الإعجاز القرآنيّ ـ مع ملاحظة المعاني الّتي يرمي إليها القرآن الكريم ولو إجمالاًـ هو حجّةٌ خالدةٌ لكلّ من لمس شيئاً من ذوق أدب اللغة العربيّة فضلاً عمّن عرف محيط رسول الله(ص) وما اكتنفته ظروفه عند نزول الآيات الكريمة، وعرف الناس في صدر الإسلام إعجاز القرآن بوجدانهم من خلال تحدّيه المشركين بأن يأتوا بسورةٍ من مثل سوره، ومن عدم مقدرة المشركين والخلق على ذلك، وقد وصف أئمة الهدى(ع) القرآن الكريم بصفاته المعجزة(1) وإن لم يذكروا لفظة المعجزة أو الإعجاز، وما أقرب بيان المعنون إلى الوجدان والفطرة من بيان نفس العنوان.
وقد بدأ البحث في الإعجاز البيانيّ للقرآن تحت عنوان: «الإعجاز في نظم القرآن» في القرن الثالث للهجرة، فتطرّق إليه الجاحظ المعتزليّ (255هـ) في كتابه: «نظم القرآن»، وعلي بن ربن الطبريّ في كتاب: «الدين والدولة في إثبات نبوّة محمّدٍ(ص)».
وتوالت البحوث في الإعجاز في القرن الرابع، فتحدّث في الإعجاز أبو الحسن الأشعريّ، وبندار الفارسيّ، وأبو جعفر بن جرير الطبريّ، والحسن بن محمّد القميّ، وأبو هلال العسكريّ، وفي هذا القرن ألّف محمّد بن يزيد الواسطيّ المعتزليّ أوّل كتابٍ في الإعجاز تحت عنوان: «الإعجاز»، وأشهر من تكلّم في الإعجاز في هذا القرن عليّ بن عيسى الرمّانيّ المعتزليّ (386 هـ)، وحمد بن محمّد بن إبراهيم الخطابيّ (388هـ).
ولا ينحصر الإعجاز القرآنيّ في البيان، بل يشمل الإعجاز العلميّ، الإخبار بالغيب...إلخ، وفي دراساتٍ متأخّرةٍ تُطُرِّقَ إلى الإعجاز في نغمة القرآن الكريم ـ وقد يعبّر عنه بالإعجاز التأثّريّ ـ، وهو متفرّعٌ عن الإعجاز البيانيّ، ويعرف بأنّه الإعجاز من جانب اتّساق نظم القرآن وتناسب إيقاعاته الألحانيّة الساطية على الإحساس، والّتي تأخذ بمجامع القلوب.
وفي مطالعةٍ اقتطفتُ بعض ما قاله بعض الأساتذة في وصف هذا الإعجاز، فقيل في وصفه بأنّ القرآن في كلّ سورةٍ منه وآيةٍ، وفي كلّ مقطعٍ منه وفقرةٍ، وفي كلّ مشهدٍ منه وقصّةٍ، وفي كلّ مطلعٍ منه وختامٍ، يمتاز بأسلوبٍ إيقاعيٍّ غنيٍّ مملوءٍ نغماً، حتّى ليكون من الخطأ الشديد في هذا الباب أن نفضّل فيه بين سورةٍ وأخرى، أو نوازن بين مقطعٍ ومقطعٍ، لكنّنا حين نومئ إلى تفرّد سورةٍ منه بنسقٍ خاصٍّ إنمّا نقرّر ظاهرةً أسلوبيّةً بارزةً يؤيّدها الدليل، وتدعمها الشواهد، ويتأكّد أنّ القرآن نسيجٌ واحدٌ في بلاغته وسحر بيانه، إلا أنّه متنوّعٌ تنوّعاً ألحانيّ الوجود ـ إن صحّ التعبيرـ في أنغامه.
وقد قالوا: بأنّ مردّ هذا الإعجاز في القرآن بالدرجة الأولى هو ما يستثيره في القلب من إحساسٍ غامضٍ لمجرّد أن تصطفّ الحروف في السمع بهذا النمط الفريد، وذلك العزف بلا آلاتٍ وبلا قوافٍ وبلا بحورٍ وبلا أوزانٍ، فحينما نصغي إلى ما يقولـه زكريّا(ع) لربّه حيث يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}(2)، وكذا إذا نسمع كلام عيسى(ع) في المهد صبيّاً: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً}(3)، أو نسمع النغمات الّتي في الآية الّتي تحكي خشوع الرسل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}(4)، أو نستمع النغمات الّتي تقضّ القلب: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}(5)، أو ذلك الإيقاع الرحمانيّ الّذي يخاطب الله به نبيّه محمّداً(ص) بموسيقى عذبةٍ تملك شغاف القلب: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلاَ * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}(6).
نرى بأنّ هذا التشكيل والسبك والتلوين في الحروف و العبارات في معمار القرآن هو نسيجٌ ليس له نظيرٌ في سبكه، وكلّ عبارات جمله بيّنةٌ بيسرٍ وسهولةٍ للغاية، ليس فيه أثر اعتمالٍ وافتعالٍ واعتسافٍ، وإنمّا تسيل الكلمات في بساطةٍ شديدةٍ لتدخل القلب فتثير ذلك الإحساس الغامض بالخشوع، من قبل أن يتيقّظ العقل فيحلّل ويفكّر ويتأمّل، مجرّد قرع الكلمة الأذن وملامستها للقلب يثير ذلك الشيء الّذي لا نجد له تفسيراً، ولربما لم يخطئ السيّد قطب حينما ردّ سحر القرآن البيانيّ إلى نسقه الّذي يجمع بين مزايا النثر والشعر ولو على مستوى الظواهر، قال:
«فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحّدة، والتفعيلات التامّة، فنال بذلك حرّيّة التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامّة، وأخذ في الوقت ذاته من الشعر الموسيقى الداخليّة، والفواصل المتقاربة في الوزن الّتي تغني عن التفاعيل، والتقفية الّتي تغني عن القوافي، وضمّ ذلك إلى الخصائص الّتي ذكرنا، فشأى النثر والنظم جميعاً»(7).
وإنّ هذه الألحان الداخليّة لتنبعث في القرآن حتّى من اللفظة المفردة في آيةٍ من آياته، فتكاد تستقلّ بجرسها ونغمها بتصوير لوحةٍ كاملةٍ فيها اللون زاهٍ، وفيها الظلّ شفّافٌ أو كثيفٌ.
وحين تُسمع همس السين المكرّرة يكاد يستشفّ نعومة ظلها مثلما تستريح إلى لطافة وقعها في قولـه: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس}(8).
بينما تقع الرهبة في صدرك وأنت تسمع صوت الدال المنذرة المتوعّدة مسبوقةً بالياء المشبّعة المديدة في لفظة {تَحِيْدُ} بدلاً من (تنحرف) أو (تبتعد) في قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد}(9).
وتقرأ قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}(10).
تصوّر مشهد الإبعاد والتنحية بكلّ ما يقع في هذا المشهد من أصواتٍ، وما يصاحبه من ذعرٍ، الّذي يمرّ بحسيس النار ويسمعه ويكاد يصلاه!
ويأخذك من الغيظ مثل ما يأخذ جهنّم حين تسمع لفظ {تمَيَّزُ} في قوله تعالى: {تَكَادُ تمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}(11)، ويستولي عليك القلق وأنت تكرّر هاء السكت في أكثر فواصل سورة الحاقّة، فتخشى وأنت تتلو قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ}(12) أن تكون مصداقاً لها، فيرافقك مع تلاوتها القلق.
وتستشعر عنف لفظة «الكبكبة» في قولـه: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}(13) حتى لتكاد تتصوّر أولئك المجرمين يُكَبّون على وجوههم أو على مناخرهم، ولا يقيم أحدٌ لهم وزناً!
ومن الإعجاز النغميّ في القرآن النغم الصاعد فيه خلال الدعاء يثير بكلّ لفظةٍ صورةً، وينشئ في كلّ لحنٍ مرتعاً للخيال فسيحاً، فنتصوّر مثلاً ـ ونحن نرتّل دعاء زكريّا(ع) ـ وهو شيخٌ جليلٌ مهيبٌ ـ على كلّ لفظةٍ ينطق بها مسحةً من رهبةٍ وشعاعاً من نورٍ، ونتمثل هذا النبيّ(ع) وهو شيخٌ جليلٌ على وقاره متأجّج العاطفة، متهدّج الصوت، طويل النفس، ما تبرح أصداء كلماته تتجاوب في أعماق القلوب الصافية بشدّة التأثير، بل إنّ زكريّا(ع) في دعائه لربما يحرّك حتّى القلوب المتحجّرة بتعبيره الصادق عن حزنه خوفاً من انقطاع عقبه وهو قائمٌ يصلّّي في المحراب لا يقطع ينادي اسم «ربّه» نداءً خفيّاً، ويكرّر اسم «ربّه» بكرةً وعشيّاً، ويقول في لوعة الإنسان المحروم، وفي إيمان الصادق الصفيّ: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}(14)، وإنّ البيان لا يرقى هنا إلى وصف العذوبة الّتي تنتهي في فاصلة كلّ آيةٍ بيائها المشدّدة وتنوينها المحوّل عند الوقف ألفاً ليّنةً كأنهّا في الشعر ألّف الإطلاق، فهذه الألف الليّنة الرخيّة المنسابة تناسقت بها ـ شقيّاً، وليّاً، رضيّاًـ مع عبد الله زكريّا، ينادي ربه نداءً خفيّاً...
وفي بعض مواقف الدعاء القرآنيّة الأخرى صخبٌ رهيبٌ، فها هو ذا نوحٌ(ع) يدأب ليلاً نهاراً على دعوة قومه إلى الحقّ، ويصرّ على نصحهم سرّاً وعلانيةً، وهم يلجّون في كفرهم وعنادهم، ويفرّون من الهدى فراراً، ولا يزدادون إلا ضلالاً واستكباراً، فما على نوحٍ ـ وقد يأس منهم ـ إلا أن يمتلئ فوه بكلمات الدعاء الثائرة عليهم، بألحانها الرهيبة، وإيقاعها العنيف، فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً}(15).
فهذا شأن الإيقاع في القرآن وليست الفاصلة فيه كقافية الشعر تُقاس بالتفعيلات والأوزان، وتضبط بالحركات والسكنات، ولا الألفاظ فيه تحشّد حشداً، وتلصق إلصاقاً، بل الفاصلة طليقةٌ من كلّ قيدٍ، والنظم بنجوةٍ من كلّ صنعةٍ، والألفاظ بمعزلٍ عن كلّ تعقيدٍ، والأسلوب يؤدّي غرضه كاملاً غير منقوصٍ، فيتناغم مع المواقف بحسبها، يلين أو يشتدّ، ويهدأ أو يهيج، ينساب انسياباً كالماء إذ يسقي الغراس، أو يعصف عصفاً كأنّه صرصرٌ عاتيةٌ تبهر الأنفاس.
وربما استمع الإنسان إلى قصيدةٍ، وهي تتشابه أهواؤها وتتساوق أنغامها، ولكنّه لا يلبث أن يملّها، ولا سيما إذا أُعيدت عليه وكرّرت بتوقيعٍ واحدٍ، بينما يرى في القرآن أنّه على لحنٍ متنوّعٍ ونغمٍ متجدّدٍ، ينتقل فيه بين أسبابٍ وأوتادٍ وفواصل على أوضاعٍ مختلفةٍ، يأخذ منها كلّ وترٍ من أوتار القلب نصيبه بسواءٍ، تناغمت حالته بما يناسبها من أوضاعٍ، نظم تقتضيه معانيه الهادية، فلا يتعرّض للمؤمن ـ على كثرة ترداده ـ ملالةٌ أو سأمٌ، بل لا يفتأ يطلب منه المزيد، وقد حاولت العرب أن تتّخذ ما يقرب منه في التنظيم الصوتيّ في أشعارها، لكنّها كانت تذهب مذهب الإسراف والاستواء المملّ في الأغلب، ولا سيّما عند التكرار.
وأما في نثار العرب ـ سواء المرسل منه أو المسجوع ـ فلم تكن عهدته قطّ ولم يكن يتسنّى لها ذلك على ذلك النحو من السهولة والمرونة والعذوبة الّتي في القرآن الكريم، بل ربما كان يقع لها في أجود منثورها عيوبٌ تغضّ من سلاسة تركيبه، بما لا يمكن معها من إجادة ترتيله، إلا بتكلّفٍ يبدو عليه أثر التكلّف والتعسّف الّذي من شأن الكلام الاكتناف به.
قال الأستاذ دراز: «ويجد الإنسان لذةً، بل وتعتريه نشوةٌ إذا ما طرق سمعه جواهر حروف القرآن، خارجةً من مخارجها الشحيحة، من نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها، هذا ينقر، وذاك يصفر، وثالثٌ يهمس، ورابعٌ يهرّ، وآخر ينزلق عليه النفس، وآخر يحتبس عنده النفس، فترى الجمال النغميّ ماثلاً بين يديك في مجموعةٍ مختلفةٍ، ولكنّها مؤتلفةٌ لا كركرةٌ ولا ثرثرةٌ، ولا رخاوةٌ ولا معاظلةٌ، ولا تناكر ولا تنافر، وهكذا ترى كلاماً ليس بالبدويّ الجافي، ولا بالحضريّ الفاتر، بل هو ممزوجٌ مؤلّفٌ من جزالة ذاك ورقّة هذا، مزيجاً كأنّه عصارة اللغتين وسلالة اللهجتين.
نعم، من هذا الثوب القشيب يتألّف جمال القرآن اللفظيّ، وليس الشأن في هذا الغلاف إلا كشأن الأصداف، تتضمّن لآلي نفيسةً، وتحتضن جواهر ثمينةً، فإن لم يلهك جمال الغطاء عمّا تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الستار عما وراءه من السرّ المصون، ففلقت القشرة عن لبّها، وكشفت الصدفة عن درّها، فنفذت من هذا النظام اللفظيّ إلى تلك الفخامة المعنويّة، تجلّي لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيت منه ما هو أبدع وأروع، لك روح القرآن، وجذوة موسى الّتي جذبته إلى نار الشجرة في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة، فهناك نسمة الروح القدسيّة: {إِنِّي أَنَاْ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}»(16).
وذكر السيّد قطب عن الإيقاع الموسيقيّ في القرآن أنّه من إشعاع نظمه الخاصّ، وتابعٌ لانسجام الحروف في الكلمة، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة، وبذلك قد جمع القرآن بين مزايا النثر وخصائص الشعر معاً؛ فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحّدة والتفعيلات التامّة، فنال بذلك حرّيّة التعبير الموسيقيّ الداخليّة، والفواصل المتقاربة في الوزن الّتي تغني عن التفاعيل، والتقفية الّتي تغني عن القوافي، فشأنه شأن النثر والنظم جميعاً.
وحيثما تلا الإنسان القرآن أحسّ بذلك الإيقاع الداخليّ في نفسه، يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار والفواصل السريعة، ومواضع التصوير والتشخيص بصفةٍ عامّةٍ، يتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال، لكنّه على كلّ حالٍ ملحوظٌ دائماً في بناء النظم القرآنيّ.
وقال الرافعيّ: «كان العرب يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر، وكان أسلوب الكلام عندهم واحداً، حرّاً في المنطق، وجزلاً في الخطاب، في فصاحةٍ كانت تؤاتيهم الفطرة، وتمدّهم الطبيعة، فلمّا ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله، ألحاناً نغميّةً رائعةً، كأنهّا لإتلافها وتناسقها قطعةٌ واحدةٌ، قراءتها هي توقيعها، فلم يفتهم هذا المعنى، وكان أبين لعجزهم، وكلّ الّذين يدركون أسرار الموسيقى وفلسفتها النفسيّة يرون أن ليس في الفنّ العربيّ بجملته شيءٌ يعدل هذا التناسب الطبيعيّ في ألفاظ القرآن وأصوات حروفه، وما أحدٌ يستطيع أن يغتمز في ذلك حرفاً واحداً، والقرآن يعلو على الموسيقى، إنّه مع هذه الخاصّة العجيبة ليس من الموسيقى.
إنّ مادّة الصوت هي مظهر الانفعال النفسيّ في الأنغام الموسيقيّة، بسبب تنويع الصوت مدّاً وغنّةً وليناً وشدّةً، وما يتهيّأ له من حركاتٍ مختلفةٍ، وبمقدار ما يكسبه من الحدرة والارتفاع والاهتزاز مما هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى، فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن، لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلّها، في هزّ الشعور واستثارة الوجد النفسيّ، وبذلك يؤول ما ورد من الحثّ على تحسين الصوت عند قراءة القرآن.
وما هذه الفواصل الّتي تنتهي بها آيات القرآن إلا صوراً تامّة الأبعاد الّتي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متّفقةٌ مع آياتها في قرارات الصوت اتّفاقاً عجيباً يلائم نوع الصوت، والوجه الّذي يساق عليه بما ليس وراءه من العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيّان في الموسيقى نفسها، أو المدّ، وهو كذلك طبيعيٌّ في القرآن(17).
والتعبير بالموسيقى المراد منه نظم النغمات الألحانيّة المختلفة، ولكن حيث إنّ الاستعمال العرفيّ للكلمة غالباً ما يكون في الملهيّات، كان من غير المناسب التعبير عن نغمات القرآن بها.
وقال بعض أهل الفن: كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المدّ واللين وإلحاق النون، وحكمة وجودها التمكّن من التطريب بذلك، كما قال سيبويه: إنهّم ـ أي العرب ـ إذا ترنمّوا يلحقون الألف والياء والنون؛ لأنهّم أرادوا مدّ الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنمّوا، وجاء في القرآن على أسهل موقفٍ وأعذب مقطعٍ، فإن لم تنتهِ بواحدةٍ من هذه ـ كأن انتهت بسكون حرفٍ ـ كان ذلك متابعةً لصوت الجملة وتقطيع كلماتها، ومناسبةً للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه، وأكثر ما يكون في الجمل القصار، ولا يكون إلا بحرفٍ قويٍّ يستتبع القلقة أو الصفير أو نحوهما ممّا هو موصوفٌ بضروبٍ أخرى من النظم الموسيقيّ.
وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتيّ في اللغة، وأثرها طبيعيٌّ في كلّ نفسٍ، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الّذي يخاطب به كلّ نفسٍ، سواء كانت تفهمه أو لا تفهمه، فقد تألّفتْ كلماته من حروفٍ، ولو سقط واحدٌ منها أو أُبدل بغيره أو أُقحم معه حرفٌ آخر لكان ذلك خللاً بيّناً، أو ضعفاً ظاهراً في نسق الوزن وفي جرس النغمة، وفي حسّ السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج، وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى البعض، ولرأيت لذلك هجنةً في السمع، ولم يكن يستطع الوليد بن المغيرة أن يبرز ذهوله من بيان القرآن الكريم ونظمه على الرغم من كفره، وقد مات على كفره، قال بعد أن سمع القرآن:
«والله إنّ لقوله لحلاوةً، وإنّ عليه لطلاوةً، وإنّ أعلاه لمثمرٌ، وإنّ أسفله لمغدقٌ، وإنّه ليعلو ولا يُعلى عليه».
تناسب نغمة حروفه مع صدى معانيه:
من عجيب نظمه وبديع أسلوبه تناسب أجراس حروف كلماته المختارة، مع وقوع معانيه في النفوس، وكـأنمّا اللفظ والمعنى يتواكبان ويتسابقان في السطو على الأسماع ومشاعر القلوب معاً، ذاك على السمع وهذا على الفؤاد في التئامٍ ووئامٍ، فإن كان تكريماً فلفظٌ أنيقٌ، أو تشريفاً فتعبيرٌ رحيقٌ، وإن كان تهديداً فكلمةٌ غليظةٌ، أو تهويلاً فلفظةٌ شديدةٌ، وهكذا تتجسّد معاني القرآن في قوالب ألفاظه وتتبلور في أجراس حروفه، فهو عندما يهدّد أو يندّد أو يخبر عن وقوع عذابٍ أليمٍ ـ فيما سلف بأقوامٍ ظالمين ـ تراه يصكّ الآذان بألفاظٍ ذوات أصواتٍ نحاسيّةٍ مزعجةٍ، قد تحوّلت الكلم إلى جلاميد صخرٍ أو قوامع من حديدٍ، وكأنهّا رجمٌ وصواعق ورعودٌ.
عندما تقرأ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، فإنّه يخيّل إليك جرس اللفظة غليظ الصراخ، المختلط المتجاوب من كلّ جانبٍ، المنبعث من حناجر مكتظّةٍ بالأصوات الخشنة، كما تلقي إليك ظلّ الإهمال لهذا الاصطراخ الّذي لا يجد من يهتمّ بشأنه أو يلبّيه، وتلمح من وراء ذلك كلّه صورة ذلك العذاب الغليظ الّذي هم فيه يصطرخون.
وحين يستقلّ لفظٌ واحدٌ بهذه الصور كلّها، ويدلّك اللفظ عليه قبل دلالة المعنى، يكون ذلك فنّاً من التناسق البديع، وعندما تستمع إلى قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ}.
وكأنّك تحسّ بسمعك صوت هذه الريح العاتية، ولها صريرٌ وصراخٌ وقعقعةٌ وهياجٌ، تنسف وتدمّر كلّ شيءٍ، فتصوّر وقع عذابٍ شديدٍ ألمّ بقومٍ ظالمين.
وتقرأ: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ}، فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلّها، وفي جرس «ليبطئنّ» خاصّةً، وإنّ اللسان ليكاد يتعثّر، وهو يتخبّط فيها حتّى يصل ببطءٍ إلى نهايتها.
وتتلو حكاية هود: {أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}، فتحسّ أنّ كلمة {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} تصوّر جوّ الإكراه، بإدماج كلّ هذه الضمائر في النطق، وكذا بعضها إلى بعض، كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويشدّون إليه وهم منه نافرون، قال السيّد قطب: «وهكذا يبدو لونٌ من التناسق ـ تناسق جرس اللفظ مع نوعيّة المعنى ـ أعلى من البلاغة الظاهريّة، وأرفع من الفصاحة اللفظيّة، اللتين يحسبهما بعض الباحثين في القرآن أعظم مزايا القرآن.
وهكذا عندما تُتْلى عليك جملةٌ من آيات العذاب وتجعلها متجسّدةً إليك وكأنهّا بين يديك.
اتّضاح النغمة بالفصاحة والصوت الحسن:
وبعد أن اتّضح معنى النغمة القرآنيّة، وصياغته المنتظمة على أنغمٍ صوتيّةٍ، وألحانٍ شعريّةٍ جذّابةٍ، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ بروز ذلك بشكلٍ واضحٍ يكون مع قراءة القرآن بصوتٍ حسنٍ وحزينٍ، ويتماشى مع المقاصد القرآنيّة، حيث دلّت الروايات الحاثّة على ذلك في قراءة القرآن وترتيله الكريم:
ـ رُوِيَ عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: «إنّ القرآن نزل بالحزن، فاقرؤوه بالحزن»(18).
ـ ورُوِيَ عن الرسول(ص) أنّه قال: «إنّ القرآن نزل بالحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكَوا»(19).
ـ وقد كان دأب الأئمّة من أهل البيت(ع) على ترتيل القرآن بالحزن وبحسن الصوت الجاذب للقلوب، روى محمّد بن عليّ بن محبوب الأشعريّ في كتابه بالإسناد إلى معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): الرجل لا يرى أنّه صنع شيئاً في الدعاء وفي القراءة حتى يرفع صوته؟ فقال: لا بأس، كان علي بن الحسين(ص) أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار، وإنّ أبا جعفر(ع) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا قام من الليل وقرأ رفع به صوته، فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين وغيرهم، فيقومون فيستمعون إلى قراءته»(20).
ـ ورُوِيَ أنّ موسى بن جعفر(ص) كان حسن الصوت، حسن القراءة، وقال يوماً من الأيام: إنّ عليّ بن الحسين(ص) كان يقرأ شيئاً لما احتمله الناس، قيل له: ألم يكن رسول الله(ص) يصلّي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إنّ رسول الله(ص) كان يحمل من خلفه ما يطيقون»(21).
ـ روي عن أبي عبد الله(ع) قال: كان عليّ بن الحسين(ص) أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقّاؤون يمرّون فيقفون ببابه يسمعون قراءته، وكان أبو جعفر(ع) أحسن الناس صوتاً»(22).
ـ رُوِيَ عن رسول الله(ص) أنّه قال: «لكلّ شيءٍ حُلْيَةٌ، وحُلْيَةُ القرآن الصوت الحسن»(23).
ـ ورُوِيَ عن أبي جعفر الباقر(ص) أنّه قال: «ورجّع بالقرآن صوتك، فإنّ الله(عزّ وجل) يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعاً»(24).
ـ وعنه(ص) قال: «حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً»(25).
ـ وعنه(ص) قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم»(26).
ـ ورُوِيَ عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق(ع) في قوله تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} قال: «هو أن تتمكّث فيه وتحسّن به صوتك»(27).
ـ وعن علقمة بن قيس قال: كنت حسن الصوت بالقرآن، فكان عبد الله بن مسعود يرسل إليّ فأقرأ عليه، فإذا فرغت من قراءتي قال: زدنا من هذا فداك أبي وأمّي، فإنّي سمعت رسول الله(ص) يقول : «إنّ حسن الصوت زينةٌ للقرآن»(28).
ذمّ التغنّي بالقرآن الكريم:
الكلام في إعجاز نغمة القرآن بلحاظ ما يلفت من صدى الصوت عند قراءة نفس الآيات القرآنيّة الناشئة من سبكٍ خاصٍّ لكلماتها مع غضّ النظر عن نوع طريقة قراءة القرآن، نعم، تكون النغمة بارزةً إذا كانت القراءة فصيحةً، وتتّضح مع الصوت الحسن، وتتمشّى أكثر مع المقاصد القرآنيّة إذا كانت على نحوٍ حزينٍ، وأمّا الطريقة اللهويّة فقد نهى عنها الشارع الأقدس؛ فرُوِيَ عن النبيّ(ص): «اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحن أهل الفسوق والكبائر، فإنّه سيجيء من بعدي أقوامٌ يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبةٌ، وقلوب من يعجبه شأنهم»(29).
والفقهاء قد حرّموا تلحين القرآن بتلحين الغناء المنسجم مع أهل الفسق والطرب اللهويّ، أمّا نغمة القرآن في نفسها فليس لها ربطٌ بتلحين القرآن الكريم بتكلّفٍ على نحو الغناء الّذي ينسجم مع أهل اللهو كما قد يتوهّم به بعض، بل جلّه كذلك، مذمومٌ للغاية كما أشارت إليه الرواية.
وأما ما رُوِيَ عنه(ص): «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن»(30)، فهو على ما فيه من ضعف السند كما أشار إليه صاحب الحدائق(قده)(31) فليس المراد منه التغنّي على طريقة أهل اللهو ـ وحاشى رسول الله(ص) أن يقول ذلك ـ، فقد ذكر العلماء ثلاثة معانٍ للمراد من التغنّي بالقرآن الكريم في هذا الحديث:
المعنى الأول: الاستغناء بالقرآن، قال الشيخ الصدوق(قده): معنى التغنّي بالقرآن هو الاستغناء به لما رُوِيَ أنّ قراءة القرآن غنىً لا فقر بعده(32).
وقال الشريف الرضيّ: وإنمّا أراد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليس منّا من لم يستغنِ بالقرآن عمّا سواه، وتغنّى ها هنا بمعنى استغنى، وهو تفعّل من الاستغناء لا من الغناء(33).
واستشهد بقول العجاج:
أرى الغواني قد غنّين عنّي
وقلن لي عليك بالتغنّي
أي: استغنين عنّي وقلن لي: استغنِ عنّا كما استغنينا عنكَ، وهذا عند موت الشباب، وانقضاء الآراب(34).
المعنى الثاني: تحسين الصوت وتحزينه، ذكره الشيخ الطبرسيّ في تفسيره وغيرُه(35).
المعنى الثالث: ما يراه الفيض الكاشانيّ، وهو التغني بالقرآن والترجيع به، ولا ينافي هذا النهي عن الغناء؛ لأنّ الغناء المنهيّ عنه ما كان على لحن أهل الفسوق والكبائر، وعلى ما كان معهوداً في زمن الأئمة(ع) في فسّاق الناس وسلاطين بني أميّة وبني العباس من تغنّي القيّنات بين الرجال، وتكلّمهنّ بالأباطيل، ولعبهنّ بالملاهي من العيدان والقضيب ونحوها(36).
وكيف كان، فليس المراد من التغنّي بالقرآن في الحديث تلحين القرآن بألحان الغناء أو الترنمّ به على نحو اللهو؛ ولذا لا يقبل مثل ظاهر ما حكاه ابن الأثير عن ابن الأعرابيّ أنّه قال:
كانت العرب تتغنّى بالركبانيّ إذا ركبت، وإذا جلست في الأفنية، وعلى أكثر أحوالها، فلمّا نزل القرآن أحبّ النبيّ(ص) أن تكون هجيراهم بالقرآن مكان التغنّي بالركبانيّ(37).
أو ما قاله جار الله الزمخشريّ:
كانت هجيري العرب التغنّي بالركبانيّ ـ وهو نشيدٌ بالمدّ والتمطيط ـ إذا ركبوا الإبل، وإذا انبطحوا على الأرض، وإذا قعدوا في أفنيتهم، وفي عامّة أحوالهم، فأحبّ الرسول أن تكون قراءة القرآن هجيراهم، فقال ذلك، يعني: ليس منّا من لم يضع القرآن موضع الركبانيّ في اللهج به والطرب عليه(38).
إلا أن يكون المعنى بأنّ النبيّ(ص) أمرهم بالرجوع إلى القرآن وقراءته ـ لا على نحو كيفيّة اللهو والطرب المنسجم مع أهل الفسوق ـ بدلاً من التلهي والتغنّي بالركبانيّ، وفي حديثٍ عن أبي هريرة أنّ النبيّ(ص) قال: «ما أذن الله لشيءٍ كإذنه لنبيٍّ يتغنّى بالقرآن»(39) فقالوا في تفسيره بأنّ المراد من أذن هو استمع، ويتغنّى بالقرآن أي يواظب على قراءته والرجوع إليه، قال الشريف الرضيّ في تفسير الحديث: المراد: ما استمع الله لشيءٍ كاستماعه لنبيٍّ يداوم تلاوة القرآن، فيجعله دأبه وديدنه، وهجيراه وشغله، كما يجعل غيره الغناء مُسْتَرْوَح حزنه، ومُسْتَفْسَح قلبه، ليس أنّ هناك غناءً به على الحقيقة، وهذا كما يقول القائل: قد جعل فلانٌ الصوم لذّته، والصلاة طربته، إذا أقامهما مقام شغل غيره باللذّات، وطربه إلى المستحسنات(40).
وأغلب العامّة فسّرت «يتغنّى بالقرآن» هنا بأنّه يجهر به(41)، وبعضهم قال يحسّن الصوت(42).
* الهوامش:
(1) لاحظ أصول الكافي، ج2، كتاب فضل القرآن.
(2) سورة مريم، الآية: 4.
(3) سورة مريم، الآية: 29.
(4) سورة مريم، الآية: 58.
(5) سورة طه، الآية: 111.
(6) سورة طه، الآيات:1-8.
(7) التصوير الفني في القرآن للسيد قطب، ص 86.
(8) سورة التكوير، الآيات:15-18.
(9) سورة ق، الآية: 19.
(10) سورة آل عمران، الآية: 185.
(11) سورة الملك، الآية: 8.
(12) سورة الحاقة، الآية: 29.
(13) سورة الشعراء، الآية: 94.
(14) سورة مريم، الآيات: 4- 6.
(15) الآيات الأخيرة من سورة نوح.
(16) النبأ العظيم، ص 94 – 99، والآية آية 30 من سورة القصص.
(17) إعجاز القرآن، ص 188، و216.
(18) الكافي، ج2، ص 614، رقم 2.
(19) أمالي السيد المرتضى، ص25. مستدرك الوسائل، ج4، ص270. سنن ابن ماجه، ج1، ص424، ح1337.
(20) مستطرفات السرائر، ص 484.
(21) الاحتجاج، ج1، ص 170.
(22) الكافي، ج2، ص616.
(23) روى الحديث الفريقان، فمن طرق الإمامية: الكافي، ج2، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، ص615، ح9، وسائل الشيعة، ج6، ص211، باب تحريم الغناء في القرآن الكريم، ومن طرق العامة: مصنف عبد الرزاق، ج2، ص484، ح4173، ورواه المقدسي في الأحاديث المختارة، ج7، ص88، ح2496.
(24) الكافي، ج2، ص616، باب في من يظهر الخشية عند قراءة القرآن، ح13، وسائل الشيعة، ج6، ص212، باب تحريم الغناء بالقرآن، بحار الأنوار، ج89، كتاب القرآن 21 ص 190 – 195.
(25) عيون أخبار الإمام الرضا(ع) للشيخ الصدوق(قده)؛ وسائل الشيعة، ج6 ط آل البيت(ع)، ص212، باب تحريم الغناء في القرآن الكريم. والإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ص268.
(26) مستدرك الوسائل، للمحدث النوري، ج4، ص273، بحار الأنوار، ج89، ص190.
(27) وسائل الشيعة، ج6، ص208.
(28) مجمع البيان للشيخ الطبرسي، ج1، ص 46. بحار الأنوار للمجلسي ج89، ص190. مجمع الزوائد للهيثمي، ج7، ص171.
(29) الكافي ج2، ص614- 616، رقم 9و8و3.
(30) معاني الأخبار، ص279. الأمالي، السيد المرتضى، ج1، ص24- 25. مستدرك الوسائل، ج4، ص273- 274. بحار الأنوار: ج73، ص342- 343، وج76، ص 255، وج89 ص 191- 19. وورد هذا الحديث أيضاً في مصادر أساسية من مصادر السنة، كمسند أحمد بن حنبل، ج1، ص172- 175، سنن الدارمي، ج2، ص471، صحيح البخاري، ج6، ص107، وج8، ص209..الخ.
(31) الحدائق الناضرة، ج18، ص113.
(32) معاني القرآن، ص 264، رقم 13.
(33) المجازات النبوية، للشريف الرضي، ص234.
(34) بمعنى الحاجة، أو المقاصد والغاية، راجع لسان العرب، ج1، ص208، وحاشية المجازات النبوية ص234.
(35) تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي، ج1، ص46، المبسوط للشيخ الطوسي، ج8، ص227، والمجموع للنووي ج20، ص231، وقال الشافعي: وموافقوه معناه تحزين القراءة وترقيقها، انظر الديباج على مسلم للسيوطي ج2، ص392.
(36) تفسير الصافي، للفيض الكاشاني، ج1، ص72.
(37) نهاية ابن الأثير، ج3، ص391.
(38) الفايق في غريب الحديث، ج2، ص17.
(39) صحيح مسلم، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ج1، ص545، ح792. المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، ج1، ص760، ح2096. صحيح بن حبان، ج3، ص27، سنن النسائي، ج5، ص21، ح8048.
(40) المجازات النبويّة، ص233.
(41) غريب الحديث لابن سلام، ج2، ص139. فتح الباري، ج13، ص419. عون المعبود، ج4، ص241. لسان العرب، ج13، ص10.
(42) شرح مسلم للنووي، ج6، ص78.
0 التعليق
ارسال التعليق