في عصرنا الذي نعيشه اليوم هي الامتداد الفعلي لخط فرعون بينما تتمثل الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قدِّس سرُّه) والإمام الخامنئي مد الله في عمره وأيده، والعلماء الربانيون الامتداد المبارك لخط الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام).

إن آثار مسألة اختيار الإمام وإطاعته ليست وقتية أو محددة بزمان بل هي دائمة ومتواصلة إلى يوم القيامة.

إنّ الإمامة والولاية هما من صميم الحياة ولبّها وواقعها، وليستا مجرد موضوع عقدي نظري على هامش الحياة كذلك فإنّ الإمام والقائد هو الذي يهيئ أسباب سعادة الناس أو شقائها.

وعوداً على ما سبق حول الميزان، نقول: إنّ كلمة الميزان واسعة تشتمل على كثير من المضامين فالعقل ميزان والقرآن ميزان وما تتفق عليه التنظيمات في اجتماعها إلى بعضها ميزان ولا يصح لأحد أن يخرج عليه مهما كان مخالفاً لمصالحه الشخصيّة، ولكن أظهر وأجلى معاني الميزان هو القيادة السياسية الإسلاميّة، بأقوالها وانطلاقاتها وآرائها وكل حراكها في كل مفصل من مفاصل الحياة البشرية، وذلك لقرب القيادة المثلى من القيم فهماً وتطبيقاً وتفعيلاً: قال الإمام الرضا (عليه السلام): «والميزان أمير المؤمنين (عليه السلام) نصّبه لخلقه. قال الراوي: قلت: ألا تطغوا في الميزان؟ قال (عليه السلام): لا تعصوا الإمام»(12).

ونتحصّل من خلال إشارتنا إلى بعض ما تقدّم أن العقل يعكس مقايسة فطر عليها على مجموعة أدوات يقيس بها الأشياء، أرأيت أنّ العقل  يعرف -عبر البصر- مدى قرب أو بعد الأشياء، ولكنّه التماساً للدقّة يعكس ذلك على أدوات العلم كما يقدر العقل على معرفة مدى حرارة الجسم باللمس، وهكذا سائر الموازين إنّها تجلّيات  العقل على الطبيعة ومن جهة أخرى أنّها أدوات ووسائل لحكم السلطة العادلة، فلولا القوانين التي تنظم العلاقة وتزن مدى تطبيق وتفعيل القيم على الواقع العملي لم يستطع الإمام فرض العدل على الناس وهكذا كان الميزان أساساً هو العقل (الذي هداه الله إلى معرفة المقاييس والمقادير)، والإمام الذي هو بمثابة العقل الظاهر ثم الأنظمة والأدوات القياسية لأنّها تهدي الناس إلى الحق والعدل ويكونان بالتالي مفعّلين في الإدارة السياسية العامّة في جميع  مفاصلها وأبعادها وانطلاقاتها وحراكها أينما كان أو يكون ولذلك جاء في التفسير: «نزل جبرائيل بالميزان الكفتين واللسان، فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به(13).

ومن هنا نهتدي إلى المقطع الرابع من الآية السابقة المشار إليها في الهاش برقم ثلاثة وهو قوله تعالى {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، وإقامة الشيء هو تنفيذه على أصلح وجه، ومنه إقامة الصلاة إذا مارسها بوجهها الصحيح.

والعوامل الثلاثة، أي: البيان، والكتاب، والميزان، يكمل بعضها بعضاً وهي كفيلة بأن توفّر المناخ المناسب لإقامة القسط ولتحقيق هدف رسالات الله.

والقسط -حسب الرازي-والأقساط هو الانصاف، وهو أن تعطي قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك، والعادل مقسط، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(14) أي: والله يحب الذين يعدلون مع الناس في جميع أبعادهم ومفاصلهم في القول وفي العمل، فالله يحبّ المقسطين الذين يحكون بالعدل دائماً وأبداً في جميع الأمور المتعلقة بالمحكومين.

والقاسط الجائر، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}(15) القاسطون هنا أي: العادلون عن طريق الحق ويتضح المعنى هنا من خلال الإشارة إلى قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} لأمر الله المطيعون له فيما يريد من عبيده {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} أي : ومنا المنحرفون المفسدون والعادلون عن التسليم.

***

 

* الهوامش:

(1) الفكر الإسلامي مواجهة حضارية بتصرف.

(2) سورة النساء: 59.

(3) تفسير من هدي القرآن بتصرف.

(4) سورة النساء: 105.

(5) سورة الحديد: 25.

(6) هي: كتاب نوح، صحف إبراهيم، التوراة، الإنجيل، القرآن.

(7) سورة الحديد: 25.

(8) بحار الأنوار ج23، ص106.

(9) من مقال بعنوان القيام بالقسط مهمة الناس جميعاً للسيد محمد تقي المدرسي من موقعه منقول بتصرف.

(10) سورة الإسراء: 71.

(11) سورة غافر: 41.

(12) بحار الأنوار، ج16 ص 88.

(13) نور الثقلين ج5 ص188 (بتصرّف).

(14) سورة المائدة: 42.

(15) سورة الجن: 15.

 


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا