هذا هو القسم الثاني من هذا البحث وهو يتطرق إلى موضوع الوهية المسيح(ع) في المنظور القرآني، ونسعى من خلال هذا القسم من البحث لبيان الرؤية القرآنية للمسيح، وقد سبق لنا في القسم الأول - والذي نشر في العدد الثالث من مجلة رسالة القلم- أن بحثنا هذا الموضوع من خلال نصوص الكتاب المقدس.
ولكن وقبل الدخول في القسم الثاني من البحث نذكر تتمة للقسم الأول لم يتسنى – لرئاسة التحرير نشرها في العدد السابق من المجلة- وندخل بعدها في القسم الثاني من البحث.
ثالثا: المسيح ليس ابن الله:
لقد أشرنا سابقا(1) إلى أهم الأدلة التي أستدلوا بها على كون المسيح ابن الله، وسنسعى الآن لدحض هذه الأدلة الواحد تلو الآخر:
1- إن لفظ "ابن الله" الذي ورد كثيرا في العهد الجديد كوصف للمسيح لا يمكن الإستناد إليه لإثبات هذه البنوة، وذلك لأن هذا اللفظ ورد كثيرا كوصف لأشخاص عاديين، فقد ورد هذا اللفظ في انجيل متى وصفا لصانعي السلام " طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"(2) كما ورد هذا اللفظ في انجيل لوقا وصفا للمؤمنين الذين يتأهلون لليوم الآخر وينالون الخلد فيه "إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل الملائكة و هم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة "(3)
وقد وصف بولس المؤمنين بالمسيحية بأنهم أبناء الله "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله"(4) وقال عنهم أيضا " لأنكم جميعا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع "(5) كما ورد في مواضع كثيرة من أسفار العهد القديم كوصف لبني إسرائيل، ومجموع هذه الشواهد يستدعي منا التأمل في المقصود بهذا اللفظ، وعند التأمل لا نجد تفسيرا لهذا اللفظ غير أن المقصودين به – سواء كان مفردا أو جمعا- تربطهم علاقة خاصة بالله عز وجل، كأن يكونوا موضع محبة الله ولطفه الخاص أو موضع تأييد الله ونصره، وعلى هذا فحيثما ورد هذا اللفظ في العهد الجديد فلا يكون له دلالة على تلك العلقة المعهودة في أذهان الناس.
وقد يقول قائل - كما سمعته بالفعل من بعض المسيحيين- بأن هذا اللفظ – أي لفظ الإبن- أستعمل استعمالا حقيقيا في المسيح، واستعمل استعمالا مجازيا في غيره.
والجواب:
أولا: أن هذا المدعي مطالب بأن يأتي بالدليل على تغاير الإستعمالين.
ثانيا: إن لفظ "ابن" موضوعة لغة للعلاقة الجسدية الخاصة بين الإبن والأب، وقد أشرنا سابقا إلى أن المسيحيين ينكرون البنوة الجسدية للمسيح، فحين نطلق هذا اللفظ على المسيح يكون هذا اللفظ قد استعمل في غير ما وضع له، فيلزمهم الإعتراف بأنه استعمال مجازي.
2- ونفس الكلام السابق بعينه يأتي هنا، فكما نقلت الأناجيل عن المسيح تعبيره عن الله بلفظة (أبي)، أو (الأب) في موارد كثيرة، كذلك نجدها نقلت عنه تعبيره عن الله عند مخاطبته لتلاميذه أو لعموم الناس بلفظة "أبوكم" فقد نقل متى عن المسيح أنه خاطب تلاميذه قائلا " وإذا قمتم للصلاة وكان لكم شيء على أحد فاغفروا له حتى يغفر لكم أبوكم الذي في السماوات زلاتكم"(6) ونقل متى عنه قوله " و أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات "(7) ونقل عنه لوقا قوله " فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضا رحيم "(8) وغيرها من العبائر الكثيرة التي لابد من حملها على معنى خاص وهو أن الأب هنا الموجه والمرشد أو بمعنى الخالق، ولا خصوصية للمسيح هنا، نعم قد تكون له مزية إضافية بما أنه نبي يتلقى التوجيه ويوحى إليه من الله دون عامة الناس، وعلى هذا فلا يكون لهذا اللفظ ذلك المدلول المعهود في أذهاننا.
ودعوى أن لفظ أب في العهد الجديد تستعمل مرة بنحو المجاز ومرة بنحو الحقيقة قد تقدم الجواب عنها قبل عدة أسطر عند الحديث حول لفظة ابن، فلا حاجة للإعادة، ولكن نضيف هنا بأنه بالنسبة إلى لفظة أب فقد جاء في انجيل يوحنا ما ينفي هذا الإحتمال ويؤكد أن المسيح كبقية البشر من هذه الجهة، فقد جاء فيه "قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي و لكن اذهبي إلى إخوتي و قولي لهم أني أصعد إلى أبي و أبيكم و إلهي و إلهكم"(9) وهذا اللفظ كما ترى يدل على أن لفظ الأبوة الذي استعمل هنا هو لفظ مجازي، وأنه لا فرق بينه وبين الآخرين من هذه الجهة، ومما يؤكد على ذلك أن المسيح أردف هذا اللفظ بقوله "وإلهي وإلهكم" حيث لا يعقل أن يكون المسيح أحد الأقانيم ومع ذلك يعبر عن الله بـ "إلهي".
3- وأما بالنسبة للنص الأول الذي أورده يوحنا في إنجيله(10) مما قد يستدل به على الوحدة بين المسيح والله، فهو مردود، لبعض الوجوه:
أولا: أن هذا اللفظ انفرد به يوحنا ولم تذكره بقية الأناجيل.
وثانيا: لو سلمنا بهذا اللفظ فلابد من حمله على معنى مجازي، إذ أن المسيحيين ينفون اتحاد الأقانيم، ويؤكدون على انفصالها، بينما هذا اللفظ صريح في اتحاد الاقنومين.
وأما النص الثاني(11) الذي ذكره يوحنا فيأتي فيه نفس الكلام السابق أيضا، بل يوجد هنا ما يصلح للقرينة على المجاز وأن الاتحاد هنا لا يراد به المعنى الحقيقي بمعنى أن المسيح متحد مع الله، وذلك لأن "وحدته مع الإله لا تقتضي الألوهية، وإلاّ لزم أن تكون وحدتهم (المؤمنون به) مع الإله أيضاً كذلك، وهذا ما لا يقول به أحد"(12)
4- وأما الصوت الصادر من السماء – بحسب ما جاء في الأناجيل- القائل "هذا ابني الحبيب" فقد تقدم الكلام مفصلا في لفظ "الإبن" ومداليله فلا نعيده.
5- وأما الإستدلال بالمعاجز التي ظهرت على يديه، فنقول بأن هذه المعاجز التي حصلت لا تدل على أكثر من أن المسيح كان مؤيدا من الله كباقي الأنبياء، وقد صدرت أكثر هذه المعاجز بل ومعاجز أخرى أيضا من أنبياء آخرين كما نصص على ذلك القرآن الكريم وأسفار العهد القديم، فإحياء الموتى في القرآن الكريم جرى على يد موسى في قصة قتيل بني إسرائيل(13) كما ورد في العهد الجديد أن بطرس تلميذ المسيح قد أحيا امرأة(14)، ونصص القرآن الكريم وكتب العهد القديم والجديد على الكثير من معاجز الأنبياء كشفاء المرضى ونجاة إبراهيم من النار وشق البحر لموسى وغيرها من المعاجز، وهذه الأمور واضحة لدى أصحاب الديانات السماوية، ومع ذلك فلم يدع مدع بأن هؤلاء الأنبياء كانوا آلهة أو أبناء لله لمجرد وقوع هذه المعاجز على أيديهم.
وبالمناسبة أذكر أني كنت بصحبة أخي فالتقينا بقس مسيحي وجرى حوار بيننا حول هذه النقطة بالتحديد فقلت للقس: بأن هذه المعاجز لا تثبت الوهية المسيح أو أنه ابن الله، ثم ذكرت له بأن القرآن الكريم أورد للمسيح معجزة أكبر من بقية المعاجز التي أوردتها أناجيلكم، وحكيت له مسألة نفخ الروح في الطير التي حكاها القرآن الكريم(15)، وقلت له: ومع ذلك لم يفهم المسلمون من هذه المعجزة بأن المسيح إله أو أنه ابن الله، وغاية ما فهمناه أنه نبي أيده الله بهذه المعجزة، فسكت ولم يحر جوابا.
6- وأما مسألة قيامته من الأموات وصعوده إلى السماء فإذا غضضنا النظر عن رأينا كمسلمين في مسألة نفي صلب المسيح، وغضضنا النظر أيضا عن كل التناقضات الواضحة التي برزت بين نصوص الأناجيل الأربعة فيما يتعلق بهذه الحادثة وبحادثة قيامة المسيح من الأموات، أقول: إذا غضضنا النظر عن كل ذلك فالجواب عن هذه المسألة يتم في ضمن نقاط:
أ- يمكن القول بأن قيامة جميع الأموات –سواء كانوا مؤمنين أو كفار- من قبورهم وانبعاث الروح فيهم هو مما لا مجال للخلاف فيه، وهو مسلم عند أصحاب الديانات السماوية الذين يؤمنون بالمعاد، فأصل الموضوع مما لا مزية فيه للمسيح، نعم تكون المزية له من جهة أنه قام قبل يوم القيامة.
ب- وبالنسبة للصعود إلى السماء فقد ذكر سفر التكوين أن نبي الله إدريس - والذي يسمى أخنوخ بحسب أسفار العهد القديم – لم يمت بل صعد إلى السماء، لأن الله قد أخذه إليه بحسب ما جاء في سفر التكوين(16)، فلا تكون هذه الخاصية للمسيح لوحده.
ج- إن مجرد قيام شخص من بين الأموات لا يمكن اتخاذه دليلا على أنه إله أو ابن الله وإلا للزم أن نعتبر جميع الناس آلهة، حيث أنه سيقومون من بعد موتهم، ومجرد تقدم ذلك أو تأخره بحسب الزمان لا يغير من هذه الحقيقة.
د- إذا حاولنا أن نفترض صحة ما ينسبه المسيحيون للمسيح من الصلب وقيامته من الأموات، فهنا بعض التسؤلات التي نرى ضرورة الجواب عنها:
- ما المقصود بأن المسيح صلب ومات؟
- فهل كان موته موتا حقيقيا كالموت الذي نموته نحن، أم موتا صوريا فقط؟
- إذا كان المسيح اقنوما من الأقانيم وكان ابن الله حقا كما يقولون فهل يمكن أن يموت موتا حقيقيا؟
- وهل بقي العالم حينها بدون إله؟ أم أن الذي مات هو أحد الأقانيم فقط، فيكون المتبقي لنا اقنومان؟
- ولنا أن نسأل حينها: من الذي رد الروح إلى هذا الأقنوم؟ هل هما الأقنومان الآخران؟ وهل يضر هذا بمسألة أزلية الأقانيم أم لا يضر؟
- وأما إذا قلتم بأن المسيح لم يمت حقيقة وكان موته صوريا فهل سيبقى هناك أي معنى للقول بأنه قام من بين الأموات؟
- وإذا كان موتا صوريا فهل سيبقى أي معنى لعقيدة الفداء التي يصر عليها المسيحيون؟
من الواضح أن عقيدة صلب المسيح وقيامته من بين الأموات في ظل الإعتقاد بألوهيته هي ضرب من المستحيلات، ولا ينبغي لعاقل أن يقبل بها، وربما من المناسب أن أشير هنا إلى ما نقله المؤرخ الأمريكي (ول ديورنت)، حول شخصية الفيلسوف المسيحي ترتليان القرطاجني (ولد سنة 160م) والذي كان في بادئ الأمر متدينا وفيلسوفا في نفس الوقت، وكان يحاول التوفيق بين الأسس العقلية الفلسفية وبين المبادئ المسيحية التي يعتقد بها، ولكنه تغير فجأة "ونبذ كل تفكير منطقي منفصل عن الإلهام والوحي"(17) وصار متزمتا جدا فنراه بعدما اكتشف التناقض المستبطن داخل هذه العقيدة يقرر التنازل عن عقله والتمسك بهذه العقيدة فيقول مدافعا عنها "لقد مات ابن الله، ذلك شيء معقول لا لشيء إلا أنه مما لا يقبله العقل. وقد دفن ثم قام من بين الموتى، وذلك أمر محقق لأنه مستحيل"(18)
7- بالنسبة لمسألة ولادة المسيح من غير أب فهي وإن كانت حادثة مسلمة ومقبولة عندنا كمسلمين وذلك لتنصيص القرآن الكريم عليها، إلا أنها لا تعني بأي حال من الأحوال أن المسيح إله أو أنه ابن لله، فلا ملازمة بين هذين الأمرين كما هو واضح، ومع وضوح عدم التلازم بين الأمرين إلا يمكننا أن ننبه على صحة دعوانا في ضمن نقطتين:
أ- إن آدم الذي هو أصل الجنس البشري لم يكن له أب بل ولا أم، ومع ذلك فلم يدّعِ أحد بأنه كان إبنا لله، وإذا قبلنا هذه الدعوى في المسيح لمجرد ذلك فحري بنا أن نقبلها في آدم أيضا لأنه أولى منه لفقدان الأب والأم معا.
ب- من الواضح أن الأبوين وسيلة جعلها الله لتكاثر الكائنات الحية وفق القانون الطبيعي المعروف، وهذا لا يعني أن الله الذي خلق آدم من تراب ودون أب وأم لا يقدر على خرق هذا القانون، بخلق شخص من دون أب مثلا، وهذا لا يخرجه عن كونه إنسانا طبيعيا كباقي البشر.
بل قد يقال بأنه يمكن ذلك حتى وفق القوانين الطبيعية التي جعلها الله في هذا الكون، أي من دون خرق لهذه القوانين الطبيعية، فالاستنساخ الذي برز في عصرنا – وبغض النظر عن الجدل الدائر حوله- لا يمكن اعتباره خروجا عن القانون الطبيعي التكويني الموضوع من الله في مجال التكاثر، إذ لا يمكن للبشر مهما بلغوا من العلم أن يخرقوا القوانين والسنن التكوينية، نعم لا شك ولا ريب في أن الله عز وجل أراد من البشر – إرادة تشريعية- أن يكون تكاثرهم عن طريق التزاوج الطبيعي بين الذكر والأنثى، ولكن هذا شيء آخر غير القول بأن الوسائل الأخرى خرق للسنن والقوانين التكوينية.
ومن الغريب ما يحكى من أن الكنيسة تصر على تحريم الاستنساخ البشري لا لشيء إلا لأنه سينتج عنه أطفال بلا أب، الأمر الذي قد يسبب هزة في إيمان المسيحيين بالمسيح، على أساس أنه الوحيد الذي ولد من غير أب، وهذا – إن صح- مبني على فهم قاصر جدا لطبيعة المعجزة التي أختص بها المسيح (ع) في ولادته.
وسيأتي مزيد بحث حول هذه النقطة في ضمن القسم الآتي من البحث.
القسم الثاني: ألوهية المسيح في القرآن الكريم:
من الواضح أننا كمسلمين نعتقد بأن القرآن الكريم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن كما وعدت في القسم الأول من البحث فإني – ومن باب الموضوعية- لن أتعامل مع الآيات القرآنية التي سأستعرضها هنا على أنها أدلة مستقلة، إذ - وكما أشرنا سابقا- لا يمكن إلزام المسيحيين بكتاب لا يعتقدون به، وهذا بخلاف تعاملنا مع ما ورد في الأناجيل من نصوص حيث ناقشناها في القسم الأول كأدلة مستقلة وألزمناهم بما في هذه الأناجيل.
وسنتعرض هنا إلى محورين أساسيين:
1- المحور الأول: شخصية المسيح في القرآن الكريم.
2- المحور الثاني: الإنجيل يدعّم شخصية المسيح القرآنية.
ونحن في المحور الأول لن نستعرض كل الآيات القرآنية التي تتكلم عن المسيح (ع) بل سنقتصر على ما ورد في خصوص مسألة ألوهيته، بالإضافة إلى بعض الآيات التي لها ربط – ولو غير مباشر- بهذه المسألة، كما لن نستعرض في المحور الثاني جميع النصوص المؤيدة لما جاء في القرآن الكريم، بل سنقتصر على عدد من النصوص.
المحور الأول: شخصية المسيح في القرآن الكريم:
لقد كانت عقيدة المسيحيين في مسألة ألوهية المسيح(ع) تثير جدلا في الأوساط التي يتواجد فيها المسيحيون وقد ناقش القرآن الكريم هذه المسألة وأشار إلى مجموعة من الأدلة والمنبهات على بطلانها، وقد رسم لنا القرآن الكريم صورة واضحة المعالم عن شخصية المسيح(ع)، ويمكننا تلمس معالم هذه الشخصية في النقاط التالية التي تعرضت لها الآيات القرآنية :
1- التأكيد على أنه ابن مريم:
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(19)
أكد القرآن الكريم وفي موارد عديدة على أن المسيح هو ابن مريم، فقد عبر عنه تارة بالمسيح ابن مريم، وأخرى عيسى ابن مريم، وبلغ مجموع هذه الموارد أكثر من عشرين موردا (8 موارد منها في سورة المائدة) وهذا التأكيد يدعونا للتأمل في أسبابه، ولعلنا نوجزها في سببين:
- هذا التأكيد فيه شيء من المقابلة والمضادة مع دعوى المسيحيين بأن المسيح ابن الله، هذه الدعوى التي قد يتأثر بها بعض المسلمين – من حيث لا يشعرون- نتيجة لاحتكاكهم ببعض المجتمعات المسيحية، فالقرآن هنا يكثر من التأكيد على نفي هذه الدعوى للمؤمنين بالقرآن، ويركز في وجدانهم أن المسيح هو ابن مريم وليس شيئا وراء ذلك.
- هذا التكرار وكما يقول المفسرون للتأكيد على "أن المسيح(ع) هو إنسان كسائر الناس، خلق في بطن أمه ومر بدور الجنين في ذلك الرحم، وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم كما يولد أفراد البشر من بطون أمهاتهم ومر بفترة الرضاعة وتربى في حجر أمه، مما يثبت بأنه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن أن يكون إلها أبديا وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود"(20)
2- استحالة أن يكون لله ولد:
لقد أشرنا سابقا إلى وقوع النزاعات بين المسيحيين حول طبيعة المسيح (ع) وطبيعة البنوة المدعاة، وهذه النزاعات ترجع في مجملها إلى عدم وجود أي نص في العهد القديم أو الجديد يرفع هذا الغموض، ولذا بقيت هذه المسألة نهبة للتخرصات والمزايدات من قبل آباء الكنيسة، وقد ناقشناها في القسم الأول من هذا البحث وبينا بطلانها.
ورغم أن المسيحيين ينفون أن يكون مرادهم من البنوة هو البنوة الجسدية بالمعنى المعهود، إلا أن كلماتهم لا تخلو من إيحاءات معينة، فعلى سبيل المثال نجدهم يصرون على لفظة أن مريم أم الله، أي أن ما ولدته مريم لم يكن غير الإله.
وتوجد آيات قرآنية كثيرة تعرضت لإستحالة أن يكون لله ولد، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة لما ورد في سورة النساء في قوله تعالى {... إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً}(21) حيث تشير إلى عدة نكات أساسية:
1- بعد تأكيدها على وحدانية الله، تشير الآية القرآنية إلى تنزيه الذات المقدسة عن ملابسات الولادة، فهي تخاطب العقول وتنبهها إلى أن الولادة لها مستلزمات ومن أهمها التجسيم وأعراضه والحاجة إلى الأبناء وغيرها مما يستحيل اتصاف الباري بها.
2- تدخل الآية في تنبيه من سنخ آخر، فبعد الفراغ من أن الله واحد – كما يقر به المسيحيون لفظا- تقرر الآية أن كل ما عدا الله مما هو في هذا الكون الفسيح فهو مملوك ومخلوق لله عز وجل{ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ}، والمسيح الذي تزعمون بنوته لله ليس خارجا عن هذه القاعدة فهو مملوك لله وليس ابنا له، والفرق بين الإبن وبين المملوك واضح.
ويمكن بيان النكتة التي تشير إليها الآية القرآنية بعبارة أخرى، فنقول: بأن الآية القرآنية تقول لهم: أنتم يامن تقرون بوحدانية الله عز وجل، وفي نفس الوقت تزعمون بأن له ولدا، إرجعوا إلى عقولكم وتأملوا في مزاعمكم، فهذا الولد المدعى إما أن يكون مخلوقا لله، أو غير مخلوق له.
فإن كان مخلوقا لله، يرتفع الإشكال ولكن لا يبقى وجه للتعبير عنه بأنه ابن الله؛ إذ لن يختلف عن بقية المخلوقات من هذه الجهة.
وإن كان غير مخلوق له فيكون قديما غير حادث، وهو نقض واضح لما سبق تقريره في أول الآية من وحدانية الباري عز وجل.
3- التأكيد على بشرية المسيح:
لقد أكد القرآن الكريم وفي موارد عديدة على أن المسيح بشر وليس شيئا وراء ذلك، وفي هذا الصدد جاءت كثير من الآيات التي تؤكد هذه الحقيقة بأساليب مختلفة، ومن ضمن هذه الأساليب ما ورد في سورة المائدة في قوله تعالى :
{ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }(22)
والآية القرآنية - وكما يشير المفسرون - تقرر حقيقتين هامتين لا يختلف فيهما إثنان من المسيحيين، فضلا عن غيرهم:
أ- فالآية تؤكد على أن المسيح بشر كباقي الناس له أم حملته وولدته {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}، وبالتالي فهو جسم مولود وحادث، ومحتاج إلى أمه مذ كان في رحمها، وهو ما يتنافى ومقام الربوبية.
ب- ومن جهة أخرى كان المسيح يأكل الطعام، فهو محتاج في بقائه وإستمرار حياته لتناول الطعام، وهذا ما يتنافى مع مقام الربوبية، إذ أن مقام الربوبية منزه عن كل أشكال الحاجة للغير، فهذه الحقيقة تحمل في طياتها نفيا واضحا لألوهية المسيح، فالاعتراف بأن المسيح كان يأكل الطعام يتناقض مع ما يُدعى له من مقام الربوبية.
وقد أشارت آيات أخرى لهذه الحقيقة كقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ}(23).
وقوله تعالى{ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا }(24)
فهاتان الآيتان لم تتكلما عن المسيح بوجه خاص بل قررتا حقيقة عامة تشمل كل الرسل والأنبياء بما فيهم المسيح(ع)، فكل هؤلاء الرسل كانت لهم أجساد، كانوا لحما ودما، كانوا يأكلون الطعام، كانوا يمشون في الأسواق، أي أنهم جامعون لخصائص البشر، وما ذلك إلا لدفع دعاوى الربوبية عنهم لدى أتباعهم نتيجة ما يظهر على أيديهم من المعاجز.
ورغم وضوح هذه الحقيقة واعتراف المسيحيين بها إلا أنهم يصرون على عنادهم في القول بألوهية المسيح، ولهذا تشير الآية القرآنية إلى وضوح هذه الحقيقة { انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ} ثم تشير إلى معاندتهم لهذه الحقيقة وإصرارهم على مناقضة أنفسهم{ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
وحقيقة أن المسيح(ع) كان يأكل الطعام - رغم وضوحها- وردت في جملة من نصوص العهد الجديد، واللطيف أن المسيح نفسه –وكما تصرح أناجيلهم- قد أستدل بها على كونه بشر، وذلك عندما رأه الحواريون بعد ما ظنوا أنه مات ودفن، فقد خافوا منه واعتقدوا أنه شبح، فطلب منهم طعاما ليأكله ليبرهن على أنه بشر، فقد ذكر لوقا في إنجيله "وبينما التلميذان يتكلمان، ظهر هو نفسه بينهم وقال لهم: سلام عليكم. فخافوا وارتعبوا، وظنوا أنهم يرون شبحا. فقال لهم: ما بالكم مضطربين، ولماذا ثارت الشكوك في نفوسكم؟ أنظروا إلى يدي ورجلي، أنا هو. إلمسوني وتحققوا، الشبح لا يكون له لحم وعظم كما ترون لي. قال هذا وأراهم يديه ورجليه. ولكنهم ظلوا غير مصدقين من شدة الفرح و الدهشة. فقال لهم: أعندكم طعام هنا؟ فناولوه قطعة سمك مشوي، فأخذ وأكل أمام أنظارهم"(25)
ويمكن أن نشير هنا إلى آية أخرى وردت في القرآن الكريم نحت نفس هذا المنحى ولكن بأسلوب آخر، حيث جاء في سورة مريم {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}(26) فهذه الآية التي جاءت على لسان المسيح (ع) جاءت تؤكد على ثلاث حالات مفصلية يمر بها المسيح وهي حالة الولادة، وحالة الموت، وحالة الإنبعاث بعد الموت، ومروره بهذه المراحل الثلاث محل وفاق بين المسلمين والمسيحيين، حيث يمكن أن نلحظها من زاويتين:
- فإذا لاحظناها من زاوية رؤيتنا له كمسلمين نجده مر بالمرحلة الأولى وهي مرحلة الولادة، وهو وإن لم يمر بمرحلة الموت لحد الآن لأن الله قد رفعه إليه، إلا أنه – وكما تشير الروايات- سيعود إلى الأرض ويموت ثم يبعث حيا كبقية الناس {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(27)
- وأما إذا لاحظناها من زاوية نظر المسيحيين فهم يسلّمون معنا بأنه قد مر بالمرحلة الأولى، ويدّعون أنه مر بالمرحلة الثانية والثالثة لأنهم يعتقدون أنه صلب ومات وقام من بين الأموات في اليوم الثالث.
وبعد أن اتضحت لنا لابدّية مرور المسيح بالمراحل الثلاث على كلا التقديرين فإن هذه الآية لا تخلو من التنبيه على بشرية المسيح ونفي الألوهية عنه وهو ما يمكن استشمامه بوضوح من خلال التأمل في هذه المراحل الثلاث، إذ لا يمكن للإله أن يُولد أو يموت، أو يبعث حيا، لأنها كلها تستلزم نقصا ونحوا من الإنعدام في بعض الأزمنة، وكل ذلك مما ينزه عنه الباري عز وجل، كما أن مروره بهذه المراحل الثلاث يقتضي وجود قوة فاعلة ومؤثرة تنقله من مرحلة إلى أخرى، وبما أن هذه القوة الفاعلة تؤثر فيه فلابد أن تكون متمايزة ومستقلة عنه، كما لابد لهذه القوة الفاعلة أن تمتلك كمالا أعلى منه لكي تؤثر فيه هذا النحو من التأثير.
4- مثل المسيح كآدم:
لطالما كانت ولادة المسيح من دون أب بمثابة العصا السحرية التي يتمسك بها المسيحيون لإقناع الآخرين بألوهية المسيح وبنوته لله سبحانه وتعالى، فمن ذا الذي يولد من غير أب؟ ولم يخطر في خلدهم أن ياتيهم الجواب القرآني حاسما بحيث يهدم دليلهم من أساسه ولا يُبقي له قائمة، ولذا نجد نصارى نجران في محاوراتهم للرسول الأعظم (ص) يتشبثون بهذا الدليل أيما تشبث ثم لا تلبث أن تذهب مساعيهم أدراج الرياح، فها هو الرد القرآني الواضح يأتيهم من خالق المسيح قائلا {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ }(28) لقد انطلقت الآية من حقيقة أن آدم خُلق من تراب ومن غير أب ولا أم، وهذه حقيقة مسلّمة لدى المسلمين والمسيحيين، وقد أشار لها القرآن الكريم كما نصت عليها الكتب المقدسة لدى المسيحيين، فالآية تخاطب المسيحيين قائلة لهم بأن خلق المسيح من غير أب لا يزيد عن خلق آدم من غير أب ولا أم، فتعجبكم من خلق المسيح من غير أب وأخذ ذلك ذريعة للقول بألوهيته أمر لا مبرر له طالما أنكم لم تقولوا ذلك بالنسبة لآدم الذي خلق من غير أب ولا أم، ثم لماذا تتعجبون؟ هل أن خلق إنسان من غير أب أمر عسير على الله ليكون ذلك مثار تعجبكم؟ فهذا الأمر وإن كان خارقا للنواميس الطبيعية التي جعلها الله لتكاثر البشر، إلا أن الله هو واضع هذه النواميس وهو القادر الذي لا يُعجزه أمر إذ تتساوى لديه كل المخلوقات، فكلها أمام قدرته على حد سواء{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }(29).
5- المسيح لم يأمر الناس بعبادته:
عندما يرى الإنسان ما يكتنف العقيدة المسيحية من شرك حيث عقيدة الثالوث وتأليه المسيح، لا يتمالك نفسه دون أن يتسائل: هل المسيح أمر الناس بعبادته؟؟!! وهذا التساؤل الذي قد يختلج في النفس قد يستقر فيها أيضا إذا ذهل الإنسان وغفل عن حقيقة أن المسيح كان نبيا مرسلا من الله عز وجل، أو ذهل عن عصمة الأنبياء، ولكن إذا ما التفت إلى هذين الأمرين فلا تلبث أن تزول من نفسه هذه الوساوس، ويتأكد من استحالة هذا الأمر، إذ لا يمكن أن يصدر هذا الأمر عن نبي مرسل له مقامه الشامخ لدى الله عز وجل، وقد عصمه الله من الزلل والخطأ.
والقرآن الكريم يُجلي لنا هذه الحقيقة في ضمن بعض آياته، فمنها ما ورد في أواخر سورة المائدة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(30) فهذه الآية تحكي عن حوار يجري بين الله عز وجل وبين المسيح(ع)، والآية –كما تشير بعض الروايات- تحكي عن حوار مستقبلي يجري يوم القيامة، وفي الآيات التي تلتها ما يؤكد هذا المعنى أيضا(31) ومن الواضح أن هذا السؤال ليس إستفهاميا، لأن الله عز وجل هو {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} كما تذكر الآية، بل هذا السؤال سؤال إستنكاري، والقصد من هذا الحوار هو إدانة من يعتقد بهذه العقيدة من المسيحيين وعلى لسان المسيح نفسه، ونلاحظ أن المسيح لم ينفِ هذه التهمة نفيا عاديا، بل إستخدم ثلاث أدوات لنفيها ليكون أبلغ في النفي:
أ- فهو يبدأ بتسبيح الله وتنزيه الساحة الإلهية عن الشريك{ قَالَ سُبْحَانَكَ } وهو يستبطن إستعظاما واستهوالا لهذه المقولة، وهذا الإستعظام يحمل في طياته نفيا لهذا الأمر.
ب- يكرر المسيح نفيه السابق ولكن بأسلوب آخر، فنراه لا يلجأ إلى أساليب النفي المعهودة لينفي هذه المقولة عن نفسه كأن يقول: لم أقل ذلك، ويشير صاحب الميزان إلى أن المسيح لو قال ذلك لكان فيه إيماء إلى إمكان صدور هذا الفعل منه(32)، ولذا نجد المسيح يستعمل أسلوبا أروع حيث يقول { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي أن صدور هذه المقولة لا ينسجم مع مقام الرسالة والعصمة التي نالها المسيح، وبنفس الأسلوب يأتي قوله تعالى في سورة آل عمران {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}(33) فهذه الآية تنفي أن يكون هذا القول متناسبا مع شأن النبوة والرسالة.
ج- وللمرة الثالثة يكرر المسيح نفيه صدور هذه المقولة عنه ولكن بأسلوب بديع آخر، إذ يستند إلى علم الله في نفيه لهذا الأمر، لأنه لو كان قال هذه المقولة لما خفيت على الله الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} فهو ينفي صدور هذا القول منه بنفي لازمه {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}.
وهذا النفي الصريح والمؤكد الذي ساقته الآية على لسان المسيح يدفع القارئ الباحث عن الحقيقة لمطالعة أسفار العهد الجديد ليتأكد بنفسه من خلو المصادر المسيحية من أية إشارة تفيد بأن المسيح قد أمر الناس بعبادته.
وسنذكر في المحور الثاني بعض ما جاء في الانجيل مما يرتبط بنظرة المسيح وأقواله حول مسألة الألوهية.
6- المسيح يأمرهم بعبادة الله:
وفي نفس سياق الآية السابقة وبعد أن نفى المسيح عن نفسه أنه قد أمر الناس بعبادته، يكمل نفيه ببيان وظيفته التي أرسله الله لأدائها وقد قام بها على أكمل وجه {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، ونرى أن المسيح (ع) استعمل أسلوب الحصر بطريق النفي والإثبات(34)، لينفي عن نفسه تلك المقولة، و(إلا) حرف استثناء دال على الحصر، فهو ينفي أن يكون قد قال للناس أي شيء سوى ما أمره الله به، وقد تضمنت الآية جملة من النكات والإشارات اللطيفة، منها:
- أنها تتضمن الإقرار على لسان المسيح بأنه رسول مأمور بتبليغ رسالة الله {مَا أَمَرْتَنِي بِه}، فهو مأمور ينفذ أوامر سيده، وليس بين الآمر والمأمور أي مساواة أوندّية.
- يصرح المسيح بأنه قد أمر الناس بعبادة الله ولم يأمرهم بغير ذلك.
- يؤكد المسيح على أن هذا الرب الذي أمرهم بعبادته هو رب له أيضا كما هو رب لهم، وحيث أن الربوبية هي علة الأمر بالعبادة، فهذا يعني أنه هو أيضا مأمور بعبادة الله، ولازم ذلك أنه لا يصح لهم يعبدوا المسيح لأنه مربوب مثلهم، وهذا التعبير ورد في القرآن الكريم على لسان عيسى (ع) في أربعة موارد أخرى(35) وفي جميع هذه الموارد نرى المسيح يعبر { رَبِّي وَرَبَّكُمْ} للتأكيد على أنه مربوب لله تعالى، وسنستعرض في المحور الثاني بعض نصوص العهد الجديد التي تؤكد على المعنى الذي جاءت به هذه الآيات.
7- المسيح يصرح بأنه رسول الله:
لقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تشير إلى المسيح على انه نبي مرسل من قبل الله عز وجل، وهذا التصريح ورد في بعض الآيات على لسان المسيح نفسه، كما جاء في سورة مريم { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}(36)، وكما جاء في سورة الصف قوله تعالى على لسان المسيح { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم}(37) ونجد في هذه الآية أن المسيح يصرح بأنه نبي الله، وهذا التصريح ورد أيضا في موارد عديدة من العهد الجديد كما ستأتي الإشارة له إن شاء الله تعالى في المحور الثاني.
8- المسيح عبد الله:
مما لا شك فيه أن العبودية تعني الإستكانة وتلازمها المذلة، ولكن هذا إنما يكون في العبودية لغير الله، وأما العبودية لله فإنها شرف يتباهى به العبد، ولا شك أن كل الخلق –مسلمهم وكافرهم، بشر كانوا أم غير ذلك- عبيد لله شاءوا أم أبوا، ولا اختلاف بينهم من هذه الجهة أصلا، وإنما يقع الفرق من جهة إقرارهم بهذا الأمر وجريهم على وفقه، فإذا أقر الفرد بعبوديته لله فإن هذه العبودية لا تكتمل إلا بأن يكون العبد تبعا محضا في إرادته وعمله لمولاه لا يريد ولا يعمل إلا ما يريده(38) وبذلك تكون هذه العبودية مصدر عزة لهذا الفرد، وهي بهذا من المقامات الرفيعة التي وصف الله بها رسله وأولياءه.
وفي هذا السياق يأتي تأكيد القرآن الكريم على كون المسيح عبدا لله في ضمن عدد من الآيات، ولهذا نرى القرآن يتحدث عن المسيح في سورة النساء { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا}(39)، أي أن المسيح ونتيجة لإدراكه لحقيقة نفسه ولمعنى العبودية لله فهو لا يأنف أو يستكبر عن هذا المقام، كما في سورة مريم حيث جاء على لسان المسيح {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}(40) ونرى هنا بأن المسيح يخضع ويقر بالعبودية لله جاعلا هذا الإقرار مصدر فخر وعزة نافيا عن نفسه أي صفة إلهية، إذ لا يوجد أي تناسب أو سنخية بين العبد والمعبود، وفي نفس السياق أيضا يأتي الحصر في سورة الزخرف{ إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ}(41)، فالآية تحصر مقام المسيح بالعبودية نافية عنه أي صفة فوق ذلك.
وسيأتي التعرض –ضمن المحور الثاني- للنصوص المؤيدة في العهد الجديد إن شاء الله تعالى.
9- التثليث عقيدة وثنية:
يؤكد القرآن الكريم على أن الدين المسيحي الذي أتى به عيسى (ع) دين سماوي، وأنه في أساسه كان خاليا من شوائب الشرك التي علقت به بعد ذلك، ونحن إذا ما طالعنا العقائد والطقوس المسيحية نرى جلها مقتبس من العقائد الوثنية، وللتدليل على ذلك نضرب بعض الأمثلة:
أ- ورد في الأناجيل الازائية(42) أن إبليس جرب المسيح في بداية دعوته واختبره ثلاثة اختبارات(43)، ونفس هذا المعنى ورد في العقيدة البوذية حيث تذكر كتبهم أن إبليس قد جرب بوذا في بداية دعوته ثلاث مرات(44)، ومن الواضح أن واضعوا الأناجيل هم من إقتبس من الديانة البوذية وليس العكس كما قد يتوهم البعض؛ إذ أن البوذية أسبق من المسيحية بقرون عديدة كما هو معروف.
ب- لا يوجد أي من المصادر القديمة المعروفة يشير إلى يوم ميلاد المسيح على وجه التحديد بل هناك عدة أقوال في ذلك(45)، وفي مجمع نيقية سنة 325م برعاية الإمبراطور الروماني الذي كان حديث عهد بالمسيحية تم إدخال الكثير من العقائد الوثنية إلى المسيحية ومنها الاحتفال بيوم الميلاد الذي كان سائدا في الإمبراطورية الرومانية حيث يحتفلون بمولد مثراس (إله الشمس) في يوم الإنقلاب الشتوي 25 ديسمبر، كما كان هذا اليوم مقدسا عند المصريين القدماء أيضا حيث يحتفلون فيه بميلاد حورس(إله الشمس)، بل يقال أن المسيحيين الأوائل في مصر كانوا يصلون أمام تمثال (إيزيس) الذي تظهر فيه وهي ترضع إبنها (حورس)(46).
ج- بالنسبة لعقيدة التثليث التي تعتبر أساس المسيحية فقد كانت موجودة عند الكثير من الديانات الوثنية السابقة على المسيحية، فعلى سبيل المثال نرى المصريين القدماء لديهم ثلاثة آلهة (أوزير) وهو الأب، و(حورس) وهو الإبن، و(إيزيس) وهي الأم(47)، كما أن الديانة البوذية تقول بأن بوذا له ثلاث شخصيات متساوية وهي (الدهرما كايا) و(النيرمانا كايا) و(السامبهوغا كايا)(48).
وقد أكدنا في القسم الأول من البحث –وسيأتي لا حقا أيضا- أن عقيدة التثليث التي يعتنقها المسيحيون لم ترد في كلام المسيح وأنه مصطلح جديد لم يستعمله المسيح بل ولا حتى تلامذته، فالقول بألوهية المسيح بدعة دخلت على الدين المسيحي نتيجة تأثر رهبانه وقساوسته بالديانات السائدة آنذاك، وإلى هذه الحقيقة تشير الآية القرآنية الواردة في سورة التوبة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}(49)
ويحدد القرآن الكريم سبب سقوط المسيحيين في هذه الهوة بقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(50) واتخاذهم أربابا بمعنى أن المسيحيين تركوا أقوال المسيح وتعاليمه التي تؤكد على توحيد الله ونفي الشريك عنه وأن عيسى رسول الله (ع)، وتابعوا أحبارهم ورهبانهم في تأليه المسيح.
10- المسيح يُبشّر بمجيء الرسول الأعظم (ص) :
أشار القرآن الكريم إلى حقيقة هامة وهي أن المسيح قد بشر قومه بمجيء الرسول الأعظم (ص)، بل ولم يكتف المسيح بالإشارة المبهمة بل ذكر إسم الرسول (ص) صريحا بقوله {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(51)
ونرى المسيح (ع) في هذه الآية يؤكد على ثلاث نقاط مهمة:
- أنه رسول بعثه الله إلى بني إسرائيل.
- وأنه لم يأتي مبدلا وناسخا لشريعة التوراة السابقة عليه، بل أتى مصدقا بها ومكملا لها.
- يبشر بمجيء رسول - من بعده- إسمه (أحمد)، والآية واضحة في أن البشارة كانت بالإسم الصريح، و(أحمد) -كما هو معروف- أحد اسماء الرسول الأكرم(ص).
كما يمكننا أن نرى بعض الإشارات الأخرى في ضمن كلام المسيح، مثل:
- نرى المسيح يؤكد هنا بأنه ليس هو النبي الخاتم، وإلا لم يكن هناك معنى لبشارته بمجيء النبي الأكرم (ص).
- يظهر من عبارة المسيح هنا بأن النبي الذي سيبعث ستكون له مزايا خاصة لا يمتلكها المسيح، ولذا قال { وَمُبَشِّراً} ولم يقل (مُخبرا)، إذ أن البشارة هي الخبر السّار، فلو كان هذا النبي الآتي مساو للمسيح أو أقل منه لما كان هذا الكلام بشارة، بل يكون خبرا غيبيا فقط.
- والمسيح ومن خلال هذا الكلام يؤكد على أنه جاء في ضمن سلسلة الأنبياء الذين يبعثهم الله، وفي هذا إشارة واضحة إلى كونه بشرا كباقي الأنبياء(ع).
يبقى أن نتسائل: هل كانت هذه البشارة في ضمن نفس (الإنجيل) أي الكتاب الذي جاء به عيسى (ع) من عند الله، أو أن البشارة كانت في ضمن حديث أو خطاب أدلى به؟
الصحيح أن الآية مجملة من هذه الجهة، وإن كنا ربما نستظهر منها بأن هذا الكلام كان ضمن حديث أو خطاب عام أدلى به أمام الملأ.
نعم ورد في آية أخرى ما يفيد بأن البشارة بالنبي كانت موجودة في كل من التوراة والإنجيل، قال تعالى{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ....}(52)، وهذه الآية – كما يذكر بعض المفسرين- تكشف لنا أن موضع هذه البشارة هو الإنجيل نفسه(53)، إذ أنها تصرح بإسم الإنجيل.
إلا أن الإنصاف أن هذه الآية مجملة أيضا، ولتوضيح ذلك نقول:
- من المعلوم أن الإنجيل الحقيقي كتاب سماوي أنزله الله على عيسى (ع) وأن الموجود بيد الناس حين نزول القرآن لم يكن سوى مجموعة من الأناجيل المحرفة، وهي ليست كتبا سماوية قطعا، بل حتى أصحابها والمؤمنين بقدسيتها لم يزعموا أنها منزلة من السماء كما يعتقده المسلمون بالنسبة للإنجيل الحقيقي، وهذه الأناجيل وإن كانت محرفة إلا أنها لا تخلو من عبائر صحيحة صادرة عن المسيح، إذ أن التحريف لا يكون تغييرا كاملا شاملا من جميع الجهات.
- إذن عندنا نوعان من الإنجيل، الإنجيل الحقيقي، والأناجيل المحرفة، فهل كانت الآية تتكلم عن الإنجيل الحقيقي، أم كانت تتكلم عن الأناجيل المحرفة؟ أقول: ظاهر الآية أنها تتكلم عن الأناجيل المحرفة أو لا أقل أنها مجملة وذلك بقرينة قوله تعالى { يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} إذ أن ظاهر الآية أنها تتكلم عن إنجيل موجود ومتداول بالفعل عند أهل الكتاب حين نزول الآية، لإنها تقول {يَجِدُونَهُ} وحيث أن الإنجيل الحقيقي لم يكن متداولا آنذاك، فنستظهر من الآية أنها تتكلم عن الأناجيل المحرفة، وأن هذه العبائر في الأصل مأخوذة من عبائر الإنجيل الحقيقي أو أقوال المسيح.
هذا وسننقل في المحور الثاني بعض عبائر العهد الجديد التي تدعم ما جاءت به الآية القرآنية.
المحور الثاني: الإنجيل يُدعّم شخصية المسيح القرآنية:
من خلال النقاط السابقة تمكنا من رسم ملامح واضحة لشخصية المسيح في القرآن الكريم، فهو: عبد الله ورسوله، عيسى ابن مريم، المولود من غير أب، بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة ومبشرا بمجيء الرسول(ص)، والآيات القرآنية تؤكد حقيقة مفادها أن المسيح أمر الناس بعبادة الله وحده لا شريك له، ونحن إذا ما تصفحنا أسفار العهد الجديد وطالعنا ما تنقله من أقوال المسيح (ع) –وبرغم كونها كتبا محرفة حسب اعتقادنا- إلا أنها لا تخلو من بعض العبائر المتناثرة هنا وهناك والتي يمكننا أن ندعّم من خلالها الرؤية القرآنية للسيد المسيح:
1- المسيح بشرٌ:
إن المتصفح للأناجيل الأربعة الموجودة لدى المسيحيين يجدها وكأنها تكاد تصرخ في وجوههم بأن المسيح لم يكن سوى بشرٌ كبقية الأنبياء، والشواهد على ذلك كثيرة جدا، ونحن نكتفي بشاهدين فقط:
أ- ولادة المسيح: بالرغم من أن كل المسيحيين يعترفون بحقيقة أن المسيح صار جنينا في بطن أمه ونما في أحشائها، إلا أن الإشارة التي ذكرها انجيل لوقا لا تخلوا من حالة من التنبيه، إذ يقول "وصعد يوسف من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى بيت لحم مدينة داود، لأنه كان من بيت داود وعشيرته، ليكتتب مع مريم خطيبته، وكانت حبلى، وبينما هما في بيت لحم، جاء وقتها لتلد، فولدت ابنها البكر وقمطته..."(54) كما جاء في نفس الإنجيل "ولما بلغ الطفل يومه الثامن، وهو يوم ختانه، سمي يسوع، كما سماه الملاك قبلما حبلت به مريم"(55)، وهذا الكلام يشير إلى بدء نشوء المسيح واكتماله جنينا في بطن أمه، وخروجه إلى الوجود وحاجته لرعاية أمه التي تلفه بالقماط، ونموه وختانه كبقية الأطفال، وهذه الأمور كلها مما لا تتناسب مع مقام الألوهية كما هو واضح.
ب- المسيح يأكل ويشرب: نرى إنجيل مرقس يتكلم عن المسيح قائلا "ولما خرجوا في الغد من بيت عنيا أحس بالجوع، ورأى عن بعد شجرة تين مورقة، فقصدها راجيا أن يجد عليها بعض الثمر، فلما وصل إليها ما وجد عليها غير الورق، لأن وقت التين ما حان بعد"(56) وقد أشرنا سابقا إلى قصة أكله السمك المشوي حينما لم يصدق التلاميذ أنه المسيح وظنوا أنه شبح " ولكنهم ظلوا غير مصدقين من شدة الفرح والدهشة. فقال لهم: أعندكم طعام هنا؟ فناولوه قطعة سمك مشوي، فأخذ وأكل أمام أنظارهم"(57)، وجاء في إنجيل متى: "وفي المساء جلس يسوع للطعام مع تلاميذه الاثني عشر، وبينما هم يأكلون، قال يسوع... فاجابهم: من يغمس خبزه في الصحن معي هو الذي سيسلمني "(58) ومن الواضح أن الأكل والشرب لهما لوازم لا تتماشى مع مقام الألوهية، فإن الجوع يعني الحاجة للطعام، وهو خلاف الكمال الذي يتصف به واجب الوجود.
قال تعالى : { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}(59)
2- العهد الجديد ينفي الثالوث:
حينما يتكلم القساوسة عن الثالوث، يؤكدون على أنهم لا يقولون بثلاثة آلهة منفصلة، بل يقولون بإله واحد هو الله، وهذا الإله له ثلاثة أقانيم هي (الأب، والإبن، والروح القدس)، فهم لا يقولون بتعدد الآلهة كما ينسبه القرآن لهم(60)، ويصر هؤلاء القساوسة على أنهم موحدون، وأن الله هو المسيح وليس شيئا آخر، ولكن هل يصمد هذا الكلام أمام عبائر العهد الجديد؟؟!!
الجواب: كلا، بل نجد الكثير من الموارد في العهد الجديد تنفي ذلك، وسنكتفي بأيراد شاهدين فقط:
أ- ورد في نصوص كثيرة في العهد الجديد ما يشير إلى أن المسيح بعد أن رفع إلى السماء جلس إلى يمين الله جل وعلا فقد ذكر ذلك مرقس في انجيله" ثم ان الرب بعدما كلمهم رُفِع إلى السماء و جلس عن يمين الله"(61) وجاء في رسالة بولس الى أهل كولوسي " حيث المسيح جالس عن يمين الله"(62) ورد ذلك في موارد أخرى أيضا(63)، ولا يمكن أن يصح ذلك ممن يقول بأن الله هو المسيح، إذ من الواضح أن ثمة إثنينية، إذ أن كلمة (يمين) ككلمة (فوق)أو (أمام) من المعاني الإضافية التي لا تتحقق إلا بوجود مركز يكون الشيء عن يمينه أو فوقه أو أمامه، فهنا إثنينية حقيقية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن القول بأن هذا الجلوس المزعوم إلى يمين الله جل وعلا يعني بالضرورة أن الله (الأب) أعلى منزلة من (الإبن)، ولذا يُجلس الإبن إلى يمينه، وهذا خلاف ما يزعمونه من تساوي الأقانيم، فإما أن يقرون بإنفصال الأقانيم وعدم تساويها أو يقرون بخطأ هذه العقيدة.
ب- في إنجيل يوحنا يصرح المسيح قائلا:"فإن كنتم تحبوني فرحتم بأني ذاهب إلى الأب، لأن الأب أعظم مني" ونجد المسيح هنا يصرح بأنه عائدٌ إلى الأب، مما يعني أنهما إثنان وليس واحد، كما يصرح بأن الأب أعظم منه، وهذا خلاف ما يزعمه المسيحيون من تساوي الأقانيم.
وقد حاول بعض قساوستهم أن يجيب على هذا الإشكال قائلا: " إنه لأمر صحيح أنّ يسوع، في دوره كعبد أثناء وجوده على الأرض، احتل منزلة أقل من اللـه. غير أن هذه المنزلة لا تنفي طبيعته الإلهية. ففي ذلك الأصحاح قال يسوع لفليبس، "الذي رآني فقد رأى الأب. فكيف تقول أرنا الأب؟" (يوحنا 8:14-9). يوضح هذا التصريح أنّ يسوع والأب واحد في الطبيعة. وإنّ رؤيتنا لواحد منهما تعني رؤيتنا للآخر (قارن يوحنا 44:12،45). ولهذا فإنّ كلمات يسوع بأنّ الأب أعظم منه تشير إلى مركزه المؤقت لا إلى كينونته ووجوده."(64)
ونجيب على جوابه بما يلي:
1- أما قوله بأن " أنّ يسوع، في دوره كعبد أثناء وجوده على الأرض، احتل منزلة أقل من اللـه. غير أن هذه المنزلة لا تنفي طبيعته الإلهية " فماذا يقصد بأن يسوع كعبد، فهل كان عبدا لله بالفعل؟ أم كان بشكل العبد؟ وهل كان حينها إلها أم لا؟ وهل يمكن للإله أن يحتل منزلة أقل كما يصرح؟! ألا يتناقض هذا مع تساوي الأقانيم؟ وما هو مقصوده بالمنزلة الأقل؟ هل هي أمر حقيقي أم مجازي؟
2- أما العبارة التي استشهد بها وهي "الذي رآني فقد رأى الأب. فكيف تقول أرنا الأب؟" فهذه العبارة لا يمكن قبولها لأنها وببساطة تعني إمتزاج الأقانيم وهو ما يصر المسيحيون على رفضه، كما أنها تتناقض مع ما قاله الكاتب قبل قليل من أن المسيح كان يحتل منزلة أقل من الأب، مما يعني أن فيلبس لم يكن يرى الأب بل كان يرى المسيح الذي يحتل منزلة أقل، وهما أقنومان مختلفان.
3- المسيح ليس إلها بل عبدٌ لله:
هناك نصوص كثيرة في العهد الجديد تنفي ألوهية المسيح، وتؤكد أنه – وكباقي البشر- مربوب لله عز وجل، فنحن إذا ما تصفحنا الأناجيل وتمعنا في كلمات المسيح (ع) نجدها خالية تماما من أي ادعاء للإلوهية، بل نجد في ضمنها ما يناقض هذا الزعم، فهي تحتوي على عدد كبير من النصوص التي تتنافى وألوهية المسيح، ونذكر هنا عددا من الأمثلة:
أ- ورد في إنجيلي متى ومرقس عند الكلام عن ما قيل أنه حادثة صلب المسيح "صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا الوي الوي لما شبقتني الذي تفسيره الهي الهي لماذا تركتني"(65)
ولك أن تتسائل: هل يعقل أن تصدر هذه العبارة ممن يدعي الألوهية؟؟!! ولو فرضنا أن هذه العبارة صدرت منه، فإلى من كان يوجه خطابه هذا؟؟! لا شك أن هذا المخاطب أعظم من المتكلم.
ب- ورد في إنجيل يوحنا "ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم أنا صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"(66)
ونجد المسيح في هذا النص يصرح بأن الله إلهه، وأن نسبته إلى الله لا تختلف عن نسبة أي واحد من تلامذته فهو يعبر (أبي وأبيكم) و (إلهي وإلهكم)، وهو ما يؤكد أن المقصود بكلمة (الأب) في الأناجيل غير معناها العرفي، إذ يراد بها معاني أخرى تختلف باختلاف مورد الكلمة وسياقها، والنتيجة أنه لا فرق بين المسيح وبين غيره من جهة كونه مربوبا لله عز وجل.
ويبدو أن هذه الحقيقة كانت واضحة لدى تلامذة المسيح وأتباعه، ولذا نجد بولس في رسالته إلى أهل أفسس يقول " كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته"(67)، فهو يصرح بأن للمسيح إلهٌ، وأن هذا الإله هو الذي يعطي روح الحكمة، وأما كلمة (ربنا) التي جاءت وصفا للمسيح فلا يراد بها معناها المتبادر في العربية، بل يراد بها (المعلم) كما تشهد بذلك نصوص العهد الجديد(68).
قال تعالى { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(69)
4- المسيح يصوم ويصلي لله:
لقد أشار العهد الجديد إلى أن المسيح كان يصوم ويصلي لله وهذا يعني أنه لم يكن إلها، ولم يكن مساويا لله، وإلا لما كان هناك داع للصلاة، فإن الهدف من الصلاة والصيام هو التقرب لله عز وجل، فهذه الحقيقة تنفي أساس التثليث.
ونذكر هنا بعض الأمثلة:
أ- فبالنسبة للصوم فقد جاء في إنجيل متى عن المسيح أنه"صام أربعين يوما وأربعين ليلة حتى جاع"(70)
ب- وأما الصلاة فقد جاء في انجيل لوقا : "على أن خبر يسوع زاد انتشارا، حتى توافدت إليه جموع كثيرة ليستمعوا إليه وينالوا الشفاء من أمراضهم. أما هو فكان ينسحب إلى الأماكن المقفرة حيث يصلي"(71)
ج- وجاء في انجيل لوقا: "وكان يسوع يصلي في أحد الأماكن، فلما أتم الصلاة قال له واحد من تلاميذه..."(72).
د- كما جاء في إنجيل لوقا أيضا "وظهر له ملاك يقويه، ووقع في ضيق، فأجهد نفسه في الصلاة، وكان عرقه مثل قطرات دم تتساقط على الأرض، وقام عن الصلاة ورجع إلى التلاميذ، فوجدهم نياما.."(73)
هـ- وجاء أيضا في نفس الإنجيل"وفي تلك الأيام صعد إلى الجبل ليصلي، فقضى الليل كله في الصلاة لله"(74) كما وردت الإشارة إلى صلاة يسوع في أماكن أخرى عديدة في هذا الإنجيل(75) والأناجيل الأخرى(76).
وهذه الموارد الكثيرة التي تؤكد حقيقة أن المسيح كان يصلي بإستمرار لله ألا ينبغي أن تستوقف العاقل ليخاطب نفسه ويتسائل: إذا كان المسيح إلها فهل كان يصلي لنفسه؟
وهذا السؤال إذا ما واجهت به أحد القساوسة فسيجيبك مباشرة بأن المسيح حينما تجسد فإنه نزل إلى منزلة أقل من الله ولهذا كان يصلي لله.
ولكن هذا الجواب الساذج لا يمكن أن ينطلي على العاقل اللبيب، إذ سيتسائل مرة أخرى ويقول: هل كان المسيح إلها حال كونه متجسدا أم لا؟
فإن كان الجواب: بأنه إله، فكيف يصلي الإله للإله.
وإن كان الجواب: أنه ليس بإله، فهذا يعني أن الموجود عندنا حينها أقنومان لا ثلاثة.
وعلى أي حال فمهما حاول قساوستهم من جواب فلن يجدوا الجواب إلا في القرآن الكريم، قال عز من قائل في كتابه المجيد {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}(77)
5- المسيح رسول الله:
لقد أكد القرآن الكريم على أن المسيح نبي كباقي الأنبياء والرسل، وهناك شواهد كثيرة في العهد الجديد تدعم هذه الرؤية القرآنية، ونحن نكتفي بالإشارة إلى إثنين منها:
أ- ورد في الإصحاح السابع عشر من انجيل يوحنا كلام طويل على لسان المسيح وسأنقل هنا مقتطفات منه كلها تصب في ما نحن بصدده حيث قال:
الفقرة الأولى: "والحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك ويعرفوا يسوع المسيح الذي أرسلته"(78) ونجد المسيح في هذه الفقرة يخاطب الله عز وجل واصافا إياه بـ (أنت الإله الحق وحدك) ويتكلم عن نفسه كنبي مبعوث من قبل الله (يسوع المسيح الذي أرسلته) وفي حين نجد العبارة الأولى تبين بوضوح حقيقة نظرة المسيح لله، نجد العبارة الثانية تحمل وصفا دقيقا للمسيح كمبعوث ومرسل من قبل الله، ومجموع هذه الفقرة يحمل نفيا تاما لعقيدة التثليث وذلك بملاحظة كلمتي (أنت)و(وحدك) من جهة وملاحظة ضميري الرفع والنصب في كلمة (أرسلته) من جهة ثانية، إذ تؤكد الكلمتان على وحدانية الذات الإلهية، في حين يؤكد الضميران في كلمة (أرسلته) على التغاير بين المُرسِل والرسول، فالمسيح هنا ليس إلها وإلا لما صح أن يقول مخاطبا الله (وحدك).
الفقرة الثانية: "بلّغتُهم الكلام الذي بلّغتَني فقبلوه وعرفوا حق المعرفة أني جئت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني"(79) والعبارة تعبر عن نفسها فهي صريحة في أن المسيح لم يكن سوى رسول مبعوث من الله لتبليغ الرسالة، كما أن العبارة هنا تؤكد على التغاير بين المُرسِل والرسول.
الفقرة الثالثة: وهي أيضا جاءت على لسان المسيح كسابقتيها "ما عرفك العالم أيها الأب الصالح، لكن أنا عرفتك وعرف هؤلاء أنك أرسلتني، أظهرتُ لهم إسمك وسأظهره لهم"(80) وهذه الفقرة أيضا كسابقتيها تؤكد على أن المسيح رسول الله، وأن وظيفته هي إعلاء كلمة الله في الأرض (أظهرتُ لهم إسمك وسأظهره لهم).
وإذا ما ضممنا إلى ذلك عبارة أخرى جاءت في إنجيل يوحنا على لسان المسيح "الحق الحق أقول لكم انه ليس عبد أعظم من سيده و لا رسول أعظم من مرسله"(81) فسنرى بوضوح أن المسيح المرسل من قبل الله لا يمكن أن يكون مساويا لله كما يزعمه القساوسة، وقد أشرنا آنفا إلى بعض مناقشاتهم حول هذه النقطة.
ب- كما يمكن الإستشهاد هنا بما جاء في إنجيل متى "وعاد إلى بلده، وأخذ يعلم في مجمعهم فتعجبوا وتساءلوا من أين له هذه الحكمة والمعجزات؟ أما هو ابن النجار؟ أمه تدعى مريم، وإخوته يعقوب ويوسف وسمعان ويهوذا؟ أما جميع إخوته عندنا؟ فمن أين له كل هذا؟ ورفضوه. فقال لهم يسوع: لا نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبيته، وما صنع هناك كثيرامن المعجزات لعدم إيمانهم به"(82) ونرى المسيح هنا يصف نفسه بالنبي، فيقول "لا نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبيته" ولا يبدو من كلامه أنه يدعي دعوى فوق ذلك.
وصدق الله سبحانه إذ يقول{ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ}(83)
6- المسيح مصدق لما بين يديه من التوراة:
حينما يأتي لفظ (الشريعة) أو (الناموس) في العهد الجديد فيراد به تلك الوصايا التي جاء بها موسى في أسفار التوراة، وأهمها الوصايا العشر التي وردت في سفر الخروج وسفر التثنية (84) وهي عشر وصايا تحظى بأهمية خاصة في الديانة اليهودية، ولقد جاء نقل لنا متى عبارة تؤكد على أن المسيح مكمل للشريعة التي أتى بها الأنبياء السابقون: "لا تظنوا أني جئت لاُبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء، ما جئت لاُبطل، بل لأُ كمّل. الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة حتى يتم كل شيء"(85) ونجد المسيح هنا يؤكد أنه ما جاء ليبطل تعاليم الأنبياء، بل جاء ليكمّل، وهذا ما يؤكد على أنه وكباقي الأنبياء جاء كنبي في ضمن خط النبوات الطويل والممتد حتى نبينا الأعظم (ص). وهذا يشابه إلى حد كبير ما جاء في سورة الصف{ مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}(86)
7- المسيح يبشر بمجيء الرسول(ص)
يذكر يوحنا في إنجيله بأن المسيح أشار إلى مجيء النبي الأكرم(ص) بشكل صريح، فهو ينقل عدة عبائر تؤكد ذلك، وقد تطرق الكثير من الكتّاب والمحققين إلى هذه المسألة وأطالوا الكلام فيها، ومن ضمن من أشار لها العلامة الشيخ جعفر السبحاني في كتابه المعروف (الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل)، ولما كان ما كتبه هذا العلامة وافيا بالمطلوب، رأيت من المناسب نقله بالكامل تتميما للفائدة، قال الشيخ السبحاني:
وهذه الإشارة وردت في إنجيل يوحنا في الأصحاحات: الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر. وإليك نصوصها من الإنجيل الحالي المترجم إلى اللغة العربية:
1- "إن كنتم تحبونني فأحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم (معزيا) آخر ليمكث معكم إلى الأبد"(87)
2- "وأما (المعزي)، الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم"(88)
3- "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي وتشهدون أنت أيضا لأنكم معي من الإبتداء"(89)
4- "لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة"(90)
5- "وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية"(91)
وجه الإستدلال يتوقف على بيان نكتة، وهي أن المسيح (ع)، كان يتكلم بالعبرية، وكان يعظ تلاميذه بهذا اللسان، لأنه ولد وشب بين ظهرانيهم، وأمه أيضا كانت عبرانية، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، إن المؤرخين أجمعوا على أن الأناجيل الثلاثة غير متى كتبت من أول يومها باللغة اليونانية، وأما إنجيل متى فكان عبريا من أول إنشائه. وعلى هذا فالمسيح بشّر بما بشّر باللغة العبرية أولا، وإنما نقله إلى اليونانية كاتب الإنجيل الرابع يوحنا، وكان عليه التحفظ على لفظ المسيح في مورد المبشر به، لأن القاعدة الصحيحة عدم تغيير الأعلام، والإتيان بنصها الأصلي لا ترجمة معناها. ولكن يوحنا لم يراع هذا الأصل، وترجمه إلى اليونانية، فضاع لفظه الأصلي الذي تكلم به المسيح، وفي غب ذلك حصل الإختلاف في المراد منه.
وأما اللفظ اليوناني الذي وضعه الكاتب يوحنا مكان اللفظ العبري فهو مردد بين كونه (پاراقليطوس)(92) الذي هو بمعنى المعزي والمسلي والمعين، أو (پريقليطوس)(93) الذي هو بمعنى المحمود، الذي يرادف أحمد. ولأجل تقارب الكلمتين في الكتابة والتلفظ والسماع، حصل التردد في المبشر به، ومفسروا ومترجموا إنجيل يوحنا يصرون على الأول، ولأجل ذلك ترجموه إلى العربية ب (المعزي) وإلى اللغات الأخرى بما يعادله ويرادفه، وادّعوا أن المراد منه هو روح القدس، وأنه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقدان المسيح (ع)، كما ذكر تفصيله في كتاب أعمال الرسل. وزعموا أنهم بذلك خلعوا المسلمين عن السلاح الذي كانوا يحتجون به عليهم"(94).
وقد ذكر الشيخ السبحاني قرائن عديدة على أن المبشر به هو الرسول الأعظم (ص) لا روح القدس، ونحن نذكر بعض هذه القرائن فقط مراعاة للإختصار:
1- إنه وصف المبشر به بلفظ (آخر) وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر، وهذا لا يناسب كون المبشر به نظير روح القدس لعدم تعدده، وانحصاره في واحد، بخلاف الأنبياء فإنهم يجيئون واحدا بعد الآخر، في فترة بعد فترة.
2- إنه ينعت ذلك المبشر به بقوله: "ليمكث معكم إلى الأبد" وهذا يناسب نبوة النبي الخاتم التي لا تُنسخ.
3 - إنه يقول: "لأنه إن لم أنطلق، لا يأتيكم (المعزي)، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم" وهذا يناسب أن يكون المبشر به نبيا، حيث علق مجيئه بذهابه، لأنه جاء بشريعة عالمية، ولا تصح سيادة شريعتين مختلفتين على أمة واحدة.
ولو كان المبشر به هو روح القدس، لما كان لهذا التعليق معنى لأن روح القدس حسب تصريح إنجيلي متى ولوقا، نزل على الحواريين عندما بعثهم المسيح (ع) للتبشير والتبليغ(95).
4- ويقول: "ومتى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية".
وهذا يتناسب مع كون المبشر به نبيا خاتما، صاحب شريعة متكاملة، لا يتكلم إلا بما يوحى إليه، وهذه كلها صفات الرسول الأكرم(ص) (96).
وهذا الكلام الذي نقلناه هنا هو تأكيد لما جاء في سورة الصف المباركة{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(97)
خلاصة البحث:
ومما تقدم في هذا البحث بقسميه يمكننا أن نستخلص نقاط عديدة نوجزها فيما يلي:
1- أن المسيحيون يدعون أن الله إله واحد في ثلاثة أقانيم(الأب، الإبن، الروح القدس)، ويدعون عدم وجود تناقض في هذه العقيدة، مستدلين بمجموعة من نصوصهم لتأييد عقيدتهم، وقد نقلنا إقرارهم بأن عقيدة التثليث لم يرد التنصيص عليها بهذا اللفظ في أي نص من نصوصهم، وبينا أن هذه العقيدة تتنافى وما يقره العقل، بل نقلنا بعض عبائرهم التي تشير إلى هذا المعنى أيضا.
2- أنهم يذكرون مجموعة من النصوص للإستدلال بها على نظرية التثليث وقد ناقشناها الواحد تلو الآخر، وأوضحنا عدم دلالة شيء منها على ذلك، بل وأوردنا من نصوصهم ما ينفي عقيدة التثليث،، وأثبتنا أيضا بأنها عقيدة وثنية تسربت للمسيحية في وقت لاحق.
3- كما أنهم يدعون بأن المسيح يمثل الأقنوم الثاني في الذات الإلهية، أي أنه ابن الله مستدلين على ذلك بمجموعة من نصوص العهد الجديد، وقد ناقشنا هذه الأدلة ورددناها بأجمعها، وأوردنا بعض الشواهد من نصوص العهد الجديد تنفي أن يكون المسيح ابن الله، فهو بشر عادي كبقية البشر من هذه الجهة، ولا يفترق عنهم إلا في كونه ولد من غير أب، وهذا لا يثبت كونه إبنا لله.
4- ثبت بأن المسيح لم يدع الألوهية بتاتا، بل كان يقر بعبوديته لله، ويؤدي الواجبات العبادية-كالصلاة- بمنتهى الخضوع لله.
5- كما ثبت أن المسيح لم يكن سوى نبي كريم من أنبياء الله، وهو لم يدع خلاف ذلك، بل أكد على أنه نبي وأنه مصدق لما بين يديه من التوراة، والشواهد على ذلك كثيرة في الأناجيل وبقية أسفار العهد الجديد.
6- ذكر القرآن الكريم شواهد ومنبهات عديدة لنفي الوهية المسيح، وإثبات عبوديته لله.
7- هناك نصوص في الإنجيل تؤكد ما جاء في سورة الصف من تبشير عيسى (ع) بمجيء الرسول الأعظم (ص).
* الهوامش:
(1) تقدمت هذه الأدلة في القسم الأول المنشور في ضمن العدد الثالث من مجلة رسالة القلم: ص 20 – 21.
(2) انجيل متى 5: 9.
(3) انجيل لوقا 20: 36.
(4) رسالة بولس إلى أهل ارومية 8: 14.
(5) رسالة بولس إلى أهل غلاطية 3: 26.
(6) انجيل مرقس 11: 25.
(7) انجيل متى 5: 44 – 45.
(8) انجيل لوقا 6: 36.
(9) انجيل يوحنا 20: 17.
(10) انجيل يوحنا 10 : 38.
(11) انجيل يوحنا 17 : 21.
(12) حقيقة المسيح في المسيحية والاسلام: 243.
(13) قال تعالى:((وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) سورة البقرة: 72- 73.
(14) فقد ورد في كتاب أعمال الرسل"فاخرج بطرس الجميع خارجا و جثا على ركبتيه و صلى ثم التفت الى الجسد و قال يا طابيثا قومي ففتحت عينيها " راجع: أعمال الرسل 9: 40.
(15) قال تعالى ((أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ)) سورة آل عمران:49.
(16) سفر التكوين 5: 24.
(17) قصة الحضارة 11: 308.
(18) قصة الحضارة 11: 308.
(19) سورة المائدة: 17.
(20) تفسير الأمثل 3: 546.
(21) سورة النساء: 171.
(22) سورة المائدة: 75.
(23) سورة الأنبياء: 8.
(24) سورة الفرقان: 20.
(25) انجيل لوقا 24: 36- 43.
(26) سورة مريم: 32- 34.
(27) سورة العنكبوت: 57.
(28) آل عمران: 59 – 60.
(29) سورة يس: 82.
(30) سورة المائدة: 116.
(31) في قوله تعالى { قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سورة المائدة: 119.
(32) الميزان في تفسير القرآن 6: 245.
(33) سورة آل عمران: 79.
(34) الميزان في تفسير القرآن 6: 247.
(35) مضافا إلى الآية المشار إليها - وهي الآية (117) من سورة المائدة- فقد ورد هذا التعبير على لسان عيسى في القرآن الكريم في أربعة موارد :
- قوله تعالى{ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} سورة آل عمران: 51.
- قوله تعالى { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } سورة المائدة : 72.
- قوله تعالى { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} سورة مريم : 36.
- قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} سورة الزخرف: 64.
(36) سورة مريم: 30.
(37) سورة الصف: 6.
(38) تفسير الميزان 19: 121.
(39) سورة النساء: 172.
(40) سورة مريم: 30.
(41) سورة الزخرف:59.
(42) تعرف الأناجيل الثلاثة (متى ومرقس ولوقا) بالأناجيل الازائية لتشابه مضامينها إلى حد كبير، حيث أن الفوارق بينها قليلة إذا ما قورنت بالإنجيل الرابع (انجيل يوحنا) الذي يختلف عنها في الاسلوب والمضمون بشكل واضح جدا.
(43) راجع انجيل متى 4: 1- 11. وانجيل مرقس 1: 13. وانجيل لوقا 4: 2- 13.
(44) راجع انجيل بوذا، ص 210، في الفصل 97 تحت عنوان (البوذا يعلن موته). ترجمة: سامي سليمان شيّا، دار الحداثة، بيروت الطبعة الثانية 2004م. وهذا الكتاب مترجم عن اللغة الفرنسية.
(45) قصة الحضارة 11: 212.
(46) قصة الحضارة 2: 160.
(47) قصة الحضارة 2: 159 و 160.
(48) راجع انجيل بوذا، ص 225، في الفصل 101 تحت عنوان (اشخاص بوذا الثلاثة).
(49) سورة التوبة: 30.
(50) سورة التوبة: 31.
(51) سورة الصف: 6.
(52) سورة الأعراف: 157.
(53) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 18: 287.
(54) إنجيل لوقا 2: 4- 7.
(55) إنجيل لوقا 2: 21.
(56) إنجيل مرقس 11: 12 – 13.
(57) انجيل لوقا 24: 36- 43.
(58) إنجيل متى 26: 20 – 23.
(59) سورة المائدة 75.
(60) سورة النساء : 171، سورة المائدة: 73.
(61) انجيل مرقس 16: 19.
(62) رسالة بولس إلى أهل كولوسي 3: 1.
(63) راجع الموارد التالية:
- راجع أعمال الرسل 7: 55- 56.
- رسالة بطرس الأولى 3: 22.
- رسالة بولس إلى أهل ارومية 8: 34.
- رسالة بولس إلى أهل العبرانيين 10: 12.
(64) كتاب حقيقة لاهوت المسيح، تاليف: جوش مكدويل و بارت لارسون، الفصل السابع.
(65) انجيل متى 27: 46، وانجيل مرقس15: 34.
(66) انجيل يوحنا 20: 17.
(67) رسالة بولس إلى أهل أفسس 1: 17.
(68) جاء في (إنجيل يوحنا 20: 16) ما نصه " قال لها يسوع يا مريم، فالتفتت تلك و قالت له ربوني الذي تفسيره يا معلم"
(69) سورة المائدة 116.
(70) انجيل متى 4: 2.
(71) انجيل لوقا 5 : 15- 16
(72) انجيل لوقا 11 : 1
(73) انجيل لوقا 22 : 43 – 45.
(74) إنجيل لوقا 6: 12.
(75) راجع انجيل لوقا 3 : 20، و 9 : 18، و 9 : 29.
(76) راجع إنجيل متى 26: 39، وراجع إنجيل مرقس 1: 35، وراجع مرقس 14: 35.
(77) سورة مريم : 29 – 31.
(78) إنجيل يوحنا 17: 3.
(79) إنجيل يوحنا 17: 8.
(80) إنجيل يوحنا 17: 25- 26.
(81) انجيل يوحنا 13: 16.
(82) إنجيل متى 13 :54- 58.
(83) سورة النساء 171.
(84) سفر الخروج20: 1- 17، سفر التثنية 5 : 6- 21.
(85) إنجيل متى 5: 17- 18.
(86) سورة الصف : 6.
(87) إنجيل يوحنا 14: 15- 16.
(88) إنجيل يوحنا 14: 26.
(89) إنجيل يوحنا 15: 26.
(90) إنجيل يوحنا 16 : 7- 8.
(91) إنجيل يوحنا 16 : 13.
(92) بالأفرنجية هكذا: paricletos
(32) بالأفرنجية هكذا: pericletos
(94) الإلهيات 3: 450.
(95) راجع إنجيل متى 10: 5- 15. وراجع إنجيل لوقا 10: 1- 12.
(96) هذه اربعة من القرائن التي اشار إليها العلامة السبحاني، وقد ذكر أربعة أخرى ولكننا حذفناها للإختصار، راجع: الإلهيات 3: 450- 452.
(97) سورة الصف: 6.
0 التعليق
ارسال التعليق