اتفقت كلمة المذاهب الإسلامية على كون رسول الإسلام (صلّى الله عليه وآله) هو الرسول الخاتم لجميع الرسالات السماوية، وهذا الأصل لا خلاف عليه، ويترتب على هذا الأصل أنّ كل ديانةٍ سماويةٍ سبقت الإسلام فالإسلام قد نسخها، فلا يصح لأي شخصٍ بأن يكتفي مثلاً بالمسيحية بحجة أنها ديانةٌ سماويةٌ(1)، فتكون بمثابة الحجة بين العبد وربِّه بأنَّ العبد قد التزم بدينٍ سماوي، فهذا الكلام به مغالطةٌ كبيرة، وهي أنّ كل الديانات السماوية -السابقة للإسلام- قد نسخها الإسلام
بمعنى أنه لا يصح لأي شخصٍ التعبد على وفقها حتى الديانات التي كانت عامة لجميع البشرية، وذلك بدليل قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(2)، وأيضاً لا يمكن أن يأتي أحدٌ ويدعي أنه يتبع ديانة جديدةً أو أنه نبي ورسول جديد أرسله الباري عزَّ وجل لأن نبي الإسلام قد ختم تلك الرسالات السماوية.
إلى هذا المقدار فإنَّ المذاهب الإسلامية لا تكاد تختلف، بل قد يكون شبه اتفاق بينهم على هذا المبدأ وإن اختلفوا في التفاصيل. والبعض قد أساء الفهم لما ذهب له الإمامية، وقبل الإشارة للإشكال نشير في المقدمة إلى بحثٍ مهم، وهو أنّ لفظة الإمام وردت في التراث الفكري الشيعي على ثلاث معانٍ:
المعنى الأول: وهو المعنى الخاص ويراد به من له منزلة النبي (صلّى الله عليه وآله) إلا النبوة والأزواج، أي أنه حجة في قوله وفعله وتقريره حياً وميتاً، وعقيدة الشيعة أنّ هذا المعنى للإمامة استمر بعد النبي في اثني عشر شخصاً من أهل بيته وبوصيةٍ من النبي وبأمرٍ من الله تعالى وتلحق بهم الزهراء (عليها السلام) أيضاً.
ولهذا المعنى من الإمامة يأتي شرط العصمة والنص وحصرها في عليٍّ والحسن والحسين ثم تسعة من ذرية الحسين كما حُصِرت الإمامة بعد إبراهيم في ذريته إسماعيل ثم إسحاق ثم يعقوب ثم حُصِرت في ذريته، قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(3)، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(4)، إنّ إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا أئمة هدى يهدون الناس إلى شريعة إبراهيم بأمر الله تعالى.
المعنى الثاني: وهو معنى عام ويراد به منصب الحكومة وإقامة الحدود سواء شغل هذا المنصب شخص معصوم أو شغله غيره، وهذا المعنى يعتقد الشيعة فيه أنه للنبي في زمانه ومن بعده للأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) في زمانهم. وقد انتشر هذا المعنى للّفظة عند متكلمي السنة وفقهائهم، أمّا عند الشيعة فقد بقي منحصراً في التراث الروائي لأهل البيت (عليهم السلام) ولم يستخدم في التراث الفقهي إلا عند ثلة معاصرة منهم.
روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له رجلٌ جنى عليَّ، أعفو عنه أو أرفعه إلى السلطان؟ قال: «هو حقك إن عفوت عنه فحسنٌ، وان رفعته إلى الإمام فإنما حقك طلبت»(5).
فالإمام في الرواية مرادف للسلطان والحاكم.
المعنى الثالث: وهو معنى خاص يراد به خصوص الاثني عشر، أوصياء النبي حيث أصبحت علماً خاصاً لهم (عليهم السلام) لغلبة استعماله من قبل الشيعة فيهم (عليهم السلام)، وصار يدل على المعنى الأول والثاني معاً باعتبار التقاء المعنيين في عصر الأئمة الاثني عشر في شخصهم (عليهم السلام)، فهم حجج الله بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) وهم المؤهلون وحدهم للحكم في زمانهم، وقد ساد هذا المعنى لدى المتكلمين الشيعة حيث كانوا معنيين بإثبات كلا المعنيين للإمامة لهؤلاء الإثني عشر لا غير، ولم يكونوا معنيين بمسألة الحكم كمسألة مستقلة.
قال الشيخ الطوسي: "وقولنا إمام يستفاد منه أمران: أحدهما أنه مقتدى به في أفعاله وأقواله من حيث قال وفعل؛ لأن حقيقة الإمام في اللغة هو المقتدى به، ومنه قيل لمن يصلي بالناس: إمام الصلاة. والثاني أنه يقو بتدبير الأمة وسياسيتها وتأديب جناتها والقيام بالدفاع عنها وحرب من يعاديها وتولية ولاية من الأمراء والقضاء وغير ذلك وإقامة الحدود على مستحقيها"(6).
وبسبب صيرورة اللفظة علماً بالغلبة على المعصومين الاثني عشر تحاشى فقهاء الشيعة استخدام هذه اللفظة وإطلاقها على علمائهم وفقهائهم إلا في القرن الأخير حيث أطلقت على مرجع الدين نظير إطلاقها من قبل أهل السنة على الفقهاء والمحدثين سابقاً.
ولكن بسبب سوء الفهم في المصطلحات ولتداخل بعض المعاني في الأخرى، فقد أثيرت في فترة من الفترات إشكالات متعددة على ما ذهب إليه الإمامية أعلى الله كلمتهم، حول المبدأ الذي صرحنا به بأنه مُتَفقٌ عليه، بحجة أنه -قد- يُفهم من كلماتهم ما يناقض هذا المبدأ.
ونحن نذكر بعض الإشكالات التى ساقها بعض المستشكلين على مذهب الإمامية بحجة أنها مخالفة لذلك المبدأ، نذكرها على شكل نقاط ليسهل البحث ولننظم الأفكار أكثر:
النقطة الأولى: أنَّ الإمامية يُصرحون أنّ الإمامة هي امتداد طبيعي وإلهي للنبوة، فللإمام ما إلى النبي تماماً -عدا مقام النبوة طبعاً والزواج-، ومن هنا نستكشف أنّ نبي الإسلام وإنْ ختم الرسالات السماوية، إلا أنَّ بقية الأمور -كنزول الوحي مثلاً- لا يزال متواصلاً على الأئمة بعد رحيل نبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله).
النقطة الثانية: ومما يتفرع على النقطة الأولى، أنه إذا افترضنا أنّ الإمامة هي امتدادٌ طبيعي وإلهي للنبوة، فلازم هذا الكلام أنّ الرسالات السماوية لم تنقطع ولن تنقطع أبداً، لأن الأرض لا تخلو من حجة كما تذهب إليه الإمامية.
النقطة الثالثة: وأيضاً تفريع على النقطة الأولى، أنّ الرسالات السماوية وإن انقطعت برحيل نبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله) نظرياً، إلا أنّ افتراض تواصل نزول الوحي يفيد بأنّ الرسالات السماوية لم تنقطع عملياً، فهل هذا إلا تهافت بين أقوال الإمامية وواقعهم؟
وقد ورد في تفسير البرهان(7) في سورة القدر، بنقله عن الشيخ الطوسي عن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: قلت يا رسول الله! القدر شيء يكون على عهد الأنبياء ينزل عليهم فيها الأمر، فإذا مضوا رُفعت؟ قال (صلّى الله عليه وآله): «لا، بل هي إلى يوم القيامة».
فهذه الرواية تدل على كون الملائكة والروح تتنزل إلى يوم القيامة، ولازم هذا الكلام أن سلسلة الأنبياء وإن انقطعت -نظرياً- ولكن عملية التواصل بين الأرض والسماء لا زالت متواصلة! فأيُّ انقطاعٍ هذا لسلسلة الأنبياء؟ خصوصاً إذا عرفنا أنّ الإمامية يقولون بأنّ الامامة امتداد إلهي للنبوة(8).
هذه الإشكالات وغيرها أيضاً، ذكرها "أحمد الكاتب" كنقدٍ على مذهب أهل البيت حينما استعرض ما يتبناه من معتقدات، وتعرَّض -أثناء ذكره لمعتقداته- للإشكال على مذهب أهل البيت، وأنا لم أستعرض جميع إشكالاته وإنما تعرضت لأهمها -في نظري-، وخصوصاً أن أكثرها يرجع إلى إشكال رئيسي واحد(9).
إذا اتضح الإشكال، نركز على جوهره وهو كيف يمكن أن نتصور ختم الرسالات السماوية مع بقاء الإمامة بمعناها الذي هو الامتداد الإلهي للنبوة. فردُّ هذه الإشكالات مبني على الرجوع إلى ما أوضحناه من المعاني المرادة من الإمام في كلمات الإمامية، ونشير إلى الرد على هذه الإشكالات عبر النقاط التالية:
أولاً: أنّ المراد من الامتداد الطبيعي والإلهي للنبوة عبر الإمامة، هو بمعنى أنّ الإمامة هي الحافظ الأكبر للشريعة وليست بمعنى أنها مُنتجة لدين أو شريعة أخرى، فمعنى كونها امتداد طبيعي أي أنه أمرٌ عقلي أي من ناحية حاجة الناس إلى مرجعٍ يتكفل ببيان أمور دنياهم ويوصلهم إلى أرقى المراتب، فالعقل يفترض أن يكون هناك مرجع لبيان الأمور المستحدثة، ومعنى كونها امتداد إلهي أنّ الباريّ قد نص على هذه الفئة المُختارة من قِبلِه، فهذه الفئة تحفظ الشريعة الغراء الخاتمة، ولكي تكون حلقة وصل بين المكلفين وربهم. فلو انقطعت هذه السلسلة لانقطع المدد الإلهي عن الناس وهذا ما لا يُعقل أن يكون. وإذا كان المفترض فاسداً، تعيّن المدعى وهذا الاستدالال استدلالٌ منطقيٌ بطريقة الخلف(10).
ثانياً: أنّ الإمامة لا تكون منتجة لشريعةٍ أخرى -كما أشرنا له في النقطة السابقة- وإنما هي مبينة ومفسرة لشريعة خاتم الرسل (صلّى الله عليه وآله)، نعم قد لا يقوم النبي (صلّى الله عليه وآله) ببيان جميع تفاصيل الأمور لعدم حاجة المكلفين في تلك الفترة، وإنما تطرأ الحاجة متأخرةً -أي بعد رحيل النبي (صلّى الله عليه وآله)- فيقوم الإمام ببيان وتفصيل ما أجمله النبي(11)، فالإمامة ليست منتجة لشريعةٍ جديدة بمعنى أنها قد تنسخ ما أتى به النبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله) وإنما هي توضح النقاط المجملة وتشير إلى التفاصيل.
ثالثاً: لا نُسلِّم أن لازم تواصل الوحي هو أيضاً تواصل الرسائل السماوية، وأيضاً ليس معنى انقطاع الوحي لفترة هو انقطاع للرسائل السماوية.
فلا نُسلِّم أنه كلما نزل الوحي فلا بدّ أن تكون هناك شريعة ودينٌ جديد، فالوحي كان ينزل على الصالحين وغيرهم وعلى النساء أيضاً ولم يقل أحد بتواصل الرسالات السماوية، ولم يقل أنّ ديناً جديداً جاءت به مريم أمُّ عيسى بحجة نزول الوحي عليها؟! وإنما الكل يعتبره كالمدد الإلهي ليس إلا، والفرق بين رسالة سماوية جديدة وبين المدد الإلهي واضح وجلي.
وأيضاً لا نُسلم أنه كلما انقطع الوحي فمعناه انقطاع الشرائع السماوية، فكم كانت الفترة بين النبي عيسى (عليه السلام) والنبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله) ولم يقل أحدٌ أنه لم يكن هناك دينٌ أو شريعة تحكم الناس في تلك الفترة.
رابعاً: إنّ صاحب الإشكال قد اختلطت عليه بعض الأمور المرادة من الإمام، وخصوصاً إذا عرفنا أنّ المعنيين -الأول والثاني- للإمام قد اجتمعا في الأشخاص المقصودين في فترة حياتهم، فلم يفرّق صاحب الإشكال بين المعاني، باعتبار التقاء المعنيين في عصر الأئمة الاثني عشر في شخصهم (عليهم السلام) فهم حجج الله بعد النبي، وحق الحكم منحصر بهم في زمان حضورهم بنص الآية، فاندمج المعنيان في مصطلح الإمام وصار لدى الشيعة يدل على معنى ثالث يراد به كلا المعنيين وحصر مصداقه بعد النبي بالمعصومين الاثني عشر، وتوَّهم صاحب الإشكال أنّ الإمامة لازمها تواصل الرسائل السماوية وهذا ما لا يُسلّم به أحدٌ، نعم الشيعة الإمامية يسلِّمون بأنّ الرسالة الخاتمة محفوظة في هؤلاء المخصوصين. فصاحب الإشكال توهم أن ما يريده الشيعة من الإمام هو الحاكم، والحال أنّ الشيعة اشترطوا العصمة والنص في الإمام وليس شرط العصمة في الحاكم -إلا إذا كان من المنصوص عليهم- وهذا خلطٌ ولبسٌ كبير من صاحب الإشكال، فليس كل حاكم يجب أن يكون معصوماً، بل كل إمام يجب أن يكون معصوماً سواءٌ كان حاكماً أم لا.
لذا فإنّ الموضوعية تقتضي البحث في المعنيين كلٌ على حده لأنهما يشيران إلى قضيتين مختلفتين وهما:
القضية الأولى: هل يوجد مبيِّنون معصومون للدين بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) يكون بيانهم للسنة النبوية وتفسير القرآن كبيان النبي (صلّى الله عليه وآله) مع كونهم ليسوا بأنبياء، ومن هم هؤلاء؟ وكم عددهم؟
القضية الثانية: من له أهلية وحق إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام في المجتمع الإسلامي بدءاً من زمن النبي (صلّى الله عليه وآله)؟ هل كل مسلمٍ كيفما اتفق؟ أم هم صنف معين من الناس له مواصفات خاصة وشروط خاصة؟ وهل يتصدى المؤهل كيفما اتفق أم لا بد من طريقة خاصة؟
إثبات القضية الأولى:
إنّ الإمامة التي حُصرت باثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) ليست هي إمامة الحكم بل هي الإمامة الدينية التي كانت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) خاصة بوصفه حجة الله تعالى بقوله وفعله وتقريره وكون حق الحكم خاصاً به في زمانه لا يجوز لغيره أن يمارسه إلا بإذنه.
وكذلك الأمر في أوصيائه الاثني عشر فهم حجج الله تعالى على خلقه بعد نبيه الأكرم بقولهم وفعلهم وتقريرهم وكون حق الحكم خاصاً بهم في زمانهم لا يجوز لغيرهم أن يمارسه إلا بإذنهم ومن هنا اشترطت فيهم العصمة والنص.
وفي ضوء ذلك فإنَّ إمامة أهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام) كما يعتقد بها الشيعة ليست هي الإمامة التي يعتقدها الزيدية أو المعتزلة أو السنة فهؤلاء يعتقدون بالإمامة على أنها حكم وإجراء حدود وتولية أمراء وتطبيق أحكام الشريعة في المجتمع فحسب.
ويفترق الزيدية عن غيرهم بقولهم: أن الذي له حق إجراء الحدود هم علي والحسن والحسين (عليهم السلام) ومن دعا إلى نفسه وحمل السيف من ذرية الحسن والحسين بعدهما.
أمّا أهل السنة والمعتزلة فقد أنكروا أن تكون هناك نصوص تدل على حصر حق الحكم بأهل البيت (عليهم السلام) بالشكل الذي قال به الزيدية فضلا عما قال به الشيعة(12).
وفي قبال الزيدية والمعتزلة والسنة قالت الشيعة بإمامة أهل البيت لا بمعنى الحكم بل بالمعنى الذي يجعل منزلتهم بنزلة الأنبياء أي كونهم حججاً إلهيين تجب طاعتهم سواء بايعهم الناس على الحكم أم لم يبايعوهم، لا فرق بينهم وبين النبي (صلّى الله عليه وآله) إلا في النبوة والأزواج(13).
مشيئة الله تعالى في آل محمد (صلّى الله عليه وآله):
وقد يقال لم حُصِر الحجج بعد النبي باثني عشر، ولم حُصِر بأسرة النبي (صلّى الله عليه وآله)؟
والجواب: إنّ حصر حجج الله تعالى بعد نبيه الأكرم بأسرة النبي (صلّى الله عليه وآله) وبعدد محدود منهم، وهم علي والزهراء والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين (عليهم السلام)، نظير حصر حججه تعالى بعد نوح وإبراهيم ويعقوب وعمران في ذريتهم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}(14)، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(15).
وقد شاءت حكمة الله تعالى أن يجعل في الحجج من بعد محمد (صلّى الله عليه وآله) امرأةً حجة وهي فاطمة بنت محمد سلام الله عليها كما جعل بعد موسى امرأةً حجة وهي مريم بنت عمران.
وشاءت حكمة الله تعالى أيضاً أن يجعل من ذرية فاطمة (عليها السلام) خاتم أوصياء محمد (صلّى الله عليه وآله) وهو الحجة بن الحسن العسكري كما جعل من ذرية مريم (عليها السلام) من قبلُ حجته عيسى (عليه السلام) خاتم أصفياءه من آل عمران وبني إسرائيل.
إثبات القضية الثانية:
أمّا ما يتعلق بمسألة الحكم فإنّ القانون الإسلامي قد أوجب على المسلمين إقامته إلى آخر الدنيا، ومن الطبيعي جداً أن لا يحدد عدد الحكام بعدد معين، وإنما الطبيعي هو أن تحدد مواصفات من له أهلية لإشغال هذا المنصب في المجتمع، وقد حدد القانون الإلهي ذلك صريحاً في قوله تعالى: {أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء}(16).
والنظرية التي تطرحها الآية من وجود ثلاث طبقات من العلماء بالكتاب الإلهي يبينون أحكامه وينفذونها في المجتمع، وهم النبيون ثم الربانيون ثم الأحبار، ليست خاصة بالتوراة بل تشمل كل كتاب إلهي تضمَّن الشريعة.
والمراد من الأحبار هم الفقهاء رواة أحاديث الأوصياء، وفي ضوء الآية الكريمة يكون الذي له حق الحكم في المجتمع هو النبي ومن بعده الوصي ومن بعده الفقية العادل الكفوء.
فالمسلمون شيعةً وسنةً يتفقون أنه في الفترة التي كان النبي (صلّى الله عليه وآله) موجوداً فيها، فإنه الشخص الوحيد المؤهل والمستحق للحكم وحرمة تقدم غيره عليه في هذه الناحية وفي غيرها للنص القرآني: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(17).
بينما في الفترة التي مضى فيها النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) إلى ربه وكانت الفترة فترة الأئمة الاثني عشر فهي فترة موضع الخلاف بين الشيعة والسنة حيث يرى الشيعة أن هؤلاء الأئمة الاثني عشر لهم امتياز في الحكم كامتياز النبي لانتقال ولايته إليهم، فكل واحد في زمانه هو المؤهل الوحيد ويحرم تقدم شخص آخر عليه.
وفي فترة الغيبة للإمام الثاني عشر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لا يختلف الشيعة في كون الشخص المؤهل لتنفيذ الأحكام هو الفقيه العادل(18).
فالخلاصة أنّ الحكم وإجراء الحدود هو من اختصاص الحجج الاثني عشر في زمانهم وحضورهم ولا يجوز لأحدٍ أن يمارسه إلا بإذنهم، أما في عصر الغيبة فقد أذن الأئمة (عليهم السلام) لفقهاء شيعتهم ورواة أحكامهم أن يمارسوه وأمروا شيعتهم بالرجوع إليهم للاحتكام إليهم والأخذ عنهم، وقد تبيّن أن الخلط واضحٌ في الإشكال، حيث أنه افترض لوازم باطله للرسالة الخاتمة وأخذ بها كمسلَّمات، وأيضاً خلط بين المعاني المرادة من الإمامة.
* الهوامش:
(1) هذا إذا تنزلنا وقلنا أنها لم تُحرَّف.
(2) آل عمران 85.
(3) البقرة 124.
(4) الأنبياء 72-73.
(5) الوسائل ج 27 ص 38.
(6) الرسائل العشر للشيخ الطوسي، رسالة في الفرق بين النبي والإمام.
(7) وهو التفسير الروائي المعروف.
(8) هذه الرواية ذكرناها كتقوية للإشكال وليست هي من ضمن كلام صاحب الإشكال.
(9) للأمانة العلمية، فإنّ الإشكالات بأجمعها مذكورة في موقعه، http://www.alkatib.co.uk، تحت عنوان ( البيان الشيعي الجديد).
(10) فالمدعى هو كون الإمام مسدد من قبل الباري، والفرض هو انقطاع المدد الإلهي، والفرض فاسدٌ، فلا بدَّ أن يكون المدعى صحيحاً.
(11) وبالمناسبة فإنّ هذا التمثيل هو جوابٌ عن إشكال آخر طرحه نفس صاحب الإشكالات، حول مسألة الخمس.. فليراجع في نفس الموضوع الذي أشرنا له في الهامش الثالث.
(12) شبهات وردود، 148.
(13) روى الكليني في الكافي ج1 : 270 عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول الأئمة بمنزلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلا أنهم ليسوا بأنبياء ولا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي (صلّى الله عليه وآله) فأما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
(14) الحديد 26.
(15) آل عمران 33- 34.
(16) المائدة 44.
(17) الأحزاب 6.
(18) وإن اختلفوا في سعة وضيق هذه المساحة.
0 التعليق
ارسال التعليق