الملخّص:
يتعرّض الكاتب في مقالته إلى مسألة مهمّة لها تأثيرها في الفكر والسلوك تجاه الدين، وهي مسألة النظريّة الإسلاميّة تجاه سلوك الإنسان، ومدى صحّة هذه النظريّة، والإشكالات عليها وجوابها، متعرضاً للنظريات الأخرى ونقدها، مركزاً على جواب إشكال وجود فجوة كبيرة بين النَّظرية الإسلامية هذه وبين واقع المسلمين وتطبيقهم لهذه النظريّة.
مقدّمة:
قال تعالى في كتابه المجيد: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (البقرة/225).
لا شكَّ في أنَّ سلوكَ المجتمع يحتاج إلى ضبط من أجل تحصيل الاستقرار، ثمَّ ضمان الإنتاجيَّة، وسيادة أجواء التقدُّم والنماء، ومن هنا أسِّست مراكز عديدة تعنى بدراسة ومتابعة مؤشِّر الجريمة في المجتمع، واهتمَّت بتقديم إحصائيات سنوية تكشف عن مدى انضباط السُّلوك المجتمعيّ؛ من أجل ترتيب الآثار المتناسبة مع حالة المجتمع من هذه الجهة، وقد اهتمَّت مراكز أخرى -في خطوة تكامليّة مع جهود مراكز الإحصاء والدراسة- بإشاعة الأخلاق الفاضلة، ونشر المثل، ومتابعة كيفية تأثيرها على نظم المجتمع، واستقراره، وإنتاجيَّته.
وقد وقع الخلاف الشَّديد بين المنظِّرين في تحديد ما يهذِّب السُّلوك الاجتماعيّ، ولا شكَّ في أنَّ النَّظريَّة السَّائدة في أوساط المجتمعات الإسلاميّة -والدينيّة بشكلٍ عام- هي نظريَّة الميزان الدِّينيّ والعقائديّ في ضبط السُّلوك، وقد منيت هذه النَّظريَّة ببعض الإشكالات النقضيّة، والتي صارت تهدِّد الثِّقة في الدِّين، وتزعزع القناعة به عند بعض المنبهرين بالثَّقافة الغربيّة التحرُّريّة، وهذا ما نريد أن نقف عليه في هذه الدَّقائق انطلاقاً من السِّؤال القائل:
ما هو الميزان الذي يتمكَّن من ضبط الأخلاق، وتهذيب السُّلوك في المجتمع؟
والحديث في هذا الأمر يتكوَّن من ثلاث نقاط:الأولى: حول استعراض النَّظريات التي حاولت أن تعطي إجابة للسِّؤال المتقدِّم. الثانية: في نقد النَّظريات. الثالثة: في إشكال وجواب حول النَّظريَّة الإسلاميَّة.
النقطة الأولى: النظريّات
هناك عدة نظريَّات حاولت أن تعطي إجابة عن السُّؤال السَّابق، أذكر منها ثلاثاً:
النَّظريَّة الأولى: الميزان القانونيّ
وحاصل هذه النَّظريَّة: إنَّ القانون نفسَه -وبغض النَّظر عما يعبِّر عنه من مصالح ومفاسد- قادر على ضبط السُّلوك الاجتماعي، وذلك بفرضه لتنظيم التوجُّهات السُّلوكيّة لدى المجتمع عبر إجراءات مراحله الثلاث: التشريعيّة أوّلاً، والتنفيذيّة ثانياً، والقضائيّة ثالثاً، فتتمُّ بذلك عملية التهذيب للسُّلوك الاجتماعيّ، سواء شكَّل هذا القانون بالنِّسبة إلى أفراد المجتمع قناعة أم لا، فليس ذلك بالأمر المهم، ما دامت النَّتيجة على الأرض هي انضباط هذا السُّلوك.
النَّظريَّة الثانية: الميزان الذَّاتيّ
وحاصلها: أنَّ ما يقوم بضبط السُّلوك الاجتماعيّ هو: نفس الاطِّلاع على المصالح والمفاسد التي ينطلق منها القانون، فتنشر كثقافة عامَّة تؤثِّر في الآراء العامَّة، إلى أن تشكِّل قناعات لدى أفراد المجتمع، فتجد طريقها للتطبيق والتفعيل، دون الحاجة بعد إذٍ إلى عصا القانون؛ إذ الفرض أنَّ أفراد المجتمع سوف تنطلق ذاتياً لإصابة تلك المصالح، واجتناب المفاسد.
النَّظريَّة الثالثة: الميزان العقائديّ والدينيّ
وهو ميزان يعتمد على الممازجة بين الذَّاتية والخارجيَّة في ضبط السُّلوك، انطلاقاً من تقويم العقيدة، وما يترشَّح عنها من منظومة أخلاقيَّة، وتشريعيَّة، وسننيَّة، وهي نظريَّة الإسلام في هذا المجال، وملخَّص الفكرة هنا أنَّنا بحاجة إلى ضبط السُّلوك من الجهة الذَّاتيّة أوّلاً، وذلك بأن يحمل الفرد عقيدة صائبة عن قناعة تامَّة، تدعوه بطبيعتها إلى تفعيلها، والالتزام بمُثُلها.
وهذا ما عدَّه بعضُ المحقِّقين من جملة أنماط الحكومات البشريَّة، التي تؤثِّر على سلوكهم تأثيراً كبيراً، يفوق سلطة القانون في كثيرٍ من الأحيان؛ لأنَّ الانبعاث فيه ذاتيّ، لا مفروض من جهة خارج الذات، يقول سماحة المحقّق الشيخ محمّد السَّند في كتابه (أسس النَّظام السِّياسيّ عند الإمامية): "النمط الثالث: وهي حكومة القِيَم الاجتماعيَّة، وليس المقصود من تلك القيم: الآراء النَّظريَّة، بل تلك التي تحتلُّ مكاناً في قناعة أفراد المجتمع، وتمادت التَّربية الاجتماعيّة عليها، بحيث يُرى مسير الشارع الاجتماعيّ على وفقها، وتكون تلك القناعات محرِّكات وبواعث تلقائية للمجتمع نحو الأفعال المناسبة لها".
ويقول شهيد المحراب السِّيد محمد باقر الحكيمS في كتابه (تفسير سورة الحمد): "إنَّ دراسة المؤثِّرات المختلفة على سلوك المجتمع توضِّح لنا أنَّ تأثير (العرف العام) الذي لا يمثِّل قانوناً ولا شريعة.. على سلوك النَّاس، قد يكون أشدَّ تأثيراً من أثر القانون والشِّريعة في بعض الأحيان.. ومع أنَّ تحديد وضبط السُّلوك البشري قد أوكل إلى الشِّريعة والوحي الإلهيّ في النَّظريَّة الإسلاميَّة، إلا أنَّ الشَّريعة ذاتها قد اهتمَّت بالعرف العام؛ نظراً لما له من أهمية خاصَّة، وجعلته أداةً لتحقيق الضَّبط السُّلوكيّ والقانونيّ للإنسان، وعملت على إيجاد الأعراف التي تنسجم مع السُّلوك الذي يراد تربية الإنسان المسلم عليه من قبل الشريعة".
ثمَّ نحن بحاجة أيضاً إلى ضبط السُّلوك من الجِّهة الموضوعيَّة، والخارجيَّة، بحيث تكون جهة مكمِّلة للجِّهة الأولى، تحمل الفرد على الالتزام وإن لم يصل إلى مرحلة القناعة بالعقيدة، وما يترشَّح عنها من منظومة معرفيَّة وسلوكيَّة.
يقول الشِّهيد الصدرS في كتابه (اقتصادنا): "والتَّحديد الإسلامي للحريَّة الاجتماعيَّة في الحقل الاقتصاديّ على قسمين:
أحدهما: التَّحديد الذَّاتي الذي ينبع من أعماق النَّفس، ويستمدُّ قوتَه ورصيدَه من المحتوى الرُّوحيّ والفكريّ للشَّخصيّة الإسلاميّة.
والآخر: التَّحديد الموضوعيّ الذي يعبِّر عن قوَّة خارجيّة، تحدِّد السُّلوك الاجتماعيّ وتضبطه.
أمَّا التَّحديد الذَّاتيّ: فهو يتكوَّن طبيعياً في ظلِّ التربيَّة الخاصَّة، التي يُنشئ الإسلامُ عليها الفردَ في المجتمع الذي يتحكَّم الإسلام في كلِّ مرافق حياته (المجتمع الإسلاميّ). فإنَّ للإطارات الفكريّة والرُّوحيّة التي يصوغ الإسلام الشخصيّة الإسلاميّة ضمنها، حين يعطى فرصة مباشرة واقع الحياة وصنع التاريخ على أساسه.. إنَّ لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة، وتأثيرها الكبير في التَّحديد ذاتياً وطبيعياً من الحريّة، الممنوحة لأفراد المجتمع الإسلامي، وتوجيهها توجيهاً مهذباً صالحاً، دون أن يشعر الأفراد بسلب شيء من حريتهم، لأنَّ التَّحديد نبع من واقعهم الروحيّ والفكريّ، فلا يجدون فيه حداً لحرياتهم. ولذلك لم يكن التَّحديد الذَّاتي تحديداً للحريَّة في الحقيقة، وإنَّما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحرّ، إنشاءً معنوياً صالحاً، حيث تؤدي الحريّة في ظلِّه رسالتها الصَّحيحة.
وقد كان لهذا التَّحديد الذَّاتي نتائجه الرائعة، وآثاره الكبيرة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلاميّ ومزاجه العامّ، وبالرغم من أنَّ التجربة الإسلاميّة الكاملة كانت قصيرة الأمد، فقد آتت ثمارها، وفجَّرت في النَّفس البشرية إمكاناتها المثالية العالية، ومنحتها رصيداً روحياً زاخراً بمشاعر العدل والخير والإحسان، ولو قُدّر لتلك التجربة أن تستمّر وتمتّد في عمر الإنسانيّة أكثر ممَّا امتدت في شوطها التاريخيّ القصير، لاستطاعت أن تبرهن على كفاءة الإنسانيّة لخلافة الأرض، ولصنعت عالماً جديداً زاخراً بمشاعر العدل والرَّحمة، واجتثَّت من النَّفس البشريَّة أكثر ما يمكن استئصاله من عناصر الشَّرّ، ودوافع الظُّلم والفساد..
وأمَّا التَّحديد الموضوعيّ للحريَّة، فنعني به: التَّحديد الذي يفرض على الفرد في المجتمع الإسلاميّ من خارج، بقوة الشَّرع. ويقوم هذا التَّحديد الموضوعيّ للحريّة في الإسلام، على المبدأ القائل: إنِّه لا حرية للشَّخص فيما نصَّت عليه الشَّريعة المقدَّسة، من ألوان النَّشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها".
النقطة الثانية: نقد النظريّات
وبعد الاطِّلاع على أصل النظريَّات، تعالوا معي لنقد النَّظريتين الأولتين:
نقد نظريَّة الميزان القانونيّ:
هذه النَّظريَّة نظريّة واقعيّة، إلّا أنَّها لا تعالج الجانب المثاليّ، فستبقى غير واضعة يدها على السَّبب الأساس في انحراف السُّلوك الاجتماعيّ، فهي بمثابة المسكِّن الذي لا ينفع كعلاج، إلّا ما يقوم به من احتواء لبعض آثار المرض، وقد يعتاد عليه الجسم، فيفقد حينها حتى ميزة الاحتواء هذه، وهذا ما نلحظه في كثيرٍ من المجتمعات الغربيّة التي تتبنَّى هذه النَّظريَّة؛ إذ أنَّها تركِّز على سلطة القانون، ولا تهتمُّ بالمتبنيَّات الفكريَّة والعقائديَّة لأفراد مجتمعها، وهذا هو السِّر من وراء انتشار الجريمة هناك.
نقد نظريّة الميزان الذَّاتي:
وهذه النَّظريَّة هي الأخرى أحاديَّة الجانب، فهي نظريَّة مثاليَّة فقط، لا تتعاطى مع الواقع بموضوعيَّة؛ إذ أنَّها تفترض تجاوب الجميع مع القيم، والمُثُل، وتعتمد على أنَّ إدراك المصالح والمفاسد سيشكِّل قناعات تحاصر دواعي الانحراف لدى جميع أفراد المجتمع، والحال أنَّ هذه الرُّؤية بعيدة جداً عن الواقع الذي تضجُّ به جميع المجتمعات دون استثناء، حيث لا يخلو مجتمعٌ من ظاهرة القفز على هذه القيم لدى الكثير الكثير من الأفراد؛ إمَّا لعدم توصُّلهم لقناعة المصالح والمفاسد، وإمًّا لطروِّ الدَّواعي الشَّخصيّة العديدة التي تتعارض وتلك المصالح والمفاسد، فتدعوهم للقفز عليها، وعدم مراعاتها، فإذا افترضنا أنَّ هذه النَّظريَّة ستتمكَّن من التَّعامل مع من سيتفاعل مع موجة التَّثقيف الذَّاتيّ بالقيم والمثل، فما هو وجه إغفالها للفئة التي لن تتفاعل معها؟! ثمَّ لو فرضنا أنَّها ستتمكَّن من التَّأثير عليها -ولو بعد حين- لتلزمها بالتفاعل الذَّاتي مع هذه القيم، فكيف ينبغي التَّعامل مع هذه الفئة إلى حين وصولها إلى هذه القناعات؟!
النتيجة: تبقى أمامنا النَّظريَّة الإسلامية صامدةً، إذ أنَّها تعالج الاستعداد الذَّاتي لقبول ما سيقوم بتهذيب السُّلوك الاجتماعيّ، وهي في نفس الوقت تتعامل بواقعيّة مع من لا يملك الاستعداد الفعليّ لقبول ذلك، فتلزمه بتقويم سلوكه -ولو ظاهراً- بقوَّة القانون؛ وذلك للحدِّ من آثار رغبته في الانحراف عن هذا السُّلوك، والشُّذوذ عنه.
النقطة الثالثة: إشكال وجواب
غير أنَّ النَّظريَّة الدينيّة في هذا الشأن مُنيت بعدة إشكالات
الإشكال الأول:
إنَّنا لا نجد الانضباط السُّلوكيّ في أكثر الدُّول الإسلاميّة، بينما نجده في أكثر الشُّعوب بعداً عن الدين.
الإشكال الثاني:
إنَّنا نلاحظ أنَّ فكرة التحرُّر من الدِّين هي ما جعل المجتمعات اللادينيّة تتخلَّص من عقدة ملاحقة الآخرين، وتصنيفهم، ومن ثمَّ معاداتهم، وهي التي جعلت المجتمعات قادرةً على التركيز على المشتركات الإنسانيّة من أجل الانطلاق في البناء، بغض النَّظر عن الدين والمعتقد، وهذا يتعارض بوضوح مع جعل الدِّين ميزاناً لضبط السُّلوك.
الإشكال الثالث:
إنَّ مظاهر الكبت الدِّينيّ في الميزان الدينيّ لضبط السُّلوك تسبَّبت في تقييد السُّلوكيات دون قناعة، ممَّا ساعد على نشر الجريمة في المجتمعات الدينيّة، وبالتالي فإنَّ ما يعتمد عليه الدِّين من توجيه للسُّلوك مبنيٌّ على منهاج التقليد، والتعبّد، والوعد، والوعيد، وهو يعالج المسألة بنحو سطحيّ بعيد عن الموضوعيّة، بحيث ينفلت أمام أدنى فرصة سانحة، فلا يكفي أن أجعل المسلم يؤمن بالله تعالى لكي يضبط سلوكه كما نلاحظ بالوجدان، والجنَّة والنَّار لم تتمكَّنا يوماً من صياغة مجتمع فاضل طيلة مسيرة المجتمعات المسلمة على مرِّ التَّاريخ.
وفي مقام الإجابة، لا بدَّ من تسجيل ملاحظتين، أنتقل منهما إلى الإجابة بعد ذلك:
الملاحظة الأولى:
يمكن أن يقال أوّلاً -وقبل كلِّ شيء-: إنَّ التَّجربة الإسلاميّة الكاملة -التي تعتمد في تهذيب السُّلوك على الميزان الذَّاتي والخارجي معاً- لم تتمّ -في شكلها الكامل من حيث الحاكم- إلّا في أمد قصير، وذلك في عهد النَّبيّe، وعهد عليّg، ونسبة إلى ذلك المجتمع الذي كان مغموراً في أسس الجاهليّة، ومبادئها الرَّخيصة، فإنَّ هذه التَّجربة قد أثبتت نجاحاً باهراً في تكوين المجتمع وتهذيب سلوكه نسبيّاً؛ إذ انتشلته من حضيضِ الجَّهل، حتى كوَّنت له اسماً تحت ظلِّ حكومة فتية بقيادة النبيّe، ورغم ذلك لم تتسنَّ الفرصة للانتقال إلى مرحلة التقدُّم التي تعقب مرحلة التَّأسيس، والتي عادة ما تتَّسم بكثير من الفوضى، والحروب، والتهديدات الداخليّة والخارجيّة، والموانع والعوائق، ثمَّ جاءت حكومة عليّg بنفس النَّمط، حيث إنَّه كان يقاتل على التَّأويل، كما قاتل النبيّe على التنزيل، فكلتاهما كانتا حكومة مرحلةِ تأسيسٍ في فترة زمنيّة قصيرة جداً، لم تتجاوزا معاً مدَّة العشرين سنة، جاءت ثانيتهما بعد فصلٍ تدميريٍ دام أكثر من ثلاثين عاماً.
وبالتَّالي يمكن أن يقال: إنَّه لم تسنح الفرصة لبروز حكومة إسلاميّة كاملة الجوانب تحت إدارة المعصوم من أجل تبيُّن نجاح التجربة فيما يتعلَّق بميزان النَّظريَّة الإسلاميّة في تهذيب سلوك المجتمع، ومهما سيقَ من تجارب للمقارنة في هذا الشَّأن، سوف يبقى غيرُ متكافئ من حيث الفرص، فلا تصحُّ به المقارنة حينئذٍ.
يقول الشَّهيد الصَّدر في (اقتصادنا): "وناهيك من نتائج التَّحديد الذَّاتي، أنَّه ظلّ وحده هو الضامن الأساسيّ لأعمال البرّ والخير في مجتمع المسلمين، منذ خسر الإسلام تجربته للحياة، وفقد قيادته السِّياسيّة وإمامته الاجتماعيّة، وبالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التجربة والقيادة بعداً زمنياً امتدَّ قروناً عديدة، وبعداً روحيّاً يقدَّر بانخفاض مستوياتهم الفكريّة والنَّفسيّة، واعتيادهم على ألوان أخرى للحياة الاجتماعيّة والسِّياسيّة، بالرِّغم من ذلك كلِّه فقد كان للتَّحديد الذَّاتي الذي وضع الإسلام نواته في تجربته الكاملة للحياة دوره الإيجابيّ الفعَّال، في ضمان أعمال البرّ والخير، التي تتمثَّل في إقدام الملايين من المسلمين بملء حريتهم، المتبلورة في إطار ذلك التَّحديد، على دفع الزكاة وغيرها من حقوق الله، والمساهمة في تحقيق مفاهيم الإسلام عن العدل الاجتماعيّ، فماذا تقدِّر من نتائج في ضوء هذا الواقع، لو كان هؤلاء المسلمون يعيشون التًّجربة الإسلاميّة الكاملة، وكان مجتمعهم تجسيداً كاملاً للإسلام، في أفكاره وقيمه وسياسته، وتعبيراً عملياً عن مفاهيمه ومثله؟!".
الملاحظة الثانية:
حين نقارن شيئاً بآخر، ليس من الإنصاف أن نأخذ الجزء الإيجابيَّ الذي يتميَّز به الشيء الأوَّل، ثمَّ نقارنه بالجزء السلبيّ الذي يُبتلى به الشيء الثانيّ، والحال أنَّ كلا المقارنَين فيه جزءٌ إيجابيٌّ، وجزءٌ سلبيٌّ، والإنصاف يقضي بضرورة ملاحظة المقارنَين معاً على نحو المجموع، بكلِّ ما يمتلكه واقعهما من إيجابيّةٍ وسلبيّةٍ، ثمَّ نخلص إلى النتيجة بعد معاملات كسر وانكسار، والمقارنة بين المجتمعات الإسلاميّة وغيرها من حيث الحضارة، حتّى يكون منصفاً، لا بدَّ من أن يتَّخذ هذا المنحى الجمعيّ من قراءة التَّجربتين، فقد يتحلَّى المجتمع الغربيّ ببعض القيم الجيِّدة، كاحترام الوقت، واحترام الإنسان في الجملة، وحسن التَّدبير المعيشيّ، والتَّطور الصناعيّ الرفاهيّ، إلا أنَّه -لا شكَّ- يعاني في نفس الوقت من ضياعٍ عقائديٍّ قِيَميّ، وتحلُّل خُلُقي، وتفسُّخ اجتماعي كبير، وتفكُّك عائلي خطير، أدَّى إلى التهتُّك والفجور واختلاط النَّسل، وما مئاتُ المراكز التي تأوي أطفالاً لقطاء ثمار الشَّهوة المحرَّمة -والإحصاءات حول هذا الأمر كثيرة-، وآلافُ العجزة الذين يموتون في بيوتهم لا يُعرف بموتهم إلَّا بعد أيام من خلال رائحة الجثث التي تفوح على الجيران إلّا شاهداً بسيطاً على هذا الانحلال، والانفلات السُّلوكيّ، فلماذا لا تُدخل هذه الصُّورة في معادلة المقارنة؟!
إذن: لا يمكن أن يقال: (إنَّ ميزان الدِّين في ضبط السُّلوك ليس سوياًّ، بدلالة أنَّ الدين مفقود في الغرب، إلا أنَّهم يتحلَّون بالانضباط السُّلوكي، ونحن لا نتحلَّى به رغم وجود الدين)؛ إذ أنَّ ذلك مبتنٍ على مقارنة زائفة منقوصة.
الجواب التَّفصيلي:
والجواب التَّفصيلي عن سائر ما ذكر من إشكالات يتمثَّل في بيان طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تجمع بين النَّظريَّة والتطبيق من وجهة نظر دينية، ونقول باختصار: هناك عدَّة مشاكل ينبغي أن تعالج في سبيل تقليص الفجوة بين النَّظريَّة والتَّطبيق، أذكر منها اثنتين:
المشكلة الأولى: فهم الدِّين خطأً من جهة نفس مبادئه، وقيمه الأساسيّة؛ فإنَّ هناك من يفهم الدِّين على نحو الإرهاب مثلاً، ومصادرة الآراء، وإلغاء الآخر، وسلب حقِّه في الحياة، فهذا لديه مشكلة في فهم أصل مبادئ الدِّين، وهي مشكلة منتشرة حالياً في الوطن الإسلاميّ لها أسباب عديدة، وهناك من يفهم الدِّين على أنَّه مجرَّد طقوس سطحيّة، وهناك من يفهم الدِّين على أنَّه أطروحة فرديّة لا اجتماعيّة، وهكذا تتعدَّد الأفهام السَّقيمة المحمَّلة على الدِّين، وبالتَّالي تنتج عندنا فجوة كبيرة بين الدِّين الحقيقيّ وبين تطبيقه من قبل المسلمين على أرض الواقع، وبالتالي لن تجد مبادؤه طريقها إليه.
المشكلة الثانية: فهم الدِّين كنظريَّة فكريَّة، دون فهمه كنظريّة سلوكيّة، وهذه هي المشكلة الأعظم؛ لأنَّها مشكلة خفية غير محسوسة، وتوضيح ذلك:
إنَّنا تارة نؤمن بالدِّين من زاوية التلقّيّ العقليّ، وأخرى نؤمن به من زاوية التلقّيّ القلبيّ، وما هو مطلوب هو الثاني لا الأوَّل، نعم، التلقّيّ العقليّ للدِّين يمكن أن يكون بدايةً لفهم نفس الأطروحة، إلّا أنَّ ذلك ليس كافياً في الانفعال مع هذه الأطروحة، ولذلك يركِّز الدِّين على تهذيب القلب، وجعله موضعاً ومنطلقاً لفهم الدِّين، وضرورة أخذ الدِّين بتعاطف ممزوج بالفكر، لا الفكر وحده، ولا العاطفة وحدها، وهذا الأمر واضحٌ جداً في أدبيات الدِّين، ومدرَكٌ لدى كافَّة المسلمين، إلّا أنَّه بحاجة إلى بحث مستقل لإثباته بنحو موسَّع لبيان العديد من أبعاده المهمَّة، ولكنَّني أكتفي بهذا الشاهد: قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (البقرة/225).
سؤال:
يأتي هنا هذا التساؤل: إذا كانت هذه الفكرة بهذا الوضوح، فلماذا نجد كثيراً من النَّاس يعانون من مشكلة فجوة التَّطبيق هذه؟! ولماذا لا نرى البلدان الإسلاميّة تتلقّى الدِّين قلبياً، فتتحلَّى بعد ذلك بقيم الإسلام، لتعطي صورة عن المجتمع الفاضل وفق الرُّؤية الإسلامية المدعاة؟!
هنا عدة احتمالات، منها:
عدم القناعة الفكريّة بأطروحة الإسلام من الأصل، فيتسبَّب ذلك بعدم الانتقال إلى مرحلة تطبيق المبادئ الفكريّة له سلوكاً وعملاً. وهذا مستبعد؛ إذ أنَّ النقاشات النَّظريَّة المنتشرة بين أوساط عامَّة المسلمين، تعطي صورة واضحة عن مدى قناعتهم نظرياً بأطروحة الإسلام، وهم يدافعون عنها بأفهامهم المختلفة لها إلى الحدِّ الذي يتسبَّب بخلافات شديدة بينهم، فهذه الأطروحة ليست مهملة عندهم.
الصعوبة من حيث نفس التَّطبيق، وذلك باعتبار صعوبة نفس المُثُل والقيم التي يقدّمها الدين، وكونها مثاليّة لا تحاكي الواقع. وهذا أيضاً ليس صحيحاً؛ ذلك أنَّ الإسلام دين اليسر، وتكفي إطلالة سريعة على تركيبته الفقهيّة لإدراك ذلك، وقد نطقت بذلك مجموعة كبيرة من الآيات والروايات التي لا تخفى.
الاستجابة والاستسلام للموانع مع وجود المقتضي. وهذا هو الأقرب، فالمقتضيّ للاقتناع بالدِّين وأطروحته، وقوانينه، وأحكامه، حاضر، فاعل؛ وذلك لفطرية الدِّين، إلا أنَّ الموانع من تطبيق تلك الأمور المتلائمة مع الفطرة كثيرة، والإنسان يسلِّم نفسه إليها، فتتقاذفه بعيداً عن تلك القيم والمثل، فيظهر ذلك على شكل انفلات سلوكيّ اجتماعيّ لا ينسجم مع روح ما يؤمن به المجتمع.
وهذا هو الاختبار الحقيقي؛ فكلمة: (أن يعمل الإنسان بما يعلم)، كلمة قصيرة، ولكنّ مدلولها العمليّ عميق جدّاً، وتطبيقها يحتاج إلى همَّة عالية، وعزيمة ثاقبة.
ومن كلّ ما ذُكر نقف على إجابة ما تقدم من إشكالات ثلاثة:
الإشكال الأوّل: لماذا لا نلمس انضباطاً سلوكيّاً في أكثر الدول الإسلاميّة بينما نجده في الشعوب اللادينيّة؟
الجواب: إنّ المذكور في هذا التساؤل أوّل الكلام، فإنّنا لا نسلّم به بالجملة، حيث إنّه إذا لم يُبنَ على أساسٍ واضح بالاستقراء والجرد والإحصاء الموضوعيّ المجرّد عن أيّ مسبقات وإسقاطات، فهو بلا قيمة علميّة، فلا يمكن أن يُبنى عليه، هذا أوّلا.
ثانيا: قد يكون هناك انضباطٌ عند الكثير من المجتمعات اللادينيّة، إلا أنّه في أغلبه انضباطٌ تنظيميٌّ سطحيٌّ، يبرز فيما يرجع إلى ترتيب الأولويّات، واحترام الوقت، وتطبيق القانون الاجتماعيّ والإجرائيّ والتأديبيّ، إلا أنّ ذلك لا يعدّ مقياساً كاملاً للتقييم؛ حيث إنّه من الممكن أن يكون فاقداً لقيمته الجوهريّة برجوعه في عمقه إلى محاولة استجلاب المصالح المادّيّة، ودفع المفاسد النفعيّة، وهو كذلك فعلاً، وهذا لا يكفي في تقييم جوهر الانضباط، بل لا بدّ من التعمّق أكثر من ناحية الدوافع، كما أنّه لا بدّ من التتبّع العرضيّ الأوسع على مستوى المصاديق أيضاً، وستفشل اللادينيّة في تكوين ظواهر سلوكيّة منضبطة حينها، فما هي قيمة المجتمع الّذي يستميت في الالتزام بالوقت لجني ثروة أكبر، ويقدّر قيمة العمل لتضخيم رأس المال، إلا أنّه يفعل ذلك على حساب الفقراء، والمحتاجين، والأقلّيّات العرقيّة؟!
وما قيمة مجتمع يدّعي احترامه لحقوق الإنسان بإملائها عليه وقت الاعتقال، إلا أنّه لا يقيم لقيمة برّ الوالدين وزناً، ولا لعلاقته بربّه قيمةً، ولا لصبره على أذى جاره ثمناً؟!
وما قيمة مجتمع يدّعي المدنيّة على أسس المواطنة، وعدم تفريقه بين الأديان، إلا أنّه يسمح لنفسه أن ينال من رموز الديانات بكلّ صلافة ولو أدّى ذلك إلى سيل الدماء، والفتن الّتي لا أوّل لها ولا آخر؟!
ثالثاً: إنّ قيمة المجتمع مستمدّةٌ من مقدار ما يفعّله من قيَمه ومثله، أمّا قيمة المثُل نفسها فهي مستمدّةٌ من حقّانيّتها في نفس الأمر والواقع بمختلف الموازين الفطريّة، والدينيّة، والإنسانيّة، فإن كان ثمّة مفارقة بين القيمتين، فينبغي استكشاف الخلل بموضوعيّةٍ، وإرجاعه إمّا إلى المجتمع إذا قصّر في تطبيق المثُل الصائبة، وإمّا إلى نفس المثُل إذا كان المجتمع مستقيماً دون إرجاع استقامته إلى ما يدّعي التزامه من مثُل.
والّذي نزعمه في المجتمعات الإسلاميّة أنّها -في المجموع- كبقيّة المجتمعات الإنسانيّة، فهي مجتمعاتٌ ملتزمةٌ سلوكيّاً ببعض ما تؤمن، فيُنتج ذلك قيماً دينيّة منسجمة كل الانسجام مع الفطرة، ومقصّرةٌ في بعض ما تؤمن، فيُنتج ذلك مسافةً بينها وبين الدين وما يحويه من قيم، وإرجاع الخلل إلى الدين بما يحويه من قِيم إجحافٌ، وابتعادٌ عن إنصاف أطروحته البيّنة فيما تدعو إليه من مُثُل وأخلاق ظاهرةٍ.
الإشكال الثاني: إنّ جعلَ الدين ميزاناً للضبط السلوكيّ سيجرّ إلى التصنيف، وإغفال المشتركات، وهذا هو أساس المشكلة في الانفلات الأخلاقيّ الحاصل في المجتمعات الإسلاميّة.
الجواب: إنّ التصنيف لا بدّ منه مهما تنوّعت القناعات، والمشكلة ليست فيه بما هو تصنيف يستتبع التمييز النظريّ، بل المشكلة تكمن فيما يترتّب على هذا التصنيف من آثار عمليّة، كالتكفير، والفتن، والقتل، والدمار، والتنازع، وغير ذلك.
والدين الحقّ واضحٌ في ذلك، حيث إنّه يدعو إلى أن يكون هذا التصنيف باعثاً على التفاهم، وبذل محاولات التقارب، والمناظرات العلميّة، والدفع بالمجتمع إلى الأمام، وهذا القرآن، وهذه الروايات، وهذه الأحكام الشرعية كلّها تعاضد بعضها البعض صارخةً في وجه كلّ فتنة تصنيفيّة مدمّرة.
وتحميل الدين فكرة التكفير بسبب فئة تكفيريّة شاذّة تعمل وفق أجندة واضحة، ومدعومة من أطراف لا تخفى، تحميلٌ مغرض بعيد عن الحقّ.
وأمّا الأحكام الدفاعيّة، والمحافظة لمصالح المجتمع المسلم، فهي محكومة في الأصل بمبادئ التعايش، والاحترام المتبادل، والاعتراف العمليّ بالآخر، ومحاولة التواصل معه تنسيقا، وتبليغا، فإذا كسر الآخر ذلك كلَّه تعدّيا وطغيانا، فلا يقول أحدٌ -وأوّلهم نفس قوى الاستكبار المدّعية للحضارة- بالوقوف للتفرّج!
الإشكال الثالث: إنّ الميزان الدينيّ في ضبط الأخلاق تسبّب في الكبت بعيداً عن القناعة، فانتشرت الجريمة بعد الانفجار الذي ولّده هذا الكبت.
الجواب: إنّنا لا نرى الجريمة في المجتمعات الغربيّة واللادينيّة بمعدّلٍ منخفض رغم الانفتاح الواسع إلى حدٍّ مطلقٍ في الحرّيّة السلوكيّة، فالانفتاح زاد الطين بلّةً؛ إذ أغرى أصحابه لارتكاب مزيد من الأخطاء شرهاً وطغياناً ما دامت هذه الأخطاء في حدود المسموح به -وما أوسع هذا المسموح به!
ثمّ إنّ الكبت لا يصدق إلا على الراغب في الانفلات، والمجتمع ما دام إسلاميّاً فهو لا يرغب في ذلك إلا بمقاس بهيميّته وسبُعيّته، فهل يكون الضبط المنظّم لهذه الغرائز كبتاً خاطئاً، بينما يكون انفلات البهيميّة والسبعيّة والتنظير إليه انفتاحاً؟!
الخلاصة: إنّنا بحاجة إلى قراءة منصفة وموضوعيّة، تُرجع الانفلات الأخلاقيّ في المجتمعات الإسلاميّة-مهما وُجد- إلى أسبابه الواقعيّة، كبقيّة المجتمعات التي ليس اللادين فيها هو سبب الانضباط إن وُجد، وليس الدين أحد أسباب المفارقة بين السلوك والعقيدة في المجتمعات الدينيّة بلا شكٍّ، ما دام هذا الدين دين الفطرة، والعقل، والقلب السليم، والقيم الفاضلة.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
0 التعليق
ارسال التعليق